شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح أحاديث رياض الصالحين باب ذكر الموت وقصر الأمل
65- باب ذكر الموت وقصر الأمل
قال الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور) (آل عمران:185) .
الشرح
قال المؤلف النووي رحمه الله في رياض الصالحين: باب ذكر الموت وقصر الأمل، هذا الباب يذكر فيه المؤلف رحمه الله أنه ينبغي للعاقل أن يتذكر الموت وأن يقصر الأمل- يعني الأمل في الدنيا، وليس الأمل في ثواب الله عز وجل وما عنده من الثواب الجزيل لمن عمل صالحاً.
لكن الدنيا لا تطيل الأمل فيها، فكم من إنسان أمل أملاً بعيداً فإذا الأجل يفجؤه؟! وكم من إنسان يٌقدر ويفكر سيفعل ويفعل ويفعل، فإذا به قد انتهى أجله وترك ما أمله، وانقطع حبل الأمل، وحضر الأجل؟!
فالذي ينبغي للإنسان العاقل أنه كلما رأى من نفسه طموحاً إلى الدنيا وانشغالاً بها واغتراراً بها أن يتذكر الموت، ويتذكر حال الآخرة؛ لأن هذا هو المآل المتيقن، وما يؤمله الإنسان في الدنيا فقد يحصل وقد لا يحصل (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ )(الاسراء: 18) ، لا ما يشاء هو ، بل ما يشاء الله عز وجلّ : (ُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً)(الاسراء:18) (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:19).
ثم ذكر الآيات ومنها قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )(آل عمران: 185)، (كُلُّ نَفْسٍ) فكل نفس منفوسة من بني آدم وغير بني آدم ذائقة الموت، لابد أن تذوق الموت، وعبر بقوله: ذائقة ؛ لأن الموت يكون له مذاق مر يكرهه كل إنسان.
لكن المؤمن إذا حضره أجله وبُشر بما عند الله عز وجل أحبّ لقاء الله ولا يكره الموت حينئذٍ، قال تعالى (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: تعطونها وافية كاملة يوم القيامة.
وإن أوتي الإنسان أجره في الدنيا فإنه ليس هذا هو الأجر فقط؛ بل الأجر الوافي الكامل الذي به يستوفي الإنسان كل أجره يكون يوم القيامة، وإلا فإن المؤمن قد يُثاب على أعماله الصالحة في الدنيا، لكن ليس هو الأجر الكامل الذي وفى التوفية الكاملة تكون يوم القيامة ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) زحزح يعني أبعد عن النار ( وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فاز)؛ لأنه نجى من المكروه وحصل له المطلوب، نجى من المكروه وهو دخول النار، وحصل له المطلوب وهو دخول الجنة، وهذا هو الفوز العظيم الذي لا فوز مثله. ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران: 185) صدق الله عز وجلّ ؛ الدنيا متاع الغرور يعني متاع ليس دائماً ؛ بل كما يكون للمسافر متاع يصل به إلى منتهى سفره، ومع ذلك فهي متاع غرور تغر الإنسان، تزدان له وتزدهر وتكتحل وتتحسن وتكون كأحسن شيء، ولكنها تغره.
كلما كثرت الدنيا وتشبث الإنسان بها بعد من الآخرة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ((والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) .
ولهذا نجد الإنسان أحياناً يكون في حال الضيق أو الوسط خيراً منه في حال الغنى؛ لأنه يغره الغنى ويطغيه والعياذ بالله، ولهذا قال: ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) ( آل عمران 185) يعنى فلا تغتروا بها، وعليكم بالآخرة التي إذا زحزح فيها الإنسان عن النار وأدخل الجنة، فإنه بذلك يفوز فوزاً لا فوز مثله نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقاه الله عذاب النار.
* * *
قال رحمه الله تعالى في سياق الآيات في باب ذكر الموت وقصر الأمل:
وقال الله تعالى : (ِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت)(لقمان: 34)
وقال تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(النحل: 61)
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى في باب ذكر الموت وقصر الأمل فيما ساقه من آيات الله عز وجلّ ، قال: ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت)(لقمان: 34) وهذه أحد مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل.
قال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)(الأنعام: 59) ومفاتح الغيب هي الخمس المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(لقمان:34).
فهذه الخمس لا يعلمها إلا الله عز وجل، فعلم الساعة لا يعلمه أحد، حتى إن جبريل وهو أشرف الملائكة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم محمداً وهو أعلم البشر فقال: ((أخبرني عن الساعة. قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) فلا يعلمها إلا الله عز وجل.
( وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ )والمنزل للغيث يعلم متى ينزل، فهو سبحانه وتعالى هو الذي يعلم متى ينزل الغيث وهو الذي ينزله، والغيث هو المطر الذي يحصل به نبات الأرض وزوال الشدة.
وليس كل مطر يسمى غيثاً، فإن المطر أحياناً لا يجعل الله فيه بركة فلا تنبت به الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام : "ليس السنة ألا تمطروا" يعني ليس الجدب ألا تمطروا ((بل السنة أن تمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً))
وهذا يقع أحياناً، فأحياناً تكثر الأمطار ولا يجعل الله تعالى فيها بركة، فلا تنبت الأرض ولا تحيا، وهذا الحديث الذي سقته في صحيح مسلم: " إنما السنة أن تمطروا فلا تنبت الأرض شيئاً".
فالذي ينزل الغيث هو الله، والمنزل له عالم متى ينزل، وأما ما نسمعه في الإذاعات من أنه يتوقع مطر في المكان الفلاني وما أشبه ذلك، فهو ظن بحسب ما يتبادر من احتمال المطر بمقياس الجو، وهي مقاييس دقيقة يعرفون بها هل الجو متهيئ للمطر أو لا، ومع ذلك فقد يخطئون كثيراً ولا يتوقعون أمطاراً تحدث بعد سنوات أو بعد أشهر. إن المدى قريب والمكان قريب فلا يعلم متى ينزل المطر إلا الله عز وجلَّ.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ) لا يعلم ما في الأرحام إلا الله، والأجنة التي في الأرحام لها أحوال، منها ما يعلم إذا وجد ولو كان الإنسان في بطن أمه، ومنها ما لا يعلم أبداً، فكونه ذكراً أو أنثى يعلم وهو في بطن أمه، ولكنه لا يعلم إلا إذا خلق الله تعالى فيه علامات الذكورة أو علامات الأنوثة.
وأما متى يولد، وهل يولد حياً ًّ أو ميتاً ، وهل يبقى في الدنيا طويلاً أو لا يبقى إلا مدة قصيرة، وهل يكون عمله صالحاً ، أو عمله سيئاً، وهل يختم له بالسعادة أو بالشقاوة، وهل يبسط له في الرزق أو يُقدر عليه رزقه، فكل هذا لا يعلمه إلا الله.
( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً) يعني ماذا تكسب في المستقبل؟ فلا تدري نفس ماذا تكسب، هل تكسب خيراً أو تكسب شراً، أو تموت قبل غد، أو يأتي غد وفيه ما يمنع العمل، وما أشبه ذلك؟ فالإنسان يقدر يقول : غداً سأفعل كذا، سافعل كذا، لكنه قد لا يفعل، فهو لا يعلم ماذا يكسب غداً علماً يقينياً ، ولكنه يقدر وقد تخلف الأمور.
(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت)، ولا يدري الإنسان بأي أرض يموت؟، هل يموت بأرضه ، أو بأرض بعيدة عنها، أو قريبة منها، أو يموت في البحر، أو يموت في الجو؟ لا يدري، ولا يعلم ذلك إلا الله.
فإذا كنت لا تدري بأي أرض تموت، وأنت يمكنك أن تذهب يميناً وشمالاً، فكذلك لا تعلم متى تموت، لا تدري في أي وقت تموت، هل ستموت في الصباح، في المساء، في الليل، في وسط النهار لا تدري، في الشهر القريب، في الشهر البعيد لا تدري، لا تدري متى تموت ولا بأي أرض تموت.
فإذا كنت كذلك؛ فاقصر الأمل، لا تمد الأمل طويلاً، لا تقل أنا شاب وسوف أبقى زماناً طويلاً، فكم من شابٍّ مات في شبابه، وكم من شيخ عُمِّر، ولا تقل إني صحيح البدن والموت بعيد، فكم من إنسان مرض بمرض يهلكه بسرعة، وكم من إنسان حصل عليه حادث، وكم من إنسان مات بغتة، لذلك لا ينبغي للإنسان أن يطيل الأمل؛ بل عليه أن يعمل، وللدنيا عملها، وللآخرة عملها، فيسعى للآخرة سعيها بإيمان بالله عزَّ وجلَّ واتكال عليه.
وقد قال تعالى : ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) إذا جاء أجل الإنسان لا يمكن أن يتأخر ولا دقيقة واحدة ولا يمكن أن يتقدم؛ بل هو بأجل معدود محدود، لا يتقدم عليه ولا يتأخر، فلماذا تجعل الأمل طويلاً؟
فالإنسان لا يعلم متى يموت، ولا يعلم بأي أرض يموت، وقد حدثني أحد إخواني الثقات قال: إنهم كانوا في سفر الحج على الإبل، وكان معهم رجلٌ معه أمه يمرضها، فتأخر عن القوم في آخر الليل، فارتحل الناس ومشوا وبقي مع أمه يمرضها، ولما أصبح وسار خلف القوم لم يدركهم ، ولم يدر إلى أين اتجهوا لأنهم في مكة.
يقول: فسلك طريقاً بين هذه الجبال، فإذا هو واقف على بيت من الشعر فيه عدد من الناس قليلين، فسألهم أين طريق نجد؟ قالوا: أنت بعيد عن الطريق، لكن نوخ البعير واجلس استرح ثم نحن نوصلك، يقول: فنزل نوخ البعير وأنزل أمه، يقول: فما هي إلا أن اضطجعت على هذه الأرض فقبض الله روحها، كيف جاءت من القصيم إلى مكة مع الحجاج، وأراد الله أن يتيه هذا الرجل حتى ينزل بهذا المكان، لا يعلم هذا إلا الله عز وجلَّ.
وكذلك أيضاً في الزمن ، كم بلغنا من أناس تأخروا قليلاً فجاءهم حادث فماتوا به، ولو تقدموا قليلاً لسلموا منه، كل هذا لأن الله تعالى قد قدر كل شيء بأجل محدود، فالإنسان يجب عليه أن يحتاط لنفسه، وألا يطيل الأمل ، وأن يعمل للآخرة، وكأنه يموت قريباً لآجل أن يستعد لها، فهذه الآيات كلها تدل على أن الإنسان يجب عليه أن يقصر الأمل وإن يستعد للآخرة.
جعلنا الله وإياكم من المستعدين لها بالعمل الصالح.
* * *
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون:9-11).
وقال تعالى : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ) (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) (قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون:99-115)
الشرح
قال المؤلف رحمه الله محيي الدين النووي في كتابه رياض الصالحين في باب ذكر الموت وقصر الأمل قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون:10-11).
أمر الله بالإنفاق مما رزقنا، أي مما أعطانا، وحذرنا مما لابد منه : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) وحينئذٍ يندم الإنسان على عدم الإنفاق ويقول: ( رب لولا أخرتني إلى أجل قريب) يتمنى أن الله يؤخره إلى أجل قريب ( فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني : فبسبب تأخيرك إياي أتصدق وأكن من الصالحين.
قال الله عز وجلَّ: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ( المنافقون :11) إذا جاء الأجل لا يمكن أن يتأخر الإنسان ولا لحظة واحدة، بل لابد أن يموت في المدة التي عيّنها الله عز وجل على حسب ما تقتضيه حكمته.
فمن الناس من يطول بقاؤه في الدنيا، ومن الناس من يقصر، كما أن من الناس من يكثر رزقه، ومنهم من يقل، ومنهم من يكثر علمه، ومنهم من يقل، ومنهم من يقوى فهمه، ومنهم من يضعف، ومنهم من يكون طويلاً ، ومنهم من يكون قصيراً، فالله عزّ وجلّ خلق عباده متفاوتين في كل شيء.
وقال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون:9) فنهى الله تعالى أن تلهينا أموالنا وأولادنا عن ذكر الله، وبين أن من ألهته هذه الأشياء عن ذكر الله؛ فهو خاسر مهما ربح.. ولو ربح أموالاً كثيرة، وكان عنده بنون، وكان عنده أهل، ولكنه قد تلهى بهم عن ذكر الله فإنه خاسر.
إذاً من هو الرابح؟ الرابح من اشتغل بذكر الله عز وجل. وذكر الله ليس هو قول : لا إله إلا الله فقط؛ بل كل قول يقرب إلى الله فهو ذكر له، وكل فعل يقرب إلى الله فهو ذكر له ، كما قال الله تعالى ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(العنكبوت:45)
ولأن الإنسان إذا قال قولاً يتقرب به إلى الله ، أو فعل فعلاً يتقرب به إلى الله؛ فهو حين النية ذاكر لله عز وجل، فذكر الله يشمل كل قول أو فعل يقرّب إليه.
قال : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت) (المؤمنون:99،100) فقوله(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) أي إذا جاء أحد المكذبين للرسل إذا جاء أحدهم الموت َ(قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)ارجعوني إلى الدنيا (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت). ولم يقل لعلي أتمتع في قصورها وحبورها ونسائها وغير ذلك؛ بل قال (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ )، أي : فيما تركت من المال الذي بخلت به حتى أنفقه في سبيل الله.
قال الله تعالى ( كَلَّا ) يعني : لا رجوع ولا يمكن الرجوع؛ لأنه إذا جاء الأجل (ْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(يونس: 49)
ثم قال ( إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)هذه الكلمة يؤكد الله عز وجل أنه يقولها وهي قوله: ( رَبِّ ارْجِعُونِ)(لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) ، (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يعني: من أمام هؤلاء الذي حضرتهم الوفاة (بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
والبرزخ هو الفاصل بين الدنيا وبين قيام الساعة، وسواء كان الإنسان مدفوناً في الأرض أو على ظهر الأرض تأكله السباع وتتلفه الرياح، أو كان في قاع البحار؛ كل هذا يسمى برزخاً (بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يعني: يخرجون من القبور لله عز وجل في يوم القيامة.
(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّور) وذلك عند قيام الساعة (فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُون) والنفخ في الصور مرتان:
النفخة الأولى: يكون فيها الفزع والصعق يعني الموت، فينفخ إسرافيل في الصور نفخة يكون لها صوت عظيم مزعج جداً، فيفزع الناس ثم يموتون كلهم إلا ما شاء الله.
والنفخة الثانية: ينفخ في الصور فتخرج الأرواح من الصور وتعود إلى أجسادها، وهذه التي يكون بها الحياة الأبدية التي لا موت بعدها.
(فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُون) يعنى بعد أن يبعثوا من قبورهم لا تنفعهم الأنساب والقرابات (وَلا يَتَسَاءَلُون) لا يسأل بعضهم عن بعض؛ بل إن الله تعالى يقول: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) (وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37) .
فالأنساب في ذلك الوقت لا تنفع، والقرابات لا يتساءلون عن بعضهم ، بينما في الدنيا يسأل بعضهم عن بعض، ما الذي حصل لهذا؟ ما الذي حصل لهذا؟ ماذا فعل فلان؟ أما في الآخرة فـ (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه)( عبس :37).
قال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المؤمنون :101،102) فينقسم الناس في ذلك اليوم إلى قسمين : قسم تثقل موازينه فهذا مفلح، فائز بما يحب، ناج مما يكره.
والموازين جمع ميزان، قد وردت في الكتاب والسنة مجموعة ومفردة، فقال الله تعالى هنا (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُه)(المؤمنون: 102)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) ، فقال: في الميزان ولم يقل في الموازين، فجمعت مرة وأفردت أخرى، وذلك لكثرة ما يوزن، فلكثرة ما يوزن جمعت، ولكون الميزان واحداً ليس فيه ظلم ولا بخس أفردت.
