اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100255
شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة Oooo14
شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة User_o10

شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة Empty
مُساهمةموضوع: شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة   شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2013 - 19:51

شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة
2_باب التَّوبة

قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب ، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى، لا تتعلق بحق آدمي؛ فلها ثلاثة شروط.
أحدها: أن يُقْلِعَ عن المعصية.
والثاني: أن يندم على فعلها.
والثالث : أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً. فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رَدَّهُ إليه، وإن كانت حدَّ قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه ، وإن كانت غيبة استحلَّه منها. ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها صحَّت توبته - عند أهل الحق - من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي. وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة:
قال الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31]، وقال تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾[هود: 3]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾ [التحريم: 8] .

الشرح
قال المؤلف- رحمه الله تعالى - باب التوبة:
التوبة لغة: من تاب يتوب ، إذا رَجع.
وشرعًا : الرجوع من معصية الله تعالى إلى طاعته.
وأعظمها وأوجبها التوبة من الكفر إلى الإيمان ، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال:38]، ثم يليها التوبة من الكبائر ؛ كبائر الذنوب.
ثم المرتبة الثالثة: التوبة من صغائر الذنوب.
والواجب على المرء، أن يتوب إلى الله - سبحانه وتعالى- من كل ذنب.
وللتوبة شروط ثلاثة: كما قال المؤلف - رحمه الله- ، ولكنها بالتتبُّع تبلغُ إلى خمسة:
الشرط الأول: الإخلاص لله، بأن يكون قصد الإنسان بتوبته وجه الله- عز وجل- وأن يتوب الله عليه، ويتجاوز عمَّا فعل من المعصية. لا يقصد بذلك مُراءاةُ الناس والتقرب إليهم، ولا يقصد بذلك دفع الأذية من السُّلُطات وولي الأمر.
وإنما يقصد بذلك وجه الله والدار الآخرة، وأن يعفو الله عن ذنوبه.
الشرط الثاني: الندم على ما فعل من المعصية؛ لأن شعور الإنسان بالندم هو الذي يدل على أنه صادق في التوبة؛ بمعنى أنْ يتحسَّر على ما سبق منه، وينكسر من أجله، ولا يرى أنه في حِلٍّ منه حتى يتوب منه إلى الله.
الشرط الثالث: أن يقلع عن الذَّنْب الذي هو فيه، وهذا من أهم شروطه. والإقلاع عن الذَّنب : إن كان الذّنْبُ تركُ واجب؛ فالإقلاع عنه بفعله؛ مثل أن يكون شخص لا يزكِّي، فأراد أن يتوب إلى الله، فلابد من أن يخرج الزكاة التي مضت ولم يؤدها. وإذا كان الإنسان مقصراً في برِّ الوالدين؛ فإنه يجب عليه أن يقوم بِبِرِّهما، وإذا كان مقصراً في صلة الرّحم؛ فإنه يجب عليه أن يصل الرحم.
وإن كانت المعصية بفعل محرّم،فالواجب أن يقلع عنه فوراً، ولا يبقى فيه ولا لحظة.
فإذا كانت من أكل الربا مثلاً، فالواجب أن يتخلَّص من الربا فوراً، بتركه والبعد عنه، وإخراج ما اكتسبه عن طريق الربا، إذا كانت المعصية بالغش والكذب على الناس وخيانة الأمانة، فالواجب عليه أن يقلع عن ذلك ،وإذا كان قد اكتسب مالا من هذا الطريق المحرَّم، فالواجب عليه أن يرده إلى صاحبه أو يستحله منه، وإذا كانت غِيبةً، فالواجب أن يقلع عن غيبة الناس والتكلم في أعراضهم، أما أن يقول إنه تائب إلى الله وهو مُصِرٌ على ترك الواجب، أو مُصِرٌ على فعل المحرم، فإن هذه التوبة غير مقبولة. بل إن هذه التوبة كالاستهزاء بالله عز وجل، كيف تتوب إلى الله- عز وجل- وأنت مصر على معصيته؟!
لو أنك تعامل بشرا من الناس ، تقول أنا تبت إليك وأنا نادم لا أعود، ثم في نيتك وفي قلبك أنك ستعود، وعدت، فإن هذه سخرية بالرجل، فكيف بالله رب العالمين؟!
فالإنسان التائب حقيقة هو الذي يُقلع عن الذنب.
ومن الغريب أن بعض الناس تجلس إليه، وتجده يتأوه من وجود الربا، وهو في نفسه يرابي والعياذ بالله، أو يتأوه من الغيبة وأكل لحوم الناس؛ وهو من أكثر الناس غيبة- نسأل الله العافية-، أو يتأوه من الكذب وضياع الأمانة في الناس؛ وهو من أكذب الناس وأضيعهم للأمانة!!
على كل حال، الإنسان لابد أن يقلع عن الذنب الذي تاب منه، فإن لم يقلع فتوبته مردودة لا تنفعه عند الله عز وجل. والإقلاع عن الذنب إما أن يكون إقلاعاً عن ذنب يتعلق في حق الله- عز وجل- فهذا يكفي أن تتوب بينك وبين ربك، ولا ينبغي- بل قد نقول: لا يجوز- أن تحدث الناس بما صنعت من المحرم أو ترك الواجب. لأن هذا بينك وبين الله، فإذا كان الله قد منَّ عليك بالستر، وسترك عن العباد فلا تحدث أحداً بما صنعت إذا تبت إلى الله.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي معافي إلا المجاهرين))(50) .
ومن المجاهرة، كما جاء في الحديث: ((أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا…إلى آخره))(51) .
إلا أن بعض العلماء قال: إذا فعل الإنسان ذنباً فيه حدٌ، فإنه لا بأس أن يذهب إلى الإمام الذي يقيم الحدود- مثل الأمير- ويقول إنه فعل الذنب الفلاني ويريد أن يطهِّره منه، ومع ذلك فالأفضل أن يستر على نفسه، هذا هو الأفضل.
يعني يباح له أن يذهب إلى ولي الأمر إذا فعل معصية فيها حد كالزنا مثلا، فيقول إنه فعل كذا وكذا؛ يطلب إقامة الحد عليه؛ لأن الحد كفارة للذنب.
أما المعاصي الأخرى فاسترها على نفسك كما سترها الله، وكذلك الزنا وشبهه، استره على نفسك - بالنسبة لغير ولي الأمر- لا تفضح نفسك.
ما دمت أنك قد تبت فيما بينك وبين الله تعالى، فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
أما إذا كان الذنب بينك وبين الخلق، فإن كان مالاً فلابد أن تؤديه إلى صاحبه، ولا تقبل التوبة إلا بأدائه مثل أن تكون قد سرقت مالاً من شخص وتبت من هذا، فلابد أن توصل المسروق إلى المسروق منه.
أو جحدت حقاً لشخص؛ كأن يكون في ذمتك دين لإنسان وأنكرته، ثم تبت ، فلابد أن تذهب إلى صاحب الدين الذي أنكرته، وتقرَّ عنده وتعترف حتى يأخذ حقه. فإن كان قد مات، فإنك تعطيه ورثته، فإن لم تعرفهم، أو غاب عنك هذا الرجل ولم تعرف له مكاناً، فتصدق به عنه تخلصاً منه، والله- سبحانه وتعالى- يعلمه ويعطيه إياه.
أما إذا كانت المعصية التي فعلتها مع البشر ضرْباً وما أشبهه، فاذهب إليه ومكِّنه من أن يضربك مثل ما ضربته؛ إن كان على الظهر فعلى الظهر، وإن كان على الرأس فعلى الرأس، أو في أي مكان ضربته فليقتصَّ منك؛ لقول الله تعالى سبحانه:﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى:40]، ولقوله:﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:194] .
وإذا كان بقول؛ أي: أذيَّةٌ بالقول، مثل أن تكون قد سَبَبْته أمام الناس ووبَّخته وعيَّرته، فلابد أن تذهب إليه وتستحلَّ منه بما تتفقان عليه. حتى لو قال لا أسمح لك إلا بكذا وكذا من الدراهم فأعطه.
الرابع: أن يكون الحق غِيْبَةً، يعني أنك تكلمت به في غيبته، وقدحت فيه عند الناس وهو غائب.
فهذه اختلف فيها العلماء ؛ فمنهم من قال: لا بد أن تذهب إليه، وتقول له يا فلان إني تكلمت فيك عند الناس، فأرجوك أن تسمح عني وتحلّلني.
وقال بعض العلماء؛ لا تذهب إليه، بل فيه تفصيل!فإن كان قد علم بهذه الغيبة فلابد أن تذهب إليه وتستحلَّه. وإن لم يكن علم فلا تذهب إليه، واستغفر له، وتحدث بمحاسنه في المجالس التي كنت تغتابه فيها؛ فإن الحسنات يهذبن السيئات. وهذا القول أصح؛ وهو أن الغيبة إذا كان صاحبها لم يعلم بأنك اغتبته، فإنه يكفي أن تذكُرَهُ بمحاسنه في المجالس التي اغتبته فيها، وأن تستغفر له، تقول: ((اللهم اغفر له)) كما جاء في الحديث: ((كفارة من اغتبته أن تستغفر له)) (52) فلابد في التوبة من أنْ تصل الحقوق إلى أهلها.
أما الشرط الرابع: فهو العزم على أن لا تعود في المستقبل؛ بأنك لن تعود إلى هذا العمل في المستقبل، فإن كنت تنوي أن تعود إليه عندما تسمح لك الفرصة فإنَّ التوبة لا تصح؛ مثل: رجل كان- والعياذ بالله- يستعين بالمال على معصية الله، يشتري به المسكرات، يذهب إلى البلاد يزني- والعياذ بالله- ويسكر.فأُصيب بفقر وقال: اللهم إني تبت إليك، وهو كاذب ، يقول : تبت إليك، وهو في نيته أنه إذا عادت الأمور إلى مجاريها الأولى فعل فعله الأول.
فهذه توبة عاجز، تُبْتَ أم لم تَتُبْ لست بقادر على فعل المعصية، لأنه يوجد بعض الناس يُصاب بفقر، فيقول: تركت الذنوب ، لكن يُحدِّث قلبه أنه لوعاد إليه ما افتقده لعاد إلى المعصية مرة ثانية، فهذه توبة غير مقبولة؛ لأنها توبة عاجز ، وتوبة العاجز لا تنفعه.
الشرط الخامس: أن تكون في زمن تقبل فيه التوبة، فإن تاب في زمن لا تقبل فيه التوبة لم تنفعه التوبة. وذلك على نوعين:
النوع الأول: باعتبار كل إنسان بحسبه.
النوع الثاني: باعتبار العموم.
أما الأول: فلابد أن تكون التوبة قبل حلول الأجل- يعني الموت-، فإن كانت بعد حلول الأجل فإنها لا تنفعُ التائبَ؛ لقول الله تعالى ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾[النساء: 18] ، هؤلاء ليس لهم توبة!
وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر:84،85] . فالإنسان إذا عاين الموت وحضره الأجل؛ فهذا يعني أنه أَيِسَ من الحياة، فتكون توبته في غير محلِّها! بعد أن أَيِسَ من الحياة، وعرف أنه لا بقاء له يذهب فيتوب! هذه توبة اضطرار ، فلا تنفعه ولا تُقبَلُ منه، لابد أن تكون التوبة سابقة.
أما النوع الثاني: وهو العموم، فإن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أخبر بأن : ((الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))(53).
فإذا طلعت الشمس من مغربها لم ينفع أحداً من توبة.قال الله سبحانه: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا﴾ [الأنعام:158]، وهذا البعض: هو طلوع الشمس من مغربها كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً فلابد أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه التوبة، فإن لم تكن كذلك فلا توبة للإنسان.
ثم اختلف العلماء - رحمهم الله- هل تقبل التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره أو لا ، في هذا ثلاثة أقوال لأهل العلم ‍‍!!
1ـ منهم من قال: إنها تصح التوبة من الذنب وإن كان مُصِراً على ذنب آخر، فتقبل توبته من هذا الذنب، ويبقى الإثم عليه في الذنب الآخر بكل حال.
2ـ ومنهم من قال: لا تقبل التوبة من الذنب مع الإصرار على ذنب آخر.
3ـ ومنهم من فصَّل فقال: إن كان الذنب الذي أصرَّ عليه من جنس الذنب الذي تاب منه فإنها لا تقبل ، وإلا قُبلت.
مثال ذلك: رجل تاب من الربا ولكنه- والعياذ بالله- يشرب الخمر وُمصِرٌ على شرب الخمر.
فهنا من العلماء من قال: إن توبته من الربا لا تقبل ، كيف يكون تائبا إلى الله وهو مُصِرٌ على معصيته؟
وقال بعض العلماء: بل تقبل ؛ لأن الربا شيء وشرب الخمر شيء آخر، وهذا هو الذي مشى عليه المؤلف- رحمه الله- وقال: إنها تقبل التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره عند أهل الحق.
فهذا فيه الخلاف: بعضهم يقول تقبل: وبعضهم يقول: لا تقبل. أما إذا كان من الجنس؛ مثل أن يكون الإنسان - والعياذ بالله مبتلىً بالزنا، ومبتلىً أيضاً بالإطلاع على النساء والنظر إليهن بشهوة وما أشبه ذلك ، فهل تقبل توبته من الزنا وهو مُصِرُّ على النظر إلى النساء شهوة؟ أو بالعكس؟
هذا فيه أيضاً خلاف؛ فمنهم من يقول : تَصِح.
ومنهم من يقول : لا تصح التوبة.
ولكنَّ الصحيح في هذه المسألة أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على غيره، لكن لا يُعطى الإنسان اسم التائب على سبيل الإطلاق ، ولا يستحق المدح الذي يُمدح به التائبون؛ لأن هذا لم يتب توبة تامة بل تاب توبة ناقصة، تاب من هذا الذنب فيرتفع عنه إثم هذا الذنب لكنه لا يستحق أن يوصف بالتوبة على سبيل الإطلاق، بل يقال: هذا توبته ناقصة وقاصرة؛ فهذا هو القول الذي تطمئن إليه النفس؛ أنه لا يعطى الوصف على سبيل الإطلاق، ولا يحرم من التوبة التي تابها من هذا الذنب.
قال المؤلف- رحمه الله- إن النصوص من الكتاب والسنه تظاهرت وتضافرت على وجوب التوبة من جميع المعاصي ، وصدق-رحمه الله- فإن الآيات كثيرة في الحث على التوبة وبيان فضلها وأجرها، وكذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد بيَّن الله تعالى في كتابه أنه - سبحانه- يحب التوابين ويحب المتطهرين ، التوابون : الذين يكثرون التوبة إلى الله- عز وجل -؛ كلما أذنبوا ذنباً تابوا إلى الله.
ثم ذكر المؤلف من الآيات قول الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾ [النور:31] ، هذه الجملة خَتَم الله بها آيتي وجوب غض البصر، وهي قوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا﴾ إلى قوله: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:30،31] .
ففي هذه الآية دليل على وجوب التوبة من عدم غض البصر وحفظ الفرج؛ لأن غضّ البصر يعني: قصره وعدم إطلاقه، ولأن ترك غضّ البصر وحفظ الفرج؛ كل ذلك من أسباب الهلاك وأسباب الشقاء، وأسباب البلاء. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على الرجال من النساء))(54)، ((وإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) (55) .
ولهذا كان أعداؤنا- أعداء الإسلام- بل أعداء الله ورسوله من اليهود والنصارى والمشركين والشيوعيين وأشباههم وأذنابهم وأتباعهم كل هؤلاء - يحرصون غاية الحرص على أن يفتنوا المسلمين بالنساء، يَدْعون إلى التبرج، يدعون إلى اختلاط المرأة بالرجل، يدعون إلى التَّفَسُّخ في الأخلاق، يدعون إلى ذلك بألسنتهم ، وأقلامهم، وأعمالهم، - والعياذ بالله؛ لأنهم يعلمون أن الفتنة العظيمة التي ينسى بها الإنسان ربه ودينه إنَّما تكون في النساء.
النساء اللاتي يفتنَّ أصحاب العقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهبَ للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن))(56).
هل تريد شيئاً أبْيَنَ من هذا.
أذهب للب الرجل - لعقله - الحازم، فما بالك بالرجل المهين؛ الذي ليس عنده حزم، ولا عزم، ولا دين، ولا رجولة؛ يكون أشد وأشد والعياذ بالله.
لكن الرجل الحازم تُذهبُ النساءُ عقْله- نسأل الله العافية-، وهذا هو الواقع لذلك قال الله تعالى عقب الأمر بغض البصر، قال: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31] ؛وقوله عز وجل: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً﴾ يدل على أنه ينبغي لنا- بل يجب علينا- أن نتواصى بالتوبة، وأن يتفقَّدض بَعضُنا بعضاً، هل الإنسان تاب من ذنبه أو بقي مُصِراً عليه؛ لأنه وجَّه الخطاب للجميع: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ [النور: 31] ، وفي قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ دليل على أن التوبة من أسباب الفلاح، والفلاح- كما قال أهل العلم بالتفسير وباللغة- الفلاح: كلمة جامعة يحصل بها المطلوب ويزول بها المرهوب، فهي كلمة جامعة لخير الدنيا والآخرة.
وكل إنسان يطلب خير الدنيا والآخرة. ما تجد إنساناً- حتى الكافر يريد الخير. لكنْ من الناس من يوفَّق ومنهم من لا يُوفَّق.
الكافر يريد الخير؛ لكَّنه يريد خير الدنيا؛ لأنه رجل بَهِيْمِيٌّ؛ هو شرٌّ الدواب عند الله:﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال:55] ، شرٌ من كل دابة تدبُّ على الأرض؛ ومع ذلك هو يريد الخير، ويريد الرَّفاهية، ويريد التنعم بهذه الدنيا، لكنّها- أي الدنيا- جنّته، والآخرة - والعياذ بالله- عذابه وناره.
المهم أن كل إنسان يريد الفلاح، لكن على حسب الهمة، المؤمن يريد الفلاح في الدنيا والآخرة، والكافر لا يؤمن بالآخرة؛ فهو يريد الفلاح في الدنيا.
من أسباب الفلاح التوبة إلى الله - عز وجل- كما في الآية:﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31] ، أي لتنالوا الفلاح؛ وذلك بحصول المطلوب وزوال المرهوب. والله الموفق.

* * *
13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))(57) [رواه البخاري].
14- وعن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة))(58) [رواه مسلم] .

الشرح
تقدم الكلام على ما ذكره المؤلف- رحمه الله- من وجوب التوبة وشروطها، وما ساقه من الآيات الدالة على وجوبها.
وهذان الحديثان ذكرهما المؤلف- رحمه الله- ليستدل على ذلك بالسنة.
لأنه كلما تضافرت الأدلة على الشيء قَوِيَ، وصار أوْكد، وصار أوجب، فذَكَر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم بأنه يستغفر الله ويتوب إليه أكثر من سبعين مرة.
وهذا وهو الرسول عليه الصلاة والسلام- الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر -يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة.
وفي حديث الأغر بن يسار المزني أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)).
ففي هذين الحديثين دليل على وجوب التوبة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بها فقال: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله)) فإذا تاب الإنسان إلى ربه حصل بذلك فائدتين:
الفائدة الأولى: امتثال أمر الله ورسوله؛ وفي امتثال أمر الله ورسوله كل الخير. فعلى امتثال أمر الله ورسوله تدور السعادة في الدنيا والآخرة.
والفائدة الثانية: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم . حيث كان صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة؛ يعني: يقول: أتوب إلى الله، أتوب إلى الله …
والتوبة لابد فيها من صدق، بحيث إذا تاب الإنسان إلى الله أقلع عن الذنب.أما الإنسان الذي يتوب بلسانه وقلبه مُنطوٍ على فعل المعصية، أو على ترك الواجب. أو يتوب إلى الله بلسانه، وجوارحه مُصِرَّة على فعل المعصية؛ فإن توبته لا تنفعه، بل إنها أشبه ما تكون بالاستهزاء بالله عز وجل!
كيف تقول أتوب إلى الله من معصية وأنت مُصرٌ عليها، أو تقول أتوب إلى الله من معصية وأنت عازم على فعلها؟
الإنسان لو عامل بشرًا مثله بهذه المعاملة لقال هذا يسخر بي، ويستهزئ بي!! كيف يتنصَّل من أمر عندي وهو مُتلبِّس به؟ ما هذا إلا هزؤٌ ولعب، فكيف برب العالمين؟
إن من الناس من يقول إنه تائب من الربا، ولكنه- والعياذ بالله مُصِرٌ عليه!!يمارس الربا صريحا، ويمارس الربا مخادعة، وقد مر بنا كثيراً أن الذي يمارس الربا مخادعة أعظم إثما وجرما من الذي يمارس الربا بالصراحة. لأن الذي يمارس الربا بالمخادعة جنى على نفسه مرتين:
أولاً: الوقوع في الربا.
وثانياً: مخادعة الله- عز وجل - وكأن الله- سبحانه وتعالى- لا يعلم. وهذا يوجد كثيرا في الناس اليوم الذين يتعاملون في الربا صريحاً، أمرُهم واضح، لكن من الناس من يتعامل في الربا خيانة ومخادعة؛ تجد عنده أموالاً لها سنوات عديدة في الدكان، فيأتي الغني بشخص فقير يقوده للمذبحة والعياذ بالله !! فيأتي إلى صاحب الدكان الذي عنده هذه البضاعة، ويبيعها على الفقير بالدين بيعاً صُوريًّا. وكل يعلم أنه ليس بيعاً حقيقياً؛ لأن هذا المشتري - المدين- لا يقلب المال، ولا ينظر إليه، ولا يهمه، بل لو كان أكياساً من الرمل ويبعث عليه على أنها رز أو سكر أخَذَها؛ لأنه لا يهمه؛ الذي يهمه أن يقضي حاجة فيبيعها عليه - مثلاً- بعشرة آلاف لمدة سنة ، وينصرف بدون أن ينقلها من مكانها، ثم يبيعها هذا المدين على صاحب الدكان بتسعة آلاف- مثلاً- فيُؤكَلُ هذا الفقير من وجهين: من جهة هذا الذي ديَّنه، ومن جهة صاحب الدكان، ويقولون: إن هذا صحيح .بل يسمونه التصحيح ، يقول قائلهم: تعال أصحِّح عليك، أو أصحح لك كذا وكذا .سبحان الله، هل هذا تصحيح؟ هذا تلطيخ بالذنوب والعياذ بالله!!
ولهذا يجب علينا - إذا كنا صادقين مع الله - سبحانه وتعالى- في التوبة- أن نقلع عن الذنوب والمعاصي إقلاعاً حقيقياً، ونكرَهَها، ونندم على فِعلها؛ حتى تكون التوبة توبةً نصوحا.
وفي هذين الحديثين : دليل على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أشد الناس عبادة لله، وهو كذلك، فإنه أخشانا لله، وأتقانا لله، وأعلمنا بالله صلوات الله وسلامه عليه.
وفيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام مُعَلِّمُ الخير بمقاله وفعاله.
فكان يستغفر الله، ويأمر الناس بالاستغفار؛ حتى يتأسّوا به امتثالاً للأمر واتباعا للفعل.
وهذا من كمال نُصحِه صلوات الله وسلامه عليه لأمته. فينبغي لنا نحن أيضاً أن نتأسى به، إذا أمَرْنا الناس بأمر أن نكون أول من يمتثل هذا الأمر، وإذا نهيناهم عن شيء أن نكون أول من ينتهي عنه، لأن هذا هو حقيقة الداعي إلى الله، بل هذا حقيقة الدعوة إلى الله عز وجل؛ أن تفعل ما تؤمر به، وتترك ما تنهى عنه. كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا التوبة وهو - عليه الصلاة والسلام- يتوب أكثر منَّا . نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يهدينا وإياكم صراطاً مستقيماً. والله الموفق.

* * *
15- وعن أبي حمزة أنس بن مالك الأنصاري- خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم _ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم؛ سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة))(59) [متفق عليه] .
وفي رواية لمسلم: ((لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها،وقد أيس من راحلته،فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ،فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)).

الشرح
قوله- رحمه الله- ((خادم النبي صلى الله عليه وسلم)) وذلك أن أنساً - رضي الله عنه- حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتت به أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: هذا أنس ابن مالك يخدمك، فَقَبِلَ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وصار أنس من خُدَّام النبي صلى الله عليه وسلم .
ذكر أنس- رضي الله عنه- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده إذا تاب إليه)) من هذا الرجل الذي سقط على راحلته بعد أن أضلّها، وذكر القصة: رجل كان في أرض فلاة، ليس حوله أحد، لا ماء ولا طعام ولا أناس .. ضلَّ بعيره: أي ضاع، فجعل يطلبه فلم يجده، فذهب إلى شجرة ونام تحتها ينتظر الموت! قد أيسَ من بعيره، وأيس من حياته؛ لأن طعامه وشرابه على بعيره، والبعير قد ضاع، فبينما هو كذلك إذا بناقته عنده قد تعلَّق خطامها بالشجرة التي هو نائم تحتها. فبأي شيء يقدَّر هذا الفرح؟ هذا الفرح لا يمكن أن يتصوره أحد إلا من وقع في مثل هذه الحال!! لأنه فرح عظيم، فرح بالحياة بعد الموت، ولهذا أخذ بالخطام فقال: ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك))!! أراد أن يُثني على الله فيقول: ((اللهم أنت ربي وأنا عبدك)) لكن من شدة فرحه أخطأ ..فقَلَبَ القضية.. وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.
في هذا الحديث من الفوائد: دليل على فرح الله - عز وجل- بالتوبة من عبده إذا تاب إليه،وأنَّه يحب ذلك- سبحانه وتعالى- محبة عظيمة، ولكن لا لأجل حاجته إلى أعمالنا وتوبتنا؛ فالله غنيٌّ عنا، ولكن لمحبته سبحانه للكرم؛ فإنه يحب - سبحانه وتعالى أن يعفو وأن يغفر، أحب إليه من أن ينتقم ويؤاخذ . ولهذا يفرح بتوبة الإنسان .
ففي هذا الحديث حث على التوبة ؛ لأن الله يُحبها، وهي من مصلحة العبد.
وفيه: إثبات الفرح لله عز وجل، فهو- سبحانه وتعالى- يفرح، ويغضب ، ويكره ويحب، لكن هذه الصفات ليست كصفاتنا ؛ لأن الله يقول:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] ، بل هو فرح يليق بعظمته وجلاله ولا يشبه فرح المخلوقين.
وفيه: دليل على أن الإنسان إذا أخطأ في قول من الأقوال ولو كان كفرا سبق لسانه إليه؛ فإنه لا يؤاخذ به فهذا الرجل قال كلمة كفر؛ لأن قول الإنسان لربه: أنت عبدي وأنا ربك هذا كفر لاشك، لكن لما صدر عن خطأ من شدة الفرح - أخطأ ولم يعرف أن يتكلم - صار غير مؤاخذٍ به، فإذا أخطأ الإنسان في كلمة؛ كلمة كفر؛ فإنه لايؤاخذ بها، وكذلك غيرها من الكلمات لو سبَّ أحدا على وجه الخطأ بدون قصد، أو طلَّق زوجته على وجه الخطأ بدون قصد، أو أعتق عبده على وجه الخطأ بدون قصد، فكل هذا لا يترتَّب عليه شيء؛ لأن الإنسان لم يقصده، فهو كاللغو في اليمين، وقد قال الله تعالى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾[البقرة:225]، بخلاف المستهزئ فإن المستهزئ يكفر إذا قال كلمة الكفر، ولو كان مستهزئا؛ لقول الله سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾[التوبة:65،66]، فالمستهزئ قصَدِ الكلام، وقصد معناه؛ لكن على سبيل السخرية والهزء؛ فلذلك كان كافراً، بخلاف الإنسان الذي لم يقصده؛ فإنه لا يُعتبر قوله شيئاً.
وهذا من رحمة الله - عز وجل- والله الموفق.

* * *
16- وعن أبي موسى عبد الله قيس الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها))(60) .[رواه مسلم].
17- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه))(61) . [رواه مسلم].
18- وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله - عز وجل - يقبل توبة العبد ما لم يُغرْغر)). (62) [رواه الترمذي] وقال: حديث حسن.

الشرح
هذه الأحاديث الثلاثة التي ذكرها المؤلف - رحمه الله- كلها تتعلق بالتوبة.
أما حديث أبي موسى فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
وهذا من كرمه- عز وجل- أنه يقبل التوبة حتى وإن تأخَّرت. فإذا أذنب الإنسان ذنباً في النهار، فإن الله- تعالى- يقبل توبته ولو تاب في الليل. وكذلك إذا أذنب في الليل وتاب في النهار فإن الله-تعالى- يقبل توبته بل إنه - تعالى- يبْسط يده حتى يتلقى هذه التوبة التي تصدر من عبده المؤمن .
وفي هذا الحديث: دليل على محبة الله- سبحانه وتعالى- للتوبة، وقد سبق في الحديث السابق - في قصة الرجل الذي أضل راحلته حتى وجدها-: أن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب إليه أشد فرحاً من هذا براحلته.
ومن فوائد حديث أبي موسى: إثبات أن الله – تعالى - له يد، وهو كذلك، بل له يدان جلَّ وعلا- كما قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة:64]، وهذه اليد التي أثبتها الله لنفسه- بل اليدان- يجب علينا أن نؤمن بهما؛ وأنهما ثابتتان لله.
ولكن لا يجوز أن نتوهم أنها مثل أيدينا؛ لأن الله يقول في كتابه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11]، وهكذا كل ما مر بك من صفات الله فأثبتها لله- عز وجل- لكن بدون أن تمثلها بصفات المخلوقين؛ لأن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته عز وجل.
وفي هذا الحديث: أن الله- سبحانه وتعالى- يقبل توبة العبد وإن تأخرت، لكن المبادرة بالتوبة هي الواجب؛ لأن الإنسان لا يدري ، فقد يفجأه الموت فيموت قبل أن يتوب. فالواجب المبادرة ، لكن مع ذلك، لو تأخَّرْتَ تاب الله على العبد.
وفي هذا الحديث: دليل على أن الشمس إذا طلعت من مغربها، انتهى قبول التوبة. ولكن قد يسأل السائل ، يقول : هل الشمس تطلع من مغربها؟ المعروف أن الشمس تطلع من المشرق؟!
فنقول : نعم هذا هو المعروف ، وهذا هو المطرد منذ خلق الله الشمس إلى يومنا هذا.لكن في آخر الزمان يأمر الله الشمس أن ترجع من حيث جاءت فتنعكس الدورة، وتطلع من مغربها، فإذا رآها الناس آمنوا كلهم، حتى الكفار اليهود، والنصارى، والبوذيون، والشيوعيون، وغيرهم؛ كلهم يؤمنون. ولكن الذي لم يؤمن قبل أن تطلع الشمس من مغربها لا ينفعه إيمانه.
كل يتوب أيضاً، لكن الذي لم يتب قبل أن تطلع الشمس من مغربها لا تقبل توبته؛ لأن هذه آية يشهدها كل أحد، وإذا جاءت الآيات المنذرة لم تنفع التوبة ولم ينفع الإيمان!
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه في أن الله -سبحانه وتعالى- يقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها فهو كحديث أبي موسى.
وأما حديث عبد الله بن عمر: ((إن الله يقبل توبة عبده ما لم يُغَرْغِر)) أي: ما لم تصل الروح الحلقوم، فإذا وصلت الروح الحلقوم فلا توبة، وقد بيَّنت النصوص الأخرى أنه إذا حضر الموت فلا توبة؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن﴾ [النساء: 18] .
فعليك يا أخي المسلم أن تبادر بالتوبة إلى الله - عز وجل- من الذنوب، وأن تقلع عما كنت مُتَلَّبسًا به من المعاصي، وأن تقوم بما فَّرطت به من الواجبات، وتسأل الله قبول تتوبتك. والله الموفق.

* * *
19- وعن زرِّ بن حُبيش قال: أتيت صفوان بن عسال - رضي الله عنه- أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك يا زر؟ فقلت: ابتغاء العلم فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يطلب، فقلت: إنه قد حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرءًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجئت أسألك: هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفرًا- أو مسافرين- أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم، فقلت: هل سمعته يذكر في الهوى شيئاً؟ قال: نعم: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فبَيْنا نحن عنده إذ ناداه أعرابي بصوت له جهوري: يامحمد، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته: (( هاؤم )) فقلت له: ويحك أغضض من صوتك فإنك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد نهيت عن هذا!! فقال: والله لا أغضض .قال الإعرابي : المرء يحب القوم ولما يحلق بهم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب يوم القيامة)) فما زال يحدِّثنا حتى ذكر بابا من المغرب مسيرة عرضه – أو يسير الراكب في عرضه- أربعين؛ أو سبعين عاما. قال سفيان- أحد الرواة-: قبل الشام، خلقه الله - تعالى- يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس منه))(63) [رواه الترمذي وغيره وقال: حديث حسن صحيح] .

الشرح
هذا الحديث من أحاديث التوبة التي ساقها المؤلف -رحمه الله- في بيان متى تنقطع التوبة. لكنه يشتمل على فوائد:
منها: أن زر بن حبيش أتي إلى صفوان بن عسال- رضي الله عنه- من أجل العلم- يبتغي العلم- فقال له صفوان بن عسال: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب)).
وهذه فائدة عظيمة تدل على فضيلة العلم، وطلب العلم؛ والمراد به العلم الشرعي، أي: عِلمُ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أما علم الدنيا فللدنيا، لكن طلب العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فيه الثناء والمدح، والحث عليه في القرآن والسنة. وهو نوع من الجهاد في سبيل الله، لأن هذا الدين قام بأمرين:
قام بالعلم والبيان، وبالسلاح: بالسيف والسنان.
حتى إن بعض العلماء قال: ((إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح)) لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم، والجهاد بالسلاح في سبيل الله مبني على العلم، لا يَسيرُ المجاهد، ولا يُقاتل ، ولا يحجم، ولا يقسم الغنيمة، ولا يحكم بالأسرى؛ إلا عن طريق العلم، فالعِلمُ هو كل شيء.
ولهذا قال الله عز وجل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11]، وَوَضْعُ الملائكة أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يطلب واحتراماً له، وتعظيماً له، ولا يُرَدُّ على هذا أن يقول القائل: أنا لا أحس بذلك؟ لأنه إذا صح الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كالمشاهد عيانا.
أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا- تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له))(64).
نحن لا نسمع هذا الكلام من الله- عز وجل- لكن لما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم صار كأننا نسْمعه، ولذلك يجب علينا أن نؤمن بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم وبما صح عنه مما يذكر في أمور الغيب، وأن نكون مُتَيقِّنين لها كأنما نشاهدها بأعيننا ونسمعها بآذاننا.
ثم ذكر زر بن حبيش لصفوان بن عسال أنه حك في صدره المسح على الخفين بعد البول والغائط.
يعني أن الله تعالى ذكر في القرآن قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة:6] ، فيقول إنه حك في صدري؛ أي: صار عندي توقف وشك في المسح على الخفين بعد البول أو الغائط هل هذا جائز أو لا ؟
فبيَّن له صفوان بن عسال- رضي الله عنه- أن ذلك جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا كانوا سفراً أو مسافرين أن لا ينزعوا خِفَافهم إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم، فدل هذا على جواز المسح على الخفين، بل إنَّ المسح على الخفين أفضل إذا كان الإنسان لابسًا لهما.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم فأهوى المغيرة لينزع خفيه فقال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما))(65) .
ففي هذا دليل واضح على أن الإنسان الذي عليه جوارب، أو عليه خفان؛ أن الأفضل أن يمسح عليهما ولا يغسل رجليه.
ومنها: أنه ينبغي إذا أشكل على الإنسان شيء أن يسأل ويبحث عمَّن هو أعلم بهذا الشيء؛ حتى لا يبقى في قلبه حرج مما سمع، لأن بعض الناس يسمع الشيء من الأحكام الشرعية ويكون في نفسه حرج، ويبقى متشكِّكاً متردِّداً، لا يسأل أحداً يزيل عنه هذه الشبهة، وهذا خطأ، بل الإنسان ينبغي له أن يسأل حتى يصل إلى أمر يطمئن إليه ولا يبقى عنده قلق.
فهذا زر بن حبيش- رحمه الله- سأل صفوان بن عسال- رضي الله عنه- عن المسح على الخفين؛ وهل عنده شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً أو مسافرين ألا ننزع خفافنا إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم.
فهذا الحديث فيه دليل على ثبوت المسح على الخفين، وقد تواترت الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأخذ بهذا أهل السنة، حتى إن بعض أهل العلم، الذين صنَّفوا في كتب العقائد، ذكروا المسح على الخفين في كتاب العقائد؛ وذلك لأن الرافضة خالفوا في ذلك؛ فلم يُثبِتوا المسح على الخفين وأنكروه، والعجب أن ممن روى المسح على الخفين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومع ذلك هم ينكرونه ولا يقولون به، فكان المسح على الخفين من شعار أهل السنة ومن الأمور المتواترة عندهم؛ التي ليس عندهم فيها شك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام أحمد: ((ليس في قلبي من المسح شك))، أو قال: ((شيء فيه أربعون حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)) ولكن لابد من شروط لجواز المسح على الخفين:
الشرط الأول: أن يلبسهما على طهارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما أراد أن ينزع خفي النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ، ومسح عليهما)).
ولا فرق بين أن تكون هذه الطهارة قد غسل فيها الرِِّجل، أو مسح فيها على خفٍّ سابق.
فمثلاً: لو توضأ وضوءاً كاملاً، وغسل رجليه، ثم لبس الجوارب؛ يعني الشرَّاب أو الخفين، فهنا لَبِسَهُما على طهارة.
كذلك لو كان قد لبس جوارب من قبل ومسح عليهما، ثم احتاج إلى زيادة جورب ولبسه على الجورب الأول الذي مسحه- وهو على طهارة-، فإنه يمسح على الثاني، لكنْ يكون ابتداء المدة من المسح على الأول لا من المسح على الثاني ؛ هذا هو القول الصحيح؛ أنه إذا لبس خفًّا على خف ممسوح فإنه يمسح على الأعلى، لكن يَبني على مُدة المسح على الأول.
ولابدَّ أن تكون الطهارة بالماء، فلو لبسهما على طهارة تيمُّمٍ فإنه لا يمسح عليهما؛ مثل رجل مسافر ليس معه ماء، فتيمَّم ولبس الخفين على طهارة تيمم، ثم بعد ذلك وجد الماء، وأراد أن يتوضأ، ففي هذه الحال لابد أن يخلع الخفين ويغسل قدميه عند الوضوء، ولا يجوز المسح عليهما في هذه الحال، لأنه لم يلبسهما على طهارة غَسَلَ فيها الرجل، فإن التيمم يتعلق بعضوين فقط؛ وهما الوجه والكفان.
الشرط الثاني: أن يكون المسح عليهما في الحدث الأصغر، ولهذا قال صفوان بن عسال: ((إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم)) فإذا صار على الإنسان جنابة؛ فإنه لا يجزئ أن يمسح على الجوربين أو الخفين، بل لابد من نزعهما وغسل القدمين؛ وذلك لأن الطهارة الكبرى ليس فيها مسح إلا للضرورة في الجبيرة، ولهذا لا يمسح فيها الرأس، بل لابد من غسل الرأس - مع أنه في الحدث الأصغر يمسح؛ لكن الجنابة طهارتها أوكد وحدثها أكبر، فلابد من الغسل، ولا يمسح فيها على الخف؛ لهذا الحديث، ولأن المعنى والقياس يقتضي ذلك.
الشرط الثالث: أن يكون المسح في المدة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، كما صح ذلك أيضاً من حديث علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- في صحيح مسلم قال: ((جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم))(66). يعني: في المسح على الخفين:
فإذا انتهت المدة فلا مسح، لابد أن يخلع الجوربين أو الخفين، ثم يغسل القدمين، ولكن إذا انتهت المدة وأنت على طهارة فاستمرَّ على طهارتك، لا تنتقضُ الطهارة، ولكن إذا أردت أن تتوضأ بعد انتهاء المدة فلابد من غسل القدمين.
ثم إن زر بن حبيش سأل صفوان بن عسال: هل سمع من النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الهوى شيئاً؟
الهوى: المحبة والميل، فقال: نعم، ثم ذكر قصة الأعرابي الذي كان جهوري الصوت فجاء ينادي: يا محمد؛ بصوت مرتفع.
فقيل له: ويحك! أتنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع؟ والله - عز وجل- يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات:2] ، ولكن الأعراب لا يعرفون الآداب كثيراً؛ لأنهم بعيدون عن المدن وبعيدون عن العلم.
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع كما سأل الأعرابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس هدياً، يعطي كل إنسان بقدر ما يتحمله عقله، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما خاطبه به، قال له الأعرابي: ((المرء يحب القوم ولما يلحق بهم)) يعني: يحب القوم ولكن عمله دون عملهم؛ لا يساويهم في العمل، مع من يكون؟ أيكون معهم أو لا ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((المرء مع من أحب يوم القيامة)) نعمة عظيمة - ولله الحمد- وقد روى أنس بن مالك- رضي الله عنه- هذه القطعة من الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لرجل يحب الله ورسوله: ((إنك مع من أحببت)) قال أنس: ((فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر عمر وأرجو أن أكون معهم))(67).
وهكذا أيضاً نحن نشهد الله - عز وجل- على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وصحابته، وأئمة الهدى من بعدهم، ونسأل الله أن يجعلنا معهم .
هذه بشرى للإنسان؛ أنه إذا أحب قوما صار معهم وإن قَصُرَ به عمله؛ يكون معهم في الجنة ويجمعه الله معهم في الحشر، ويشربون من حوض الرسول صلى الله عليه وسلم جميعاً، وهكذا.. كما أن من أحب الكفرة فإنه ربما يكون معهم _ والعياذ بالله- لأن محبة الكافرين حرام، بل قد تكون من كبائر الذنوب.فالواجب على المسلم أن يكره الكفار، وأن يعلم أنهم أعداء له مهما أبدَوا من الصداقة والمودة والمحبة؛ فإنهم لن يتقربوا إليك إلا لمصلحة أنفسهم ومضرتك أيضا، أما أن يتقربوا إليك لمصلحتك فهذا شيء بعيد. إن كان يمكن أن نجمع بين الماء والنار؛ فيمكن أن نجمع بين محبة الكفار لنا وعداوتهم لنا؛ لأن الله تعالى سمَّاهم أعداءً قال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾[الممتحنة:1] ،وقال عز وجل:﴿مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:98] .
فكل كافر فإن الله عدوٌ له، وكل كافر فإنه عدوٌ لنا، وكل كافر فإنه لا يضمر لنا إلا الشر.
ولهذا يجب عليك أن تكره من قلبك كل كافر مهما كان جنسه، ومهما كان تقربه إليك فاعلم أنه عدوك. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1]، إذاً نأخذ من هذه قاعدة أصَّلها النبي - عليه الصلاة والسلام- ألا وهي: ((المرء مع من أحب))(68) فعليك يا أخي أن تشد قلبك على محبة الله تعالى، ورسوله، وخلفائه الراشدين، وصحابته الكرام، وأئمة الهدى من بعدهم لتكون معهم.
نسأل الله أن يحقِّقَ لنا ذلك بمنِّه وكَرَمِه. والله الموفِّق.

* * *
20- وعن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري- رضي الله عنه- أن نبي الله صلى
الله عليه وسلم قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله - تعالى- فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نَصَفَ الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم- أي حَكَما- فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فَقَبضتْهُ ملائكة الرحمة))(69) [ متفق عليه] .
وفي رواية في الصحيح: ((فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبرٍ، فجعل من أهلها)) وفي رواية في الصحيح : (( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقرَّبي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبرٍ فغفر له)). وفي رواية: ((فنأى بصدره نحوها)).


عدل سابقا من قبل عابر سبيل في الثلاثاء 19 نوفمبر 2013 - 20:07 عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل


avatar


نقــاط : 100255
شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة Oooo14
شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة User_o10

شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة   شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2013 - 20:01


الشرح
نقل المؤلف- رحمه الله- عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم إنه ندم وسأل عن أعلم أهل الأرض يسأله: هل له من تَوْبَة؟ فدُلَّ على رجل، فإذا هو راهب -يعني عابداً- ولكن ليس عنده علم، فلما سأله قال إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فاستعظم الراهب هذا الذنب وقال: ليس لك توبة! فغضب الرجل وانزعج وقتل الراهب؛ فأتم به مائة نفس، ثم إنه سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم! ومن الذي يحول بينه وبين التوبة؟ باب التوبة مفتوح، ولكن اذهب إلى القرية الفلانيّة؛ فإن فيها قوماً يعبدون الله. والأرض التي كان فيها كأنها- والله أعلم- دار كفر فأمره هذا العالم أن يهاجر بدينه إلى هذه القرية التي يعبد فيها الله- سبحانه وتعالى- ، فخرج تائبا نادماً مهاجراً بدينه إلى الأرض التي فيها القوم الذين يعبدون الله عز وجل. وفي مُنتصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ لأن الكافر_ والعياذ بالله _تقبض روحه ملائكة العذاب، والمؤمن تقبض روحه ملائكة الرحمة، فاختصموا؛ ملائكة العذاب تقول:إنه لم يعمل خيرا قط؛ أي:بعد توبته ما عمل خيرا.وملائكة الرحمة تقول: إنه تاب وجاء نادماً تائباً، فحصل بينهما خصومة ، فبعث الله إليهم ملكاً ليحكم بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أقرب فهو له؛ يعني فهو من أهلها. إن كانت أرض الكفر أقرب إليه فملائكة العذاب تقبض روحه، وإن كان إلى بلد الإيمان أقرب فملائكة الرحمة تقبض روحه.
فقاسوا ما بينهما؛ فإذا البلد التي اتجه إليها- وهي بلد الإيمان -أقرب من البلد التي هاجر منها بنحو شبر - مسافة قريبة - فقبضته ملائكة الرحمة.
ففي هذا دليل على فوائد كثيرة :
منها: أن القاتل إذا قتل إنساناً عمداً ثم تاب فإن الله - تعالى- يقبل توبته، ودليل ذلك في كتاب الله قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:48] ، يعني ما دون الشرك، فإن الله تعالى يغفره إذا شاء.
وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم.
وذكر عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- أن القاتل ليس له توبة؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [النساء:93] .
ولكن ما ذهب إليه الجمهور هو الحق، وما روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- فإنه يمكن أن يحمل على أنه ليس توبة بالنسبة للمقتول؛ وذلك لأن القاتل إذا قتل تعلق فيه ثلاثة حقوق:
الحق الأول: لله، والثاني: للمقتول، والثالث: لأولياء المقتول.
أما حق الله؛ فلا شك أن الله تعالى يغفره بالتوبة، لقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ﴾[الزمر:53] .
ولقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان:68ـ70] .
وأما حق المقتول؛ فإن توبة القاتل لا تنفعه ولا تؤدي إليه حقه؛ لأنه مات، ولا يمكن الوصول إلى استحلاله، أو التبرؤ من دمه، فهذا هو الذي يبقى مطالباً به القاتل ولو تاب، وإذا كان يوم القيامة فالله يفصل بينهما.
وأما حق أولياء المقتول، فإنها لا تصح توبة القاتل؛ حتى يسلِّم نفسه إلى أولياء المقتول، ويقر بالقتل، ويقول : أنا القاتل، وأنا بين أيديكم، إن شئتم اقتلوني وإن شئتم خذو الدية، وإن شئتم اسمحوا، فإذا تاب إلى الله، وسلَّم نفسه لأولياء المقتول- يعني لورثته - فإن توبته تصح، وما بينه وبين المقتول يكون الحكم فيه إلى الله يوم القيامة.

* * *
21- وعن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب- رضي الله عنه- من بَنيه حين عَمِيَ، قال: سمعت كعب بن مالك - رضي الله عنه- يحدث بحديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدٌ تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله - تعالى- بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر،وإن كانت بدر أذكَرَ في الناس منها.وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتُهُما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا واستقبل عدداً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ (يريد بذلك الديوان) قال كعب: فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعرُ(70)، فتجهَّزَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقتُ أغدو لكي أتجهز معه، فأرجع ولم أقضِ شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل يتمادى بي حتى استمر بالناس الجِدُّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئاً ثم غدوت فرجعت ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو(71) فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدَّر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة، إلا رجلاً مغموصا عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء، ولم يذكُرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبسه بُرَداهُ، والنظر في عِطفيه،(72) فقال له معاذ بن جبل - رضي الله عنه-: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَبَيْنا هو على ذلك رأي رجلاً مُبَيِّضًا (73) يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خَيْثَمة، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري- وهو الذي تصدَّق بصاع من التمر حين لَمَزهُ المنافقون، قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجَّه قافلاً من تبوك حضرني بَثِّي(74) فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بِمَ أخرُجُ من سخطه غداً، واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عنِّي الباطل، حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيء أبدا، فأَجْمَعتُ صِدقَه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعا وثمانين رجلاً، فقَبِلَ منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئتُ، فلما سلمت تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر؛ لقد أعطيت جدلاً، لكني والله لقد علمت لئن حدثتكَ اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله يسخطُكَ عليَّ، وإن حدثتك حديث صدق تجدُ عليَّ فيه إني لأرجو فيه عُقْبى الله عز وجل، والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفتُ عنك.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أما هذا فقد صَدَق ، فقم حتى يقضي الله فيك)) وسار رجال من بني سلمة، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلَّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.قال فوالله مازالوا يؤنِّبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم؛ لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي؟ قال: فذَكَروا لي رجُلين قد شهدا بدرًا فيهما أسوة. قال: حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال: فاجتنبنا الناس- أو قال: تغيروا لنا- حتى تَنَكَّرتْ لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاسْتَكَانا وقعدا في بيوتهما يَبْكيان، وأما أنا فكنت أَشَبَّ القومِ وأجْلَدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه وأُسارِقُه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عنِّي، حتى إذا طال ذلك عليَّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط (75) أبي قتادة ؛ وهو ابن عمِّي وأحب الناس إليَّ، فسلمت عليه فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلَمُني أُحِبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عينايَ، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة؟ إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني، فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً.فقرأته فإذا فيه: أما بعد؛ فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك، فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء ، فَتَيَمَّمْتُ بها التنور فَسَجَرتهُا (76) حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي(77) إذا رسولُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أُطلِّقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنَّها، وأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك.فقلت لامرأتي: الحَقِيْ بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أُميَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن هلال ابن أمية شيخٌ ضائعٌ ليس له خادم، فهل تكره أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك. فقالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء وَوَالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب! فلبث بذلك عشر ليال، فكَمُلَ لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا.
ثم صليت صلاة الفجر صَبَاحَ خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فَبَيْنا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منّا، قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخٍ أوفى على سَلْعٍ (78) يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فَخَرَرْتُ ساجداً، وعرفت أنه قد جاء فرج. فآذَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله- عز وجل- علينا حين صلَّى صلاة الفجر فذهب الناس يُبَشروننا، فذهب قبل صاحبيَّ مبشرون، وركض رجل إليَّ فَرَسًا، وسعى ساعٍ من أسلم قبلي وأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرعَ من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يُبشِّرُني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعْرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أتأمَّمُ (79) رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقَّاني الناس فوجا فوجا يُهنئونني بالتوبة ويقولون لي: لِتَهنَكَ توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام طلحة بن عُبيد الله-رضي الله عنه- يُهرْول حتى صافَحَني وهنَّأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلَّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرقُ وجهُه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك: فقلت: أمِنْ عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا. بل من عند الله- عز وجل- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُهُ حتى كأن وجهه قطعة قمرٍ، وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنْخَلِعَ من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسِكْ عليكَ بعض مالك فهو خير لك، فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت: يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإنَّ توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبْلاهُ (80) الله - تعالى- في صِدقِ الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله- تعالى- فيما بقي، قال: فأنزل الله تعالى : ﴿لقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ حتى بلغ: ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ حتى بلغ: ﴿اتَّقُوا اللًّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:117ـ 119]، قال كعب: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صِدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبتُه، فأهلَكَ كما هلَكَ الذين كَذَبوا: إن الله تعالى قال للذين كَذَبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحدٍ، فقال الله تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:95،96] .
قال كعب: كنا خُلِّفْنا أيها الثلاثة عن أمر أؤلئك الذين قَبِلَ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى الله- تعالى- فيه بذلك؟ قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ وليس الذي ذكر مما خُلِّفنا تَخَلَّفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. متفق عليه (81).
وفي رواية : ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة تبوك يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس)).
وفي رواية: (وكان لا يقدُمُ من سفر إلا نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس فيه).

الشرح
هذا حديثُ كعب بن مالك، في قصَّةِ تَخَلُّفهِ عن غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة.
غزا النبي صلى الله عليه وسلم الروم وهم على دين النصارى حين بَلَغَهُ أنهم يجمعون له، فغزاهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقام بتبوك عشرين ليلة، ولكنه لم يرَ كيداً ولم يرَ عدوّا فرجع. وكانت هذه الغزوة في أيام الحرِّ حين طابت الثمار وصار المنافقون يحبُّون الدنيا على الآخرة، فتخلَّفَ المنافقون عن هذه الغزوة ولجأوا إلى الظل والرطب والتمر، وبعدتْ عليهم الشُّقَّة والعياذ بالله.
أما المؤمنون الخُلَّص، فإنهم خرجوا مع النبي- عليه الصلاة والسلام- ولم يُثْنِ عزمهم بُعْدُ الشُّقَّة ولا طيب الثمار.
إلا أن كعب بن مالك- رضي الله عنه- تخلَّف عن غزوة تبوك بلا عذر، وهو من المؤمنين الخُلَّص، ولهذا قال: ((إنه ما تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة غزاها قط)) كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم قد شارك فيها كعب- رضي الله عنه- فهو من المجاهدين في سبيل الله ((إلا في غزوة بدر))، فقد تخلَّف فيها كعب وغيره لأن النبي - عليه الصلاة والسلام- خرج من المدينة لا يريد القتال، ولذلك لم يخرج معه إلا ثلاثمائةٍ وبضعة عشر رجلاً فقط؛ لأنهم كانوا يريدون أن يأخذوا عيرًا لقريش، أي إبل محمَّلة قدمت من الشام تريد مكة وتَمُرُّ بالمدينة.
فخرج النبي - عليه الصلاة والسلام- من أجل أن يستقبل هذه العير ويأخذها، وذلك لأن أهل مكة أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم وأموالهم؛ فلهذا كانت أموالهم غنيمةً للنبي- عليه الصلاة والسلام- ويحل له أن يخرج ليأخذها، وليس في ذلك عدوان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل هذا أخذٌ لبعض حقهم.
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليس معهم إلا سبعون بعيرًا وفَرسَان فقط؛ وليس معهم عُدَّةٌ والعدد قليل، ولكنَّ الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد لينفِّذَ الله ما أراد عز وجل.
فسمع أبو سفيان - وهو قائد العير- أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه ليأخذ العير؛ فعدل عن سيره إلى الساحل وأرسل إلى قريش صارخاً يستنجدهم - أي يستغيثهم- ويقول: هلمُّوا أنقذوا العِير.
فاجتمعت قريش، وخرج كُبراؤها وزُعماؤها وشُرفاؤها فيما بين تسعمائةٍ إلى ألف رجل.

خرجوا كما قال الله عنهم، خرجوا من ديارهم ﴿بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه﴾[الأنفال:47] .
ولما كانوا في أثناء الطريق وعلموا أن العير نَجَت تراجعوا فيما بينهم وقالوا: العير نجت، فما لنا وللقتال؟ فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدراً فنقيم فيها ثلاثا ننحرُ الجزور، ونسقى الخمور، ونطعمُ الطعام، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا !
هكذا قالوا، بطرًا واستكبارًا وفخرًا، ولكن- الحمد لله- صارت العرب تتحدث بهم بالهزيمة النكراء التي لم يَذُق العرب مثلها، لما التقوا بالنبي- عليه الصلاة والسلام- وكان ذلك في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم السابع عشر منه، التقوا فأوحى الله عز وجل إلى الملائكة : ﴿أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾[الأنفال: 12]، انظر! في الآية تثبيتٌ للمؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، فما أقربَ النصر في هذه الحال ؟! رعب في قلوب الأعداء، وثبات في قلوب المؤمنين.
فثبَّتَ الله المؤمنين ثباتاً عظيماً، وأنزل في قلوب الذين كفروا الرعب.
قال الله سبحانه ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال:12]، أي : كل مفْصَل، اضربوا فالأمر مُيَسَرٌ لكم.
فجعل المسلمون- ولله الحمد- يجلدون فيهم؛ فقتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين رجلاً، والذين قُتلوا ليسوا من أطرفهم، الذين قُتلوا كلهم من صناديدهم وكبرائهم، وأُخذَ منهم أربعةُ وعشرون رجلاً يُسحَبون سحباً وألقوا في قليب من قُلُبِ بدر، سُحبوا حتى أُلقوا في القليب جثثاً هامدة، ووقف عليهم النبي - عليه الصلاة والسلام_ وقال لهم: يا فلان ابن فلان، يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، هل وجدتم ما وعََدَ ربكُم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا. فقالوا : يا رسول الله، كيف تكلم أناساً قد جيّفوا؟ قال: ((والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون))(82)؛ لأنهم موتى، وهذه - ولله الحمد- نعمة، علينا أن نشكر الله عز وجل عليها كلما ذكرناها.
نصر الله نبيه، وسمى الله هذا اليوم ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال:41].
هذا اليوم فرّق الله فيه الحق والباطل تفريقاً عظيماً. وانظر إلى قدرة الله عز وجل في هذا اليوم، انتصر ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً على نحو ألف رجل أكمل منهم عُدَّةً وأقوى، وهؤلاء ليس معهم إلا عدد قليل من الإبل والخيل، لكنَّ نصر الله عز وجل إذا نزل لقوم لم يقم أمامهم أحد، وإلى هذا أشار الله بقوله ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾، ليس عندكم شيء ﴿فاتقوا الله لعلكم تشكرون﴾ [آل عمران: 123]، ولما كان المسلمون حين فتحوا مكة وخرجوا باثني عشََرَ ألفاً وأمامهم هوزان وثقيف؛ فأعجب المسلمون بكثرتهم وقالوا: لن نُغلَب اليوم عن قلَّة، فغلبهم ثلاثةُ آلافٍ وخمس مائة رجل. غلبوا اثني عشر ألف رجلٍ بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أعجبوا بكثرتهم، قالوا: لن نغلب اليوم عن قلَّة، فأراهم الله عز وجل أن كثرتهم لن تنفعهم.
قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:25] .
أتدرون ماذا حَصَلَ لأهل بدر؟
اطَّلع الله عليهم وقال لهم: اعمَلُوا ما شئتم فقد غَفَرتُ لكم.
كل معصيةٍ تقعُ منهم فإنها مغفورة، لأن الثمن مقدَّم.
فهذه الغزوة صارت سبباً لكل خير، حتى إن حاطب بن أبي بلتعة- رضي الله عنه- لما حصَلَ منه ما حَصَل في كتابه لأهل مكة عندما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يغزوهم غزوة الفتح كتب هو- رضي الله عنه- إلى أهل مكة يخبرهم، ولكن الله أَطْلَعَ نبيّه على ذلك. أرسل حاطب بن أبي بلتعة الكتاب مع امرأة فأُخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي، فأرسل علي بن أبي طالب وواحداً معه حتى لحقوها في روضة تسمى روضة خاخ، فأمسكوها وقالوا لها: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، فقالوا لها: أين الكتاب؟ والله ما كَذَبْنا ولا كُذِبْنا، أين الكتاب؟ لتخرجنَّه أو لننزعنَّ ثيابك؟ فلما رأت ذلك أخرجته، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فأَخَذوه.
والحمد لله أنه لم يصلْ إلى قريش، فصار في هذا نعمة من الله على المسلمين وعلى حاطب، لأن الذي أراد ما حصل من نعمة الله.
فلما ردوا الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا حاطب، ما هذا))؟ فاعتذر.
فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عُنُقَ هذا المنافق، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنه قد شهد بدراً، وما يدريك، لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم ، فقد غَفَرتُ لكم))(83).
وكان حاطب من أهل بدر رضي الله عنه.
فالمهمُّ أن هذه تخلف عنها كعب، لكنها ليست في أول الأمر، إلا في ثاني الحال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج لقتال، وإنما خرج للعير، ولكن الله جمع بينه وبين عدوِّه على غير ميعاد، وكانت غزاةً مباركةً ولله الحمد. ثم ذكر بيعته النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في منى، حيث بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقال: إنني لا أحبُّ أن يكون لي بدلها بدر.
يعني هي أحبُّ إليه من غزوة؛ لأنها بيعة عظيمة.
لكن يقول: كانت بدر أذْكَرَ في الناس منها، أي أكثر ذكرًا، لأن الغزوة اشتُهرت بخلاف البيعة.
على كل حال- رضي الله عنه- يُسلِّي نفسه بأنه إن فاتته بدر فقد حصلت له بيعة العقبة، فرضي الله عن كعب وعن جميع الصحابة.
يقول رضي الله عنه: ((إني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفت عنه في تلك الغزوة)) - أي: غزوة تبوك- كان قويَّ البدن، ياسر الحال، حتى إنه كان عنده راحلتان في تلك الغزوة، وما جمع راحلتين في غزوة قبلها أبدًا، وقد استعد وتجهَّزَ- رضي الله عنه - وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، أي: أظهر خلاف ما يريد، وهذا من حكمته وحنكته في الحرب، لأن لو أظهر وجهه تبيّن ذلك لعدوِّه، فربما يستعد له أكثر، وربما يذهب عن مكانة الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
فكان مثلاً إذا أراد أن يخرج إلى الجنوب ورَّى وكأنه يريد أن يخرج إلى الشمال، أو أراد أن يخرج إلى الشرق ورَّى وكأنه يريد أن يخرج إلى الغرب حتى لا يطَّلع العدو على أسراره . إلا في غزوة تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرها ووضَّحها وجلاَّها لأصحابه؛ وذلك لأمور:
أولاً: أنها كانت في شدة الحر حين طابت الثمار، والنفوس مجبولة على الركون إلى الكسل وإلى الرخاء.
ثانيا: أن المدى بعيد من المدينة إلى تبوك، ففيها مفاوز ورمالٌ وعطشٌ وشمس.
ثالثاً: أن العدو كثير وهم الروم، اجتمعوا في عدد هائل حسب ما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك جلّى أمرها وأوضح أمر الغزوة، وأخبر أنه خارج إلى تبوك إلى عدوٍّ كثير، وإلى مكان بعيد حتى يتأهب الناس. فخرج المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتخلَّف إلا من خذله الله بالنفاق، وثلاثة رجال فقط هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، رضي الله عنهم. هؤلاء من المؤمنين الخُلَّص، لكن تخلَّفوا لأمر أراده الله عز وجل. أما غيرهم ممن تخلَّف فإنهم منافقون منغمسون في النفاق، نسأل الله العافية. فخرج النبي - عليه الصلاة والسلام- بأصحابه- وهم كثير- إلى جهة تبوك حتى نزل بها، ولكن الله تعالى لم يجمع بينه وبين عدوه، بل بقي عشرين يوماً في ذلك المكان، ثم انصرف على غير حرب.
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: ((إن الرسول صلى الله عليه وسلم تجهَّز هو والمسلمون وخرجوا من المدينة)) .
أما هو - رضي الله عنه- فتأخَّر وجعل يغدو كل صباح يرحِّل راحلته ويقول: ألْحَق بهم، ولكنه لا يفعل شيئاً، ثم يفعل كل يوم، حتى تمادى به الأمر ولم يدرك.
وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا لم يبادر بالعمل الصالح فإنه- حَرِيٌ أن يُحرمَ إياه، كما قال الله سبحانه ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام:110]، فالإنسان إذا علم الحق ولم يقبله ويذعنْ له من أول وهلة، فإن ذلك قد يفوته ويحرم إياه- والعياذ بالله- كما أن الإنسان إذا لم يصبر على المصيبة من أول الأمر فإنه يُحرَمُ أجرها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))(84).
فعليك- يا أخي - أن تبادر بالأعمال الصالحة، ولا تتأخر فتتمادى بك الأيام ثم تعجز وتكسل ويغلب عليك الشيطان والهوى فتتأخر، فها هو- رضي الله عنه- كل يوم يقول: أخرُج، ولكن تمادى به الأمر ولم يخرج.
يقول: فكان يَحِزُّ في نفسه أنه إذا خرج إلى سوق المدينة وإذا المدينة ليس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار إلا رجل مغموس في النفاق- والعياذ بالله- قد غمسه نفاقة فلم يخرج، أو رجل معذور عذره الله عز وجل. فكان يعتب على نفسه: كيف لا يبقى في المدينة إلا هؤلاء وأقعد معهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكره ولم يسأل عنه حتى وَصَلَ إلى تبوك.
فبينما هو جالس وأصحابه في تبوك سأل عنه، فقال رسول الله أين كعب بن مالك؟ فتكلم فيه رجل من بني سلمه وغمزه، ولكن دافع عنه معاذ ابن جبل - رضي الله عنه- فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجب بشيء، لا على الذي غمزه ولا على الذي ردَّ.
فبينما هو كذلك إذ رأى رجلاً مبيَّضاً، يعنني بياضاً يزول به السراب من بعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((كنْ أبا خيثمة الأنصاري)) فكان أبا خيثمة.
وهذا إمَّا من فراسةِ النبي - عليه الصلاة والسلام- وإمَّا من قوة نظره صلى الله عليه وسلم .
ولا شك أنه من أقوى الرجال نظرًا وسمعًا ونطقًا وفي كل شيء.
وأعطي قوةَ ثلاثين رجلاً بالنسبة للنساء- عليه الصلاة والسلام- وكذلك أعطي قوةً في غير ذلك، صلوات ربي وسلامه عليه.
وأبو خثيمة هذا هو الذي تصدَّق بصاعٍ عندما حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فتصدَّق الناس كل بحسب حاله. فكان الرجل إذا جاء بالصدقة الكثيرة قال المنافقون: هذا مُراءٍ ما أكثر الصدقة ابتغاء وجه الله، وإذا جاء الرجل الفقير بالصدقة اليسيرة قالوا: إن الله غنيٌّ عن صاعِ هذا.
انظر- والعياذ بالله- يَلمزون المؤمنين من هُنا ومن هنا، كما قال الله ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾ [التوبة:79] ، أي : إذا تصدَّقوا بما يستطيعون قالوا: إن الله غني عن صاعك.
وهكذا المنافق شرٌّ على المسلمين، فإن رأى أهل الخير لمزهم وإن رأى المقصِّرين لمزهم، وهو أخبثُ عباد الله، فهو في الدَّرك السفل من النار. والمنافقون في زمننا هذا إذا رأوا أهل الخير وأهل الدعوة وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا: هؤلاء متزمِّتون، هؤلاء متشدِّدون، وهؤلاء أصوليون، هؤلاء رجعيون، وما أشبه ذلك من الكلام.
فكل هذا مَوروثٌ عن المنافقين في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- إلى يومنا هذا.
لا تقولوا ليس عندنا منافقون! بل عندنا منافقون ولهم علامات كثيرة‍‍!!
وقد ذكر ابن القيم- رحمه الله- في كتابه ((مدارج السَّالكين)) في الجزء الأول صفاتٍ كثيرة من صفات المنافقين، كلها مبيَّنة في كتاب الله عز وجل فإذا رأيت الإنسان إذا تكلم الناس عنده في أهل الخير قال: هذا متزمت، هذا متشدد، وإذا رأى الإنسان المحسن الذي بقدر ما عنده يحسن قال: هذا بخيل، الله غنيٌ عن صدقته. وإذا رأيت رجلاً يلمزُ المؤمنين من هنا ومن هنا، فاعلم أنه منافق والعياذ بالله ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة:79]، فاستفدنا من الحديث فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل الخير، بل لابد أن يتقدم ولا يتهاون أو يتكاسل .
وأذكرُ حديثاً قاله النبي- عليه الصلاة والسلام- في الذين يتقدمون إلى المسجد ولكن لا يتقدمون إلى الصف الأول، بل يكونون في مؤخره. قال: ((لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله))(85).
إذا عوَّد الإنسان نفسه على التأخير أخره الله عز وجل.فبادر بالأعمال الصالحة من حين أن يأتي طلبها من عند الله عز وجل.
الفائدة الثانية: أن المنافقين يلمزون المؤمنين، إن تصدَّقَ المسلمون بكثير قالوا: هؤلاء مراؤون، وإن قلَّلوا بحسب طاقتهم قالوا: إن الله غنيٌ عن عملك وغنيٌ عن صاعك، كما سبق.
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام: ((من تصدَّقَ بعَدْلِ تمرة من كسب طيِّب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبَّلها بيمينه، ثم يربِّيها لصاحبه- أي: بما يعادل تمرة- كما يربي أحدكم فَلُوَّه- أي مهره: الحصان الصغير - حتى تكون مثل الجبل))، (86) وهي تمرة أو ما يعادلها.
بل قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) (87)، أي: نصف تمرة، بل قال الله عز وجل:﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7،8]، والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين.
يقول رضي الله عنه: إنه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع قافلاً من الغزو، بدأ يفكر ماذا يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع؟ يريد أن يتحدَّث بحديث وإن كان كذبًا، من أجل أن يعذره النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وجعل يُشاور ذوي الرأي من أهله ماذا يقول، ولكن يقول رضي الله عنه: فلما بلغ النبي- عليه الصلاة والسلام- المدينة، ذهب عنه كلِّ ماجمعه من الباطل، وعزم على أن يُبَيِّنَ للنبي صلى الله عليه وسلم الحق، يقول: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ودخل المسجد، وكان من عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي في المسجد عليه الصلاة والسلام، وهكذا أمر جابرًا-رضي الله عنه- كما سأذكره إن شاء الله، فدخل المسجد وصلَّى وجَلَسَ للناس فجاءه المخلَّفون الذين تخلفوا من غير عُذر من المنافقين، وجعلوا يحلفون له إنهم معذورون، فيبايعهم ويستغفرُ لهم ولكن ذلك لا يفيدهم والعياذ بالله؛ لأن الله قال: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [التوبة:80]، فيقول: أما أنا فعزمت أن أصْدُقَ النبي - عليه الصلاة والسلام- وأخبره بالصدق، فدخلت المسجد فسلَّمت عليه، فتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب- أي: الذي غير راضٍ عني- ثم قال: ((تعالَ)) فلما دنوتُ منه قال لي: ((ما خلَّفك؟)).
فقال رضي الله عنه: يا رسول الله إني لم أتخلَّف لعذر، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي هذه، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر، فلقد أوتيتُ جدلاً- يعني لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفتُ كيف أتخلَّص منه لأن الله أعطاني جدلاً- ولكني لا أحدِّثُكَ اليوم حديثا ترضى به عني فيوشك أن يسخط الله عليَّ في ذلك. رضي الله عنه.
انظر إلى الإيمان! قال: لا يمكن أن أحدِّثك بالكذب، ولو حدثتُك بالكذب، ورضيتَ عني اليوم، فإنه يوشك أن يسخط الله عليَّ.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالصِّدق، فأجَّله.
وفي هذا من الفوائد:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قد يَمُنُّ على العبد فيعصمه من المعصية إذا علم من قلبه حُسن النية.
فإنَّ كعبا- رضي الله عنه- لما هم أن يُزَوِّرَ على الرسول - عليه الصلاة والسلام- جلّى الله ذلك عن قلبه وأزاحه عن قلبه، وعزم على أن يصدِّق النبي عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: أنه ينبغي للإنسان إذا قدِمَ بلده، أن يعمِدَ إلى المسجد قبل أن يدخل إلى بيته فيصلي فيه ركعتين، لأن هذه سنة النبي- عليه الصلاة والسلام- القوليّة والفعليّة أما الفعلية: فكما في حديث كعب بن مالك.
وأما القولية: فإن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- حين باع على النبي صلى الله عليه وسلم جَمَله في أثناء الطريق واستثنى أن يركبه إلى المدينة وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شرطه، فقدم جابر المدينة وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم قبله فجاء إلى رسول الله فأمره أن يدخل المسجد ويصلي ركعتين(88).
وما أظن أحداً من الناس اليوم- إلا قليلاً - يعمل هذه السنة، وهذا لجهل الناس بهذا، وإلا فهو سهل والحمد لله.
وسواء صليت في مسجدك الذي كنت تصلي فيه القريب من بيتك، أو صليت في أدنى مسجد من مساجد البلد الذي أنت فيه حصلت السنَّة.
ثالثاً: أن كعب بن مالك- رضي الله عنه - رجل قوي الحجة فصيح، ولكنْ لتقواه وخوفه من الله امتنع أن يكذب، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحق.
رابعاً: أن الإنسان المغضب قد يتبسَّم، فإذا قال قائل: كيف أعرفُ أن هذا تبسَّم رضا أو تبسَّم سخط؟
قلنا: إن هذا يُعرف بالقرائن، كتلوُّن الوجه وتغيره.
فالإنسان يعرف أن هذا الرجل تَبَسَّمَ رضًا بما صنع أو تبسَّم سخطاً عليه.
خامساً: أنه يجوز للإنسان أن يسلِّم قائماً على القاعد؛ لأن كعبا سلَّم وهو قائم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((تعال)).
سادساً: أن الكلام عن قُرب أبلغ من الكلام عن بُعد، فإنه كان بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكلِّمَ كعب بن مالك ولو كان بعيدًا عنه، لكنه أمرَهُ أن يدنو منه؛ لأن هذا أبلغ في الأخذ والردِّ والمعاتبة، فلذلك قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ((ادنُ)).
سابعاً: كمال يقين كعب بن مالك- رضي الله عنه- حيث إنه قال: إنني أستطيع أن أخرج بعذر من الرسول - عليه الصلاة والسلام- ولكن لا يمكن أن أخرج منه بعذر يعذرني فيه اليوم ثم يغضب الله عليَّ فيه غداً.
ثامناً: إن الله يعلم السر وأخفى، فإن كعباً خاف أن يسمع الله قوله ومحاورته للرسول- عليه الصلاة والسلام- فيُنزلُ الله فيه قرآناً، كما أنزل في قصة المرأة المجادلة التي جاءت إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام- تشكو زوجها حين ظاهرَ منها، فأنزل الله فيها آية من القرآن:﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة:1] .
يقول كعب: إنه أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وصدَقَهُ القول وأخبرهُ أنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله، بل إنه لم يجمع راحلتين في غزوة قبل هذه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أما هذا فقد صَدَق)) ويكفي له فخراً أن وَصَفَهُ النبي - عليه الصلاة والسلام- بالصدق: ((أمّا هذا فقد صدق، فاذهب حتى يقضي الله فيك ما شاء)). فذهب الرجل مُسْتَسلماً لأمر الله عز وجل مؤمناً بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فلَحِقَهُ قوم من بني سلمة من قومه وجعلوا يزيِّنون له أن يرجع عن إقراره، وقالوا له: إنك لم تُذنب ذنباً قبل هذا، يعني مما تخلَّفت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفيك أن يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا استغفر لك الرسول صلى الله عليه وسلم غفرَ الله لك، فارجع كذِّب نفسك، قل: إني معذور ، حتى يستغفر لك الرسول - عليه الصلاة والسلام- فيمن استغفر لهم ممن جاؤوا يعتذرون إليه. فهمَّ أن يفعل رضي الله عنه، ولكن الله سبحانه أنقذه وكتب له هذه المنقَبَة العظيمة التي تُتْلى في كتاب الله إلى يوم القيامة.
فسأل قومه: هل أحدٌ صَنَعَ مثلما صَنَعْتُ؟ قالوا: نعم، هلال بن أمية ومُرارة بن الربيع، قالا مثلما قلت، وقيل لهما مثلما قيل لك.
يقول: ((فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدراً لي فيهما أُسوة)).
أحياناً يُقَيِّضُ الله للإنسان ما يجعله يَدَعُ الشرَّ اقتداءً بغيره وتأسِّيًا به.
فهو- رضي الله عنه- لما ذُكر له هذان الرجلان- وهما من خيار عباد الله من الذين شَهِدوا بدراً - فقال: ((لي فيهما أسوة. فمَضَيتُ)) أي: لم يرجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فأمر النبي - عليه الصلاة والسلام- الناس أن يهجروهم فلا يُكَلِّموهم.
فهجرهم المسلمون، ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول، قد ذُهلوا، وتنكَّرت لهم الأرض فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها؛ لأنهم يمشون إن سلَّموا لا يُرَدُّ عليهم السَّلام، وإن قابلهم أحد لم يبدأهم بالسلام. وحتى النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو أحسن الناس خلقاً- لا يُسَلِّم عليهم السلام العادي.
يقول كعب: كنتُ أحضرُ وأسَلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري: أحرَّك شفتيه برد السلام أم لا.
هذا وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وما ظنك برجل يُهجَر في هذا المجتمع الإسلامي الذي هو خير القرون؟ إنها ستضيق عليه الأرض، وفعلاً ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وبقُوا على هذه الحال مدَّةَ خمسين يوماً، أي: شهراً كاملاً وعشرين يوماً. والناس قد هجروهم فلا يسلِّمون عليهم. ولا يردون السلام إذا سلَّموا. وكأنهم في الناس إبلٌ جربٌ لا يُقِرُ بهم أحد.
فضاقت عليهم الأمور وصعبت عليهم الأحوال، وفرُّوا إلى الله عز وجل، ولكن مع ذلك لم يكن كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة.
فكان يحضر ويسلِّم على النبي - عليه الصلاة والسلام- ولكن في آخر الأمر ربما يتخلَّف عن الصلوات لما يجد في نفسه من الضيق والحرج؛ لأنه يخجلُ أن يأتي إلى قوم يصلي معهم وهم لا يُكلمونه أبداً، لا بكلمة طيبةٍ ولا بكلمة تأنيب، فتركوهم بالكلية، فضاقت عليهم الأرض، وبقوا على هذه الحالة خمسين ليلة تامة، ولما تمَّت لهم أربعون ليلة أرسل إليهم النبي- عليه الصلاة والسلام- أن يعتزلوا نساءهم. إلى هذا الحد، فرَّق بينهم وبين نسائهم.
وما ظنُّك برجل مثل كعب بن مالك وهو شاب يُعزَلُ عن امرأته؟ أمر عظيم، ولكن مع ذلك لما جاءهم رسول الرسول – عليه الصلاة والسلام - وقال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك)) قال: أطلقها أم ماذا؟ لأنه لو قال له طلِّقها لطلَّقَها بكل سهولة؛ طاعة الله ورسوله، فسأل قال: أطلِّقها أم ماذا؟ فقال له رسول الرسول: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يأُمرك أن تعتزل أهلك. وبَقِي على ظاهر اللفظ. حتى الصحابي الذي أُرسِلَ ما حرَّف النص، لا معنى ولا لفظاً، قال هكذا، قال: ولا أدري.
وهذا من أدب الصحابة رضي الله عنهم، ما قال: أظُنُّ أنه يريد أن تُطَلِّقها، ولا: أظنُّ أنه يريد أن لا تطلِّقها! ما قال شيئاً، بل قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا. فقال كعب لزوجته الحقي بأهلك. فلحقت بأهلها.
((فأما صاحِبَاي فاستكانا في بيوتهما يبكيان)) لأنهما لا يستطيعان أن يمشيا في الأسواق، والناس قد هجروهم لا يلتفتُ إليهم أحد، ولا يسلِّم عليهم أحد، وإذا سلَّموا لا يُرَدُ عليهم السلام، فعجزوا عن تحمُّلِ هذه الحال، فبقيا في بيوتهما يبكيان.
يقول: ((وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأجْلدَهم)) أشبُّهم : أقواهم وأجْلدَهم: أصبرهم. لأنه أشبُّ منهم أصغر منهم سناً، فكان يشهد صلاة الجماعة مع المسلمين، ويطوف بأسواق المدينة لا يكلمه أحد، لا يكلمه أحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجرهم، وكان الصحابة- رضي الله عنهم- أطوعَ الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
يقول: ((وكنت آتي المسجد فأصلي وأسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس للناس بعد الصلاة فأقول: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام أم لا)).
أي: ما يردُّ عليه ردًّا يُسمع، هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، ولكن امتثالاً لما أوحى الله إليه أن يُهجر هؤلاء القوم هَجَرهم.
ويقول: كنت أُصلي وأُسارقُ النبي صلى الله عليه وسلم النظر، يعني: أنظر إليه أحياناً وأنا أصلي ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ وإذا التفتُّ إليه أعرض عني.
كل هذا من شدة الهجر.
يقول: ((فبينما أنا أمشي ذات يوم في أسواق المدينة وطال عليَّ جفوة الناس، تسوَّرتُ حائطاً لأبي قتادة رضي الله عنه)) تسوَّره: دخله من فوق الجدار من دون الباب، وكأن الباب مُغلق. والعلم عند الله.
يقول: ((فسلَّمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام)) وهو ابن عمِّه وأحب الناس إليه، ومع ذلك لم يردَّ عليه السلام، مع أن الرجل كان مجفيًّا من الناس منبوذاً، لا يُكلم ولا يسلّم عليه ولا يُردُّ عليه السلام، ومع ذلك لم يعطف عليه ابن عمِّه أبو قتادة.
كل هذا طاعة لله ورسوله؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم- لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يحابون أحداً في دين الله ولو كان أقرب الناس إليهم، فقال له: أنشُدك الله، هل تعلم أني أحبُّ الله ورسوله؟ فلم يرد عليه.
مرتين يُناشده مناشدة هل يعلم أنه يحب الله ورسوله أم لا؟ وأبوقتادة يدري، ويعلم أن كعب بن مالك يحب الله ورسوله.
فلما ردَّ عليه الثالثة وقال: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
فقال: الله ورسوله أعلم.
لم يكلّمه، فلم يقل: نعم؟ ولا قال: لا.قال كلمة لا تعدُّ خطابا،قال: الله ورسوله أعلم.
يقول: ففاضت عيناي، أي: بكى- رضي الله عنه- أن رجلاً- ابن عمه- أحب الناس إليه لا يُكَلِّمه مع هذه المناشدة العظيمة.
مع أنها- أيضاً- مسالة تعبُّديه، لأن قوله أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ طلبُ شهادة، ومع ذلك لم يشهد له، مع أنه يعلم أنه يحب الله ورسوله؛ ففاضت عيناه.
وتسوَّر البستان أي: خرج إلى السوق، فبينما هو يمشي إذا برجل نَبَطي من أنباط الشام- والنبطيُّ الذي ليس بعربي ولا بعجمي، وسُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يخرجون في البراري يستنبطون الماء- يقول: من يدُلُّني على كعب بن مالك!
انظر إلى أهل الشر ينتهزون الفرص!
فعندما قال: من يدلني على كعب بن مالك؟ قلت: أنا هو، فأعطاني الورقة، وكنت كاتباً؛ لأن الكُتَّاب في ذلك العهد قليلون جداً.
يقول: ((فقرأت الكتاب، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك جفاك- يعني الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الملك: ملك غسَّان كافراً-وإنك لست بدار هوان ولا مضيعة)) ، يعني لا تبقى في الدار في ذُلٍّ وضياع وهوان فتعال إلينا –الحق بنا نُوَاسك -يعني: تعال إلينا نواسك بأموالنا، وربما نواسيك بملكنا.
ولكن الرجل رجل مؤمن بالله تعالى ورسوله، ومحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
قال: وهذه من البلاء، يعني: هذا من الامتحان. وصد رضي الله عنه، رجل مجفوٌّ لا يُكَلَّم، مهجور منبوذ حتى من أقرب الناس إليه، لو كان في قلبه ضعف إيمان لا نتهزَ الفرصة بدعوةِ هذا الملك وذهب إليه، لكن عنده إيمانٌ راسخ.
يقول: قلت: هذه من البلاء. ثم ذهب إلى التنُّور فسَجَرَهُ في
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل


avatar


نقــاط : 100255
شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة Oooo14
شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة User_o10

شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة   شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2013 - 20:02

وفي هذه القطعة من الحديث فوائد:
أولاً: شدَّةُ هجر النبي - عليه الصلاة والسلام- لهؤلاء الثلاثة، حتى إنه أمرهم أن يعتزلوا نساءهم، والتفريق بين الرجل وامرأته أمره عظيم.
ثانياً: وفيه أن قول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك؛ ليس بطلاق، لأن كعب بن مالك- رضي الله عنه- فرَّق بين قوله: الحقي بأهلك، وبين الطلاق، فإذا قال الرجل لامرأته الحقي بأهلك ولم ينوِ الطلاق، فليس بطلاق.
أما إذا نوى الطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوي…)) الحديث(89).
فإذا نوى الإنسان بهذه الكلمة وأمثالها الطلاق فله ما نوى.
ثالثاً: شدَّةُ امتثال الصحابة- رضي الله عنهم- لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه- رضي الله عنه- ما تردد، ولا قال: لعلي أراجعُ الرسول عليه الصلاة والسلام، أو قال للرسول الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إليه لعله يسمح، بل وافق بكل شيء.
رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رحيما بأمته، فإنه بعد أن أمرهم باعتزال النساء رخَّص لهلال بن أمية، لأنه يحتاج لخدمة امرأته.
خامساً: جواز حكاية الحال عند الاستفتاء أو الشهادة أو ما أشبه ذلك، وإن كان المحكيُّ عنه قد لا يحبُّ أن يطلع عليه الناس، لأن امرأة هلال بن أمية ذكرت من حَالِه أنه ليس فيه حاجة إلى شيء من النساء.
سادساً: أن الإنسان إذا حَصلَ له مثل هذه الحال وهجرَهُ الناس، وصار يتأذَّى من مشاهدتهم ولا يتحمَّل، فإنه له أن يتخلف عن صلاة الجماعة، وإن هذا عذر؛ لأنه إذا جاء إلى المسجد في هذه الحال سوف يكون مُتَشوِّشًا غير مطمئن في صلاته؛ ولهذا صلّى-كعب بن مالك- رضي الله عنه- صلاة الفجر على ظهر بيت من بيوته، وسبق لنا ذكرُ هذه الفائدة في قصة هلال بن أمية ومرارة بن الربيع.
سابعاً: حرص الصحابة - رضي الله عنهم- على التسابق إلى البُشرى؛ لأن البشرى فيها إدخال السرور على المسلم. وإدخال السرور على المسلم مما يقرِّب إلى الله عز وجل؛ لأنه إحسان والله- سبحانه وتعالى- يحب المحسنين ولا يُضيعُ أجرهم.
فلذلك ينبغي لك إذا رأيت من أخيك شيئا يَسَّرَهُ، كأن يكون خبرًا سارًا أو رؤيا سارَّة أو ما أشبه ذلك، أن تبشره بذلك، لأنك تدخل السرور عليه.
ثامناً: أنه ينبغي مُكافأةُ من بشَّرك بهديَّةٍ تكون مناسبة للحال، لأن كعب بن مالك- رضي الله عنه- أعطى الذي بشَّره ثوبيه، وهذا نظير ما صح به الخبر عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- وكان يأمر الناس إذا حجوا أن يتمتَّعوا بالعمرة إلى الحج، يعني أن يأتوا بالعمرة ويحلُّوا منها ثم يُحرموا بالحج في يوم التروية، وكان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ينهى عن المتعة؛ لأنه يحب أن يعتمر الناس في وقت، وأن يحجوا في وقت، حتى يكون البيت دائماً معموراً بالزُّوَّار، ما بين معتمرين وحجاج، فعل هذا اجتهاداً منه- رضي الله عنه- وهو من الاجتهاد المغفور، وإلا فلا شكَّ أن سنة الرسول - عليه الصلاة والسلام - أولى.
المهمُّ أن رجلاً استفتى عبد الله بن عباس في هذه المسألة، فأمره أن يتمتَّع وأن يُحرم بالعمرة ويُحل منها.
فرأى هذا الرجل في المنام شخصا يقول له: حج مبرور وعمرة متقبَّلة، فأخبر بذلك عبد الله بن عباس الذي أفتاه، ففرح بذاك ابن عباس وأمره أن يبقى حتى يُعطيه من عطائه، يعني يُعطيه هديَّةً على ما بشَّرَه به من هذه الرؤيا التي تدل على صواب ما أفتاه به عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
والمهمُّ أن من بشَّرك بشيء فأقلُّ الأحوال أن تدعو له بالبشارة، أو تُهْدي له ما تيسر، وكل إنسان بقدر حاله.
يقول رضي الله عنه: حتى دخلت المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحوله أصحابه، فقام إلى كعبٍ طلحةُ بن عبيد الله - رضي الله عنه- فصاحفه وهنَّأه بتوبة الله عليه.
يقول: والله ما قام إليَّ أحد من المهاجرين رجل غيرُ طلحة، فكان لا ينساها له، حيث قام ولاقاه وصافَحه وهنَّأه، حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم وإذا وجههُ تبرقُ أسَاريره؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- سرَّه أن يتوب الله على هؤلاء الثلاثة الذين صَدَقوا الله ورسوله، وأخبروا بالصِّدق عن إيمان، وحَصَل عليهم ما جرى من الأمر العظيم، من هجر الناس لهم خمسين يوماً، حتى نسائهم بعد الأربعين أمر الرسول- عليه الصلاة والسلام- أن يعتزلوهنّ.
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أبشر بخيرِ يومٍ مرَّ عليك مُذ ولدتكَ أمُّك)).
وصدق النبي صلى الله عليه وسلم خيرُ يوم مرَّ على كعب منذ ولدته أمه هو ذلك اليوم، لأن الله أنزل توبته عليه وعلى صاحبيه في قرآن يُتْلى، تكلَّم به ربُّ العالمين عز وجل وأنزله على محمد صلى الله عليه وسلم محفوظاً بواسطة جبريل، ومحفوظًا إلى يوم القيامة، ولا يوجد أحد سوى الأنبياء أو من ذَكَرَهم الله في القرآن حُفظت قصته كما حفظت قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم.
بقيت هذه القصة تُتْلى في كتاب في المحاريب وعلى المنابر وفي كل مكان، ومن قرأ هذه القصة فله بكل حرف عشرُ حسنات، فهذا اليوم لا شك أنه خيرُ يومٍ مرَّ على كعب منذ ولدته أمه.(فقلتُ له: أمِنْ عندك يا رسول الله أومن عند الله ؟ ) قال ((لا، بل من عند الله عز وجل)) لأنه إذا كان من عند الله كان أشرف وأفضل وأعظم .فقال كعب: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، أي: يتخلى عنه ويجعله صدقة إلى الله ورسوله شأنه وتدبيره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)) فأمسكه رضي الله عنه.
ففي هذه القطعة من الحديث فوائد:
أولاً: فيها دليل على أن من السنة إذا أتى الإنسان ما يَسُرُّهُ أن يهنأ به ويُبشَّرَ به، سواء كان خير دين أو خير دنيا.
ولهذا بشَّرت الملائكة إبراهيم عليه السلام بغلام حليم وبغلام عليم، الغلام الحليم: إسماعيل . والغلام العليم: إسحاق . بشَّرت الملائكة إبراهيم بهذين الغلامين.
ثانياً: إنه لا بأس بالقيام إلى الرجل لمصافتحه وتهنئته بما يسُرُّه.
والقيام إلى الرجل لا بأس به قد جاءت به السنة، وكذلك القيام للرجل وأنت باقٍ في مكانك لا تتحرَّك إليه، فهذا أيضاً لا بأس به إذا اعتاده الناس، لأنه لم يرد النهي عنه؛ وإنما النهي والتحذير من الذي يقام له لا من القائم، فإن من يقام له قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوَّأ مقعده من النار))(90).
قال أهل العلم: والقيام ثلاثة أقسام:
الأول: قيام إلى الرجل.
الثاني: قيام للرجل.
والثالث: قيام على الرجل.
فالقيام إلى الرجل: لا بأس به، وقد جاءت به السنة أمرًا وإقراراً وفعلاً أيضاً.
أما الأمر : فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه عند تحكيمه في بني قريظة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((قوموا إلى سيدكم))(91) وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه قد أصيب في غزوة الأحزاب في أكحله، والأكحل عرقٌ في الإبهام إذا انفجر مات الإنسان، أصيب به - رضي الله عنه - فدعا الله أن لا يُميته حتى يقر عينه في بني قريظة، وكانوا حُلفاء للأوس، وخانوا عهد النبي - عليه الصلاة والسلام- وصاروا مع الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما طُعنَ سعد قال: اللهم لا تُمتني حتى تقر عيني ببني قريظة، وكان من عُلُوِّ منزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُضربَ له خباء في المسجد- أي خيمة صغيرة- لأجل أن يعوده من قريب فكان يعوده من قريب.
ولما حصلت غزوة بني قريظة ورضوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر سعد إلى بني قريظة، فجاء راكبا على حمار؛ لأنه قد أنهكه الجرح، فلما أقبل قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((قوموا إلى سيدكم)) فقاموا فأنزلوه، فقال النبي- عليه الصلاة والسلام - له: إن هؤلاء - يعني اليهود- من بني قريظة حكَّموك.فقال رضي الله عنه: حكمي نافذٌ فيهم؟
قال نعم! وأقَرُّوا هم به، وقالوا: نعم حكمك نافذ، قال: وفيمن ها هنا - يشير إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- والصحابة - قالوا: نعم، فقال: أحكُم فيهم أن تقتل مقاتلهم، وتسبى ذريتهم ونساؤهم، وتغنم أموالهم، حكم صارم، قال النبي عليه الصلاة والسلام : ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)) رضي الله عنه.
فنفَّذ النبي صلى الله عليه وسلم حكمه، وقتل منهم سبعمائة رجل، وسبى نساءهم وذرياتهم، وغنم أموالهم.
الشاهد قوله: ((قوموا إلى سيدكم)) هذا فعل أمر، ولما دخل كعب ابن مالك المسجد قام إليه طلحة بن عبيد الله والنبي صلى الله عليه وسلم يشاهد ولم ينكر عليه.
ولما قدم وفد ثقيف إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- بالجعرانةِ بعد الغزوة قام لهم- أو قام إليهم - عليه الصلاة والسلام، فالقيام إلى الرجل لا بأس به.
الثاني: القيام للرجل: وهذا أيضا لا بأس به، لاسيما إذا اعتاد الناس ذلك وصار الداخل إذا لم تقم له يعد ذلك امتهاناً له، فإن ذلك لا بأس به، وإن كان الأولى تركه كما في السنة، لكن إذا عتاده الناس فلا حرج فيه.
الثالث: القيام عليه: كأن يكون جالساً، ويقوم واحد على رأسه تعظيما له، فهذا منهي عنه.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يُعظِّم بعضهم بعضا))(92).
حتى إنه في الصلاة إذا صار الإمام لا يستطيع القيام وصلى جالسا فإن المأموين يصلُّون جلوسا، ولو كانوا يقدرون على القيام، لئلا يشبهوا الأعاجم الذين يقومون على ملوكهم))(93).
فالقيام على الرجل منهي عنه، اللهم إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، كأن يخاف على الرجل أن يعتدي عليه أحد فلا بأس أن يقوم عليه القائم، وكذلك إذا قام عليه الرجل إكراماً له في حال يقصد إكرامه وإهانة العدو، مثل ما حصل من المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- في صلح الحديبية حينما كانت قريش تراسل النبي صلى الله عليه وسلم للمفاوضة فيما بينهم، كان المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- واقفا على رأس رسول الله وبيده السيف تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإهانة لرسل الكفار الذين يأتون للمفاوضة.
وفي هذا دليل على أنه ينبغي لنا- نحن المسلمين- أن نغيظ الكفار بالقول وبالفعل؛ لأنّا هكذا أمرنا، قال الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة:73] ، وقال الله تعالى: ﴿وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة:20] ، ومن المؤسف أن منّا من يُدخل عليهم السرور والفرح، وربما يشاركهم في أعيادهم الكفرية التي لا يرضاها الله بل يسخط عليها، والتي يخشى أن ينزل العذاب عليهم وهم يلعبون بهذه الأعياد. يوجد من الناس - والعياذ بالله من لا قَدْر للدين عنده، كما قال ابن القيم-رحمه الله- في كتابه ((أحكام أهل الذمة)): ((من ليس عنده قدر للدين يشاركهم في الأعياد ويهنئهم)). وكيف يدخل السرور على أعداء الله وأعدائك؟! أدخل عليهم ما يحزنهم ويغيظهم ويدخل عليهم أشد ما يكون من الضيق، هكذا أمرنا؛ لأنهم أعداء لنا وأعداء لله ولدينه وللملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
المهم أن المغيرة بن شعبة وقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده السيف تعظيماً له حتى إنه في أثناء تلك المراسلة فعل الصحابة شيئا لا يفعلونه في العادة، كان عليه الصلاة والسلام إذا تنخّم تلقَّوا نُخامته بأيديهم بالراحة، ثم يمسحون بها وجوههم وصدوره مع إنهم ما كانوا يفعلون هذا، لكن لأجل إذا ذهب رسول الكفار بيَّن لهم حال الصحابة- رضي الله عنهم- مع نبيهم عليه الصلاة والسلام.
ولذلك لما رجع رسول قريش إلى قريش قال:والله لقد دخلت على الملوك وكسرى وقيصر والنجاشي فلم أرَ أحداً يعظمه أصحابه مثلما يعظم أصحاب محمد محمداً، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم الله عنا خيراً.
المهم أن القيام على الرجل إذا كان المقصود به حفظ الرجل، أو كان المقصود به إغاظة العدو، فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه وإلا فهو منهي عنه.
ثالثاً: أن من أنعم الله عليه بنعمة فإن من السنة أن يتصَّدق بشيء من ماله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ كعب بن مالك على أن يتصدق بشيء من ماله توبة إلى الله عز وجل لما حصل له من الأمر العظيم الذي كان فخراً له إلى يوم القيامة.
ثم ذكر كعب بن مالك أن من توبته أن لا يحدث بحديث كذب بعد إذ نجاه الله تعالى بالصدق، ومازال كذلك ما حدَّث بحديث كذب أبداً بعد أن تاب الله عليه، فكان - رضي الله عنه- مَضرَبَ المثل في الصدق، حتى إن الله أنزل فيه وفي صاحبيه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119] ، أنزل الله تعالى الآيات في بيان منَّتِه عليهم بالتوبة من قوله تعالي: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ﴾ [التوبة:117] ، ففي هذه الآية أكَّدَ الله سبحانه وتعالى توبته على النبي والمهاجرين والأنصار ، أكدها بقوله: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّه﴾.
فأما النبي فهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما المهاجرون فهم الذين هاجروا من بلادهم من مكة إلى المدينة، هاجروا إلى الله، فجمعوا في ذلك بين الهجرة ومفارقة الوطن ومفارقة الديار وبين نُصرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم إنما هاجروا إلى الله ورسوله، فالمهاجرون جمعوا بين الهجرة والنصرة.
أما الأنصار فهم الذين تبوَّأوا الدار والإيمان من قبلهم، أهل المدينة- رضي الله عنهم- الذين آوَوا النبي صلى الله عليه وسلم ونصروه ومنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم. وقدَّم الله المهاجرين لأنهم أفضل من الأنصار، لجمعهم بين الهجرة والنصرة.
وقوله ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾وذلك في الخروج معه إلى غزوة تبوك، إلى بلاد بعيدة، والناس في أشد ما يكونون من الحر، والناس في أطيب ما يكونون لو بقوا في ديارهم، لأن الوقت وقت قيظ، والوقت وقت طيب الثمار وحسن الظلال، ولكنهم - رضي الله عنهم- خرجوا في هذه الساعة الحَرِجَة في ساعة العسرة﴿مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ﴾ فإن بعضهم كاد أن يتخلف بدون عذر فيزيغ قلبه، ولكن الله عز وجل مَنَّ عليهم بالاستقامة حتى خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ أكد ذلك مرَّة أخرى ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ شملهم بالرأفة والرحمة، والرأفة أرق من الرحمة؛ لأنها رحمة ألطف وأعظم من الرحمة العامة.
ثم قال: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾.
والثلاثة: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، هؤلاء هم الثلاثة الذين خلفوا رضي الله عنهم، وخُلِّفوا : أي خُلِّفَ البتُّ في أمرهم، وليس المراد تخلَّفوا عن الغزوة، بل خلفهم الرسول- عليه الصلاة والسلام- لكي ينظر في أمرهم ماذا يكون حكم الله تعالى فيهم.
وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ ضاقت عليهم الأرض مع سعتها، والرَّحْبُ هو السَّعة، والمعنى أن الأرض على سعتها ضاقت بهم. حتى قال كعب بن مالك: ((لقد تنكرت لي الأرض حتى قلت: لا أدري ، هل أنا في المدينة أو غيرها)) من شدة الضيق عليهم، رضي الله عنهم.
﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُم﴾ نفس الإنسان ضاقت عليه فهي لا تتحمَّل أن تبقى ولكنهم صبروا- رضي الله عنهم- حتى فرَّجَ الله عليهم.
وقوله ﴿وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْه﴾ [التوبة: 118]، الظن هنا بمعنى اليقين،أي أيقنوا أنه لا ملجأ من الله، أي: أنه لا أحد ينفعهم، ولا ملجأ من الله إلا إلى الله، فالله بيده كل شي عز وجل.
وقوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ تاب عليهم لينالوا مراتب التوبة التي لا ينالها إلا من وُفِّق، لا ينالها إلا أحباب الله، كما قال الله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222] .
أما أولئك الذين اعتذروا من المنافقين إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- واستغفر لهم ووَكَّلَ سرائرهم إلى الله، فإن الله أنزل فيهم شرَّ ما أنزل في بشر فقال: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ فلا تلومونهم ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْس﴾ نعوذ بالله رجس، الخمر رجس، القذر الذي يخرج من دبر الإنسان رجس، روث الحمير رجس، هؤلاء مثلهم. ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [التوبة: 95] ، بئس المأوى والعياذ بالله، إنهم ينتقلون من الدنيا إلى جهنم، نسأل الله العافية، نار حامية تطَّلع على الأفئدة، مؤصدة عليهم في عَمَدٍ ممدَّدة.
﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾لأنكم لا تعلمون سرائرهم ولا يبدو لكم إلا الظواهر ﴿فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ لو رضي الناس عنك كلهم والله لم يرض عنك فإنه لا ينفعك إلا رضا الله عز وجل؛ لأن الله إذا رضي عنك أرضى عنك الناس وأمَالَ قلوبهم إليك، كما جاء في الحديث : ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه)) يُعيَّن الله الرجل له فيحبه جبريل، ((ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض))(94) فيكون مقبولاً لدى أهل الأرض.
كما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ [مريم:96] .
لكن إذا التمس الإنسان رضا الناس بسخط الله فالأمر بالعكس، يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس.
ولهذا لما تولَّى معاوية- رضي الله عنه- الخلافة كتبت له عائشة - رضي الله عنها- قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكَلَهُ الله إلى الناس))(95) وما أكثر الذين يطلبون رضا الناس بسخط الخالق عز وجل- والعياذ بالله_.
هؤلاء هم في سَخَطِ الله ولو رضي عنهم الناس، فلا ينفعهم رضا الناس قال الله تعالى هنا: ﴿ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:96]، حتى لو رضي عنهم النبي صلى الله عليه وسلم - أشرف الخلق - ما نفعهم؛ لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
وفي هذه الآية تحذير من الفسق، وهو ارتكاب المعاصي التي أعظمها الكفر، وكل فسق فإنه ينقص من رضا الله عن الإنسان بحسبه،لأن الحكم المعلق بالوصف يزداد بزيادته وينقص بنقصانه، ويقوي بقوَّته ويضعف بضعفه. والفسق سبب من أسباب عدم رضا الله ﴿فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ والفسق أنواع كثيرة ومراتب عظيمة. فعقوق الوالدين من الفسوق ، وقطيعة الرحم من الفسوق ، وغشُّ الناس من الفسوق ، والغدر بالعهد من الفسوق، والكذب من الفسوق، فكل معصية من الفسوق.
لكن صغائر الذنوب تكفرها حسنات الأعمال إذا أصلح الإنسان الحسنات، كما قال الله
تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾ [الإسراء:78] .
وقال عز وجل:﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[هود: 114]، فإذا فعل الإنسان حسنة أذهبت السيئة إذا كانت صغيرة، أما الكبائر فلا ينفع فيها إلا التوبة.
على كل حال: الفسق من أسباب انتفاء رضا الله عن العبد، والطاعة من أسباب الرضا، فالتزم طاعة الله إن كنت تريد رضاه، وإن كنت تريد رضا الناس فأرضِ الله، إذا رضيَ الله عنك كفاك مؤنة الناس وأرضى الناس عنك، وإن أسخطت الله برضا الناس فأبشر بسخط الناس مع سخط الله، والعياذ بالله.
وذكر- رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج في يوم الخميس، ولكن ذلك ليس بدائم، أحياناً يخرج يوم السبت، كما خرج في آخر سفرةٍ سافرها في حجة الوداع، وربما يخرج في أيام أُخر، لكن غالب ما يخرج فيه هو يوم الخميس.
وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى المدينة ضُحَىً، وأنه دخل المسجد فصلَّى فيه ركعتين، وكان هذا من سنته صلى الله عليه وسلم أنه إذا قدم بلده لم يبدأ بشيء قبل المسجد.
وهاتان الركعتان تشمل كل الوقت، حتى أوقات النهي؛ لأنها صلاة سببيَّة، فليس عنها نهي، في أي وقت وجد سببها حل فعلها.
فينبغي إذا قدم الإنسان إلى بلده أن يبدأ قبل كل شي بالمسجد. وقد تقدم ذكرُ ذلك.

* * *
22- وعن أبي نُجَيد- بضم النون وفتح الجيم- عمران بن الحصين الخزاعي- رضي الله عنهما - أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبت حداً فأقمه علي، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال: ((أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني)) ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشُكَّت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرُجمت، ثم صلى عليها. فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ قال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدتَ توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟!))(96) [ رواه مسلم].

الشرح
قال المؤلف- رحمه الله تعالى- فيما نقله عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه: إنَّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ((وهي حبلى من الزنا)) يعني حاملاً قد زنت، رضي الله عنها.
((فقالت: يا رسول الله إني قد أصبت حدا فأقمه عليَّ)) أي: أصبت شيئاً يوجب الحد فأقمه عليَّ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليَّها وأمره أن يحسن إليها فإذا وضعت فليأتِ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضعت أتى بها وليُّها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ((فأمر بها فَشُدَّت عليها ثيابها)) أي: لفت ثيابها وربطت لئلا تنكشف ((ثم أمر بها فرُجِمت)) أي: بالحجارة: وهي ليست كبيرة ولا صغيرة، حتى ماتت، ثم صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لها دعاء الميت: ((فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زَنَت)) أي: والزنى من كبائر الذنوب، فقال: ((لقد تأبت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)) يعني: توبة واسعة لو قُسِمت على سبعين كلهم مُذنب لوسعتهم ونفعتهم، ((وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل)) أي: هل وجدت أفضل من هذه الحال، امرأة جاءت فجادت بنفسها ؛ يعني : سلَّمَت نفسها من أجل التقرب إلى الله - عز وجل- والخُلُوص من إثم الزنى. ما هناك أفضل من هذا؟!
ففي هذا الحديث دليل على فوائد كثيرة:
منها: أن الزاني إذا زنى وهو محصن- يعني قد تزوَّج- فإنه يجب أن يرجم وجوباً؛ وقد كان هذا في كتاب الله- عز وجل- آية قرأها المسلمون وحفظوها ووعوها ونفّذوها، رَجَمَ النبي صلى الله عليه وسلم ورجم الخلفاء من بعده، ولكن الله بحكمته نسخها من القرآن لفظاً وأبقى حُكمها في هذه الأمة. فإذا زنى المحصن- وهو الذي قد تزوج - فإنه يُرجم حتى يموت. يُوقف في مكان واسع، ويجتمع الناس، ويأخذون من الحصى يرمونه به حتى يموت.
وهذه من حكمه الله عز وجل، أي: أنه لم يأمر الشرع بأن يقتل بالسيف وينتهي أمره بل يرجم بهذه الحجارة حتى يتعذب ويذوق ألم العذاب في مقابل ما وَجَدَه من لذة الحرام؛ لأن هذا الزاني تلذذ جميع جسده بالحرام، فكان من الحكمة أن ينال هذا الجسد من العذاب بقدر ما نال من اللذة.
ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إنه لا يجوز أن يرجم بالحجارة الكبيرة؛ لأن الحجارة الكبيرة تُجْهِزُ عليه ويموت سريعاً فيستريح، ولا بالصغيرة جداً لأن هذه تؤذيه وتُطيلُ موته، ولكن بحصًى متوسط حتى يذوق الألم ثم يموت.
فإذا قال قائل: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح))(97) ، والقتلة بالسيف أريح للمرجوم من الرجم بالحجارة؟
قلنا: بلى قد قاله الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن إحسان القتلة يكون بموافقتها للشرع، فالرجم إحسان لأنه موافق للشرع، ولذلك لو أن رجلاً جانيا جنى على شخص فقتله عمداً وعزرَ به قبل أن يقتله فإننا نُعَزِّرُ بهذا الجاني إذا أردنا قتله قبل أن نقتله.
مثلاً: لو أن رجلاً جانيا قتل شخصاً فقطَّع- مثلاً- يديه، ثم رجليه، ثم لسانه، ثم رأسه. فإننا لا نقتل الجاني بالسيف!! بل نقطع يديه، ثم رجليه، ثم لسانه، ثم نقطع رأسه مثلما فعل، ويعتبر هذا إحساناً في القتلة، لأن إحسان القتلة أن يكون موافقاً للشرع على أي وجه كان.
وفي هذا الحديث دليل على جواز إقرار الإنسان على نفسه بالزنى؛ من أجل تطهيره بالحد لا من أجل فضحه نفسه.
فالإنسان الذي يتحدث عن نفسه أنه زنى، عند الإمام أو نائبه؛ من أجل إقامة الحد عليه، هذا لا يُلام ولا يُذَمُّ.
وأما الإنسان الذي يخبر عن نفسه بأنه زنى، يخبر بذلك عامة الناس؛ فهذا فاضح نفسه وهو من غير المعافين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين. قالوا: مَن المجاهرون؟ قال: الذي يفعل الذنب ثم يستُرُه الله عليه ثم يصبح يتحدث به))(98).
إذا قال قائل هل الأفضل للإنسان إذا زنى أن يذهب إلى القاضي ليقر عنده، فيقام عليه الحد، أو الأفضل أن يستُرَ نفسه؟فالجواب عن هذا أن في ذلك تفصيلاً.
قد يكون الإنسان تاب توبة نصوحاً، وندم ، وعرف من نفسه أنه لن يعود فهذا الأفضل أن لا يذهب ولا يخبر عن نفسه، بل يجعل الأمر سرًّا بينه وبين الله، ومن تاب تاب الله عليه.
وأما من خاف أن لا تكون توبته نصوحا، وخاف أن يعود ويرجع إلى الذنب مرة أخرى؛ فهذا الأفضل في حقِّه أن يذهب إلى وليِّ الأمر، أو إلى القاضي أو غيره، ليُقِرَّ عنده فيقام عليه الحدُّ.

* * *
23- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أن لابن آدم ملء وادٍ مالاً؛ لأحبَّ أن له إليه مثله ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)).(99) [متفق عليه] .
24-وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال((يضحك الله- سبحانه وتعالى- إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتلُ، ثم يتوب الله على القاتل فيُسْلِمُ فيُسْتَشهَدُ))(100) [ متفق عليه] .

الشرح
هذان الحديثان في بيان التوبة، وأن من تاب تاب الله عليه مهما عظم ذنبه؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)﴾ [الفرقان:68-70].
فالحديث الأول عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- ومعناه: أن ابن آدم لن يشبع من المال، ولو كان له واد واحد ((لا بْتَغَى)) أي طلب أن يكون له واديان، ولا يملأ جوفه إلا التراب؛ وذلك إذا مات ودُفن وترك الدنيا وما فيها؛ حينئذٍ يقتنع؛ لأنها فاتنة، ولكن مع ذلك حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على التوبة؛ لأن الغالب أن الذي يكون عنده طمع في المال؛ أنه لا يحترز من الأشياء المحرمة من الكسب المحرم.
ولكن دواء ذلك بالتوبة إلى الله ولهذا قال: ((ويتوب الله على من تاب)) فمن تاب من سيئاته- ولو كانت هذه السيئات مما يتعلق بالمال -فإن الله يتوب عليه.
أما الحديث الثاني فهو عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( يضحك الله إلى رجلين... الحديث)).
فضحك الله إلى هذين الرجلين؛ لأنه كان بينهما تمام العداوة في الدنيا؛ حتى إن أحدهما قتَلَ الآخر، فقَلَبَ الله هذه العدواة التي في قلب كل واحد منهم، وأزال ما في نفوسهما من الغلِّ، لأن أهل الجنة يطهرون من الغل والحقد؛ كما قال الله-تعالى- في وصفهم ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر:47] .
فهذا وجه العجب من الله- عز وجل- لهذين الرجلين أنه كان بينهما تمام العداوة،ثم إن الله-تعالى- مَنَّ على هذا القاتل الذي كان كافراً فتاب، فتاب الله عليه.
ففيه دليل: على أن الكافر إذا تاب من كُفْره-ولو كان قد قتل أحداً من المسلمين-فإن الله- تعالى- يتوب عليه؛ لأن الإسلام يهدِمُ ما قبله.
* * *

------------------

(50) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه، رقم (6069)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق ، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، رقم (2990).
(51) الحديث السابق.
(52) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت رقم (291)، وأبو الشيخ في التوبيخ والتنبيه رقم (211)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق رقم (211)، وضعَّفه الحافظ العراقي في المغني، انظر الإحياء (3/133) . وانظر طرق هذا الحديث في كشف الخفاء (2/111) وضعَّفه الألباني أيضًا كما في السلسلة الضعيفة رقم (1519) .
(53) تقدم تخريجه (31)
(54) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، رقم (5096)، ومسلم، كتاب الرقاق ، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء رقم (2740،2741).
(55) أخرجه مسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، رقم (2742).
(56) أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، رقم (304)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات...، رقم(79).
(57) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، رقم (6307).
(58) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، رقم (2702).
(59) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات ، باب التوبة ، رقم ( 6309)، ومسلم ، كتاب التوبة، باب في الحث على التوبة والفرح بها رقم ( 2747).
(60) أخرجه مسلم ، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب ، ( 2759).
(61) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، رقم ( 2703).
(62) أخرجه الترمذي ، كتاب الدعوات، ، باب (98) رقم (3537) وقال: حسن غريب، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، رقم( 4253)، والإمام أحمد في المسند (2/132)، وحسَّنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1903).
(63) أخرجه الترمذي ، كتاب الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار، رقم ( 3535)، وقال: حسن صحيح. والإمام أحمد في المسند (4/239).
(64) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ، رقم (1145)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين ، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، رقم (758).
(65) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، رقم ( 274).
(66) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين، رقم (276).
(67) أخرجه البخاري ، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، باب مناقب عمر بن الخطاب رقم (3688)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب المرء مع من أحب رقم ( 2639).
(68) أخرجه البخاري، كتاب الأدب ، باب علامة الحب في الله، رقم (6168)، ومسلم، كتاب البر والصلة ،باب المرء مع من أحب، رقم ( 2640).
(69) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب رقم (54) ، رقم (3470)، ومسلم، كتاب التوبة ، باب توبة القاتل وإن كثر قتله، رقم (2766).
(70) أصعر: أي أميل.
(71) تفارط الغزو: أي تقدَّم الغُزَاةُ وسَبَقوا.
(72) عِطفية: جانبيه. وفي الكلام إشارة إلى إعجابه بنفسه ولباسه.
(73) رجلاً مبيضاً: لابس البياض .
(74) بثي: حزني.
(75) الحائط: البستان.
(76) فسجرتها: أحرقتها.
(77) استلبث الوحي: أبطأ.
(78) أوفى على سلع: صعد عل جبل سلْع.
(79) أتأمم: أقصد.
(80) أبلاه الله: هنا بمعنى: أنعم عليه.
(81) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، رقم ( 4418)، ومسلم، كتاب التوبة، توبة كعب بن مالك وصاحبيه رقم (2769).
(82) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، رقم (1370)، وكتاب المغازى، باب قتل أبي جهل، رقم (3976،3979،3980،3981) ، ومسلم كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه ، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، رقم (3873،2874،2875).
(83) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، رقم ( 4274)، ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب ابن أبي بلتعة، رقم (2494).
(84) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور ، رقم (1283) ، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند أول الصدمة، رقم (926).
(85) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول...، رقم (438).
(86) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب، رقم (1410) ، ومسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب وتربيتها، رقم (1014).
(87) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب طيب الكلام، رقم ( 6023)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، رقم (1016).
(88) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب شراء الدواب والحمير، رقم ( 2097) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه، رقم (715).
(89) تقدم تخريجه ص (16) .
(90) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في قيام الرجل للرجل، رقم (5229)، والترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل، رقم (2755)، وقال: حديث حسن. وأحمد في المسند (4/93، 100) . وصححه الألباني وهو في صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري رقم (748).
(91) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة، رقم (4121)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد، رقم (1768).
(92) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في قيام الرجل للرجل ، رقم (5230)، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم (3836)، والإمام أحمد في المسند(5/253). وهذا الحديث حسنه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (3/431).
(93) إشارة إلى حديث جابر رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا فصلينا قعوداً، فلما سلَّم قال: ((إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم ، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا..)) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام ، رقم (413).
(94) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم، رقم (3209)، ومسلم، كتاب البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبدا حببه لعباده، رقم (2637).
(95) أخرجه الترمذي ، كتاب الزهد، باب منه، رقم ( 2414)، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة رقم ( 2311).
(96) أخرجه مسلم، كتاب الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنا، رقم (1696).
(97) أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفر، رقم (1955).
(98) تقدم تخريجه ص (88).
(99) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يُتقى من فتنة المال، رقم (6436،6437) مسلم، كتاب الزكاة ، باب لو أن لابن آدم واديَيْن لابتغى ثالثاً، رقم (1049).
(100) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسِّير، باب الكافر يقتل المسلم ثم يُسْلِم ، رقم (2826)، ومسلم، كتاب الجهاد ، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، رقم (1890).




* * *
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّوبة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: السيره النبويه والحديث :: شرح الحديث المقروء-
انتقل الى: