اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  فقه المواجهة.. معالم ومرتكزات (3/3)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100215
 فقه المواجهة.. معالم ومرتكزات (3/3) Oooo14
 فقه المواجهة.. معالم ومرتكزات (3/3) User_o10

 فقه المواجهة.. معالم ومرتكزات (3/3) Empty
مُساهمةموضوع: فقه المواجهة.. معالم ومرتكزات (3/3)    فقه المواجهة.. معالم ومرتكزات (3/3) Emptyالإثنين 13 مايو 2013 - 16:25

التأكيد على المرجعية الإسلامية:
لقد جرَّبتْ أمتُنا الإسلامية مَناهج مُتعدِّدة في التربية والثقافة
والاقتصاد والاجتماعِ، من الشرق تَارةً ومن الغرب تارةً أخرى، على امتِداد
القرنين الماضيين، منذ عَصر محمد علي، وبِداية الاحتكاك بالحضارة الغَربية
ومَناهجها في الفكر والثقافةِ والقانون، فلم تَجد الأمةُ في هذه المناهج
سوى مَسْخ مُشوَّه من البيئة الغربية وإشكالياتها، والتي نحن في غِنًى
عنها؛ لأن لنا مُقوِّماتٍ وأُسسًا تُخالف بشكلٍ جَذري ما تقومُ عليه
الحضارة الغربية المادية، التي صاغتها أفكارُ الإباحيَّة والحيوانية (لفرويد ودارون) وغيرهما.

فقد شَرعَ الله – سبحانه - لنا الإسلام دينًا ومَنهجًا وسُلوكًا،
وتَكفَّل - سبحانه - بحفظه، فلا يناله التشْويه والتبديلُ، وجعله خالدًا
على اختلاف الزمان والمكان، يُلبِّي مَصلحة الإنسان العاجلة والآجلة، على
مُستوى الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، في وسطيَّة واعتدال وتكامل.

لقد كان من أعظم آثار الغزو الفِكري، التي ما زِلْنا نُعانيها حتى وقتنا الحاضر: أنْ عَاشَ المسلمون مرحلة من (التِّيه الحضاريِّ)، و(الازدواج الفكريِّ)، و(التَّشتُّت النفسيِّ)؛
فلا هم حافظوا على تراثهم بنقائه وصفائه، واستفادوا مما فيه من إبداعات
متميِّزة، وإسهامات فِكرية رائدةٍ في كافَّة المجالات: الاجتماعية
والاقتصادية والتربوية والنفسيَّة، بل وفي علوم الكونِ والطب والرياضيات
أيضًا، ولا هم استطاعوا الاندماجَ في الحضارات الأخرى، ونقلها بخيرها
وشرها، وتعلُّم لغاتها والإبداع بها، مع أن ذلك غير مُمكن عقلاً وشرعًا؛
لأن التجارب الحضارية لا تُستنسخ، ولا تُنقل بالكليَّة، إنما تَتلاقح
وتَتفاعل، ويَجوز فقط أن يقتبسَ بعضُها من بعض بصورة ما، فلكلِّ بيئة
حضاريَّة خصائصُها المميَّزة، وإشكالياتُها الذاتية، وأيضًا حُلولُها التي
تَظلُّ وَقْفًا وحِكْرًا عليها؛ بحيث إنه ليس بالضرورة لهذه الحلول أن
تُؤدي عملَها بالفاعلية ذاتها إذا ما نُقلت إلى بيئةٍ حضارية أخرى ذات
إشكاليات مُغايرة كُليًّا أو جزئيًّا.

إن الإسلامَ هو الذي يستطيعُ - بوسطيَّته، وملاءمته للفطرة الإنسانيَّة،
وسلامته من التحريفِ، وأيضًا؛ لأنه منهج ربَّاني مُنزَّه عن أهواء البشر-
أن يَحشدَ الطاقات، ويَرصَّ الصفوف، ويجعل الإنسانَ يَبذلُ دمه وماله
وولدَه عن رضا وحبٍّ، ورغبة في مثوبة الله، ونصره على المعتدين الظالمين.

ومن يَنظرْ إلى تاريخ البلاد العربية، وعواملِ حضورها الثقافي والسياسيِّ
والاجتماعيِّ والاقتصاديِّ، يُدركْ بوضوحٍ أنَّ الإسلام هو الذي بَِعثَها
من مَوات، وجَمعَها من شَتات، وأقامها من رُكودٍ، حتى جعلها تطاول حضارتي:
فارس والروم، بل تلاشت هاتان الحضارتان والقوتان العظيمتان أمام قوة
الإسلام المستمدة من التأييد الرباني والنصر الإلهي، فأقام بالمسلمين الذين
لم يكونوا شيئًا فى ميزان القوى العالمية المادية دولة عظيمة مترامية
الأطراف وأقام بهم حضارةً في الأندلس استمرت زُهاء ثمانية قرونٍ، حَملتْ
فيها للإنسانية مَشاعل الفكرِ والعلم، وأصبح الإسلام ثقافة وحضارة للعربِ
حتى لغير المسلمين منهم.

ولذلك نقول: إن محاولةَ قراءةِ التاريخ، واستشرافِ المستقبل، ومُواجهة
التحدِّيات بعيدًا عن الإسلام - هذه المحاولة بالتأكيد تَنظر إلى الحقيقةِ
بعينٍ واحدة، وبالتالي فهي تُسقط رصيًدا ضَخمًا، ليس فقط من تاريخ الشعوب
العربية، بل من واقعها المعيش ومُستقبلها المأمول، على أنه يَجب أن نأخذَ
في الاعتبار أن الإسلام ليس فقط مُكوِّن من المكونات الثقافية للأمة
العربية، إنما هو أساس انطلاقها، ومصدر وَحْدتها، وموجِّه مصيرها.

ولسنا - بتأكيدِنا على المرجعية الإسلاميَّة، وترسيخ الاعتزاز بها - ندعو إلى الانْكِفاء على الذات،
ورفض الاستفادة من الحضارات الأخرى والتواصل معها، لكننا نلفتُ النظرَ إلى
أن لكلِّ أمةٍ من الأمم خصائص ذاتيَّة، ومَلامح تُشكِّل هُويتها، وتَصنع
ثقافتها وتَميُّزها، وهذا مما لا يجوز التفريط فيه؛ لأن الأمة تصير بدونه
مَسخًا مُشوَّهًا من غيرها، وتَفقد أصالتها وتفرُّدها، أما المشتركُ
الإنسانيُّ العام الذي أَسْهَم في تشكيله كلُّ حضارة من الحضارات، بحيث لم
يَعد قاصرًا أو حِكْرًا على أمة أو حضارة؛ فهذا هو محلُّ التواصل والتبادل
والتعاون[1].

قدرة الأمة على المواجهة وردِّ العدوان:
يجب أن نَعي تمامًا، وأن نُرسِّخ في عقول الناشئة: أن أمتَنا تَمتلك من
عوامل الصُّمود والثَّبات وأسباب النصر والتمكين، ما يَجعلها قادرةً على
مُجابهة التحديات، وردِّ العدوان، وأنَّ أمتنا قد تَمرضُ لكن لا تموت، وقد
تُهزم لكن لا تُسحقُ، وقد يُصيبها ما أصاب الأمم السَّابقة من الضَعف
والانكسار، غير أنها تَظلُّ الأقدر من غيرها على حشدِ الصفوف من جديد،
وطيِّ صفحة الهزيمةِ بسرعة لا نظيرَ لها في تاريخ الأمم والحضارات الأخرى.

إن أمتنا الإسلاميَّة تَمتلكُ من المقوِّمات الروحية والماديَّة ما يَجعلها
- بفضل الله - قادرةً على تجاوزِ مأزقها الحضاريِّ وواقعها العلمي
والتِّقَني المتخلِّف، فهي الأمة التي لديها الوحيُّ الصحيح الباقي؛ لأن
الله - سبحانه - هو الذي تكفَّل بحفظِ كتابه الكريم، ولم يَرضَ أن يَكِلَ
أمرَه إلى أحد من البشر، بينما الكُتب السماوية السابقة قد نالها التشويه
والتحريف، وفُقدتْ أجزاء كبيرة منها، وهذا يَعني بداهةً أن أمتنا هي الأمة
الموصولة بالسماء، والمؤهَّلة للقيام بالخِلافة في الأرضِ على النحو الذي
من أجله خَلقَ الله الإنسان، وسخَّر له الكائنات والأفلاك.

كما أنها أمةٌ استطاعتْ في غُضون سنوات معدودة من بَدْءِ انطلاقها أن
تُقيمَ تَجربة حضارية ورُوحيَّة وثقافية؛ ظلَّت تَبثُّ إشعاعَها لعشرة
قرونٍ ويَزيد، عَبْرَ مراكزها في بغداد والشام والقاهرة وقُرطبة والأندلس،
وما زالت لها آثار شاهدة إلى الآن تدلُّ على المستوى المتقدِّم الذي أحرزته
هذه التجربة الحضارية الفريدة.

ومن ناحية أخرى، فإنَّ العالم الإسلاميَّ يَبلغُ سكانُه مليارًا ورُبع المليار نَسمة،
ويَجري في تربته الزراعية الخصبة عددٌ كبير من الأنهار والبحار، إضافةً
إلى مَخزونه الهائل من البترول والغاز الطبيعيِّ والثروات المعدِنيَّة،
وكلُّ هذه الإمكانات المعنوية والمادية تُمثِّل - في حال توظيفها وتفعيلها -
مخزونًا استراتيجيًّا للنهوضِ والانبعاث من جَديد، وقاعدة صلبة يُمكن
البناء عليها والانطلاق منها.

وإذا أخذْنا في اعتبارنا الآياتِ القرآنية والأحاديثَ النبوية المبشِّرة
بانتصار الإسلام، والتمكين له في الأرض، وظُهور الطائفة المؤمنة على من
عاداها ووقف ضدَّ منهج الله، مِثل قول الله – تعالى -: {وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ
} [النور: 55]، وقول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم
-: ((ليَبلغنَّ هذا الأمرُ ما بَلغَ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت
مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ، أو بذلِّ ذليلٍ؛
عِزًّا يَعزُّ الله به الإسلام، وذلاًّ يَذلُّ الله به الكفر))؛ أخرجه
الإمام أحمد.

إذا أيْقنا بهذا الوعدِ الربانيِّ، وهذه البِشارة النبوية، فإن تأكيدنا على
قُدرة الإسلامِ على المواجَهة والنُّهوض، هو تأكيد لا يَنطلق من فَراغ أو
تَهويمات أو تمنيَّات فارغة، إنما ينطلقُ من حقائق ثابتة، وتاريخ له جُذور
مُمتدة إلى حاضرنا، كما يَنطلق - أيضًا - من حسابات مادية وأرقام لا تَكذبُ
ولا تَتجمَّلُ.

