شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة
2_باب التَّوبة
قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب ، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى، لا تتعلق بحق آدمي؛ فلها ثلاثة شروط.
أحدها: أن يُقْلِعَ عن المعصية.
والثاني: أن يندم على فعلها.
والثالث : أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً. فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رَدَّهُ إليه، وإن كانت حدَّ قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه ، وإن كانت غيبة استحلَّه منها. ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها صحَّت توبته - عند أهل الحق - من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي. وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة:
قال الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31]، وقال تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾[هود: 3]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾ [التحريم: 8] .
الشرح
قال المؤلف- رحمه الله تعالى - باب التوبة:
التوبة لغة: من تاب يتوب ، إذا رَجع.
وشرعًا : الرجوع من معصية الله تعالى إلى طاعته.
وأعظمها وأوجبها التوبة من الكفر إلى الإيمان ، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال:38]، ثم يليها التوبة من الكبائر ؛ كبائر الذنوب.
ثم المرتبة الثالثة: التوبة من صغائر الذنوب.
والواجب على المرء، أن يتوب إلى الله - سبحانه وتعالى- من كل ذنب.
وللتوبة شروط ثلاثة: كما قال المؤلف - رحمه الله- ، ولكنها بالتتبُّع تبلغُ إلى خمسة:
الشرط الأول: الإخلاص لله، بأن يكون قصد الإنسان بتوبته وجه الله- عز وجل- وأن يتوب الله عليه، ويتجاوز عمَّا فعل من المعصية. لا يقصد بذلك مُراءاةُ الناس والتقرب إليهم، ولا يقصد بذلك دفع الأذية من السُّلُطات وولي الأمر.
وإنما يقصد بذلك وجه الله والدار الآخرة، وأن يعفو الله عن ذنوبه.
الشرط الثاني: الندم على ما فعل من المعصية؛ لأن شعور الإنسان بالندم هو الذي يدل على أنه صادق في التوبة؛ بمعنى أنْ يتحسَّر على ما سبق منه، وينكسر من أجله، ولا يرى أنه في حِلٍّ منه حتى يتوب منه إلى الله.
الشرط الثالث: أن يقلع عن الذَّنْب الذي هو فيه، وهذا من أهم شروطه. والإقلاع عن الذَّنب : إن كان الذّنْبُ تركُ واجب؛ فالإقلاع عنه بفعله؛ مثل أن يكون شخص لا يزكِّي، فأراد أن يتوب إلى الله، فلابد من أن يخرج الزكاة التي مضت ولم يؤدها. وإذا كان الإنسان مقصراً في برِّ الوالدين؛ فإنه يجب عليه أن يقوم بِبِرِّهما، وإذا كان مقصراً في صلة الرّحم؛ فإنه يجب عليه أن يصل الرحم.
وإن كانت المعصية بفعل محرّم،فالواجب أن يقلع عنه فوراً، ولا يبقى فيه ولا لحظة.
فإذا كانت من أكل الربا مثلاً، فالواجب أن يتخلَّص من الربا فوراً، بتركه والبعد عنه، وإخراج ما اكتسبه عن طريق الربا، إذا كانت المعصية بالغش والكذب على الناس وخيانة الأمانة، فالواجب عليه أن يقلع عن ذلك ،وإذا كان قد اكتسب مالا من هذا الطريق المحرَّم، فالواجب عليه أن يرده إلى صاحبه أو يستحله منه، وإذا كانت غِيبةً، فالواجب أن يقلع عن غيبة الناس والتكلم في أعراضهم، أما أن يقول إنه تائب إلى الله وهو مُصِرٌ على ترك الواجب، أو مُصِرٌ على فعل المحرم، فإن هذه التوبة غير مقبولة. بل إن هذه التوبة كالاستهزاء بالله عز وجل، كيف تتوب إلى الله- عز وجل- وأنت مصر على معصيته؟!
لو أنك تعامل بشرا من الناس ، تقول أنا تبت إليك وأنا نادم لا أعود، ثم في نيتك وفي قلبك أنك ستعود، وعدت، فإن هذه سخرية بالرجل، فكيف بالله رب العالمين؟!
فالإنسان التائب حقيقة هو الذي يُقلع عن الذنب.
ومن الغريب أن بعض الناس تجلس إليه، وتجده يتأوه من وجود الربا، وهو في نفسه يرابي والعياذ بالله، أو يتأوه من الغيبة وأكل لحوم الناس؛ وهو من أكثر الناس غيبة- نسأل الله العافية-، أو يتأوه من الكذب وضياع الأمانة في الناس؛ وهو من أكذب الناس وأضيعهم للأمانة!!
على كل حال، الإنسان لابد أن يقلع عن الذنب الذي تاب منه، فإن لم يقلع فتوبته مردودة لا تنفعه عند الله عز وجل. والإقلاع عن الذنب إما أن يكون إقلاعاً عن ذنب يتعلق في حق الله- عز وجل- فهذا يكفي أن تتوب بينك وبين ربك، ولا ينبغي- بل قد نقول: لا يجوز- أن تحدث الناس بما صنعت من المحرم أو ترك الواجب. لأن هذا بينك وبين الله، فإذا كان الله قد منَّ عليك بالستر، وسترك عن العباد فلا تحدث أحداً بما صنعت إذا تبت إلى الله.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي معافي إلا المجاهرين))(50) .
ومن المجاهرة، كما جاء في الحديث: ((أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا…إلى آخره))(51) .
إلا أن بعض العلماء قال: إذا فعل الإنسان ذنباً فيه حدٌ، فإنه لا بأس أن يذهب إلى الإمام الذي يقيم الحدود- مثل الأمير- ويقول إنه فعل الذنب الفلاني ويريد أن يطهِّره منه، ومع ذلك فالأفضل أن يستر على نفسه، هذا هو الأفضل.
يعني يباح له أن يذهب إلى ولي الأمر إذا فعل معصية فيها حد كالزنا مثلا، فيقول إنه فعل كذا وكذا؛ يطلب إقامة الحد عليه؛ لأن الحد كفارة للذنب.
أما المعاصي الأخرى فاسترها على نفسك كما سترها الله، وكذلك الزنا وشبهه، استره على نفسك - بالنسبة لغير ولي الأمر- لا تفضح نفسك.
ما دمت أنك قد تبت فيما بينك وبين الله تعالى، فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
أما إذا كان الذنب بينك وبين الخلق، فإن كان مالاً فلابد أن تؤديه إلى صاحبه، ولا تقبل التوبة إلا بأدائه مثل أن تكون قد سرقت مالاً من شخص وتبت من هذا، فلابد أن توصل المسروق إلى المسروق منه.
أو جحدت حقاً لشخص؛ كأن يكون في ذمتك دين لإنسان وأنكرته، ثم تبت ، فلابد أن تذهب إلى صاحب الدين الذي أنكرته، وتقرَّ عنده وتعترف حتى يأخذ حقه. فإن كان قد مات، فإنك تعطيه ورثته، فإن لم تعرفهم، أو غاب عنك هذا الرجل ولم تعرف له مكاناً، فتصدق به عنه تخلصاً منه، والله- سبحانه وتعالى- يعلمه ويعطيه إياه.
أما إذا كانت المعصية التي فعلتها مع البشر ضرْباً وما أشبهه، فاذهب إليه ومكِّنه من أن يضربك مثل ما ضربته؛ إن كان على الظهر فعلى الظهر، وإن كان على الرأس فعلى الرأس، أو في أي مكان ضربته فليقتصَّ منك؛ لقول الله تعالى سبحانه:﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى:40]، ولقوله:﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:194] .
وإذا كان بقول؛ أي: أذيَّةٌ بالقول، مثل أن تكون قد سَبَبْته أمام الناس ووبَّخته وعيَّرته، فلابد أن تذهب إليه وتستحلَّ منه بما تتفقان عليه. حتى لو قال لا أسمح لك إلا بكذا وكذا من الدراهم فأعطه.
الرابع: أن يكون الحق غِيْبَةً، يعني أنك تكلمت به في غيبته، وقدحت فيه عند الناس وهو غائب.
فهذه اختلف فيها العلماء ؛ فمنهم من قال: لا بد أن تذهب إليه، وتقول له يا فلان إني تكلمت فيك عند الناس، فأرجوك أن تسمح عني وتحلّلني.
وقال بعض العلماء؛ لا تذهب إليه، بل فيه تفصيل!فإن كان قد علم بهذه الغيبة فلابد أن تذهب إليه وتستحلَّه. وإن لم يكن علم فلا تذهب إليه، واستغفر له، وتحدث بمحاسنه في المجالس التي كنت تغتابه فيها؛ فإن الحسنات يهذبن السيئات. وهذا القول أصح؛ وهو أن الغيبة إذا كان صاحبها لم يعلم بأنك اغتبته، فإنه يكفي أن تذكُرَهُ بمحاسنه في المجالس التي اغتبته فيها، وأن تستغفر له، تقول: ((اللهم اغفر له)) كما جاء في الحديث: ((كفارة من اغتبته أن تستغفر له)) (52) فلابد في التوبة من أنْ تصل الحقوق إلى أهلها.
أما الشرط الرابع: فهو العزم على أن لا تعود في المستقبل؛ بأنك لن تعود إلى هذا العمل في المستقبل، فإن كنت تنوي أن تعود إليه عندما تسمح لك الفرصة فإنَّ التوبة لا تصح؛ مثل: رجل كان- والعياذ بالله- يستعين بالمال على معصية الله، يشتري به المسكرات، يذهب إلى البلاد يزني- والعياذ بالله- ويسكر.فأُصيب بفقر وقال: اللهم إني تبت إليك، وهو كاذب ، يقول : تبت إليك، وهو في نيته أنه إذا عادت الأمور إلى مجاريها الأولى فعل فعله الأول.
فهذه توبة عاجز، تُبْتَ أم لم تَتُبْ لست بقادر على فعل المعصية، لأنه يوجد بعض الناس يُصاب بفقر، فيقول: تركت الذنوب ، لكن يُحدِّث قلبه أنه لوعاد إليه ما افتقده لعاد إلى المعصية مرة ثانية، فهذه توبة غير مقبولة؛ لأنها توبة عاجز ، وتوبة العاجز لا تنفعه.
الشرط الخامس: أن تكون في زمن تقبل فيه التوبة، فإن تاب في زمن لا تقبل فيه التوبة لم تنفعه التوبة. وذلك على نوعين:
النوع الأول: باعتبار كل إنسان بحسبه.
النوع الثاني: باعتبار العموم.
أما الأول: فلابد أن تكون التوبة قبل حلول الأجل- يعني الموت-، فإن كانت بعد حلول الأجل فإنها لا تنفعُ التائبَ؛ لقول الله تعالى ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾[النساء: 18] ، هؤلاء ليس لهم توبة!
وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر:84،85] . فالإنسان إذا عاين الموت وحضره الأجل؛ فهذا يعني أنه أَيِسَ من الحياة، فتكون توبته في غير محلِّها! بعد أن أَيِسَ من الحياة، وعرف أنه لا بقاء له يذهب فيتوب! هذه توبة اضطرار ، فلا تنفعه ولا تُقبَلُ منه، لابد أن تكون التوبة سابقة.
أما النوع الثاني: وهو العموم، فإن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أخبر بأن : ((الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))(53).
فإذا طلعت الشمس من مغربها لم ينفع أحداً من توبة.قال الله سبحانه: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا﴾ [الأنعام:158]، وهذا البعض: هو طلوع الشمس من مغربها كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً فلابد أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه التوبة، فإن لم تكن كذلك فلا توبة للإنسان.
ثم اختلف العلماء - رحمهم الله- هل تقبل التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره أو لا ، في هذا ثلاثة أقوال لأهل العلم !!
1ـ منهم من قال: إنها تصح التوبة من الذنب وإن كان مُصِراً على ذنب آخر، فتقبل توبته من هذا الذنب، ويبقى الإثم عليه في الذنب الآخر بكل حال.
2ـ ومنهم من قال: لا تقبل التوبة من الذنب مع الإصرار على ذنب آخر.
3ـ ومنهم من فصَّل فقال: إن كان الذنب الذي أصرَّ عليه من جنس الذنب الذي تاب منه فإنها لا تقبل ، وإلا قُبلت.
مثال ذلك: رجل تاب من الربا ولكنه- والعياذ بالله- يشرب الخمر وُمصِرٌ على شرب الخمر.
فهنا من العلماء من قال: إن توبته من الربا لا تقبل ، كيف يكون تائبا إلى الله وهو مُصِرٌ على معصيته؟
وقال بعض العلماء: بل تقبل ؛ لأن الربا شيء وشرب الخمر شيء آخر، وهذا هو الذي مشى عليه المؤلف- رحمه الله- وقال: إنها تقبل التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره عند أهل الحق.
فهذا فيه الخلاف: بعضهم يقول تقبل: وبعضهم يقول: لا تقبل. أما إذا كان من الجنس؛ مثل أن يكون الإنسان - والعياذ بالله مبتلىً بالزنا، ومبتلىً أيضاً بالإطلاع على النساء والنظر إليهن بشهوة وما أشبه ذلك ، فهل تقبل توبته من الزنا وهو مُصِرُّ على النظر إلى النساء شهوة؟ أو بالعكس؟
هذا فيه أيضاً خلاف؛ فمنهم من يقول : تَصِح.
ومنهم من يقول : لا تصح التوبة.
ولكنَّ الصحيح في هذه المسألة أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على غيره، لكن لا يُعطى الإنسان اسم التائب على سبيل الإطلاق ، ولا يستحق المدح الذي يُمدح به التائبون؛ لأن هذا لم يتب توبة تامة بل تاب توبة ناقصة، تاب من هذا الذنب فيرتفع عنه إثم هذا الذنب لكنه لا يستحق أن يوصف بالتوبة على سبيل الإطلاق، بل يقال: هذا توبته ناقصة وقاصرة؛ فهذا هو القول الذي تطمئن إليه النفس؛ أنه لا يعطى الوصف على سبيل الإطلاق، ولا يحرم من التوبة التي تابها من هذا الذنب.
قال المؤلف- رحمه الله- إن النصوص من الكتاب والسنه تظاهرت وتضافرت على وجوب التوبة من جميع المعاصي ، وصدق-رحمه الله- فإن الآيات كثيرة في الحث على التوبة وبيان فضلها وأجرها، وكذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد بيَّن الله تعالى في كتابه أنه - سبحانه- يحب التوابين ويحب المتطهرين ، التوابون : الذين يكثرون التوبة إلى الله- عز وجل -؛ كلما أذنبوا ذنباً تابوا إلى الله.
ثم ذكر المؤلف من الآيات قول الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾ [النور:31] ، هذه الجملة خَتَم الله بها آيتي وجوب غض البصر، وهي قوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا﴾ إلى قوله: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:30،31] .
ففي هذه الآية دليل على وجوب التوبة من عدم غض البصر وحفظ الفرج؛ لأن غضّ البصر يعني: قصره وعدم إطلاقه، ولأن ترك غضّ البصر وحفظ الفرج؛ كل ذلك من أسباب الهلاك وأسباب الشقاء، وأسباب البلاء. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على الرجال من النساء))(54)، ((وإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) (55) .
ولهذا كان أعداؤنا- أعداء الإسلام- بل أعداء الله ورسوله من اليهود والنصارى والمشركين والشيوعيين وأشباههم وأذنابهم وأتباعهم كل هؤلاء - يحرصون غاية الحرص على أن يفتنوا المسلمين بالنساء، يَدْعون إلى التبرج، يدعون إلى اختلاط المرأة بالرجل، يدعون إلى التَّفَسُّخ في الأخلاق، يدعون إلى ذلك بألسنتهم ، وأقلامهم، وأعمالهم، - والعياذ بالله؛ لأنهم يعلمون أن الفتنة العظيمة التي ينسى بها الإنسان ربه ودينه إنَّما تكون في النساء.
النساء اللاتي يفتنَّ أصحاب العقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهبَ للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن))(56).
هل تريد شيئاً أبْيَنَ من هذا.
أذهب للب الرجل - لعقله - الحازم، فما بالك بالرجل المهين؛ الذي ليس عنده حزم، ولا عزم، ولا دين، ولا رجولة؛ يكون أشد وأشد والعياذ بالله.
لكن الرجل الحازم تُذهبُ النساءُ عقْله- نسأل الله العافية-، وهذا هو الواقع لذلك قال الله تعالى عقب الأمر بغض البصر، قال: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31] ؛وقوله عز وجل: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً﴾ يدل على أنه ينبغي لنا- بل يجب علينا- أن نتواصى بالتوبة، وأن يتفقَّدض بَعضُنا بعضاً، هل الإنسان تاب من ذنبه أو بقي مُصِراً عليه؛ لأنه وجَّه الخطاب للجميع: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ [النور: 31] ، وفي قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ دليل على أن التوبة من أسباب الفلاح، والفلاح- كما قال أهل العلم بالتفسير وباللغة- الفلاح: كلمة جامعة يحصل بها المطلوب ويزول بها المرهوب، فهي كلمة جامعة لخير الدنيا والآخرة.
وكل إنسان يطلب خير الدنيا والآخرة. ما تجد إنساناً- حتى الكافر يريد الخير. لكنْ من الناس من يوفَّق ومنهم من لا يُوفَّق.
الكافر يريد الخير؛ لكَّنه يريد خير الدنيا؛ لأنه رجل بَهِيْمِيٌّ؛ هو شرٌّ الدواب عند الله:﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال:55] ، شرٌ من كل دابة تدبُّ على الأرض؛ ومع ذلك هو يريد الخير، ويريد الرَّفاهية، ويريد التنعم بهذه الدنيا، لكنّها- أي الدنيا- جنّته، والآخرة - والعياذ بالله- عذابه وناره.
المهم أن كل إنسان يريد الفلاح، لكن على حسب الهمة، المؤمن يريد الفلاح في الدنيا والآخرة، والكافر لا يؤمن بالآخرة؛ فهو يريد الفلاح في الدنيا.
من أسباب الفلاح التوبة إلى الله - عز وجل- كما في الآية:﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31] ، أي لتنالوا الفلاح؛ وذلك بحصول المطلوب وزوال المرهوب. والله الموفق.
* * *
13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))(57) [رواه البخاري].
14- وعن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة))(58) [رواه مسلم] .
الشرح
تقدم الكلام على ما ذكره المؤلف- رحمه الله- من وجوب التوبة وشروطها، وما ساقه من الآيات الدالة على وجوبها.
وهذان الحديثان ذكرهما المؤلف- رحمه الله- ليستدل على ذلك بالسنة.
لأنه كلما تضافرت الأدلة على الشيء قَوِيَ، وصار أوْكد، وصار أوجب، فذَكَر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم بأنه يستغفر الله ويتوب إليه أكثر من سبعين مرة.
وهذا وهو الرسول عليه الصلاة والسلام- الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر -يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة.
وفي حديث الأغر بن يسار المزني أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)).
ففي هذين الحديثين دليل على وجوب التوبة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بها فقال: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله)) فإذا تاب الإنسان إلى ربه حصل بذلك فائدتين:
الفائدة الأولى: امتثال أمر الله ورسوله؛ وفي امتثال أمر الله ورسوله كل الخير. فعلى امتثال أمر الله ورسوله تدور السعادة في الدنيا والآخرة.
والفائدة الثانية: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم . حيث كان صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة؛ يعني: يقول: أتوب إلى الله، أتوب إلى الله …
والتوبة لابد فيها من صدق، بحيث إذا تاب الإنسان إلى الله أقلع عن الذنب.أما الإنسان الذي يتوب بلسانه وقلبه مُنطوٍ على فعل المعصية، أو على ترك الواجب. أو يتوب إلى الله بلسانه، وجوارحه مُصِرَّة على فعل المعصية؛ فإن توبته لا تنفعه، بل إنها أشبه ما تكون بالاستهزاء بالله عز وجل!
كيف تقول أتوب إلى الله من معصية وأنت مُصرٌ عليها، أو تقول أتوب إلى الله من معصية وأنت عازم على فعلها؟
الإنسان لو عامل بشرًا مثله بهذه المعاملة لقال هذا يسخر بي، ويستهزئ بي!! كيف يتنصَّل من أمر عندي وهو مُتلبِّس به؟ ما هذا إلا هزؤٌ ولعب، فكيف برب العالمين؟
إن من الناس من يقول إنه تائب من الربا، ولكنه- والعياذ بالله مُصِرٌ عليه!!يمارس الربا صريحا، ويمارس الربا مخادعة، وقد مر بنا كثيراً أن الذي يمارس الربا مخادعة أعظم إثما وجرما من الذي يمارس الربا بالصراحة. لأن الذي يمارس الربا بالمخادعة جنى على نفسه مرتين:
أولاً: الوقوع في الربا.
وثانياً: مخادعة الله- عز وجل - وكأن الله- سبحانه وتعالى- لا يعلم. وهذا يوجد كثيرا في الناس اليوم الذين يتعاملون في الربا صريحاً، أمرُهم واضح، لكن من الناس من يتعامل في الربا خيانة ومخادعة؛ تجد عنده أموالاً لها سنوات عديدة في الدكان، فيأتي الغني بشخص فقير يقوده للمذبحة والعياذ بالله !! فيأتي إلى صاحب الدكان الذي عنده هذه البضاعة، ويبيعها على الفقير بالدين بيعاً صُوريًّا. وكل يعلم أنه ليس بيعاً حقيقياً؛ لأن هذا المشتري - المدين- لا يقلب المال، ولا ينظر إليه، ولا يهمه، بل لو كان أكياساً من الرمل ويبعث عليه على أنها رز أو سكر أخَذَها؛ لأنه لا يهمه؛ الذي يهمه أن يقضي حاجة فيبيعها عليه - مثلاً- بعشرة آلاف لمدة سنة ، وينصرف بدون أن ينقلها من مكانها، ثم يبيعها هذا المدين على صاحب الدكان بتسعة آلاف- مثلاً- فيُؤكَلُ هذا الفقير من وجهين: من جهة هذا الذي ديَّنه، ومن جهة صاحب الدكان، ويقولون: إن هذا صحيح .بل يسمونه التصحيح ، يقول قائلهم: تعال أصحِّح عليك، أو أصحح لك كذا وكذا .سبحان الله، هل هذا تصحيح؟ هذا تلطيخ بالذنوب والعياذ بالله!!
ولهذا يجب علينا - إذا كنا صادقين مع الله - سبحانه وتعالى- في التوبة- أن نقلع عن الذنوب والمعاصي إقلاعاً حقيقياً، ونكرَهَها، ونندم على فِعلها؛ حتى تكون التوبة توبةً نصوحا.
وفي هذين الحديثين : دليل على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أشد الناس عبادة لله، وهو كذلك، فإنه أخشانا لله، وأتقانا لله، وأعلمنا بالله صلوات الله وسلامه عليه.
وفيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام مُعَلِّمُ الخير بمقاله وفعاله.
فكان يستغفر الله، ويأمر الناس بالاستغفار؛ حتى يتأسّوا به امتثالاً للأمر واتباعا للفعل.
وهذا من كمال نُصحِه صلوات الله وسلامه عليه لأمته. فينبغي لنا نحن أيضاً أن نتأسى به، إذا أمَرْنا الناس بأمر أن نكون أول من يمتثل هذا الأمر، وإذا نهيناهم عن شيء أن نكون أول من ينتهي عنه، لأن هذا هو حقيقة الداعي إلى الله، بل هذا حقيقة الدعوة إلى الله عز وجل؛ أن تفعل ما تؤمر به، وتترك ما تنهى عنه. كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا التوبة وهو - عليه الصلاة والسلام- يتوب أكثر منَّا . نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يهدينا وإياكم صراطاً مستقيماً. والله الموفق.
* * *
15- وعن أبي حمزة أنس بن مالك الأنصاري- خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم _ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم؛ سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة))(59) [متفق عليه] .
وفي رواية لمسلم: ((لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها،وقد أيس من راحلته،فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ،فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)).
الشرح
قوله- رحمه الله- ((خادم النبي صلى الله عليه وسلم)) وذلك أن أنساً - رضي الله عنه- حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتت به أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: هذا أنس ابن مالك يخدمك، فَقَبِلَ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وصار أنس من خُدَّام النبي صلى الله عليه وسلم .
ذكر أنس- رضي الله عنه- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده إذا تاب إليه)) من هذا الرجل الذي سقط على راحلته بعد أن أضلّها، وذكر القصة: رجل كان في أرض فلاة، ليس حوله أحد، لا ماء ولا طعام ولا أناس .. ضلَّ بعيره: أي ضاع، فجعل يطلبه فلم يجده، فذهب إلى شجرة ونام تحتها ينتظر الموت! قد أيسَ من بعيره، وأيس من حياته؛ لأن طعامه وشرابه على بعيره، والبعير قد ضاع، فبينما هو كذلك إذا بناقته عنده قد تعلَّق خطامها بالشجرة التي هو نائم تحتها. فبأي شيء يقدَّر هذا الفرح؟ هذا الفرح لا يمكن أن يتصوره أحد إلا من وقع في مثل هذه الحال!! لأنه فرح عظيم، فرح بالحياة بعد الموت، ولهذا أخذ بالخطام فقال: ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك))!! أراد أن يُثني على الله فيقول: ((اللهم أنت ربي وأنا عبدك)) لكن من شدة فرحه أخطأ ..فقَلَبَ القضية.. وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.
في هذا الحديث من الفوائد: دليل على فرح الله - عز وجل- بالتوبة من عبده إذا تاب إليه،وأنَّه يحب ذلك- سبحانه وتعالى- محبة عظيمة، ولكن لا لأجل حاجته إلى أعمالنا وتوبتنا؛ فالله غنيٌّ عنا، ولكن لمحبته سبحانه للكرم؛ فإنه يحب - سبحانه وتعالى أن يعفو وأن يغفر، أحب إليه من أن ينتقم ويؤاخذ . ولهذا يفرح بتوبة الإنسان .
ففي هذا الحديث حث على التوبة ؛ لأن الله يُحبها، وهي من مصلحة العبد.
وفيه: إثبات الفرح لله عز وجل، فهو- سبحانه وتعالى- يفرح، ويغضب ، ويكره ويحب، لكن هذه الصفات ليست كصفاتنا ؛ لأن الله يقول:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] ، بل هو فرح يليق بعظمته وجلاله ولا يشبه فرح المخلوقين.
وفيه: دليل على أن الإنسان إذا أخطأ في قول من الأقوال ولو كان كفرا سبق لسانه إليه؛ فإنه لا يؤاخذ به فهذا الرجل قال كلمة كفر؛ لأن قول الإنسان لربه: أنت عبدي وأنا ربك هذا كفر لاشك، لكن لما صدر عن خطأ من شدة الفرح - أخطأ ولم يعرف أن يتكلم - صار غير مؤاخذٍ به، فإذا أخطأ الإنسان في كلمة؛ كلمة كفر؛ فإنه لايؤاخذ بها، وكذلك غيرها من الكلمات لو سبَّ أحدا على وجه الخطأ بدون قصد، أو طلَّق زوجته على وجه الخطأ بدون قصد، أو أعتق عبده على وجه الخطأ بدون قصد، فكل هذا لا يترتَّب عليه شيء؛ لأن الإنسان لم يقصده، فهو كاللغو في اليمين، وقد قال الله تعالى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾[البقرة:225]، بخلاف المستهزئ فإن المستهزئ يكفر إذا قال كلمة الكفر، ولو كان مستهزئا؛ لقول الله سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾[التوبة:65،66]، فالمستهزئ قصَدِ الكلام، وقصد معناه؛ لكن على سبيل السخرية والهزء؛ فلذلك كان كافراً، بخلاف الإنسان الذي لم يقصده؛ فإنه لا يُعتبر قوله شيئاً.
وهذا من رحمة الله - عز وجل- والله الموفق.
* * *
16- وعن أبي موسى عبد الله قيس الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها))(60) .[رواه مسلم].
17- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه))(61) . [رواه مسلم].
18- وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله - عز وجل - يقبل توبة العبد ما لم يُغرْغر)). (62) [رواه الترمذي] وقال: حديث حسن.
الشرح
هذه الأحاديث الثلاثة التي ذكرها المؤلف - رحمه الله- كلها تتعلق بالتوبة.
أما حديث أبي موسى فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
وهذا من كرمه- عز وجل- أنه يقبل التوبة حتى وإن تأخَّرت. فإذا أذنب الإنسان ذنباً في النهار، فإن الله- تعالى- يقبل توبته ولو تاب في الليل. وكذلك إذا أذنب في الليل وتاب في النهار فإن الله-تعالى- يقبل توبته بل إنه - تعالى- يبْسط يده حتى يتلقى هذه التوبة التي تصدر من عبده المؤمن .
وفي هذا الحديث: دليل على محبة الله- سبحانه وتعالى- للتوبة، وقد سبق في الحديث السابق - في قصة الرجل الذي أضل راحلته حتى وجدها-: أن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب إليه أشد فرحاً من هذا براحلته.
ومن فوائد حديث أبي موسى: إثبات أن الله – تعالى - له يد، وهو كذلك، بل له يدان جلَّ وعلا- كما قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة:64]، وهذه اليد التي أثبتها الله لنفسه- بل اليدان- يجب علينا أن نؤمن بهما؛ وأنهما ثابتتان لله.
ولكن لا يجوز أن نتوهم أنها مثل أيدينا؛ لأن الله يقول في كتابه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11]، وهكذا كل ما مر بك من صفات الله فأثبتها لله- عز وجل- لكن بدون أن تمثلها بصفات المخلوقين؛ لأن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته عز وجل.
وفي هذا الحديث: أن الله- سبحانه وتعالى- يقبل توبة العبد وإن تأخرت، لكن المبادرة بالتوبة هي الواجب؛ لأن الإنسان لا يدري ، فقد يفجأه الموت فيموت قبل أن يتوب. فالواجب المبادرة ، لكن مع ذلك، لو تأخَّرْتَ تاب الله على العبد.
وفي هذا الحديث: دليل على أن الشمس إذا طلعت من مغربها، انتهى قبول التوبة. ولكن قد يسأل السائل ، يقول : هل الشمس تطلع من مغربها؟ المعروف أن الشمس تطلع من المشرق؟!
فنقول : نعم هذا هو المعروف ، وهذا هو المطرد منذ خلق الله الشمس إلى يومنا هذا.لكن في آخر الزمان يأمر الله الشمس أن ترجع من حيث جاءت فتنعكس الدورة، وتطلع من مغربها، فإذا رآها الناس آمنوا كلهم، حتى الكفار اليهود، والنصارى، والبوذيون، والشيوعيون، وغيرهم؛ كلهم يؤمنون. ولكن الذي لم يؤمن قبل أن تطلع الشمس من مغربها لا ينفعه إيمانه.
كل يتوب أيضاً، لكن الذي لم يتب قبل أن تطلع الشمس من مغربها لا تقبل توبته؛ لأن هذه آية يشهدها كل أحد، وإذا جاءت الآيات المنذرة لم تنفع التوبة ولم ينفع الإيمان!
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه في أن الله -سبحانه وتعالى- يقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها فهو كحديث أبي موسى.
وأما حديث عبد الله بن عمر: ((إن الله يقبل توبة عبده ما لم يُغَرْغِر)) أي: ما لم تصل الروح الحلقوم، فإذا وصلت الروح الحلقوم فلا توبة، وقد بيَّنت النصوص الأخرى أنه إذا حضر الموت فلا توبة؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن﴾ [النساء: 18] .
فعليك يا أخي المسلم أن تبادر بالتوبة إلى الله - عز وجل- من الذنوب، وأن تقلع عما كنت مُتَلَّبسًا به من المعاصي، وأن تقوم بما فَّرطت به من الواجبات، وتسأل الله قبول تتوبتك. والله الموفق.
* * *
19- وعن زرِّ بن حُبيش قال: أتيت صفوان بن عسال - رضي الله عنه- أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك يا زر؟ فقلت: ابتغاء العلم فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يطلب، فقلت: إنه قد حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرءًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجئت أسألك: هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفرًا- أو مسافرين- أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم، فقلت: هل سمعته يذكر في الهوى شيئاً؟ قال: نعم: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فبَيْنا نحن عنده إذ ناداه أعرابي بصوت له جهوري: يامحمد، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته: (( هاؤم )) فقلت له: ويحك أغضض من صوتك فإنك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد نهيت عن هذا!! فقال: والله لا أغضض .قال الإعرابي : المرء يحب القوم ولما يحلق بهم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب يوم القيامة)) فما زال يحدِّثنا حتى ذكر بابا من المغرب مسيرة عرضه – أو يسير الراكب في عرضه- أربعين؛ أو سبعين عاما. قال سفيان- أحد الرواة-: قبل الشام، خلقه الله - تعالى- يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس منه))(63) [رواه الترمذي وغيره وقال: حديث حسن صحيح] .
الشرح
هذا الحديث من أحاديث التوبة التي ساقها المؤلف -رحمه الله- في بيان متى تنقطع التوبة. لكنه يشتمل على فوائد:
منها: أن زر بن حبيش أتي إلى صفوان بن عسال- رضي الله عنه- من أجل العلم- يبتغي العلم- فقال له صفوان بن عسال: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب)).
وهذه فائدة عظيمة تدل على فضيلة العلم، وطلب العلم؛ والمراد به العلم الشرعي، أي: عِلمُ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أما علم الدنيا فللدنيا، لكن طلب العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فيه الثناء والمدح، والحث عليه في القرآن والسنة. وهو نوع من الجهاد في سبيل الله، لأن هذا الدين قام بأمرين:
قام بالعلم والبيان، وبالسلاح: بالسيف والسنان.
حتى إن بعض العلماء قال: ((إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح)) لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم، والجهاد بالسلاح في سبيل الله مبني على العلم، لا يَسيرُ المجاهد، ولا يُقاتل ، ولا يحجم، ولا يقسم الغنيمة، ولا يحكم بالأسرى؛ إلا عن طريق العلم، فالعِلمُ هو كل شيء.
ولهذا قال الله عز وجل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11]، وَوَضْعُ الملائكة أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يطلب واحتراماً له، وتعظيماً له، ولا يُرَدُّ على هذا أن يقول القائل: أنا لا أحس بذلك؟ لأنه إذا صح الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كالمشاهد عيانا.
أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا- تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له))(64).
نحن لا نسمع هذا الكلام من الله- عز وجل- لكن لما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم صار كأننا نسْمعه، ولذلك يجب علينا أن نؤمن بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم وبما صح عنه مما يذكر في أمور الغيب، وأن نكون مُتَيقِّنين لها كأنما نشاهدها بأعيننا ونسمعها بآذاننا.
ثم ذكر زر بن حبيش لصفوان بن عسال أنه حك في صدره المسح على الخفين بعد البول والغائط.
يعني أن الله تعالى ذكر في القرآن قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة:6] ، فيقول إنه حك في صدري؛ أي: صار عندي توقف وشك في المسح على الخفين بعد البول أو الغائط هل هذا جائز أو لا ؟
فبيَّن له صفوان بن عسال- رضي الله عنه- أن ذلك جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا كانوا سفراً أو مسافرين أن لا ينزعوا خِفَافهم إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم، فدل هذا على جواز المسح على الخفين، بل إنَّ المسح على الخفين أفضل إذا كان الإنسان لابسًا لهما.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم فأهوى المغيرة لينزع خفيه فقال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما))(65) .
ففي هذا دليل واضح على أن الإنسان الذي عليه جوارب، أو عليه خفان؛ أن الأفضل أن يمسح عليهما ولا يغسل رجليه.
ومنها: أنه ينبغي إذا أشكل على الإنسان شيء أن يسأل ويبحث عمَّن هو أعلم بهذا الشيء؛ حتى لا يبقى في قلبه حرج مما سمع، لأن بعض الناس يسمع الشيء من الأحكام الشرعية ويكون في نفسه حرج، ويبقى متشكِّكاً متردِّداً، لا يسأل أحداً يزيل عنه هذه الشبهة، وهذا خطأ، بل الإنسان ينبغي له أن يسأل حتى يصل إلى أمر يطمئن إليه ولا يبقى عنده قلق.
فهذا زر بن حبيش- رحمه الله- سأل صفوان بن عسال- رضي الله عنه- عن المسح على الخفين؛ وهل عنده شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً أو مسافرين ألا ننزع خفافنا إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم.
فهذا الحديث فيه دليل على ثبوت المسح على الخفين، وقد تواترت الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأخذ بهذا أهل السنة، حتى إن بعض أهل العلم، الذين صنَّفوا في كتب العقائد، ذكروا المسح على الخفين في كتاب العقائد؛ وذلك لأن الرافضة خالفوا في ذلك؛ فلم يُثبِتوا المسح على الخفين وأنكروه، والعجب أن ممن روى المسح على الخفين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومع ذلك هم ينكرونه ولا يقولون به، فكان المسح على الخفين من شعار أهل السنة ومن الأمور المتواترة عندهم؛ التي ليس عندهم فيها شك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام أحمد: ((ليس في قلبي من المسح شك))، أو قال: ((شيء فيه أربعون حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)) ولكن لابد من شروط لجواز المسح على الخفين:
الشرط الأول: أن يلبسهما على طهارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما أراد أن ينزع خفي النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ، ومسح عليهما)).
ولا فرق بين أن تكون هذه الطهارة قد غسل فيها الرِِّجل، أو مسح فيها على خفٍّ سابق.
فمثلاً: لو توضأ وضوءاً كاملاً، وغسل رجليه، ثم لبس الجوارب؛ يعني الشرَّاب أو الخفين، فهنا لَبِسَهُما على طهارة.
كذلك لو كان قد لبس جوارب من قبل ومسح عليهما، ثم احتاج إلى زيادة جورب ولبسه على الجورب الأول الذي مسحه- وهو على طهارة-، فإنه يمسح على الثاني، لكنْ يكون ابتداء المدة من المسح على الأول لا من المسح على الثاني ؛ هذا هو القول الصحيح؛ أنه إذا لبس خفًّا على خف ممسوح فإنه يمسح على الأعلى، لكن يَبني على مُدة المسح على الأول.
ولابدَّ أن تكون الطهارة بالماء، فلو لبسهما على طهارة تيمُّمٍ فإنه لا يمسح عليهما؛ مثل رجل مسافر ليس معه ماء، فتيمَّم ولبس الخفين على طهارة تيمم، ثم بعد ذلك وجد الماء، وأراد أن يتوضأ، ففي هذه الحال لابد أن يخلع الخفين ويغسل قدميه عند الوضوء، ولا يجوز المسح عليهما في هذه الحال، لأنه لم يلبسهما على طهارة غَسَلَ فيها الرجل، فإن التيمم يتعلق بعضوين فقط؛ وهما الوجه والكفان.
الشرط الثاني: أن يكون المسح عليهما في الحدث الأصغر، ولهذا قال صفوان بن عسال: ((إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم)) فإذا صار على الإنسان جنابة؛ فإنه لا يجزئ أن يمسح على الجوربين أو الخفين، بل لابد من نزعهما وغسل القدمين؛ وذلك لأن الطهارة الكبرى ليس فيها مسح إلا للضرورة في الجبيرة، ولهذا لا يمسح فيها الرأس، بل لابد من غسل الرأس - مع أنه في الحدث الأصغر يمسح؛ لكن الجنابة طهارتها أوكد وحدثها أكبر، فلابد من الغسل، ولا يمسح فيها على الخف؛ لهذا الحديث، ولأن المعنى والقياس يقتضي ذلك.
الشرط الثالث: أن يكون المسح في المدة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، كما صح ذلك أيضاً من حديث علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- في صحيح مسلم قال: ((جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم))(66). يعني: في المسح على الخفين:
فإذا انتهت المدة فلا مسح، لابد أن يخلع الجوربين أو الخفين، ثم يغسل القدمين، ولكن إذا انتهت المدة وأنت على طهارة فاستمرَّ على طهارتك، لا تنتقضُ الطهارة، ولكن إذا أردت أن تتوضأ بعد انتهاء المدة فلابد من غسل القدمين.
ثم إن زر بن حبيش سأل صفوان بن عسال: هل سمع من النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الهوى شيئاً؟
الهوى: المحبة والميل، فقال: نعم، ثم ذكر قصة الأعرابي الذي كان جهوري الصوت فجاء ينادي: يا محمد؛ بصوت مرتفع.
فقيل له: ويحك! أتنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع؟ والله - عز وجل- يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات:2] ، ولكن الأعراب لا يعرفون الآداب كثيراً؛ لأنهم بعيدون عن المدن وبعيدون عن العلم.
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع كما سأل الأعرابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس هدياً، يعطي كل إنسان بقدر ما يتحمله عقله، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما خاطبه به، قال له الأعرابي: ((المرء يحب القوم ولما يلحق بهم)) يعني: يحب القوم ولكن عمله دون عملهم؛ لا يساويهم في العمل، مع من يكون؟ أيكون معهم أو لا ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((المرء مع من أحب يوم القيامة)) نعمة عظيمة - ولله الحمد- وقد روى أنس بن مالك- رضي الله عنه- هذه القطعة من الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لرجل يحب الله ورسوله: ((إنك مع من أحببت)) قال أنس: ((فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر عمر وأرجو أن أكون معهم))(67).
وهكذا أيضاً نحن نشهد الله - عز وجل- على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وصحابته، وأئمة الهدى من بعدهم، ونسأل الله أن يجعلنا معهم .
هذه بشرى للإنسان؛ أنه إذا أحب قوما صار معهم وإن قَصُرَ به عمله؛ يكون معهم في الجنة ويجمعه الله معهم في الحشر، ويشربون من حوض الرسول صلى الله عليه وسلم جميعاً، وهكذا.. كما أن من أحب الكفرة فإنه ربما يكون معهم _ والعياذ بالله- لأن محبة الكافرين حرام، بل قد تكون من كبائر الذنوب.فالواجب على المسلم أن يكره الكفار، وأن يعلم أنهم أعداء له مهما أبدَوا من الصداقة والمودة والمحبة؛ فإنهم لن يتقربوا إليك إلا لمصلحة أنفسهم ومضرتك أيضا، أما أن يتقربوا إليك لمصلحتك فهذا شيء بعيد. إن كان يمكن أن نجمع بين الماء والنار؛ فيمكن أن نجمع بين محبة الكفار لنا وعداوتهم لنا؛ لأن الله تعالى سمَّاهم أعداءً قال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾[الممتحنة:1] ،وقال عز وجل:﴿مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:98] .
فكل كافر فإن الله عدوٌ له، وكل كافر فإنه عدوٌ لنا، وكل كافر فإنه لا يضمر لنا إلا الشر.
ولهذا يجب عليك أن تكره من قلبك كل كافر مهما كان جنسه، ومهما كان تقربه إليك فاعلم أنه عدوك. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1]، إذاً نأخذ من هذه قاعدة أصَّلها النبي - عليه الصلاة والسلام- ألا وهي: ((المرء مع من أحب))(68) فعليك يا أخي أن تشد قلبك على محبة الله تعالى، ورسوله، وخلفائه الراشدين، وصحابته الكرام، وأئمة الهدى من بعدهم لتكون معهم.
نسأل الله أن يحقِّقَ لنا ذلك بمنِّه وكَرَمِه. والله الموفِّق.
* * *
20- وعن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري- رضي الله عنه- أن نبي الله صلى
الله عليه وسلم قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله - تعالى- فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نَصَفَ الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم- أي حَكَما- فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فَقَبضتْهُ ملائكة الرحمة))(69) [ متفق عليه] .
وفي رواية في الصحيح: ((فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبرٍ، فجعل من أهلها)) وفي رواية في الصحيح : (( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقرَّبي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبرٍ فغفر له)). وفي رواية: ((فنأى بصدره نحوها)).