يُمكننا القول بأن فقه المواجهة يتأسَّس على جُملةٍ من المعالم والمرتكَزات، التي وإنْ بدا أنَّ الأمة مُحتاجةٌ إليها في جميع أطوارها وتقلُّباتها،
فلا شكَّ أن الحاجة إليها تكون أعظمَ في أوقات المِحن والأزمات.
ويأتي على رأس هذه المعالم والمرتكزات ما يلي:•مهمة التغيير والإصلاح مسؤولية جميع أفراد الأمة:إن أبرزَ ما يقوم عليه فقهُ المواجهة هو أنه يُخاطب المجتمع كلَّه، بكافة
فئاته وشرائحه وطبقاته؛ فالتغيير والإصلاح، ودرءُ المخاطر، ومُواجهة
التحديات، والنهوض بالأمة - أمانةٌ في أعناق الجميع، حُكّامًا ومَحكومين،
أغنياء وفقراء، دعاة ومدعوِّين، رجالاً ونساءً وأطفالاً؛ ((فكلُّكم راعٍ،
وكلُّكم مَسئولٌ عن رعيته))؛ رواه البخاريُّ عن ابن عمر، و((منرأى منكم
مُنكرًا، فليغيره))؛ رواه مُسلم عن أبي سعيد الخُدري، كما جاء في السُّنة
النبوية.
وليستْ مهمة الإصلاح قاصرة على الحكام أو العلماء أو غيرهما؛ فحديثُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بلِّغوا عنيولو آية))؛ رواه
البخاريُّ عن ابن عمر - لم يترك عُذرًا لمعتذرٍ، أو حُجَّة لمتباطِئ،
صحيحٌ أنَّ حُكَّام الأمة وعلماءها ومثقفيها دائمًا في مُقدِّمة الصفوف
والمسؤولية، أو هكذا يجب أن يكونوا، لكنهم في حقيقة الأمر يقودون الأمة
ويُوجِّهونها، ولا ينوبون عنها؛ لأنَّ التحديات المفروضة، وحَجم الجُهد
اللازم لدرئها، يَفوق إمكانات أفراد مَعدودين، أو طبقة من طبقات المجتمع.
فالحُكَّامُ والعلماء والمثقفون بالنسبة لعملية التغيير ونهضة المجتمع -
بمثابة العقل المدبِّر؛ فهو - رغم أهميته - يَفتقرُ إلى الجسد والجوارح،
حتى يُمكن تحويل الأفكار والخُططِ إلى بَرامج عملية، وواقعٍ ملموس، بحيث لا
تَبقى الأفكار مُعلَّقة في عالم الأحلام والأماني.
وهذا يَستدعي بالضرورة أن يَعملَ العلماء والمثقَّفون على الارتقاء بوعي الجماهير، وتبصيرهم بالمسؤولية المَنُوطة بهم، وبالأمانة التي يَشتركون في حملها؛
حتى لا تشغلهم ضُغوطات الحياة ومشاكلها عن أداء الواجب الذي يَتعيَّن عليهم
القيامُ به.
ويوم أن يَستشعرَ كلُّ فردٍ أنه مَسؤول، ومُطالَب ببذل أقصى ما يَستطيع
لرفع راية الإسلام ونهضة الأمة، ومِن ثَمَّ عليه أن يَعملَ جَاهدًا في سبيل
تحقيق ذلك، فإن النصرَ بفضل الله آتٍ، والفجر قادم، ووعد الله لن
يَتخلَّفَ عن عباده المؤمنين العاملين؛ {
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
قيل لأحدِ الدُّعاة بعد مُحاضرة ألقاها: مَضى لكم ثلاثون سنة وأنتم
تَتكلمون، فماذا صنعتم؟! وكان جواب الدَّاعية مَفحِمًا حين قال: وأنتم مَضى
لكم ثلاثون سنة وأنتم تسمعون، فماذا صنعتم؟! وهذا حقٌ؛ فإن على المستمع
كما على المتكلم مَسؤولية تحويل الكلام إلى عمل، والأفكار إلى وقائع، وإن
اختلفتْ درجة المسؤولية
[1].
تقوية الصفّ الداخلي للأمة:أظنُّ أننا لسنا بحاجة للتدليلِ على أننا في الظرف الراهن نَحتاج أكثرَ من
أيِّ وقتٍ مضى إلى ما يُجمِّع لا ما يُفرِّق، إلى ما يُقوِّي لا ما يُضعِف،
إلى رَصِّ الصفوف، وجَمع الكلمة، وتَقوية البناء الداخليِّ للأمة؛ فليس
أضرُّ على المسلمين من فَساد ذاتِ البين، وتَنازعِ الأهواء، ودَعوى
الجاهلية (العصبيَّة)، وقد سمَّى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فساد
ذاتالبين بالحالقة، فقال في حديثه الشريف: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة
الصيامِ والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى، قال: ((إصلاحُ ذات البين، وفسادُ
ذات البين: الحالقة، لا أقول: الحالقة التي تَحلقُ الشعر، ولكن تحلق
الدين))؛ رواه أبو داود والترمذيُّ.
لذلك؛ حذَّرَنا الله - سبحانه - من التنازع والفُرقة واتَّباع الأهواء؛ لأنَّ ذلك يُذهب بقوة المسلمين، ويَجعلهم مَطمعًا لمن يَتربَّص بهم،
وغنيمة سهلة لمن يَتحيَّن الفرصة من وقت لآخر؛ ليضربَ ضربته، ويُصيب من
الأمة ما لا يستطيع أن يصيبَه منها في حال قوتها واتحاد كلمتها؛ فقال –
تعالى -: {
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ
وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ
اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
وفيما يتَّصلُ بتقوية الصفِّ الداخليِّ للأمة، يَجب أن نعملَ على تحقيق أمرين في غاية الأهمية:1- ترسيخ الوَحْدة بين المذاهب والفِرَق والقَومِيَّات في العالم الإسلاميِّ، وسدِّ الفجوة التي تتَّسعُ بينها بفعل عوامل شتى لا مَجال للتفصيل فيها في
هذا المقامِ، فأمام التحديات التي تُفرَض على المسلمين جميعًا، ولا
تَستثني منهم فصيلاً أو مذهبًا؛ فإننا في أشدِّ الحاجة لمواجهة هذه
التحديات إلى وَحْدة تَستوعبُ في طيَّاتها وثناياها الانتماء المذهبيَّ
والعرقي والطائفي؛ لنصنعَ معًا لُحْمَةً قويَّةً مُتماسكة؛ لأنه إذا كانت
الأمة مُهدَّدة في وجودها وثوابتها، فلا أقلَّ من أن نكون على مُستوى
التحدي، ونعمل على تَمتِين الصفِّ الداخليِّ، والاجتماع على الأصول
والثوابت، وطرحِ الخلافات، وعدم إعطاء الفروع والجزئيات أكثر مما تستحقان،
بحيث لا نتعامى عن الاختلاف فى الأصول بحجة جمع الكلمة وتوحيد الصف، فلا
فائدة فى وحدة أو توحيد على اعتقادات باطلة كاعتقادات الشيعة على سبيل
المثال، فهل نجتمع معهم وهم على ما هم عليه من سب الصحابة وتحريف القرآن؟!،
إن هذا لهو الضلال بعينه، وليس توحيدًا للصف، بل هو توهين للصف، وتضييع
للإسلام من أساسه.
لطالما عانتْ أمتُنا جرَّاء هذه التصنيفات، ويَبدو أنها ستَظلُّ أعوامًا
أُخرى تُعاني وتقاسي؛ لأن الاستبدادَ في الداخل والمؤامرات في الخارج
يُغذِّيان هذه الانقسامات، ويُحاولان ما وسعهما الجهد أن يجعلا الفُرقة
والتشرذم أصلاً وقاعدة، وسدًّا منيعًا يقف دون تَواصلٍ جادٍّ، وتفاهم
مشترك، يُعلي مصلحة الأمة والجماعة فوق المصالح الآنيَّة والمذهبية.
وبصورة أشمل، فإن مشروعَ التفتيت الدينيِّ والمذهبيِّ والفكريِّ الذي يُراد
ترسيخه في عالمنا العربي والإسلاميِّ، يَجعل من فُسيفساء الحضارة
الإسلامية، التي انصهرت فيها كلُّ التمايزات الدينية والسياسية
والعِرقيَّة، وصنعت أجملَ لوحةٍ حضاريَّة عرفَها التاريخ الإنسانيُّ، يجعل
من هذه الفُسيفساء ثَغرات وخُروقات في حَائط الصدِّ عن هُوية الأمة
وثوابتها، بعد أن كانت لِبنات قوية، تَحفظ للأمة تماسكها ووحدتها.
يذكر الأستاذ محمد السمَّاك أن عالمنا الإسلاميَّ يتألف من 190 إثنية قوميَّة، يتحدَّثون بمئات اللغات واللهجات الخاصة، ويَعيشون في حوالي 55 دولة
تَنتشر على طول 10 آلاف ميل (20% من مساحة العالم) من المحيط الأطلسي إلى
مُحيط الباسيفيكي، وهذا يَعني - كما يؤكِّد الأستاذ السمَّاك- أنه مَفتوح
أمام أمرين لا ثالث لهما: إما الوحدة من خلال الإسلام، أو التشرذُم من خلال
إثارة الخِلافات الإثنية والعرقيَّة واللغوية والمذهبيَّة بين شعوبه.
لقد أدرك أعداءُ الإسلام المتربِّصون به هذه الحقيقة، وضربوا على هذا الوتر
الحسَّاس، وبذلوا وسعهم وجهدهم؛ للنفاذ إلى قلب العالم الإسلاميِّ،
واستنزاف ثرواته، من خلال هذه الحقائق المتداخِلة، التي قد تَنقلب في أيِّ
وقتٍ - إذا لم نُحسن التعامل معها ومَزجها في سياقٍ واحد - إلى ثَغراتٍ
وخروقات يَحقِّقون بها أهدافهم وأطماعهم، ينقلُ الأستاذ السمَّاك عن إحدى
الدراسات الإستراتيجية الإسرائيلية قولها: إن التفوقَ العسكريَّ الإسرائيلي
لا يُمكن أن يكونَ أبديًّا، والتفوق من خِلال التحالفات الدَّولية يَخضع
لحُكم المتغيرات السياسية المتحرِّكة، الثابت الوحيد الذي يُمكن أن
يحقِّقَ الأمن الإسرائيليَّ على المدى الطويل وبثباتٍ هو ضَرْبُ الخصم من
الداخل، وتقسيمُه إلى دُويلات قوميَّة وطائفيَّة ومذهبية مُتصارعة، في
مَسيرة تُواكب التسوية السياسية الإقليمية التي انطلقتْ من مُؤتمر مدريد في
عام 1991م
[2].
2- تَصالحُ الأنظمة الحاكمة في عالمنا العربي والإسلاميِّ مع الشعوب، التي طالما مُورِسَ بحقِّها شتى أنواع القَهر والاستذلال، أو الاستخفاف -
حَسْبَ التعبير القرآني - فلا يُمكن للأمة أن تَدفعَ عن نفسها وهي مُنقسمة
على ذاتها إلى أنظمة غَاشمة مُستبدَّة، وشُعوب مُستضعَفة مُستذَلة، ولا
يمكن أن تقومَ لها راية وهي تُستنْزَف طاقاتُها، وتتبدَّد في حروب أهليَّة
وعداوات بَيْنيَّة، حتى لم تَعد تَعرف العدو من الصديق!!
إنني لا أتصوَّرُ أبدًا أن الأنظمة التي تَستأسدُ على شعوبها فقط، يمكن أن
تعملَ على حِفظِ حقوقِ الأمة ورقيِّها ونهضتها، بل سيكون همُّها بالدرجة
الأولى أن تَرعى أطماعَها ومصالحها الخاصة، وأن تُكبِّلَ إرادة الأمة،
وتُضعِف المؤسسات ذات النفوذ والتأثير في الجماهير؛ لأن من شأنِ هذه
المؤسسات أن تدافعَ عن المصالح الوطنية ضد أطماع الداخل والخارج على
السواء، وأن ترفعَ من وعي الجماهير بهذه الأطماعِ التي تَستهدف تركيعَها
واستلابها، بما يُهدِّد الأنظمة الحاكمة في شرعيتها - إن كان لها شرعية -
ويُدخلها في مواجهة مُباشرة مع الشعوب، تُضاف إلى مواجهتها وخصومتها مع
القوى السياسية والفكرية، وهذا ما تُحذِّر منه الأنظمة الحاكمة؛ لأنها
تُحاول أن تُجمِّل وجهها أمام الشعوب، ولو عن طريق التزييف والتزوير.
لقد لخَّص ابنُ خلدون في مقولته المشهورة: (
الظلمُ مُؤْذِنٌ بخرابِ العُمرانِ)
الآثارَ الكارثيَّة التي تَترتَّب على الظلم والاستبداد؛ فالاستبدادُ تَظهر وطأته على الإنسان والأشياء، وتَنطبع بصماته على العقول
والأفكار، فيُضمرُ الإبداع، ويُحْجِمُ المصلحون والمفكرون عن الإدلاء
بآرائهم؛ خَشية أن تصيبهم سَطْوته، ولا تَجد الناشئة والبراعم حينئذ مَنْ
يأخذ بيدها، ويُنير لها طريقَ العلم والحرية، هذا عدا ما يصيب البلاد
والعِباد من القَحط والفَقر، وتكدُّسِ الأموال في يد ذوي النفوذ والسلطان،
وما يَترتب على ذلك من زيادة الفَجوة بين شَرائح المجتمع، بما يفقده
توازنه، وتماسكه، وتراحمه، وإنسانيته.
إن عِبرة التاريخ تُؤكِّد لنا أنَّ دولة الإسلام في الأندلس ما كانت
لتَندثرَ، وتصير أثرًا بعد عين، بعد حضارة استمرتْ زُهاء ثمانية قرون -
لولا تَفرُّق المسلمين، وتشتُّتُ كلمتهم، وصراعاتهم الداخلية، حتى إن بعضهم
كان يستعينُ بالأعداء على إخوانه المسلمين! فأضحوا دُويلات مُمزَّقة،
وطوائف هَشَّة، لا قوة لهم ولا هَيبة، وهم الذين كانوا بالأمس القريب يدًا
واحدةً، ودَولة فتيةً، وحضارة زاهرةً، وتلك عبرةٌ لقومٍ يتفكَّرون.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] أين الخلل؟ د. يوسف القرضاوي، ص26، مكتبة وهبة، ط 6، 1997م.
[2] من ندوة مطبوعة بعنوان "الإسلام المستهدَف"، ص 42، 44، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1994م.