النقد الذاتي ومحاسبة النفس:
لقد مرَّتْ أمتُنا الإسلامية بالكثير من الأزمات المتلاحِقة والمتشابهة
عَبْرَ مراحلها التاريخية المختلفة؛ بَدْءًا من الفتنة بين الصحابة - رضي
الله عنهم جميعًا - والصراع الحادِّ بين الأمويين والعباسيين، وما تأسَّس
عليه من الاختلاف المذهبي البغيض، مُرورًا بسقوط الخلافة الإسلامية في
بغداد، ثم زوال دولةِ الأندلس بعد صراع الطوائف، ودسائس المُلْكِ العَضوض،
حتى سقطت الخلافة العثمانية، وتحوَّلت الدولة الإسلامية إلى دُويلات
مُفكَّكة، تَتناحر فيما بينها ولا تقوى أمام الأخطار الخارجية المتربِّصة،
التي تستهدفهم جميعًا دون استثناء، وغير خافٍ على أحدٍ أنَّ السقوط الثاني
للخلافة الإسلامية كان مُقدمة لما نُعانيه اليوم؛ من تفرِّق الكلمة،
وتَشتُّتِ الصَّفِّ، وضياع الهُوية، والاستجابة لمحاولات التغريب
والعَلْمَنة، وذَوبان الشخصية المسلمة في مَوجات الحَداثة والعَوْلمة.

ومع كلِّ هذه الأزمات، التي أخذ بعضُها بأيدي بعض، ونقلتْنا من سيِّئ إلى
أسوأ، لم نجد مَنْ يُحسنُ دراستها، والوقوف على أسبابها، واستخلاص العِبرة
منها، بل غفلنا عن إدراك سُننِ الله الثابتة في نُهوض الأمم وسقوطها،
وسادتْ (العقلية الاتِّكاليَّة)، العاجزة عن رؤية الأزمة في جذورها وأصولِها، وانتشرت نظرية (المؤامرة
التي تَرمي بالمسؤولية الكاملة على الآخرين دونَ توجيه النقد إلى الذَّات،
واستبْصار مَواطن الضَّعف، والعمل على سدِّ مواضع الخَلل، مع أنَّ الضعف
الذاتي - أو القابلية للاستعمار، كما يُسمِّيه مالك بن نبيّ - يُشكِّّل
العامل الأساسَ لقبول التأثير من الآخرين، والتجاوب مع مُؤامراتهم
ومُخطَّطاتهم؛ ولهذا كان القرآن حريصًا على لَفتِ الأنظار إلى أهمية (العامل الذاتي)، سواء في تحقيقِ النصر أو حُدوث الهزيمة؛ فقال – تعالى -: {أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ
} [آل عمران: 165]، وقال – سبحانه -: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

ولم يَكن بِمقْدور هذه العقلية الاتِّكاليَّة أن تَتعاطى بفَهم وعُمق مع ما يَعتورُها من نَكبات، وما يُصيبُها من أزمات؛ حتى تَطمئن إلى عدم الوقوع مرةً ثانية في نفس الحفرة، ولا تُلدَغُ من جُحرٍ واحدٍ مرتين، [2]
بل عَمِيَتْ عن عِبرة الأحداث، وتَغافلتْ عن قراءة التاريخ، الذي من
الممكن أن يَتكرَّر إذا ما تَوافرت الدَّواعي والأسباب التي كانت من وراء
حدوثه أول مرة، وبذلك فَقَدَ العقلُ المسلم شرطًا مُهمًّا من شروط البناء
الحضاري، واستئناف مسيرة النهضة، ألا وهو ممارسة النقد الذاتي[3] بما يستلزمُه من حُسنِ قراءة التاريخ، واستيعاب أحداثه، بما فيها من انتصارات وانكسارات، واستصحاب العِبرة منهما للحاضر والمستقبل.

