اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  سيرة حكيم الأمة أبي الدَّرْداء رضيَ الله عنه

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99985
 سيرة حكيم الأمة أبي الدَّرْداء رضيَ الله عنه   Oooo14
 سيرة حكيم الأمة أبي الدَّرْداء رضيَ الله عنه   User_o10

 سيرة حكيم الأمة أبي الدَّرْداء رضيَ الله عنه   Empty
مُساهمةموضوع: سيرة حكيم الأمة أبي الدَّرْداء رضيَ الله عنه     سيرة حكيم الأمة أبي الدَّرْداء رضيَ الله عنه   Emptyالخميس 6 يونيو 2013 - 16:05

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:
فإنَّ قراءة التاريخ، وتأمل سِيَرِ الغابرين، والاستفادةَ من علومهم وتجاربهم في الحياة؛ تنمِّي العقول، وتَصْقِل المواهب؛ ويكاد مَنْ فعل ذلك ألاَّ يخطئ أبدًا، وأن يكون الصواب والتَّوْفيق حليفه دومًا، ما دام مستضيئًا بنور الكتاب وهَدْي السُّنة النبوية؛ ذلك أنَّ الأحداث تتشابه، الصوابُ في حادثةٍ منها غالبًا ما يكون هو الصواب فيها كلِّها، والخطأ في واحدةٍ منها غالبًا ما يكون خطئًا فيها كلِّها. وما التاريخ إلا صُوَرٌ متكرِّرةٌ، وحـوادثُ متجددةٌ، تنتقل من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، والبشر حيالها يخطئون ويصيبون. لكن مَنْ قرأ تاريخ السابقين، ووقف على تجارِبهم؛ كان عنِ الخطأ بعيدًا، ومنَ الصواب قريبًا.
ومن هذا المنطلق؛ نحتاج إلى النَّظر في سِيَر الرِّجال وأحوال الماضين، لاسيَّما مَنْ ساروا على الطريق الصحيحة، ولم يحيدوا عنها قِيدَ أُنْمُلَة؛ حتى بلغوا المنزلة ونالوا الكرامة، رجال الصَّدر الأوَّل من هذه الأمَّة، الذين نشروا الإسلام، وصَدَقوا الوَعْد، وأوفوا بما عاهدوا؛ فرضيَ الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

أيها الإخوة:
وهذه دروسٌ من حياة أحدهم، كان مشهورًا بالعقل والحكمة، موصوفًا بالزُّهد والعبادة. أصبحت أقواله منارًا للباحثين، وطريقًا للسالكين، أسلم وشَهِدَ أُحُدًا وما بعدها[1]، وأخذ القرآن عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان من كتَّاب الوحي[2]. رحل في عهد عمر إلى الشام يعلِّم الناس القرآن[3]، ويُذْكَرُ أنَّه أوَّل مَنْ سَنَّ حلْقات تحفيظ القرآن، وجاء في بعض الروايات أنهم عدُّوا مَنْ في حَلْقَته، فإذا هم يزيدون على ألفٍ وستمائة قارئٍ يعلِّمهم القرآن[4].
ثم استعمل على القضاء؛ فكان أوَّل قاضٍ لدمشق، جاء الناس يهنئونه بالقضاء؛ فقال: "أتهنِّئوني بالقضاء، وقد جُعِلْتُ على رأس مَهْواةٍ مَزَلَّتُها أبعدُ من عَدَنَ أَبَيْنَ. ولو علم الناس ما في القضاء لأخذوه بالدُّوَل؛ رغبةً عنه وكراهيةً له، ولو يعلم الناس ما في الأذان لأخذوه بالدُّوَل؛ رغبةً فيه وحرصًا عليه"[5].
ذلكم أبو الدَّرْداء عُوَيْمرُ بنُ عامرٍ الأنصاريُّ الخزرجيُّ[6]، حكيم هذه الأمَّة كما في بعض المراسيل وأقوال السَّلف[7]. ثم كانت له أقوالٌ أكَّدت أن كلامَه كلامُ حكيم، قال - رضيَ الله عنه -: "كنتُ تاجرًا قبل أن يُبْعَث النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلما بُعِثَ محمَّدٌ؛ زاولتُ التجارة والعبادة؛ فلم تجتمعا؛ فأخذتُ العبادة وتركتُ التجارة"[8]. فهو - رضيَ الله عنه - لما رأى أن التجارة تزاحم العبادة، ورأى من نفسه عدم القدرة على جمعهما؛ أقبل على الأفضل.

ومنَ الناس مَنْ يستطيع الجَمْع بينهما، كما كان أبو بكر - رضيَ الله عنه - تاجرًا عابدًا عالمًا، وكذلك عبدالرحمن بن عوف - رضيَ الله عنه.
فالميزان: القدرة على الجمع بينهما، فمَنْ كان قادرًا فذلك أفضل، ومَنْ لم يكن قادرًا؛ فالعبادة في حقِّه أفضل[9].
كان أبو الدَّرْداء - رضيَ الله عنه - من علماء الصحابة وعبَّادهم، آخى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بينه وبين سلمان، فزار سلمانُ أبا الدَّرْداء، فرأى أمَّ الدَّرْداء متبذِّلة؛ فقال لها: ما شأنُكِ؟ قالت: أخوكَ أبو الدَّرْداء ليس له حاجةٌ في الدنيا. فجاء أبو الدَّرْداء، فصنع له طعامًا، فقال له: كُلْ. قال: فإني صائمٌ. قال سلمان: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل. قال: فأكل. فلمَّا كان الليل؛ ذهب أبو الدَّرْداء يقوم. قال: نَمْ. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نَمْ. فلما كان من آخِر الليل قال سلمان: قُمِ الآنَ. فصَلَّيَا. فقال له سلمان: إن لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. فأتى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فذكر ذلك له؛ فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صَدَقَ سلمان))؛ أخرجه البخاريُّ[10].

وأما عِلْمُهُ؛ فكما قال القاسمُ بن عبدالرَّحمن: "كان أبو الدَّرْداء منَ الذين أوتوا العلم"، وقال أبوذرٍّ لأبي الدَّرْداء: "ما حَمَلَتْ وَرْقاء، ولا أظلَّتْ خضراء - أعلم منكَ يا أبا الدَّرْداء"، ومن أجل علمه كان الناس محتاجين إليه، متزاحمين عنده، كما يُتزاحم على أبواب السلاطين. قال عبدالله بن سعيد: "رأيتُ أبا الدَّرْداء دخل مسجد النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومعه الأتباع مثل ما يكون مع السلطان، بين سائلٍ عن فريضة، وبين سائلٍ عن حساب، وبين سائلٍ عن شِعْر، وبين سائلٍ عن حديث، وبين سائلٍ عن معضلة"[11].
ثمَّ إنه كان مزكِّيًا لعلمه، يعلِّم الناس ويُقرئهم، وما أقبل الناس عليه إلاَّ لعلمه، ولأنه كان عاملاً بعلمه، فلا يَعْلَم شيئًا إلا عمل به على الفور. قال ابن إسحاق: "كان الصحابة يقولون: أتْبَعُنا للعلم والعمل أبو الدَّرْداء"[12].
لقد كان - رضيَ الله عنه - موصوفًا بالعقل والحكمة، حتى إن ابن عمر - رضيَ الله عنهما - يقول: "حدِّثونا عن العاقلَيْن؛ معاذٍ وأبي الدَّرْداء"[13].
ولا أدلَّ على عقله وحكمته من أنه كان يُديم التفكُّر والاعتبار.
سُئلت أمُّ الدَّرْداء: "أيُّ عبادةِ أبي الدَّرْداء كانت أكثر؟ قالت: التفكُّر والاعتبار"[14]. وكيف لا يكون دائم التفكر وهو القائل: "تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة"؟![15]

ومن حكمته - رضيَ الله عنه – ما رواه أبو قِلابة: "أنَّ أبا الدَّرْداء مرَّ على رجل قد أصاب ذنبًا، وكانوا يسبُّونه؛ فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قَلِيبٍ؛ ألم تكونوا مُسْتَخْرِجِيه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبُّوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم. قالوا: أفلا نُبْغِضُه؟ قال: إنما أبْغَضُ عمله، فإذا تركه فهو أخي"[16].
وقال - رضيَ الله عنه -: "إني لآمركم بالمعروف وما أفعله، ولكن لعلَّ الله يأجرني فيه"[17].
وكتب إلى خالد بن مسلم: "سلامٌ عليكَ، أمَّا بعد: فإنَّ العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه الله بغَّضه إلى عباده". ومن أقواله في العلم والتعلُّم قوله: "لنْ تكون عالمًا حتى تكون متعلِّمًا، ولا تكون متعلِّمًا حتى تكون بما علمت عاملاً. إن أخوف ما أخاف إذا وُقفتُ للحساب أن يُقال لي: ما عملت فيما علمت"[18].

وخاطب الناس قائلاً: "ما لي أرى علماءَكم يذهبون، وجهَّالكم لا يتعلَّمون؟! تعلَّموا؛ فإن العالم والمتعلِّم شريكان في الأجر"[19].
وجاءه رجلٌ فقال: أوصني: فقال: "اذكر الله في السَّرَّاء؛ يذكركَ في الضَّرَّاء، وإذا ذكرتَ الموتى فاجعل نفسكَ كأحدهم، وإذا أشرفتْ نفسُكَ على شيءٍ منَ الدنيا؛ فانظر إلى ما يصير"[20].
ومن وصاياه - رضيَ الله عنه - قوله: "اعبد الله كأنك تراه، وعدَّ نفسكَ في الموتى، وإياك ودعوة المظلوم، واعلم أن قليلاً يغنيك خيرٌ من كثير يلهيك، وأن البِرَّ لا يبلى، وأن الإثم لا يُنسى"[21].
ومن حِكَمه في المال والغنى قوله: "أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضولُ أموالٍ ينظرون إليها وننظر إليها معهم، وحسابها عليهم، ونحنٌ منها برآء"[22].
وقال: "الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنُّون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنَّى أننا مثلهم حينئذٍ، ما أنصفنا إخوانُنا الأغنياء، يحبوننا على الدِّين ويعادوننا على الدُّنيا"![23].

وحكمته - رضيَ الله عنه - لم تقتصر على أمور الدين؛ بل إنه كان حكيمًا حتى في أمور الدنيا وتصريف الأموال، ومن ذلك قوله: "أعوذ بالله من تفرقة القلب. قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يُجْعَلَ لي في كل وادٍ مالٌ"[24].
ومن حكمته أنه كان يقدم من الأدعية الأهم فالمهم، فقد أُوجِعَتْ عينُه حتى ذهبت؛ فقيل له: "لو دعوتَ الله؟ فقال: ما فرغتُ بعد من دعائه لذنوبي؛ فكيف أدعو لعيني؟!"[25].
ينضُّم إلى هذا الفضل والحكمة: كثرة ذِكْرٍ وتسبيحٍ، وقد ذُكِرَ عنه أنه لا يَفْتُرُ منَ الذِّكْر، قيل له: "كم تسبِّح كلَّ يومٍ؟ قال: مائة ألفٍ، إلاَّ أن تخطئ الأصابع"[26].
وكان يدعو لأصحابه كثيرًا؛ قالت أمُّ الدَّرْداء: "كان لأبي الدَّرْداء ستون وثلاثمائة خليلٍ في الله، يدعو لهم في الصلاة، فقلت له في ذلك؛ فقال: إنه ليس رجلٌ يدعو لأخيه في الغيب، إلاَّ وَكَّلَ الله به مَلَكَيْن يقولان: ولك بمثل، أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة؟!"[27].

ومن عجيب اعتباره: أنه في انتصارات المسلمين، يعتبِر بما حلَّ بالعدوِّ قبل أن يفرح بالنَّصر. قال جُبَيْر بن نُفَيْر: "لما فُتحتْ قبرص؛ مُرَّ بالسَّبْيِّ على أبي الدَّرْداء؛ فبكى؛ فقلت له: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: يا جُبيْر، بينا هذه الأمَّة قاهرةٌ ظاهرةٌ؛ إذْ عصوا الله فلقوا ما ترى، ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه"[28]. فلم تُنْسِهِ فرحة النصر الاعتبارَ بما حلَّ بالعدو لمَّا خالفوا أمر الله، ومَنْ مِنَ العباد يعتبِر في مواطن الفرح والسُّرور؟!
فرضيَ الله عنه وأرضاه، ما أكثر حكمته، وما أشدَّ اعتباره، ورضيَ الله عنِ الصحابة أجمعين، وجمعنا بهم في دار النعيم.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا غضبه فلا تعصوه، وخذوا من هَدْي الصالحين، واعتبِروا بأخبار الماضين.

أيها الإخوة:
كان أبو الدَّرْداء - رضيَ الله عنه - يحبُّ البقاء في الدُّنيا؛ ليتزوَّد منَ الأعمال الصالحات للآخِرة؛ قال - رضيَ الله عنه -: "لولا ثلاثٌ ما أحببت البقاء: ساعةُ ظمأ الهواجر، والسُّجودُ في الليل، ومجالسةُ أقوامٍ ينتقون جيِّد الكلام كما يُنتقى أطايبُ التَّمر"[29].
ولا زالتِ الحِكْمة على لسانه حتى في حال مرضه؛ فقد اشتكى مرَّةً؛ فدخل عليه أصحابه فقالوا: "يا أبا الدَّرْداء، ما تشتكي؟ قال: اشتكي ذنوبي. قالوا: فما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة. قالوا: أفلا ندعوا لك طبيبًا؟ قال: هو الذي أضجعني"[30].
وظلَّ - رضيَ الله عنه - يعظ الناس حتى في حال احتضاره وموته وقدومه على ربه، قالت أمُّ الدَّرْداء: "لما احتُضِرَ أبو الدَّرْداء جعل يقول: مَنْ يعملُ ليومي هذا؟ مَنْ يعملُ لمضجعي هذا؟"[31].

وبكى عند موته؛ فقالت له أمُّ الدَّرْداء: "وأنت تبكي يا صاحب رسول الله؟ قال: نعم، وما لي لا أبكي، ولا أدري علام أهجم من ذنوبي"[32].
توفِّيَ قبل مقتل عثمان - رضيَ الله عنه - وعن عثمان[33]، توفِّي ومعه شهادة بالإيمان من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد قال للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا: بلغني أنَّك تقول إن ناسًا من أمتي سيكفرون بعد إيمانهم. قال: ((أجل يا أبا الدَّرْداء، ولستَ منهم))؛ أخرجه الطِّبرانيُّ[34].

أيها الإخوة:
كانت هذه أجزاء من سيرة هذا الإمام الحكيم .. أجزاءٌ من أيامه وحياته، وعلمه وعبادته، وأقواله وأفعاله .. سيرةٌ من أنصع السِّيَر في جبين التاريخ، وصورةٌ من أجمل الصُّوَر التي حفظتها دواوين الإسلام؛ فهل يعقل أن يستبدل أهلُ الإسلام الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!
هل يعقل أن يستبدلوا سيرة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسيرة أصحابه - رضيَ الله عنهم وأرضاهم - بأخبار السَّاقطين والسَّاقطات، والتَّافهين والتَّافهات، من أهل التمثيل الخليع، أو الغناء الرَّقيع، أو اللاَّهين والرِّياضيين؟!

فمتى يستفيق الناس من غفلتهم متى؟ ومتى يدركون قدر كنوزهم ومدَّخراتهم التي حفظها الله تعالى لهم بتدوين علماء الإسلام وحفاظهم؟ فإدراك ذلك يعني استشعار المسؤولية، واستشعارُ المسؤولية سببُ نهضة الأمَّة ونصرِها على عدوِّها، وإن ذلك لقريبٌ متى ما أدَّى كلُّ فردٍ دَوْرَه، ومتى ما رُبِّيَتْ أجيالُ الأمَّة على أخلاق سَلَفَهِا وسِيَرهم، وما ذلك على الله بعزيز.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خير خَلْق الله، كما أمركم بذلك ربُّكم،،،
[1] اختلف في شهوده أحدًا، والراجح أنه شهدها ذكر ذلك ابن الأثير في أسد الغابة (4/307) والحافظ ابن حجر، وذكر أنه أبلى فيها حتى قال فيه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "نعم الفارس عويمر". انظر: الإصابة (7/183) وسير أعلام النبلاء (2/338) والحديث مرسل في الطبقات (7/392) والمستدرك (3/337).
[2] انظر: سير أعلام النبلاء (2/339).
[3] جاء ذلك في قصة طويلة أخرجها ابن سعد (2/356) والبخاري في التاريخ الصغير (1/41).
[4] انظر: سير أعلام النبلاء (2/346).
[5] أخرجه ابن سعد (7/275).
[6] وقع خلاف كبير في اسمه واسم أبيه فقيل: عويمر بن عامر، وقيل: عويمر ابن زيد، وقيل: عويمر بن قيس، وقيل: عامر بن مالك، وقيل: عويمر بن عبدالله، وقيل: عويمر بن ثعلبة... انظر: الطبقات (7/274) وأسد الغابة (4/306) والسير (2/335) والإصابة (7/183).
[7] كما في الحديث المرسل "حكيم أمتي عويمر" وقد ضعفه السيوطي في الجامع الصغير بعد أن نسبه للطبراني في الأوسط (3752) وكذا المناوي في فيض القدير (3/396) وكذا الألباني في ضعيف الجامع (2739). وأما أقوال السلف فمنها قول ابن عمر - رضيَ الله عنه -ما المخرج في هامش (13).
[8] أخرجه ابن سعد (7/275) وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (9/367).
[9] انظر: سير أعلام النبلاء ففيه كلام جيد حول ذلك (2/338).
[10] أخرجه البخاري في الصوم باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع (1968) والترمذي في الزهد باب (63) وقال: حديث صحيح (2413).
[11] أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/27).
[12] التاريخ الكبير للبخاري (7/77).
[13] الطبقات (2/350) والجرح والتعديل (7/27).
[14] الحلية (7/300) والزهد لابن المبارك (286).
[15] الطبقات (7/275).
[16] أسد الغابة (4/307).
[17] السير (2/345).
[18] الطبقات (2/357).
[19] شعب الإيمان للبيهقي (1196) وانظر: الحلية (2/212-213).
[20] الحلية (1/209) والسير (2/350).
[21] السير (2/350) وإحياء علوم الدين (3/110).
[22] الزهد لابن المبارك (592) والسير (2/350) وإحياء علوم الدين (2/146).
[23] السير (2/350).
[24] السير (2/348).
[25] السير (2/349).
[26] السير (2/348).
[27] السير (2/351).
[28] الحلية (1/217) وذم الهوى لابن الجوزي (211) والسير (2/351).
[29] السير (2/349).
[30] الطبقات (7/276) والزهد لابن أبي عاصم (134) وروي ذلك عن ابن مسعود - رضيَ الله عنه - كما مرّ في سيرته.
[31] السير (2/352).
[32] أسد الغابة (4/307).
[33] تاريخ دمشق لأبي زرعة (1/220) والسير (2/353).
[34] أخرجه الطبراني وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبدالله الأشعري وهو ثقة. انظر: مجمع الزوائد (9/367).


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
سيرة حكيم الأمة أبي الدَّرْداء رضيَ الله عنه
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  دروس من سيرة أبي عُبَيْدَة رضيَ الله عنه
»  لمحات من سيرة: عمرو بن العاص رضيَ الله عنه
»  أسدُ الله وسيِّد الشُّهداء حمزة بن عبدالمطلب رضيَ الله عنه
»  سيف الله المسلول: خالد بن الوليد رضيَ الله عنه
»  مقتل عمر رضيَ الله عنه

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: