الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد، فيا أيها المؤمنون:
تحيا القلوبُ بذكر الصالحين من عباد الله تعالى، ولاسيَّما إذا كانوا خيارَ هذه الأمَّة ممَّن عايشوا التَّنْزيل، وصحبوا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونشروا الإسلام في بقاع الأرض، فتذاكُرُ أخبارهم وسِيَرِهم يُفْرِحُ قلوب المؤمنين، ويُغيظُ المنافقين، ويقود إلى التأسِّي بهم، وهذه قطوفٌ من سيرةِ أحدهم في فضله ومناقبه، وزهده وأخلاقه، وجهاده وتضحياته، وإيثاره وإنفاقه.
كان منَ السابقين الأوَّلين، أسلمَ قبل دخول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دار الأَرْقَم بن أبي الأَرْقَم، وهو من المهاجرين، غزا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقاد الصحابة والتابعين في معارك كبرى، ويكفي في فضله: أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد شهد له بالجنَّة.
ذلكم هو أبو عُبَيْدَة عامرُ بن الجَرَّاح؛ أمين هذه الأمَّة، رضيَ الله عنه.
روى أنس بن مالك - رضيَ الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ لكلِّ أمَّةٍ أمينًا، وإن أميننا أيتها الأمَّة أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح))؛ رواه الشَّيْخان[1].
وفي لفظٍ لمسلم: إنَّ أهل اليمن قَدِموا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلِّمنا السُّنة والإسلام. قال: فأخذ بيد أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح فقال: ((هذا أمين هذه الأمَّة))[2].
وقال عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه -: "ما تعرضتُ للإمارة، وما أحببتها، غير أنَّ ناسًا من أهل نَجْرَان أتوا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاشتكوا إليه عاملهم؛ فقال: ((لأبعثن عليكم الأمين)). قال عمر: فكنتُ فيمَن تطاول؛ رجاء أن يبعثني، فبعث أبا عُبَيْدَة"؛ أخرجه الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذَّهبيُّ[3].
وقال فيه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نِعْمَ الرجل أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح))[4].
لقد كان لهذا الصحابي منزلةٌ جليلةٌ، ومقامٌ رفيعٌ عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث سئلت عائشة - رضيَ الله عنها -: "مَنْ كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مستخلِفًا لو استخلَفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثمَّ مَنْ بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. ثم قيل لها: مَنْ بعد عمر؟ قالت: أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح. ثم انتهت إلى هذا"؛ رواه مسلمٌ[5].
ولما توفَِّي النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال أبو بكر يوم السَّقيفة: "قد رضيتُ لكم هذَيْن الرجلَيْن؛ فبايعوا أيهما شئتم". فأخذ بيد عمر ويد أبي عُبَيْدَة"[6].
إن هذا الفضل كلُّه جعل عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - يقول لمَّا وقع الوباء في الشَّام: "إن أدركني أَجَلِي وأبو عُبَيْدَة حيٌّ اسْتَخْلَفْتُه، فإن سألني الله - عزَّ وجلَّ -: لم استخلفته على أمَّة محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟ قلتُ: إني سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ لكلِّ نبيِّ أمَّةٍ أمينًا، وأميني أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح))[7]. لكنَّ أبا عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - توفِّي في خلافة عمر بالطَّاعون.
ولمَّا بلغ معاذ بن جبل أنَّ بعضَ أهل الشام استعجزَ أبا عُبَيْدَة أيامَ حصار دمشق، ورجَّح خالد بن الوليد عليه؛ غضب معاذٌ وقال: "أبأبي عُبَيْدَة يُظَنُّ، والله إنه لمن خيرة مَنْ يمشي على الأرض"[8].
وقال عمر بن الخطاب يومًا لجلسائه: تمنوا، فتمنّوا، فقال عمر: "لكني أتمنَّى بيتًا ممتلئًا رجالاً مثل أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح"[9].
ما بلغ أبو عُبَيْدَة هذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، وعند رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وعند الصحابة رضيَ الله عنهم، إلا بسَبْقِه في الإسلام، وتضحيته بكلِّ غالٍ في سبيل الله تعالى، مع زهدٍ في الدنيا، وإيثارٍ لدين الله تعالى على حظوظ نفسه، وحُسْنٍ في الأخلاق والسَّجايا.
أما الجهاد في سبيل الله تعالى فلقد شهد المَشاهد مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولما توفِّي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقيَ أبو عُبَيْدَة مجاهدًا خلافة الصديق - رضيَ الله عنه - وأوَّل خلافة الفاروق - رضيَ الله عنه - حتى كان رأس الجيش، وقائد المسلمين في وقعة اليرموك، التي استأصل الله فيها جيوش الروم، وقُتل منهم خَلْقٌ عظيمٌ.
لقد كان له - رضيَ الله عنه - خلال جهاده الطويل مواقفُ مشهودة، وبطولاتٌ محمودة؛ ثَبَتَ في أُحُدٍ مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين انهزم الناس، وهو الذي نزع بثَنْيَتَيْه حَلْقَتَي المِغْفَر من وجْنَتَي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسقطت ثناياه، وتألَّم من أجل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولكن ثَغْرَهُ حَسُنَ بذهابهما، حتى قيل: "ما رُؤيَ هَتْمٌ قَطُّ أحسن من هَتْم أبي عُبَيْدَة"[10]. هذا مَثَلٌ يضربه أبو عُبَيْدَة في محبَّته لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفدائه له بكلِّ شيءٍ.
ومَثَلٌ آخَر من تضحيات أبي عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - التي قلَّ أن توجد في البشر، هذا المَثَل يدلُّ دلالةً واضحةً على أن دين الله تعالى في قلب أبي عُبَيْدَة أهمُّ من أيِّ شيءٍ آخَر، فهو لا يوالي إلاَّ في الله، ولا يعادي إلاَّ فيه سبحانه وتعالى. ولقد صَدَقَ أبو عُبَيْدَة في موالاته ومعاداته مع الله تعالى، ولم يكن مجرد زاعم؛ بل حوَّل هذا الإيمان إلى واقعٍ محسوسٍ، حينما قَتَلَ أباه في غزوة بدرٍ على الشِّرك!
عن عبدالله بن شَوْذَب قال: "جعل أبو أبي عُبَيْدَة يتصدِّى لأبي عُبَيْدَة يوم بدرٍ، فجعل أبو عُبَيْدَة يحيد عنه، فلما أكثر، قَصَدَه أبو عُبَيْدَة فقتله؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - فيه هذه الآية: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22][11].
الله أكبر، يقتلُ أبو عُبَيْدَة أباه في أوَّل معركةٍ في الإسلام بين الإيمان والكفر؛ ليثبت أن دين الله تعالى لا هوادة فيه، وليُدخل الرُّعب في قلوب المشركين، وليُعْلِمَهم أن المؤمنين عندهم الاستعدادُ التام للتضحية بأقرب قريبٍ، وبكلِّ غالٍ ونفيسٍ في سبيل الله تعالى.
إن هذا لهو الإيمان واليقين، فكيف إذا انضمَّ إلى ذلك إيثارُ دين الله تعالى على حظوظ النَّفس وهواها، وهل يحقِّق ذلك إلا الخُلَّص من عباد الله تعالى؟!
روى موسى بن عقبة: "أن عمرو بن العاص استمدَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غزوة ذات السلاسل، فانتدب أبا بكر وعمر في سريَّةٍ منَ المهاجرين، فأمَّر نبي الله عليهم أبا عُبَيْدَة، فلما قدموا على عمرو بن العاص قال: أنا أميركم. فقال المهاجرون: بل أنت أميرُ أصحابك وأميرُنا أبو عُبَيْدَة، فقال عمرو: إنما أنتم مَدَدٌ أُمْدِدْتُ بكم. فلما رأى ذلك أبو عُبَيْدَة - وكان رجلاً حَسَنَ الخُلُق، ليِّن الشِّيمة، متَّبِعًا لأمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعهده - فسلَّم الإمارة لعمرو". وفي رواية: "أن المُغِيرَةَ قال لأبي عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه -: إن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَّرك علينا، وإن ابن النَّابغة ليس لك معه أمرٌ – يعني: عمرو بن العاص. فقال أبو عُبَيْدَة: إن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمرنا أن نتطاوع، فأنا أطيعه لقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -"[12].
رضيَ الله عن أبي عُبَيْدَة، كيف انتصر على نفسه وهواه، ودحر الشَّيطان، ولم يجعل للخلاف موضعًا.
إن هذا الانتصار على النفس هو الذي جعل جيوش الصحابة - رضيَ الله عنهم - تنتصر على قوى البغي والعدوان من المشركين العرب، والمنافقين، واليهود، وفارسَ والروم. كلُّ هذه الأمم حَطَّم الإسلامُ ظلمَ قادتها وساستها، ودخلت جماهيرهم في دين الله تعالى أفواجًا.
المشركون العربُ بشجاعتهم، والمنافقونُ بدسائسهم، واليهود بمكرهم وغدرهم، وفارسُ والرومُ بأعدادهم وعتادهم - لم يستطيعوا الصمود أمام جيش الإسلام؛ لأن أفراده انتصروا على أنفسهم، وقهروا رغباتهم لصالح الإسلام، فلم تُجْدِ فيهم الدَّسائس، ولم تنفع معهم المؤامرات والمكائد، فكانوا صفًّا واحدًا على أعدائهم، رغم قلَّة العدد والعتاد، لكن هذه القلَّة من أمثال أبي عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - قويةٌ من داخلها، متماسكةٌ في بنائها، تنهار أمامها قوى الأعداء مهما كانوا.
روى ابن المبارك: "أن عمر - رضيَ الله عنه - بلغه أن أبا عُبَيْدَة حُصر بالشام، وتألَّب عليه العدوُّ، فكتب إليه عمر:
أما بعد: فإنه ما نزل بعبدٍ مؤمنٍ شدَّةٌ إلا جعل اللهُ بعدها مخرجًا، وإنه لا يغلبُ عسرٌ يسرين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200].
فكتب إليه أبو عُبَيْدَة:
أما بعد: فإن الله تعالى يقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [الحديد: 20]، فخرج عمر بكتابه، فقرأه على المنبر، فقال: يا أهل المدينة: إنما يعرِّض بكم أبو عُبَيْدَة أو بي، ارغبوا في الجهاد"[13].
ولما كان أبو عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - مجاهدًا حاثًّا على الجهاد؛ كان متقلِّلاً من الدنيا، همُّه الآخِرة، لا يدَّخر شيئًا من المال، فقد أرسل عمر إلى أبي عُبَيْدَة بأربعة آلاف درهم أو بأربعمائة دينار، وقال للرَّسول: "انظر ما يصنع بها، قال: فقسمها أبو عُبَيْدَة، ثمَّ أرسل إلى معاذ بمثلها، وقال للرَّسول مثلَ ما قال، فقسمها إلا شيئًا يسيرًا، قالت له امرأته: نحتاج إليه، فلما أخبر الرسول عمر قال: الحمد لله الذي جعل في الإسلام مَنْ يصنع هذا"[14].
لقد كان أبو عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - زاهدًا في الدنيا، وكان زهده حقيقةً لا تصنُّعًا وتكلُّفًا، وليس زهدًا من قلَّة، بل عن غنىً وجِدَةٍ وسَعَةٍ؛ فلقد كان أمير الشام لعمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - وقدم عمرُ إلى الشام لتفقُّد أحوال الناس، فقال لأبي عُبَيْدَة: "اذهب بنا إلى منزلكَ. قال: وما تصنعُ عندي؟ ما تريد إلا أن تُعصِّر عينيك عليَّ! قال: فدخل، فلم يَرَ شيئًا. قال: أين متاعُكَ؟ لا أرى إلا لِبْدًا وصَحْفَةً وشَنًّا، وأنت أميرٌ؟! أعندكَ طعامٌ؟ فقام أبو عُبَيْدَة إلى جَوْنَةٍ، فأخذ منها كُسَيْرَاتٍ؛ فبكى عمر، فقال له أبو عُبَيْدَة: قد قلتُ لكَ: إنك ستعصِّر عينيكَ عليَّ يا أمير المؤمنين، يكفيك ما يبلغك المقيل. قال عمر: غيَّرتنا الدنيا كلَّنا غيركَ يا أبا عُبَيْدَة"[15].
فيا لروعة تلك النفوس العظيمة التي ملكها أصحابها، فخطموها وألزموها كتابَ الله تعالى وسنةَ رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يكترثوا بالدُّنيا وقد حُطَّت عند أقدامهم، وتملَّكوها بأيديهم؛ وبذلك دانت لهم الأرض، وفتحوا البلدان.
فاللهم ارضَ عنهم وأرضهم، اللهم إنا نُشْهِدُكَ على محبَّة أصحاب نبيكَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - اللهم إنا نتقرَّبُ إليك بذلك، ونتقرَّبُ إليك ببغض من أبغضهم، فارضَ اللهم عنهم، واحشرنا في زُمْرَتهم، واجمعنا بهم في دار النعيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة:100].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله؛ فهو المستحقُّ للحمد وحده، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فالتقوى جماع الأمر كله، وما نال أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما نالوا إلا بتقوى الله تعالى.
أيها الإخوة:
مع هذه المناقب العظيمة، والمواقف المشهودة، والعجائب التي لا تنقضي في سيرة أبي عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - هل رأى أعماله تلك، أو داخله العُجْبُ بها؟!
كلا؛ بل كان - رضيَ الله عنه - مُزْرِيًا بنفسه، محتقرًا لها، يرى أن التَّسابق في الفضل إنما يكون بالطَّاعة؛ فيقول - رضيَ الله عنه -: "يا أيها الناس: إني امرؤٌ من قريش، وما منكم من أحمرَ ولا أسودَ يَفْضُلُني بتقوى إلا وَدِدْتُ أنِّي في مسلاخه"[16].
وبالرغم من أعماله الجليلة، وسَبْقِه في الإسلام، وجهاده الطويل؛ فإنه لم يأمن مكر الله تعالى، وكان مع رجائه في الله تعالى خائفًا منه، يقول - رضيَ الله عنه -: "وَدِدْتُ أني كنت كبشًا، فيذبحني أهلي، فيأكلون لحمي ويشربون مَرَقِي"[17].
يقول هذا أبو عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - ويخاف هذا الخوف منَ الله تعالى، وهو مَنْ هو، صحبةً لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسابقةً في الإسلام، وزهدًا في الدنيا، وجهادًا في سبيل الله تعالى، فما عسانا أن نقول نحن وإيماننا ضعيفٌ، وأعمالنا قليلةٌ، وحرصنا على الدُّنيا كما نرى، وإذا عملنا عملاً فيه ما فيه من القصور والمخالفات؛ تعاظمنا ذلك في أنفسنا، كأننا نمنُّ على الله تعالى بعبادته، ونحن نعصيه وهو يعطينا؟! فغفرانك اللَّهمَّ.
وإذا كان كبارُ الصحابة، وخيار الأمَّة يُزْرُونَ بأنفسهم، ويحقِّرون أعمالهم، فنحن أوْلى بهذا الإزراء والتَّحقير والمحاسبة، فهل نعقل ذلك، ونسير على الجادَّة حتى نوافي القوم؛ علَّنا نُحْشَرُ في زُمْرَتِهم؟! عسى أن نكون كذلك، ونسأل الله المغفرة والرحمة.
كانت تلك سيرة أبي عُبَيْدَة - رضيَ الله عنه - الذي مات بالطَّاعون، والطَّاعون شَهَادَةٌ؛ روى أبو سعيد المَقْبُرِيُّ - رحمه الله تعالى - قال: "لمَّا طُعِنَ أبو عُبَيْدَة قال: يا معاذ، صلِّ بالناس. فصلَّى معاذ بالناس، ثم مات أبو عُبَيْدَة، فقام معاذٌ في الناس، فحثَّهم على التوبة، ثم قال: إنكم أيها الناس قد فُجعتم برجلٍ، والله ما أزعم أني رأيتُ من عباد الله عبدًا قطُّ أقلَّ غمزًا، ولا أبرَّ صدرًا، ولا أبعدَ غائلةً، ولا أشدَّ حبًا للعاقبة، ولا أنصحَ للعامَّة منه؛ فترحَّموا عليه رحمه الله، ثم اصحروا للصلاة عليه، فوالله لا يلي عليكم مثلُه أبدًا.
فاجتمع الناس، وأُخْرج أبو عُبَيْدَة، وتقدم معاذٌ فصلَّى عليه، حتى إذا أتى به قبره؛ دخل قبرَه معاذٌ بن جبل وعمرو بن العاص والضَّحَّاك بن قيس، فلما وضعوه في لَحْده وخرجوا فشنُّوا عليه التراب - قال معاذ بن جبل: يا أبا عُبَيْدَة، لأُثنينَّ عليكَ، ولا أقول باطلاً أخافُ أن يلحقني بها من الله مَقْتٌ، كنتَ والله - ما علمتُ - منَ الذَّاكرين اللهَ كثيرًا، ومنَ الذين يمشون على الأرض هَوْنًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، ومنَ الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا، وكنتَ والله منَ المخبِّتين المتواضعين، الذين يرحمون اليتيم والمسكين، ويبغضون الخائنين المتكبِّرين"؛ رواه الحاكم[18].
فهل نعتبر يا عباد الله، ونجعلُ هذا الصاحب الجليل وأمثاله قدوةً لنا في الأعمال الصالحة، وقدوةً لأولادنا ومَنْ تولَّيْنَا، خاصةً مع انقلاب الموازين، واختلاط المفاهيم، التي جعلت القدوة أسافلَ الناس، وحثالةَ البشر، من أرباب الشَّهوات، وأهل الفسوق والعصيان.
إننا نرجو بتَذَاكُر أخبار هؤلاء الأعلام أن تحيا قلوبنا، وأن نعود إلى رُشْدنا؛ فنسير على الجادَّة التي ساروا عليها، والتي رسمها نبيُّ الأمَّة - صلَّى الله عليه وسلَّم - طريقًا إلى الجنَّة، فمَنِ ابتغى الجنَّة في غير تلك الجادَّة التي سار عليها القوم؛ فقد أخطأ الطريق.
ثم صلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم، كما أمركم بذلك ربُّكم.
[1] أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح رضيَ الله عنه (3744) ومسلم في فضائل الصحابة رضيَ الله عنهم باب فضائل أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح رضيَ الله عنه (2419).
[2] هذه الرواية لمسلم (2419).
[3] أخرجه الحاكم في معرفة الصحابة وصححه وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (3/266)، وجاء بنحوه من حديث حذيفة - رضيَ الله عنه - عند البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح - رضيَ الله عنه - (3745) ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح رضي الله تعالى عنه (2420).
[4] أخرجه أحمد (2/419) والترمذي في المناقب باب مناقب معاذ بن جبل وزيد ابن ثابت وأبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح - رضيَ الله عنه -م وقال: حديث حسن (3795) والحاكم وصححه وقال: على شرط مسلم ووافقه الذهبي (3/289 - 425) وصححه ابن حبان (7129).
[5] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضيَ الله عنه - (2385) وأحمد في فضائل الصحابة (204).
[6] أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (9758) وانظر: فتح الباري (7/69).
[7] أخرجه أحمد في المسند (1/18) وفي فضائل الصحابة (1287) وعمر بن شبه في تاريخ المدينة (3/886) وهو منقطع لأنه من رواية شريح بن عبيد وراشد بن سعد ولم يدركا عمر - رضيَ الله عنه -، ولكن للحديث شواهد منها حديث أنس - رضيَ الله عنه - المخرج في هامش (1).
[8] عزاه الحافظ في الإصابة لابن سعد وحسنه (3/589).
[9] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/413) وأحمد في فضائل الصحابة (1280) والحاكم في معرفة الصحابة (3/227-263) وقال الذهبي في التلخيص: "على شرط البخاري ومسلم" (5005).
[10] تهذيب الكمال (14/55) والنهاية لابن الأثير (5/242) وسير أعلام النبلاء (1/
.
[11] أخرجه البيهقي (2719) والحاكم (3/265) والطبراني في الكبير (1/154) برقم (360) وجوّد إسناده الحافظ في الإصابة (3/587).
[12] سير أعلام النبلاء (1/8-9) وجاء نحوه مسندًا مرسلاً عن عامر الشعبي أخرجه أحمد (1/196) وقال الهيثمي في الزوائد (6/206): "رواه أحمد وهو مرسل ورجاله رجال الصحيح" وضعفه الشيخ أحمد شاكر لإرساله في شرحه على المسند (1698) وانظر: زاد المعاد (3/387) والإصابة (3/588).
[13] أخرجه ابن المبارك في الجهاد (217) واللفظ له، وأخرجه مختصرًا مالك في الموطأ (961) وابن أبي شيبة في مصنفه (4/222) برقم (19486) وابن عبدالبر في الاستذكار (5/18) والحاكم وصححه وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (2/300-301).
[14] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/413).
[15] سير أعلام النبلاء (1/17) وعزاه الذهبي لسنن أبي داود برواية ابن الأعرابي.
[16] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ثابت البناني (7/116) برقم (34620) وابن سعد في الطبقات (3/412) وعزاه الحافظ لابن أبي الدنيا في الإصابة وجود إسناده (3/589).
[17] أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (20615) والبيهقي في الشعب (790).
[18] أخرجه الحاكم في معرفة الصحابة (3/263-264).