يقول الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - في نصِّ بليغ يَستحقُّ منا أن نقفَ
أمامه بعناية وتدبُّر: "إننا لم نُحسن دراسة ما أصابنا من هزائمَ فادحة،
وما أقمنا حَواجز ضدَّ تَكرارِها، ولا يزال ناسٌ منا مَشغولين بأنواع من
المعرفة لا تضرُّ عدوًّا ولا تنفع صديقًا، وتيار الأحداث الزاخر يَلطمُ
الوجوه، ويَطوي جماهير بعدَ أخرى، ونحن لا نَربطُ النتائج بأسبابها، وما
فكَّرنا في دراسات ذكية جريئة لمعاصينا السياسية والاقتصادية
والاجتماعيَّة، ولا أدري: لماذا الخشية أو لماذا الجمود؟ هل مُستقبل أمة من مليار إنسان شيء هيِّن؟! هل النكسات التي عَرَتْ رسالتها غيرُ جديرة بالتأمُّل؟!"[4]
ويشرحُ الشيخُ الغزاليُّ رؤيتَه لمفهوم النقد الذاتي من خلال تاريخنا، وما
شَهِده من صُعود وهُبوط، ومدٍّ وجزْرٍ؛ فيقول: "أنا لا أعتبرُ التتار هم
مُسقطي الخلافة في بغداد، إن الخلافةَ أسقطتها من قبل قصورٌ مُتْرعة
بالإثم، مُتخَمَةٍ بالملذَّات الحرام، أنا لا أعدُّ الصليبيين هم مُسقطي
دولتنا في الأندلس، إن المُترفينَ الناعمين هم الذين أزالوا رايةَ الإسلام
عن هذه الربوع الخَضرة، إن ملوكَ الطوائف في الأندلس لم يَكونوا أبناءً
شرعيين لطارق بن زياد، ولا لغيره من الأبطالِ الذين باعوا لله أنفسهم،
فأورثَهم الأرضين، إننا نحن قبل غَيْرنا العَقَبَةُ الأولى أمامَ دين عظيم،
إنَّ التحدي الأول يَجيء من داخل أرضنا، ثم تجيء من بعده تحدياتُ الأعداء
التقليديين.

وقد نقلتُ في بعض ما كَتبتُ حديثًا يَجبُ أن نتدبره مَثنى وثُلاث ورُباع؛
عن ثوبان - رضي الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إن
الله زوى لي الأرضَ فرأيت مَشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغُ ملكُها ما
زُوي (جُمع) لي منها، وأُعطيت الكَنْزين: الأحمرَ والأبيضَ (معادن الأرض وثرواتها)، وإني سألتُ ربِّي لأمتي ألا يُهلكها بِسَنَة عامةٍ (قحط شامل)، وألا يُسلِّط عليهم عَدوًّا من سوى أنفسهم (أجنبيًّا)
فيستبيح بَيْضَتَهم، وإن ربِّي قال: يا محمد، إني قضيتُ قضاءً، فإنه لا
يُرَدُّ، إني أعطيتُك لأمتك ألا أهلكهم بِسَنَة عامةٍ، وألا أُسلِّط عليهم
عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيحُ بيضتَهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها، أو
مَن بين أقطارها (يعني أهل القارات المعمورة)، حتى يكون بعضُهم يُهلك بعضًا، ويسبي بعضُهم بعضًا))؛ رواه أحمد، والحاكم وصحَّحه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيُّ.

والحديثُ ظاهرٌ في أن مَصائبَنا من أنفسنا قبل أيِّ شيءٍ، وأنها تجيء
ابتداءً من فساد الحُكْمِ؛ كما قال - عليه الصلاة والسلام - في نهاية
الحديث: ((وإنما أخافُ على أمتي الأئمة المُضِلِّين))؛ أي: الحُكَّام
الفاسدين[5].

إن الظرفَ التاريخيَّ الذي تَمرُّ به أمتُنا العربية والإسلامية لم يَعد
يَحتملُ ترفًا فكريًّا، أو الانشغال بالفروع والجزئيات، أو صرف الجهود
والطاقات إلى أمور ليست ذات أولوية؛ فالمرحلة التاريخية التي تحياها أمتُنا
- بشهادة كثيرٍ من المؤرِّخين والباحثين - هي الأصعبُ والأشرس والأخطرُ في
تجربتها الحضارية؛ لأن الأمةَ تواجه تحدِّيات ومخاطر في كافة المجالات:
الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضًا على مستوى الفرد
والأسرةِ والمجتمع والدولة.

وأمام ذلك كلِّه لا مَفرَّ من التنادي والتواصي بالحق والصبر،
والمرابطة على ثُغور الوعي والإدراك، وتبصير شُعوبنا بما لها من حُقوق،
وما عليها من واجبات، وبما يُحيط بها وبدينها من فُرص ومَخاطر وإمكانات،
والعملِ على تحصين الأجيال الناشئة ضدَّ تيارات التغريب والعَولمة؛ وأيضًا
بثُّ الأمل في النفوس، وغَرس الثقة في نَصْر الله، ووعده الذي لا يَتخلَّف
عن عباده المؤمنين؛ عسى أن يستيقظ النائم، وينتبه الغافل، وينشطَ الراكدُ،
وعسى أن يَتداركَ الله - سبحانه - أمتنا بلطفِه ونصره، وما ذلك على الله
بعزيزٍ؛ فهو - سبحانه - القائل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].



ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] فيما
يتصل بالرؤية الإسلامية بشأن التلاقح بين الحضارات، وما يجوز نقله منها
وما لا يجوز؛ يجب أن نفرّق بين نقل العلوم التجريبية - التي هي محايدة
وثابتة- وبين فلسفتها وتطبيقاتها - التي تتغير وتتشكّل تبعًا لعقائد كل أمة
وثقافتها.. وقد عبَّر العلامة النمساوي محمد أسد
(ليوبولد فايس سابقًا) عن هذه الرؤية فقال: "فالمعرفة نفسها [أي: العلوم
التجريبية] ليست غربية ولا شرقية؛ إنها عامّة بالمعنى الذي يجعل الحقائق
الطبيعية عامّة. إلا أن وجهة النظر التي تُرى منها هذه الحقائق وتُعرض؛
تختلف باختلاف المزاج الثقافي في الشعوب.. [فهذه العلوم التجريبية] تتعلق
بملاحظة الحقائق، وبجمعها، وتحديدها، ثم استخراج القواعد المعقولة منها.
أما النتائج الاستقرائية.. أي فلسفة العلوم، فإنها لا تُبنى على الحقائق
والمشاهدة فقط؛ ولكنها تتأثر إلى حد بعيد جدًا بمزاجنا المتأصل فينا، أو
بموقفنا الحدسي من الحياة ومشاكلها.. [ومن هنا] فليست دراسة العلوم الحديثة
التجريبية هي المضرة بالحقيقة الثقافية في الإسلام؛ وإنما المضر هو روح
المدنية الغربية، التي يقترب المسلم بها إلى تلك العلوم" الإسلام على مفترق الطرق، ص 71، 72، ترجمة د. عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1984م.
[2] روى أبو هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين" (متفق عليه).
[3] يخشى
البعض من ممارسة النقد الذاتي متذرعًا بحجج كثيرة؛ منها: أن ذلك يفتح باب
النقد لمن يحسنه ومن لا يحسنه؛ وأن النقد لأفكار بعض العلماء والدعاة قد
ينسحب عليهم بالكلية ويكون بمثابة اتهام لهم؛ وأن هذا النقد قد يستغله خصوم
الإسلام في حربهم وشبهاتهم التي لا تنتهي ضد الإسلام وأهله. راجع الرد على
هذه الحجج في "أين الخلل" للدكتور يوسف القرضاوي، ص 32: 37.
[4] مجلة "الأمة" القطرية، ص12، عدد 69، رمضان 1406هـ.
[5] دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص11، 12، دار الشروق، ط1، 1997م.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فقه المواجهة.. معالم ومرتكزات (3/3)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  فقه المواجهة.. معالم ومرتكزات (2/3)
»  فقه المواجهة.. معالم ومرتكزات (1/3)
»  لا أود أن يصبح الخوف من المواجهة سمة في شخصيتي فماذا أفعل؟
»  المواجهة القتالية بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود
» بعض معالم يوم القيامه

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: