4- باب الصدق
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119] ، وقال تعالى:﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَات﴾ [الأحزاب: 35] ، وقال تعالى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ﴾ [محمد: 21] .
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب الصدق.
الصدق: معناه مطابقة الخبر للواقع، هذا في الأصل.
ويكون في الإخبار، فإذا أخبرت بشيء وكان خبرك مطابقاً للواقع قيل: إنه صدق، مثل أن تقول عن هذا اليوم: اليوم يوم الأحد، فهذا خبر صدق؛ لأن اليوم يوم الأحد.
وإذا قلت : اليوم يوم الاثنين ، فهذا خبر كذب.
فالخبر إن طابق الواقع فهو صدق، وإن خالف الواقع فهو كذب.
وكما يكون الصدق في الأقوال يكون أيضاً في الأفعال.
فالصدق في الأفعال: هو أن يكون الإنسان باطنه موافقاً لظاهره، بحيث إذا عمل عملاً يكون موافقاً لما في قلبه.
فالمرائي مثلا ليس بصادق؛ لأنه يُظهر للناس أنه من العابدين وليس كذلك.
والمشرك مع الله ليس بصادق؛ لأنه يُظهر أنه مُوَحِّدٌ وليس كذلك.
والمنافق ليس بصادق، لأنه يظهر الإيمان وليس بمؤمن.
والمبتدع ليس بصادق، لأنه يظهر الاتباع للرسول- عليه الصلاة والسلام- وليس بمتَّبِع.
المهمُّ أن الصدق مُطابقة الخبر للواقع، وهو من سمات المؤمنين وعكسه الكذب، وهو من سمات المنافقين، نعوذ بالله.
ثم ذكر آيات في ذلك:
فقال: وقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119].
هذه الآية نزلت بعد ذكر قصة الثلاثة الذين خلفوا ، وقد تخلفوا عن غزوة تبوك، ومنهم : كعب بن مالك، وقد تقدم حديثه.
وكان هؤلاء الثلاثة حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وكانوا قد تخلفوا عنها بلا عذر، وأخبروا النبي - عليه الصلاة والسلام-بأنهم لا عذرَ لهم، فخلفهم، أي: تركهم.
فمعنى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ أي: تُركوا، فلم يبت في شأنهم؛ لأن المنافقين لما قدم الرسول- عليه الصلاة والسلام- من غزوة تبوك جاؤوا إليه يعتذرون إليه ويحلفون بالله إنهم معذورون ، وفيهم أنزل الله هذه الآية ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(95)يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:95،96] .
أما هؤلاء الثلاثة فصدقوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأخبروه بالصدق بأنهم تخلفوا بلا عذر.
فأرجأهم النبي - عليه الصلاة والسلام- خمسين ليلة،﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ﴾[التوبة: 118]، ثم أنزل الله توبته عليهم.
ثم قال بعد ذلك:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119]، فأمر الله تعالى المؤمنين بأن يتقوا الله، وأن يكونوا مع الصادقين لا مع الكاذبين.
وقال الله تعالى:﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَات﴾[الأحزاب:35]، هذه في جملة الآية الطويلة التي ذكرها الله في سورة الأحزاب، وهي، ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات﴾ إلى أن قال:﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَات﴾ إلى أن قال: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾[الأحزاب:35] .
فذكرَ الله الصادقين والصادقات في مقام الثناء، وفي بيان ما لهم من الأجر العظيم.
وقال تعالى:﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ﴾ أي: لو عامَلوا الله بالصدق لكان خيراً لهم، ولكن عاملوا الله بالكذب فنافقوا وأظهروا خلاف ما في قلوبهم، وعاملوا النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، فأظهروا أنهم متَّبِعون له وهم مخالفون له. فلو صدقوا الله بقلوبهم وأعمالهم وأقوالهم لكان خيراً لهم، ولكنهم كذبوا الله فكان شرًّا لهم.
وقال الله:﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب:24] فقال: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ﴾.
فدلَّ ذلك على أن الصدق أمره عظيم ، وأنه محلٌّ للجزاء من الله سبحانه وتعالى .
إذنْ علينا أن نصدق ، وعلينا أن نكون صادقين ، وعلينا أن نكون صُرحاء، وعلينا أن لا نخفي الأمر عن غيرنا مُداهنة أو مراءاةً .
كثير من الناس إذا حُدِّثَ عن شيء فعله وكان لا يرضيه كذب وقال : ما فعلت .
لماذا ؟ لا تستحِ من الخلق وتبارِزُ الخالق بالكذب؟! قُلِ الصدقَ ولا يهمنك أحد ، وأنت إذا عوَّدت نفسك الصدق فإنك في المستقبل سوف تُصلح حالك ، أما إذا أخبرت بالكذب وصرت تكتم عن الناس وتكذب عليهم ، فإنك سوف تستمرُّ في غيِّك ، ولكن إذا صدقت فإنك سوف تعدل مسيرتك ومنهاجك.
فعليك بالصدق فيما لك وفيما عليك ؛ حتى تكون مع الصادقين الذين أمرك الله أن تكون معهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119] .
* * *
54 ـ عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذبُ حتى يكتب عند الله كذابا )) (168) [متفق عليه] .
الشرح
هذا الباب عقده المؤلف ـ رحمه الله ـ للصدق فقال: باب الصدق ، وذكر آيات سبق الكلام عليها ، أما الأحاديث فقال : عن بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة . . . ))
قوله
(عليكم بالصدق)) ... أي : الزموا الصدق ، والصدق : مطابقة الخبر للواقع ، يعني : أن تخبر بشيء فيكون الخبر مطابقا للواقع ، مثال ذلك : إذا قلت لمن سألك : أيُّ يوم هذا ؟ فقلت اليوم يوم الأربعاء (وهو يوم الأربعاء فعلا) فهذا صدق ، ولو قلت يوم الثلاثاء لكان كذبا ، فالصدق مطابقة الخبر للواقع ، وقد سبق في حديث كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ وصاحبيهِ ما يدل على فضيلة الصدق وحُسنِ عاقبته ، وأن الصادق هو الذي له العاقبة ، والكاذب هو الذي يكون عمله هباءً . ولهذا يذكر أن بعض العامة قال: إن الكذب ينجِّي ، فقال له أخوه الصدق أنْجى وأنْجى . وهذا صحيح .
واعلم أن الخبر يكون باللسان ويكون بالأركان .
وأما باللسان فهو القول ، وأما بالأركان فهو الفعل ، ولكن كيف يكون الكذب بالفعل ؟! إذا فعل الإنسان خلاف ما يبطن فهذا قد كذب بفعله ، فالمنافق مثلا كاذب لأنه يُظهر للناس أنه مؤمن ، يُصلي مع الناس ويصوم مع الناس ، ويتصدق ولكنه بخيل . وربما يحجُّ ، فمن رأى أفعاله حكم عليه بالصلاح ، ولكن هذه الأفعال لا تُنبىء عما في الباطن ، فهي كذب .
ولهذا نقول : الصدق يكون باللسان ويكون بالأركان. فمتى طابق الخبر الواقع فهو صدقٌ باللسان, ومتى طابقت أعمال الجوارح ما في القلب فهي صدق بالأفعال .
ثم بيَّن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عندما أمر بالصدق ـ عاقبته فقال : ((إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة)) .
البر كثرة الخير ، ومنه من أسماء الله : ((البَرُّ)) أي كثير الخير والإحسان عز وجل .
فالبر يعني كثرة الخير ، وهو من نتائج الصدق ، وقوله : ((وإن البر يهدي إلى الجنة)) فصاحب البر ـ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم ـ يهديه برُّهُ إلى الجنة ، والجنة غاية كل مطلب ، ولهذا يُؤمرُ الإنسان أن يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[آل عمران: 185] .
وقوله: ((إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا)) وفي رواية : ((ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا)) .
والصديق في المرتبة الثانية من مراتب الخلق من الذين أنعم الله عليهم كما قال الله سبحانه :﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء: 69] ، فالرجل الذي يتحرى الصدق يكتب عند الله صديقا ، ومعلوم أن الصِّديقيَّة درجة عظيمة لا ينالها إلا أفذاذٌ من الناس ، وتكون في الرجال وتكون في النساء ، قال الله تعالى :﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [المائدة: 75] .
وأفضل الصَّدِّيقين على الإطلاق أصدقهم ، وهو أبو بكر رضي الله عنه : عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة ، الذي استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام ، ولم يحصل عنده أي تردد وأي توقف ، بمجرد ما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أسلم ، وصدّق النبي صلى الله عليه وسلم حين كذَّبَه قومه ، وصدقه حين تحدث عن الإسراء والمعراج وكذبه الناس وقالوا : كيف تذهب يا محمد من مكة إلى بيت المقدس وترجع في ليلة واحدة ثم تقول : إنك صعدت إلى السماء ؟ هذا لا يمكن . ثم ذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له : أما تسمع ما يقول صاحبك ؟ قال : ماذا قال ؟ قالوا : إنه قال كذا وكذا ! قال : (( إن كان قد قال ذلك فقد صدق )) ، فمنذ ذلك اليوم سُمِّيَ الصديق ، رضي الله عنه .
وأما الكذب قال النبي صلى الله عليه وسلم ((وإياكم والكذب))
((إياكم)) للتحذير ، أي : احذروا الكذب ، والكذب هو الإخبار بما يخالف الواقع ، سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل .
فإذا قال لك قائل : ما اليوم ؟ فقلت اليوم يوم الخميس ، أو يوم الثلاثاء ( وهو يوم الأربعاء ) فهذا كذب ؛ لأنه لا يطابق الواقع ؛ لأن اليوم يوم الأربعاء .
والمنافق كاذب ؛ لأن ظاهره يدل على أنه مسلم وهو كافر ، فهو كاذب بفعله .
وقوله : ((وإن الكذب يهدي إلى الفجور)) الفجور : الخروج عن طاعة الله ؛ لأن الإنسان يفسق ويتعدى طوره ويخرج عن طاعة الله إلى معصيته ، وأعظم الفجور الكفر ـ والعياذ بالله ـ ؛ فإن الكَفَرَةَ فَجَرة ، كما قال الله :﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ [عبس:42] ، وقال تعالى : ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ [المطففين : 7 ـ 11] ، وقال تعالى : ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار:14] .
فالكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار نعوذ بالله منها .
وقوله : ((وإن الرجل ليكذب)) وفي لفظ ((لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) (169) والكذب من الأمور المحرمة ، بل قال بعض العلماء : إنه من كبائر الذنوب ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توعَّدَه بأنه يكتب عند الله كذابا .
ومن أعظم الكذب : ما يفعله بعض الناس اليوم ، يأتي بالمقالة كاذبا يعلم أنها كذب ، لكن من أجل أن يضحك الناس ، وقد جاء في الحديث الوعيد على هذا ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ، ويل له ، ويل له)) (170) ، وهذا وعيد على أمر سهل عند كثير من الناس .
فالكذب كله حرام ، وكله يهدي إلى الفجور ، ولا يستثنى منه شيء .
ورد في الحديث(171)، أنه يستثنى من ذلك ثلاثة أشياء : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث المرأة زوجها وحديثه إياها .
ولكن بعض أهل العلم قال: إن المراد بالكذب في هذا الحديث التورية وليس الكذب الصريح .
وقال: التورية قد تُسمى كذبا ، كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهن في ذات الله تعالى: قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾[الصافات:89]، وقوله:﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾[الأنبياء:63] وواحدة في شأن سارة . . . )) الحديث(172)، وهو لم يكذب ، وإنما ورَّى تورية هو فيها صادق .
وسواء كان هذا أو هذا ؛ فإن الكذب لا يجوز إلا في هذه الثلاث على رأي كثير من أهل العلم ، وبعض العلماء يقول : الكذب لا يجوز مطلقا : لا مزحا ، ولا جدا ، ولا إذا تضمن أكل مال أو لا .
وأشدُّ شيء من الكذب أن يكذب ويحلف ليأكل أموال الناس بالباطل ، مثل أن يُدَّعى عليه بحق ثابت فينكر ويقول : والله ما لك عليَّ حق ، أو يدَّعي ما ليس له فيقول : لي عندك كذا وكذا ، وهو كاذب ، فهذا إذا حلف على دعواه وكذب ؛ فإن ذلك هو اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ، ثم تغمسه في النار والعياذ بالله .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((من حلف على يمين صَبْرٍ يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر ؛ لقي الله وهو عليه غضبان)) (173)، فالحاصل أن الكذب حرام ، ولا يجوز للإنسان أن يكذب مطلقا ، لا هازلا ولا جادا ، إلا في المسائل الثلاث ، على خلاف بين العلماء في معنى الحديث السابق .
* * *
55 ـ عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ؛ فإن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة)) (174) رواه الترمذي وقال : حديث صحيح .
قوله : ((يَريبُك)) هو بفتح الياء وضمِّها ؛ ومعناه : اترك ما تشك في حِلِّه ، واعدل إلى ما لا تشك فيه .
الشرح
قوله : ((دع)) أي : اترك . ((ما يريبك)) بفتح الياء ، أي : تشك فيه ولا تطمئن إليه . ( (إلى ما لا يريبك)) إلى الشيء الذي لا ريب فيه .
وهذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية ، وهو حديث جامع مهم ، وهو باب عظيم من أبواب الورع والاحتياط .
وقد سلك أهل العلم ـ رحمهم الله ـ في أبواب الفقه هذا المسلك ، وهو الأخذ بجانب الاحتياط ، وذكروا لذلك أشياء كثيرة .
منها : إنسان أصاب ثوبه نجاسة ، ولا يدري هل في مقدَّمِ الثوب أو في مؤخَّره ، إن غسلَ المقدم صار عنده ريبة لاحتمال أن تكون في مؤخر الثوب , وإن غسلَ المؤخر صار عنده ريبة لاحتمال أن تكون في مقدم الثوب ! فما هو الاحتياط ؟
الاحتياط أن يغسل مقدمه ومؤخره ، حتى تزول ريبته ويطمئن .
ومنها : لو شك الإنسان في صلاته : هل صلى ركعتين أو ثلاث ركعات ، ولم يترجح عنده شيء ؟ فهنا ، إن أخذ بركعتين صار عنده ريبه فلعله نقص ، وإن أخذ بالثلاث صار عنده ريبه ، فلعله لم ينقص ، لكن يبقى قلقًا ؛ فهنا يعمل بما لا ريبة فيه فيعمل بالأقل ، فإذا شك هل هي ثلاث أو أربع ، فليجعلها ثلاثا ، وهكذا .
فهذا الحديث أصل من أصول الفقه ، أن الشيء الذي تشك فيه اتركه إلى شيء لا شك فيه .
ثم إن فيه تربية نفسية ، وهي أن الإنسان يكون في طمأنينة ليس في قلق ، لأن كثيرا من الناس إذا أخذ ما يشك فيه يكون عنده قلق إذا كان حي القلب ، فهو دائما يفكر : لعلي فعلت , لعلي فعلت. . لعلي تركت ، فإذا قطع الشك باليقين زال عنه ذلك .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((فإن الصدق طمأنينة)) وهذا وجه الشاهد من هذا الحديث لهذا الباب ( باب الصدق ) .
فالصدق طمأنينة ، لا يندم صاحبه أبدا ، ولا يقول : ليتني وليتني ؛ لأن الصدق منجاة ، والصادقون يُنَجِّيهُم الله بصدقهم ، وتجد الصادق دائما مطمئنا ؛ لأنه لا يتأسف على شيء حصل أو شيء يحصل في المستقبل ؛ لأنه قد صدق ، و ((مَنْ صَدَقَ نجا)) .
أما الكذب ، فبيَّن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه ريبة ، ولهذا تجد أول من يرتاب في الكاذب نفسه ، فيرتاب الكاذب : هل يصدِّقه الناس أو لا يصدقونه ؟
ولهذا تجد الكاذب إذا أخبرك بالخبر قام يحلف بالله أنه صدق ؛ لئلا يرتاب في خبره ، مع أنه محل ريبة.
تجد المنافقين مثلا يحلفون بالله ما قالوا : ولكنهم في ريبة ، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾[التوبة: 74 ] .
فالكذب لا شك أنه ريبة وقلق للإنسان ، ويرتاب الإنسان : هل عَلِمَ الناس بكذبه أم لم يعلموا ؟ فلا يزال في شك واضطراب .
فنأخذ من هذا الحديث أنه يجب على الإنسان أن يدع الكذب إلى الصدق ؛ لأن الكذب ريبة ، والصدق طمأنينة ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) : والله الموفق .
* * *
56 ـ عن أبي سفيان صخر بن حرب ـ رضي الله عنه ـ في حديثه الطويل في قصة هِرَقْل ، قال هرقل: فماذا يأمركم ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال أبو سفيان : قلت : يقول : (( اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة والصدق ، والعفاف ، والصِّلَة)) (175) [متفق عليه ] .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي سفيان صخر بن حرب ـ رضي الله عنه ـ وكان أبو سفيان مشركا لم يُسلمْ إلا متأخرًا فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة . وصلح الحديبية كان في السنة السادسة من الهجرة ، وفتح مكة كان في السنة الثامنة من الهجرة .
قدم أبو سفيان ومعه جماعة من قريش إلى هرقل في الشام ، وهرقل كان ملك النصارى في ذلك الوقت وكان قد قرأ في التوراة والإنجيل وعرف الكتب السابقة ، وكان مَلِكًا ذَكيًّا ، فلما سمع بأبي سفيان ومن معه وهم قادمون من الحجاز دَعَا بهم ، وجعل يسألهم عن حال النبي صلى الله عليه وسلم وعن نسبه ، وعن أصحابه ، وعن توقيرهم له ، وعن وفائه صلى الله عليه وسلم وكلما ذكر شيئا أخبروه عرف أنه النبي الذي أخبرت به الكتب السابقة ، ولكنه ـ والعياذ بالله ـ شَحَّ بمُلْكِه فلم يسلم للحكمة التي أرادها الله عز وجل .
لكن سأل أبا سفيان عما كان يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بأنه يأمرهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ، فلا يعبدوا غير الله ، لا ملكا ولا رسولا ، ولا شجرا ولا حجرا ، ولا شمسا ولا قمرا، ولا غير ذلك ، فالعباد ة لله وحده ، وهذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءت به الرسل كلهم ، جاؤوا بهذا التوحيد قال الله تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25] .
وقال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل: 36] ، أي : اعبدوا الله واجتنبوا الشرك .
هذه دعوة الرسل ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بما جاءت به الأنبياء من قبله بعبادة الله وحده لا شريك له .
ويقول : ((اتركوا ما كان عليه آباؤكم )) انظر كيف الصَّدعُ بالحق ! كل ما كان عليه آباؤهم من عبادة الأصنام أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركه .
وأما ما كان عليه آباؤهم من الأخلاق الفاضلة ؛ فإنه لم يأمرهم بتركه .
كما قال الله تعالى :﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ فقال سبحانه مكذبا لهم : ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [الأعراف: 28 ] .
فالحاصل أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر أمته الذين باشرَ دعوتهم أن يدعوا ما كان عليه آباؤهم من الإشراك بالله .
وقوله: ((وكان يأمرنا بالصلاة)) الصلاة صلة بين العبد وبين ربه ، وهي آكدُ أركان الإسلام بعد الشهادتين ، وبها يتميز المؤمن من الكافر ، فهي العهد الذي بيننا وبين المشركين والكافرين ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كَفَر)) (176) أي: كفر كفرًا مخرجا عن الملة ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة )) ، هذا حد فاصل بين المؤمنين وبين الكافرين .
ولقد أبعدَ النَّجعة من قال من العلماء : إن المراد بالكفر هنا الكفر الأصغر ، كالذي في قوله صلى الله عليه وسلم : ((اثنتان في الناس هما بهم كفر)) (177) ؛ لأنه من تدبَّرَ الحديث علمَ أن هذا تأويل خاطئ، وأن الصواب المتعين أن المراد بالكفر هنا الكفر الأكبر المخرج عن الملة ؛ لأن الفاصل بين شيئين ، بين الإيمان والكفر ، لابد أن يُمَيِّز أحدهما من الآخر ، وإلا لما صحَّ أن يكون فاصلا ، كالحدود التي بين أرضين إحداهما لزيد والأخرى لعمرو ، فإن هذه الحدود فاصلة لا تُدخلُ أرض زيد في أرض عمرو ولا أرض عمرو في أرض زيد . وكذلك الصلاة حد فاصل ، من كان خارجا منها فليس داخلا فيما وراءها .
إذاً الصلاة من بين سائر الأعمال إذا تركها الإنسان فهو كافر ، لو ترك الإنسان صيام رمضان وصار يأكل ويشرب بالنهار ولا يبالي لم نقل إنه كافر . لكن لو ترك الصلاة قلنا إنه كافر ، ولو ترك الزكاة وصار لا يزكي ، يجمع الأموال ولا يزكي ، لم نقل إنه كافر ، لكن لو ترك الصلاة قلنا إنه كافر . ولو لم يحج مع قدرته على الحج لم نقل إنه كافر ، لكن لو ترك الصلاة قلنا إنه كافر .
قال عبد الله بن شقيق رحمه الله ، وهو من التابعين ، وهو مشهور: (( كان أصحاب محمد صلى الله عليه الصلاة والسلام لا يَرَونَ شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة))(178).
إذاً الصلاة التي كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يأمر بها ، إذا تركها الإنسان فهو كما لو ترك التوحيد ، أي: يكون كافرًا مشركا والعياذ بالله . وإلى هذا يُشيرُ حديث جابر الذي رواه مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة ))(179).
وقوله : ((وكان يأمرنا بالصدق)) وهذا هو الشاهد من الحديث ، كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يأمر أمته بالصدق ، وهذا كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119] .
والصدق خلق فاضل ، ينقسم إلى قسمين :
صدق مع الله ، وصدق مع عباد الله ، وكلاهما من الأخلاق الفاضلة . وضد الصدق الكذب ، وهو الإخبار بخلاف الواقع ، والكذب خُلقٌ ذميم من أخلاق المنافقين ، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((آية المنافق ثلاث)) وذكر منها : ((إذا حدث كذب)) وبعض الناس ـ والعياذ بالله ـ مبتلى بهذا المرض ، فلا يستأنس ولا ينشرح صدره إلا بالكذب، يكذب دائما ، إن حدثك بحديث إذا هو كاذب ، إن جلس في المجلس جعل يفتعل الأفاعيل ليضحك بها الناس ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((ويل لمن حدث فكذب ليضحك به القوم . . ويل له ، ثم ويل له ، ثم ويل له )) ثلاث مرات .
وقوله ((العفاف)) أي : العِفَّة ، والعفة نوعان : عفة عن شهوة الفرج ، وعفة عن شهوة البطن .
أما العفة الأولى : فهي أن يبتعد الإنسان عما حرم عليه من الزنى ووسائله وذرائعه؛ لأن الله عز وجل يقول : ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء:32] .
وأوجب على الزاني أن يُجلد مائة جلدة ، ويُطرد عن البلد سنة كاملة إن كان لم يتزوج من قبل ، أما إذا كان قد تزوج وجامع زوجته وزنى بعد ذلك فإنه يرجم رجما بالحجارة حتى يموت ، كل هذا ردعًا للناس عن أن يقعوا في هذه الفاحشة ؛ لأنها تفسد الأخلاق والأديان والأنساب ، وتوجب أمراضا عظيمة ظهرت أثارها في هذا الزمان لما كثرت فاحشة الزنى والعياذ بالله .
ومنع الله كل ما يوصل إلى الزنا ويكون ذريعة له ، فمنَعَ المرأة أن تخرج متبرِّجة فقال:﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب:33] ، فأفضل مكان للمرأة أن تبقى في بيتها ولا تخرج إلا إذا دعت الحاجة أو الضرورة إلى ذلك ، فلتخرج كما أمرها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ تَفِلَة ، أي : غير مُتَطَيِّبةٍ ولا متبرِّجة (180) .
وكذلك أمر باحتجاب المرأة ـ إذا خرجت ـ عن كل رجل ليس من محارمها ، والحجاب الشرعي هو أن تغطي المرأة جميع ما يكون النظر إليه ذريعة إلى الفاحشة ، وأهمُّهُ الوجه ، فإن الوجه يجب حجبه عن الرجال الأجانب أكثر مما يجب حجب الرأس وحجب الذراع وحجب القدم . ولا عبرة بقول من يقول : إنه يجوز كَشفُ الوجه ؛ لأن قوله هذا فيه شيء من التناقض .
كيف يجوز للمرأة أن تكشف وجهها ، ويجب عليها عند هذا القائل أن تَسْتُرَ قدميها ؟ أيهما أعظم فتنة وأيهما أقرب إلى الزنى: أن تكشف المرأة وجهها أو تكشف قدميها ؟ كل إنسان عاقل يفهم ما يقول ، يقول : إن الأقرب إلى الزنى والفتنة أن تكشف عن وجهها .
ومن ذلك أيضا : ألا تخرج المرأة متطيِّبة ، فإن خرجت متطيِّبة فقد أتت بوسيلة الفتنة منها وبها ، فيفتن الناس بها ، وهي تفتتن أيضا حيث تمشي في الأسواق وهي متطيبة . نسأل الله العافية .
ولا يجوز لأحد أن يمكِّن أهله من ذلك أبدا ، وعليه أن يتفقدهم ، سواء كانت الزوجة أو البنت ، أو الأخت ، أو الأم ، أو غير ذلك ، ولا يجوز لأحد أن يمكن أهله من الخروج على غير الوجه الشرعي .
أما النوع الثاني من العفاف : فهو العفاف عن شهوة البطن ، أي : عما في أيدي الناس ، كما قال تعالى : ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾[البقرة:273] ، يعني : من التعفف عن سؤال الناس ، بحيث لا يسأل الإنسان أحدًا شيئا ، لأن السؤال مذلة ، والسائل يده دنيا ، سفلى ، والمعطي يده عليا ، فلا يجوز أن تسأل أحدًا إلا ما لابد منه ، كما لو كان الإنسان مضطرًّا أو محتاجا حاجة شبه ضرورية ، فحينئذ لا بأس أن يسأل . أما بدون حاجة ملحَّة أو ضرورة فإن السؤال محرم ، وقد وردت أحاديث في التحذير منه ، حتى أخبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن السائل يأتي يوم القيامة وما في وجهه مُزْعَةُ لحم ـ والعياذ بالله ـ قد ظهر منه العظم أمام الناس في هذا المقام العظيم المشهود .
ثم إن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا الناس شيئا ، حتى كان سوط أحدهم يسقط من على راحلته ولا يقول لأحد: ناولني السوط ، بل ينزل ويأخذ السوط .
والإنسان الذي أكرمه الله بالغنى والتَّعفُّف لا يعرف قدر السؤال إلا إذا ذُلَّ أمام المخلوق ، كيف تَمُدُّ يدك إلى مخلوق وتقول له أعطني وأنت مثله ؟ (( وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله )) .
أما الخامس ، قوله : ((الصلة))
والصلة أن تصل ما أمر الله به أن يوصل من الأقارب الأدنى فالأدنى ، وأعلاهم الوالدان ، فإن صلة الوالدين برٌّ وصلة . والأقارب لهم من الصلة بقدر ما لهم من القرب ، فأخوك أوكد صلة من عمك ، وعمك أشد صلة من عم أبيك ، وعلى هذا فقِس الأدنى فالأدنى .
والصلة جاءت في الكتاب والسنة غير مقيدة ، وكل ما جاء في الكتاب والسنة غير مقيد فإنه يحملُ على العرف ، فما جرى العرف على أنه صلة فهو صلة ، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان والأماكن . مثلاً إذا كان قريبك مستغنيا عنك وصحيح البدن وتسمع عنه أنه لا يحتاج إلى شيء ، فهذا صلته لو تحددت بشهر أو شهر ونصف وما أشبه ذلك فإن هذه صلة بعرفنا ، وذلك لأن الناس ـ والحمد لله ـ قد استغنى بعضهم عن بعض ، وكل واحد منهم لا يجد على الآخر ، لكن لو كان هذا الرجل قريبا جدًا كالأب ، والأم ، والأخ ، والعم ؛ فإنه يحتاج إلى صلةٍ أكثر ، وكذلك لو كان فقيرا فإنه يحتاج إلى صلة أكثر ، وكذلك لو مرض فإنه يحتاج إلى صلة أكثر . وهكذا .
المهم أن الصلة لما جاءت في القرآن غير مقيَّدة فإنه يتَّبَعُ في ذلك العرف ، ويختلف هذا باختلاف الأمور التي ذكرنا : القرب ، وحال الشخص ، والزمان ، والمكان ، وما جرت العادة بأنه صلة فهو صلة ؛ وما جرت العادة بأنه قطيعة فهو قطيعة .
وقد وردت النصوص الكثيرة في فضل صلة الرحم والتحذير من قطيعتها .
* * *