وأما الذي يوزن فقد قال بعض العلماء: إن الذي يوزن هو العمل، وقال بعض العلماء: الذي يوزن العامل نفسه، وذلك لأن كلاًّ منها جاءت به أحاديث.
أما الذين يقولون: إن الذي يوزن هو العمل، فاستدلوا بقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7،
، فجعل الوزن للعمل، وبقول النبي عليه الصلاة والسلام (( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان)) . فجعل الثقل للكلمتين وهما العمل.
والذين قالوا: إن الذي يوزن صحائف العمل استدلوا بحديث صاحب البطاقة، الذي يأتي يوم القيامة فيمدّ له سجل يعني أوراقاً كثيرة مد البصر كلها سيئات، حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله له: ((إن لك عندنا حسنة فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله)) قالها من قلبه فتوضع البطاقة في كفة، وتلك السجلات في كفة، فترجح البطاقة بها، فهذا يدل على أن الذي يوزن هو صحائف العمل.
وأما الذين قالوا: إن الذين يوزن هو العامل نفسه، فاستدلوا بقوله تعالى ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)(الكهف: 105).
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين ضحك الناس على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه نحيفاً، فقام إلى شجرة أراك في ريح شديدة، فجعلت الريح تهزهزه هزاً فضحك الناس من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( أتضحكون ، أو قال صلى الله عليه وسلم : أتعجبون من دقة ساقية، والذي نفس بيده إنهما في الميزان لأثقل من جبل أحد)) وهذا يدل على أن الذي يوزن هو العامل نفسه. والمهم أنه يوم القيامة توزن الأعمال أو صحائف الإعمال أو العمال، (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) ( المؤمنون : 102، 103)
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ثقلت موازينهم، ومن المفلحين الفائزين برضوان الله . والله الموفق.
* * *
وقوله سبحانه وتعالى: (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) إنما قال خسروا أنفسهم؛ لأنهم أخرجوا إلى الدنيا وجاءتهم الرسل وبينت لهم الحق، ولكنهم والعياذ بالله عاندوا واستكبروا فخسروا أنفسهم ولم يستفيدوا من وجودهم في الدنيا شيئاً، قال الله تعالى ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(الزمر: 5).
ثم قال تعالى مبيناً إنهم كما يعذبون بدنياً ، فإنهم يعذبون قلبياً، فيقرعون ويوبخون فيُقال لهم (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (المؤمنون :105)، فقد تليت عليهم آيات الله، وبينت لهم، وجاءتهم الرسل بالحق، ولكنهم كفروا والعياذ بالله، وكذبوا بهذه الآيات.
قالوا في الجواب (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ) (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا) يعني: إن عدنا إلى التكذيب (فَإِنَّا ظَالِمُونَ) ، فيقرون والعياذ بالله بأن الشقاوة غلبت عليهم وأنهم ضلوا الضلال المبين الذي أوصلهم إلى هذه النار، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها.
قال الله تعالى : ( اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) أي: ابقوا فيها أذلاء صاغرين،( ولا تلكمون) وهذا أشد ما يكون عليهم والعياذ بالله أن يوبخهم الله هذا التوبيخ فيقول: ( اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) فإنهم لو كلموا الله لن يستجيب لهم؛ لأنه قضى عليهم بالخلود في النار.
ثم قال تعالى مبيناً حالهم مع أوليائه (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ، وهؤلاء المؤمنون بالله ورسله يقولون ( رَبَّنَا آمَنَّا) أي آمنا بك وبرسلك وبما جاءوا به من الحق (فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنا) اغفر لنا ذنوبنا حتى لا ندخل النار، وارحمنا بالقبول حتى ندخل الجنة.
(وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) فلا أحد أرحم بعباد الله من ربهم عز وجل. قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( الله بعبادة أرحم من الوالدة بولدها)) .
(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) يعني: أنكم تسخرون بهؤلاء المؤمنين الذين يؤمنون بالله ويسألونه المغفرة والرحمة، فكنتم تسخرون منهم وتستهزئون بهم ، (حتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ) أي حتى كانت سخريتكم بهم واستهزاؤكم بهم منسية لكم ذكري.
(وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُون) يعني: في الدنيا كانوا يضحكون بالمؤمنين ويستهزئون بهم.
ولكن الله قال في سورة المطففين: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (المطففين:34) ، وهذا الضحك الذي لا بكاء بعده، أما ضحك الكفار من المسلمين في الدنيا؛ فإنه سيعقبه البكاء الدائم والعياذ بالله.
(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) يعني: جزى الله تعالى المؤمنين بما صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصيته، وصبروا على أقداره (أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) الذين فازوا بهذا اليوم فأدركوا المطلوب ونجوا من المرهوب، وإنما ذكر الله هذا لهؤلاء المكذبين زيادة في حسرتهم وندامتهم، كأنه يقول عزّ وجلّ: لو كنتم مثلهم لنلتم هذا الثواب، فيزدادون بذلك حسرة إلى حسرتهم والعياذ بالله.
كيف كان حال هؤلاء الذين كانوا يسخرون بهم في الدنيا ويضحكون منهم؟ وكيف كان حالهم وهم في نار جهنم؟
(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ) انظر " جاءتهم الرسل وعمروا عمراً يتذكر فيه من تذكر ، ولكنهم والعياذ بالله لم ينتفعوا بهذا، ورأوا أنهم كأنما لبثوا ساعة أو بعض ساعة (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ)أسأل العادين منا، فإننا لا نرى أننا لبثنا إلا يوماً أو بعض يوم.
قال الله تعالى: (قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلا) يعني: ما لبثتم إلا قليلاً في الدنيا وآل بكم الأمر إلى الآخرة التي تبقون فيها أبدا الآبدين معذبين.
(قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعني: لو أنكم كنتم من ذوي العلم؛ لعلمتم مقدار تكذيبكم للرسل ومقدار أعمالكم التي خسرتموها.
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) يعني : أتظنون أننا (خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) ، هم ظنوا كذلك ، ظنوا هذا الظن، ولكن الله وبّخهم على هذا الظن، هل من حكمة الله أن ينشىء هذه الخليقة، ويرسل إليها الرسل، وينزل عليها الكتب ثم تكون النهاية الموت والفناء بدون بعث، بدون رجوع؟ هذا لا يمكن ، لكن هذا ظن الذين كفروا ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)(صّ: 27).
ثم قال تعالى (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) تعالى يعني ترفع عزّ وجل عن كل نقص وعن كل سوء، وعلا بذاته فوق عرشه سبحانه وتعالى، (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ) الملك يعني ذو الملك والسلطان والعظمة، الحق : الذي كان ملكه وملكوته حقاً وليس بباطل.
(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) أى لا معبود حق إلا الله عزَّ وجلَّ (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) إلى آخر السورة.
فهذه الآيات تبين أن الإنسان ينبغي له أن ينتهز فرصة العمر، وألا يخسر عمره كما خسره هؤلاء؛ وأنه سوف يبعث ويجازى ويحاسب على عمله فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن حسابه يسير ، ومآله إلى دار القرار في جنات النعيم.
* * *
وقال رحمه الله تعالى في سياق الآيات باب ذكر الموت وقصر الأمل:
وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16) والآيات في الباب كثيرة معلومة، وأما الآحاديث:
1/574- فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل)).
وكان ابنُ عمرَ رضي الله عنهما يقول: (( إذا أمسيت ، فلا تنتظرِ الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظرِ المساءَ، وخذ من صحتك لمرضكَ، ومن حياتك لِموتك )) رواه البخاري.د
الشرح
قال المؤلف النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين، الكتاب الموافق لاسمه، فإنه رياض، رياض لأهل الصلاح، فيه من الأحكام الشرعية والآداب المرعية ما يزيد به إيمان العبد، ويستقيم به سيرة إلى الله عز وجلّ، ومعاملته مع عباد الله، ولهذا كان بعض الناس يحفظه عن ظهر قلب لما فيه من المنفعة العظيمة. هذا الكتاب كان من جملة أبوابه ، باب ذكر الموت وقصر الأمل، وذكر المؤلف فيه آيات متعددة، سبق الكلام عليها، وآخرها قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه......) ، يعني ألم يأت الوقت الذي تخشع فيه قلوب المؤمنين لذكر الله عزَّ وجلَّ؟
والخشوع معناه الخضوع والذل (لِذِكْرِ اللَّه) يعني عند ذكره، فإن المؤمنين ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(الأنفال: 2)
وقوله : (لِذِكْرِ اللَّه) أي لتذكر الله وعظمته، (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ) أي : ويخشعون لما نزل من الحق، وهو ما كان في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا الكتاب جاء بالحق، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه هذا الكتاب جاء بالحق، فيحق للمؤمن أن يخشع قلبه لذكر الله وما نزل من الحق.
قال (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ )، يعني ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل وهم اليهود والنصارى، فاليهود أوتوا التوراة، والنصارى أوتوا الإنجيل، ومع ذلك فإن اليهود كفروا بالإنجيل، والنصارى كفروا بالقرآن، فصار الكل كلّهم كفاراً، ولذلك كان اليهود قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مغضوباً عليهم؛ لأنهم علموا الحق وهو ما جاء به عيسى، ولكنهم استكبروا عنه وأعرضوا عنه.
أما بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام فكان اليهود والنصارى كلهم مغضوباً عليهم، وذلك لأن النصارى علموا الحقّ فهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك استكبروا عنه، فكانوا كلهم مغضوباً عليهم ؛ لأن القاعدة في المغضوب عليهم أنهم الذين علموا الحق ولم يعموا به كاليهود والنصارى بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء الذين أوتوا الكتاب (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَد)ُ أي : الوقت (فَقَسَتْ قُلُوبُهُم)ْ ؛ لأن النبي صلى الله بعث بعد عيسى بستمائة سنة، وهي فترة طويلة انحرف فيها من انحرف من أهل الكتاب، ولم يبق على الأرض من أهل الحق إى بقايا يسيرة من أهل الكتاب، ولهذا قال: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ولم يقل أكثرهم فاسقون، ولم يقل كلهم فاسقون، فكثير منهم فاسقون خارجون عن الحق.
فحذر الله عز وجل ونهى أن نكون كهؤلاء الذين أوتوا الكتاب (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَد فَقَسَتْ قُلُوبُهُم).
وإذا نظرت إلى الأمة الإسلامية ، وجدت أنها ارتكبت ما ارتكبه الذين أوتوا الكتاب من قبل. فإن الأمة الإسلامية في هذه العصور التي طال فيها الأمد من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قست قلوب كثير منهم وفسق كثير منهم، واستولى على المسلمين من ليس أهلاً للولاية لفسقه؛ بل ومروقه عن الإسلام، فإن الذين لا يحكمون بكتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرون أن الحكم بالقوانين أفضل من حكم الله ورسوله كفار بلا شك ومرتدون عن الإسلام.
ولكن الله سبحانه وتعالى يبلو الناس بعضهم ببعض، وإذا صبر المؤمن واحتسب وانتظر الفرج من الله عزَّ وجلَّ، وعمل الأسباب التي توصل إلى المقصود؛ يسر الله له الأمور.
فالمهم أن الله نهانا أن نكون كالذين أوتوا الكتاب من قبل فقست قلوبهم، ولكن صار الكثير منا في الوقت الحاضر متشبهاً بهؤلاء الذين قست قلوبهم، وكثيرٌ من هؤلاء أيضاً فسقوا عن أمر الله وخرجوا عن طاعة الله.
ثم قال المؤلف : والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ معلومة.
وأما الأحاديث فمنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (( أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي)). يعني أمسك به، والمنكب هو أعلى الكتف، أخذ به من أجل أن ينتبه ابن عمر لما سيلقي إليه الرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام من القول.
وهذا من حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان إذا تكلم؛ اتخذ الأسباب التي توجب انتباه المخاطب، إما بالفعل كما هنا، وإما بالقول كما في قوله: (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)) قالوا : بلى يا رسول اللهله، فهذا يلقى إليهم لأجل أن ينبهوا.
أخذ بمنكبي وقال : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) سبحان الله! أعطى الله نبيه جوامع الكلم، هاتان الكلمتان يمكن أن تكونا نبراساً يسير الإنسان عليه في حياته (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
والفرق بينهما أن عابر السبيل ماشٍ يمر بالقرية وهو ماشٍ منها. وأما الغريب فهو مقيم فيها حتى يرتحل عنها، يقيم فيها يومين أو ثلاثة أو عشرة أو شهراً، وكل منهما لا عابر السبيل ولا الغريب كل منهما لم يتخذ القرية التي هو فيها لم يتخذها وطناً وسكناً وقراراً.
فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: كن في الدنيا كهذا الرجل، إما غريب أو عابر سبيل.
والغريب وعابر السبيل لا يستوطن، يريد أن يذهب إلى أهله وإلى بلده، لو أن الإنسان عامل نفسه في هذه الدنيا بهذه المعاملة لكان دائماً مشمراً للآخرة، لا يريد إلا الآخرة، ولا يكون أمام عينيه إلا الآخرة حتى يسير إليها سيراً يصل به إلى مطلوبه. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والصلاح.
وكان ابن عمر يقول : " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" المعنى لا تؤمل أنك إذا أصبحت أمسيت، وإذا أمسيت أصبحت، فكم من إنسان أصبح ولم يمس! وكم من إنسان أمسى ولم يصبح! وكم من إنسان لبس ثوبه ولم يخلعه إلا الغاسل! وكم من إنسان خرج من أهله قد هيأوا له غداءه أو عشاءه ولم يأكله! وكم من إنسان نام ولم يقم من فراشه! المهم أن الإنسان لا ينبغي له أن يطيل الأمل؛ بل يكون حذراً حاذقاً حازماً كيساً، هذا معنى قوله : ((إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح)).
قال : (( وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)) الإنسان الصحيح منشرح الصدر، منبسط النفس، واسع الفكر، عنده سعة في الوقت والصحة، لكن ما أكثر الذين يضيعون هذا ؛ لأنه يؤمل أن هذه الصحة سوف تبقى وتدوم، وأنه سوف تطول به الدنيا، فتجده قد ضيع هذه الصحة.
فابن عمر رضي الله عنهما يقول: (( خذ من صحتك لمرضك)). المرض تضيق به النفس، ويتعب به الجسم، وتضيق عليه الدنيا ولا يستطيع أن يعمل العمل الذي يعمله في حال الصحة، فليأخذ من صحته لمرضه، ومن حياته لموته، قس ما بين حياتك وموتك أيهما أطول؟ لا شك أن الحياة لا تنسب للموت، كم للرسول عليه الصلاة والسلام ميتاً؟ كم لمن قبله؟ وحياتهم قليلة بالنسبة لموتهم، فكيف إلى الآخرة.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يأخذ من حياته- ما دام الله قد أحياه - لموته إذا عجز عن العمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا ما ت الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) فخذ من حياتك لموتك.
2/575- وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ما حق امرئ مسلم ، له شيء يُوصى فيه ، يبيتُ ليلتين إلا ووصيتهُ مكتوبة عنده)) متفق عليه، هذا لفظ البخاري.
وفي رواية لمسلم : (( يبيتُ ثلاثَ ليالٍ)).
قال ابن عمر: ما مرت على ليلةٌ منذُ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
الشرح
ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" يعني ما حقه أن يبيت ليلتين إلا وقد كتب وصيته التي يريد أن يوصي بها، وكان ابن عمر رضي الله عنه منذ سمع هذا الكلام من رسول الله لا يبيت ليلة إلا وقد كتب وصيته.
والوصية : معناها العهد، وهي أن يعهد الإنسان بعد موته لشخص في تصريف شيء من ماله، أو يعهد لشخص بالنظر على أولاده الصغار، أو يعهد لشخص في أي شيء من الأعمال التي يملكها بعد موته فيوصي به هذه هي الوصية.
مثل أن يكتب الرجل: وصيتي إلى فلان بن فلان بالنظر على أولادي الصغار. ووصيتي إلى فلان بن فلان بتفريق ثلث مالي أو ربعه أو خمسه في سبيل الله. وصيتي إلى فلان في أن ينتفع بما خلفت من عقار أو غيره أو ما أشبه ذلك.
المهم أن هذه هي الوصية، عهد الإنسان بعد موته إلى شخص بشيء يملكه هذه هي الوصية.
والوصية أنواع : واجبة، ومحرمة، وجائزة.
أولاً : الوصية الواجبة: وهي أن يوصي الإنسان بما عليه من الحقوق الواجبة؛ لئلا يجحدها الورثة، لا سيما إذا لم يكن عليها بينة.
كأن يكون على الإنسان دين أو حق لغيره، فيجب أن يوصي به لا سيما إذا لم يكن فيه بينة؛ لأنه إذا لم يوص به فإن الورثة قد ينكرونه، والورثة لا يلزمون أن يصدّقوا كل من جاء من الناس وقال: إن لي على ميتكم كذا وكذا، لا يلزمهم أن يصدقوا، فإذا لم يوص الميت بذلك، فإنه ربما يكون ضائعاً، فمن عليه دين يعني حق في ذمته لأحد، فإنه يجب عليه أن يوصي به .
كذلك أيضاً أن يوصي لأقاربه غير الوارثين بما تيسّر لقول الله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) (البقرة:180)، يعني مالاً كثيراً (الْوَصِيَّة)ُ هذه نائب الفاعل (لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فخرج من ذلك، من الوالدين والأقربين من كانوا ورثة، فإن الورثة لا يُوصى لهم، وبقيت الآية محكمة فيما عدا الوارثين.
هكذا دلالة الآية، وبها فسّرها ابن عباس رضي الله عنهما، وذهب إليها كثيرٌ ن أهل العلم، أن الإنسان يجب أن يوصي إذا كان عنده مالٌ كثيرٌ بما تيسر لأقاربه غير الوارثين، أما الوارث فلا يجوز أن يوصى له؛ لأن حقه من الإرث يكفيه، فهذان أمران تجب فيهما الوصية.
الأول: إذا كان عليه دين يعني حقاً للناس.
والثاني :إذا ترك مالاً كثيراً، فإنه يلزمه أن يوصي لأقاربه من غير الوارثين.
ثانياً: الوصية المحرمة: وهي محرمة إذا أوصى لأحد من الورثة، فإنه حرام عليه، مثل أن يوصي لولده الكبير بشيء من بين سائر الورثة، أو يوصي لزوجته بشيء من بين سائر الورثة، فإن هذا حرام عليه، حتى ولو قدر أن المرأة أي الزوجة كانت تخدمه في حياته وتطيعه وتحترمه، وأراد أن يكافئها؛ فإنه لا يحل له أن يوصي لها بشيء، وكذلك لو كان أحد أولاده يبر به ويخدمه ويسعى في ماله، فأراد أن يوصي له بشيء؛ فإن ذلك حرام عليه.
وكذلك ما يفعله بعض الناس إذا كان له أولاد عدة وزوّج الكبير أوصى للصغار بمثل المال الذي زوج به الكبير، فإن هذا حرامٌ أيضاً؛ لأن التزويج دفع حاجة؛ كالأكل والشرب، فمن احتاج إليه من الأولاد وعند أبيهم قدرة وجب عليه أن يزوجه، ومن لم يحتج إليه فإنه لا يحل له أن يعطيه شيئاً مثل ما أعطى أخاه الذي احتاج للزواج.
وهذه مسألة تخفى على كثيراٍ من الناس حتى على طلبة العلم، يظنون أنك إذا زوجت ولدك، فإنك يجب أن توصي لأولاد الصغار بمثل ما زوجته به، وهذا ليس بصحيح، فالوصية للوارث لا تجوز مطلقاً.
فإن قدر أن أحداً - كان جاهلاً وأوصى لأحد الورثة بشيء، فإنه يرجع إلى الورثة بعد موته، إن شاءوا نفذوا الوصية، وإن شاءوا ردوها.
ثالثاً: الوصية المباحة: فهي أن يوصي الإنسان بشيء من ماله لا يتجاوز الثلث؛ لأن تجاوز الثلث ممنوع، لكن ما دون الثلث أنت حرٌ فيه، ولك أن توصي فيه لمن شئت إلا الورثة هذه جائزة.
ولكن هل الآفضل الثلث أو الربع أو مادون ذلك؟ نقول أكثر شيء الثلث لا تزد عليه، وما دون الثلث فهو أفضل منه، ولهذا قال ابن عباس رضي اله عنهما: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص: ((الثلث والثلث كثير))، وكان أبو بكر رضي الله عنه أوصى بخمس ماله. وقال: أرضى بما رضي الله لنفسه الخمس، فأوصى بخمس ماله. وهذا أحسن ما يكون.
وليت طلبة العلم والذين يكتبون الوصايا ينبهون الموصين على أن الأفضل : الوصية بالخمس لا بالثلث، وقد شاع عند الناس الثلث دائماً، وهذا الحد الأعلى الذي حدّه الرسول عليه الصلاة والسلام وما دونه أفضل منه فالربع أفضل من الثلث، والخمس أفضل من الربع.
وإذا كان الورثة محتاجين فترك الوصية أولى؛ هم أحق من غيرهم قال النبي عليه الصلاة والسلام (( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) ، فإذا كان الورثة الذين يرثونك تعرف أن حالهم ، وسط والمال شحيح عندهم، وأنهم إلى الفقر أقرب، فالأفضل ألا توصي.
ففي هذا الحديث الإشارة إلى أن الإنسان يوصي، ولكن الوصية تنقسم إلى أٌقسام كما أشرنا، منها واجبة، ومنها محرمة، ومنها مباحة.
فالواجبة: أن يوصي الإنسان بما عليه من الحقوق الواجبة؛ لئلا يجحدها الورثة، فيضيع حق من هي له، لا سيما إذا لم يكن بها بينة.
والثانية من الوصية الواجبة وصية من ترك مالاً كثيراً لأقاربه الذين لا يرثون بدون تقدير، لكن لا تزيد عن الثلث.
والوصية المحرمة :نوعان أيضاً: أن تكون لأحد من الورثة وأن تكون زائدة على الثلث.
والمباحة: ما سوى ذلك، ولكن الأفضل أن تكون المباحة من الخمس فأقل، وإن زاد الربع فلا بأس، وإلى الثلث فلا بأس، ولا يزيد على الثلث.
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما العمل بالكتابة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (( إلا ووصيته مكتوبة عنده))فدل هذا على جواز العمل، بل وجوب العمل بالكتابة.
وفي قوله: (( مكتوبة)) اسم مفعول، إشارة إلى أنه لا فرق بين أن يكون هو الكاتب أو غيره ممن تثبت الوصية بكتابته، فلابد أن تكون الكتابة معلومة؛ إما بخط الموصي نفسه، أو بخط شخص معتمد، وأما إذا كانت بخط مجهول؛ فلا عبرة بها ولا عمل عليها.
وفي قوله : (( عنده )) إشارة إلى أنه ينبغي أن يحتفظ الإنسان بالوثائق وألا يسلط عليها أحداً، بل تكون عنده في شيء محفوظ محرز كالصندوق وغيره؛ لأنه إذا أهملها فربما تضيع منه، أو يسلط عليها أحد يأخذها ويتلفها أو ما أشبه ذلك.
المهم في هذا الاعتناء بالوصية، وأن يحتفظ بها الإنسان حتى لا تضيع.
وفيه أيضاً سرعة امتثال الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما بعد ما سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه (( ما مرت علي ليلة منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا إلا ووصيتي مكتوبة عندي)) . فالذي ينبغي للإنسان أن يهتم بالأمر حتى لا يفجأه الموت، وهو قد أضاع نفسه، وأضاع حق غيره.
* * *
5/578- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقرا مُنسيا، أو غنى مُطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مُفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال؛ فشر غائب ينتظرُ، أو الساعة والساعة أدهى وأمر؟!)) رواه الترمذي وقال : حديث حسنٌ.
الشرح
هذا الحديث ذكره المؤلف النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب ذكر الموت وقصر الأمل، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( بادروا بالأعمال سبعاً)) يعني أعملوا قبل أن تصيبكم هذه السبع التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فبادروا بها.
إما (( فقراً منسياً)) بأن يصاب الإنسان بفقر ينسيه ذكر ربه؛ لأن الفقر أعاذنا الله وإياكم منه شر درع يلبسه العبد
، فإنه إذا كان فقيراً يحتاج إلى أكل وشرب ولباس وسكن وزوجة، فلا يجد من ذلك شيئاً، فتضيق عليه الأرض بما رحبت، ويذهب يتطلب ليحصل على شيء من ذلك فينسى ذكر الله عزَّ وجلَّ، ولا يتمكن من أداء العبادة على وجهها.
وكذلك يفوته كثيرٌ من العبادات التي تستوجب أو التي تستلزم الغنى؛ كالزكاة، والصدقات، والعتق، والحج، والإنفاق في سبيل الله، وما أشبه ذلك.
(( أو غنى مطغياً)) بأن يغني الله الإنسان ويفتح عليه من الدنيا فيطغى بذلك، ويرى أنه استغنى عن ربه عزّ وجلّ، فلا يقوم بما أوجب الله عليه، ولا ينتهي عما نهاه الله عنه. قال الله تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى)(أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:7،6) .
كذلك ((أو مرضاً مفسداً)) مرض يفسد على الإنسان حياته؛ لأن الإنسان مادام في صحة فهو في نشاط وانشراح صدر، والدنيا أمامه مفتوحة، فإذا مرض ضعف البدن، وضعفت النفس وضاقت ، وصار الإنسان دائماً في همٍّ وغمٍّ فتفسد عليه حياته.
كذلك أيضاً الهرم المفند: (( أو هرماً مفنداً)) يعني كبراً يفند قهوة الإنسان ويحطمها ، كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(الروم:54)
فالإنسان ما دام نشيطاً شاباً يعمل العبادة بنشاط، يتوضأ بنشاط، يصلي بنشاط، يذهب إلى العلم بنشاط، لكن إذا كبر فهو كما قال الله عزَّ وجلَّ عن زكريا: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) (مريم:4) ، أي ضعف العظم، والعظم هو الهيكل الذي ينبني عليه الجسم، فيضعف وتضعف القوة ولا يستطيع أن يفعل ما كان يفعله في حال الشباب، كما قال الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يومــا فـأخبره بمــا فعل المشيــب
(( أو موتاً مجهزاً)) هذا أيضاً ما يُنتظر الموت، وإذا مات الإنسان ؛ انقطع عمله، ولم يتمكن من العمل.
" مجهزاً" سريعاً، وكم من إنسان مات من حيث لا يظن أنه لا يموت كم من إنسان مات وهو في شبابه وصحته في حو