مرَّ التاريخ البشري عبر آلاف السنين بتحوُّلات كبيرة في أرْكان الحياة البشريَّة المتعدِّدة, ومنها
الفكريَّة والاقتِصاديَّة والاجتماعيَّة, وقد تمَّت هذه التحوُّلات بشكل
سلميٍّ حينًا, وبشكل عنيفٍ في أحايِينَ كثيرة, وعند فحْص الثَّمن الَّذي
دفعتْه الأُمم والشُّعوب كنتيجةٍ للتغيُّرات المفصليَّة، فإنَّ الباحث
الموضوعيَّ سيكتشِف أنَّ أقلَّ ضريبة من الدِّماء قُدِّمت في سبيل أعظم
تغْيير شهِدَته البشريَّة على امتداد وجودها، هو ما دفع في فترة البعثة
النبوية الَّتي ناهزتْ ثلاثةً وعشرين عامًا.
فمنذ سال أوَّل دمٍ لمُشرك بسهْمٍ من سعد بن أبي وقاص - رضِي الله عنه -
مرورًا بسرايا وغزوات النَّبيِّ الأكرم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّ
مَجموع مَنِ استُشْهِد من المسلمين مضافًا إليْه مَن قُتِل من أعدائهم لا
يتجاوَز ثلاثة آلافٍ، مهْما بالغْنا في العدد, علمًا بأنَّ المسلمين كانوا
دومًا في موقف المدافع عن النَّفس، أو النَّاصر لمستضعفٍ، أو المؤدِّب
لغادِر وناقض عهد.
صبَر المصطفى - عليْه الصَّلاة والسَّلام - على أذى قُريش واضطِهادِهم
ثلاثةَ عشرَ عامًا في مكَّة المكرَّمة, مانعًا بذلك حربًا أهليَّة لو أراد
الرُّكون إلى بني هاشم أو غيرهم, وصبر من موقع قوَّة على مؤامَرات ونفاق
عبد الله بن أبيٍّ لسنوات في المدينة المنوَّرة, رغْم أنَّ ابنَه عرض على
النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يقتُله بسيفه, لكنَّ النَّبيَّ
الكريم أبى قائلاً: ((لا أريد أن يقولَ الناس: محمَّد يقتل أصحابَه)).
وعندما ركعتْ مكَّة تحتَ قدمَيه وعشَرة آلاف سيفٍ ينتظِرون أمرًا منه، كان
القرار انتِصارًا للإنسانيَّة الَّتي هي جوهر الدَّعوة الإسلامية: ((اذهبوا
فأنتم الطلقاء)).
أين هذا من مَجازر الرجُل الأبيض، الذي أباد شعوب العالَم الجديد في الأمريكتَين، من الهنود الحمر وغيرهم؟!
أين سلوك محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ملايين الرُّؤوس المقْطوعة في ثورة البلاشفة الدمويَّة في 1917؟!
أين سلوك محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن مذابح فرنسا في الجزائر والمغْرب وتونس وسوريا؟!
أين سلوك محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن مجازر الإنكليز في دنشواي وفلسطين والعراق؟!
أين سلوك محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن مليون صيني ذُبِحوا فيما عُرِف بالثَّورة الثقافيَّة لماو تسي تونغ؟!
أين سلوك محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن قتْل أكثر من خَمسة ملايين
أفْغاني وعراقي بيد السوفييت والأمْريكان بالحرب والحصار؟!
مَن أراد أن يُحاكم الإسلام كدين، فليحاكم الرجال الممثِّلين لهذا الدين العظيم, هؤلاء
الرِّجال من أمثال الفاروق عمر صاحب العهْدة العمريَّة، ومواقفه المشْهورة
وعدله الأشهر, فليُحاكم صلاح الدين عندما فتح القدس, وليُقارن سماحة ونُبل
خلُق هذا القائد الفذّ بالسُّلوك الهمجي لغودفري وبلدوين عندما تفاخرا
بأنَّ دماء سبعين ألف مسلم قد بلغت الركب, وبسلوك ريتشارد الَّذي غدر
وأعْمل السَّيف في أسرى عكَّا بعد أن أمَّنهم على أرواحهم.
أنتم - يا حكَّام أوروبا والولايات المتَّحدة - أسياد الإرهاب وصنَّاعه,
وأنتم السَّبب في ردود الفعْل للشعوب المقْهورة والمستضْعفة, لقد ضربتم
حوْل الفقراء في هذا العالم حصارًا خانقًا بجوانبه الاقتصاديَّة
والسياسيَّة, فلم تتركوا مَجالاً للمحصور إلاَّ أن يصبح قنبلة من اللَّحم
والعظم، بعد أن كمَّمتم الأفواه, وجعلتُم العرْي فضيلة والحجابَ جريمة,
واللِّحى إرهابًا والرَّقص حضارة, والزنا حداثة والعفاف تخلُّفًا, لقد
حرفتم النَّفس الآدميَّة عن فطرتها التي أرادها الله, فارتدَّت عليكم شعلة
من نار وجحيم ودمار, ومَن زرع حصد, ومَن يبذر الشَّوك لا يجني الورد.
تقولون: إنَّ معيار العدالة في عالمنا اليوم هي الشَّرعيَّة الدَّوليَّة ومبادئ حقوق الإنسان, فلو ارتضيْنا ذلك معيارًا، فلماذا لا يطبَّق، وأنتم مَن يملك مقاليد القوَّة العسكريَّة والاقتصاديَّة؟!
كيف يمكن للعالم أن ينعَم بالسَّلام والأمن إن ظلم القاضي، وتواطأ الجلاَّد
على المظلوم وصاحب الحق؟! هل أمَرَ عيسى - عليه السلام - بذلك في
الإنجيل؟! هل أمَرَ موسى - عليه السلام - بذلك في التوراة؟!
والله إنَّ المسيح ليبرأُ منكم يا أيَّتها الدُّول التي تدَّعي أنَّها على دينِه, وليست
المسيحيَّة شجرة تُضاء في عيد الميلاد؛ لكنَّها منهج المسيح في نصْرة
المظلوم والوقوف في وجه الظَّالم, ومَن فهم غير ذلك، فهو أحْمق، أو ساكت عن
الحقِّ كشيطان أخرس.
أنتم - يا فرنسا وبريطانيا وأمريكا, يا مَن تملكون القوَّة المادّيَّة
اليوم - أمثولة الإرْهاب؛ لأنَّكم تنصرون الظُّلم والعدوان مع قدرتكم على
التصدِّي له, أمَّا محمَّد وشعوب محمَّد، فنحن أمثولة الإنسانيَّة وأنوار
العدالة والخير؛ لأنَّنا سُدنا العالم بالعدْل والحقِّ عندما كنَّا الأقوى,
وهكذا يحكم على الأشياء.