اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (2)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99980
المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (2) Oooo14
المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (2) User_o10

المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (2) Empty
مُساهمةموضوع: المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (2)   المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (2) Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 16:01

المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (2)


كتابة المصحف الرسمي:

الواقعُ أن النصَّ القرآني الذي يشكل المصحفَ الرسمي هو - بحالته الراهنة - نتيجةُ جهودٍ بدأت منذ حياةِ محمدٍ، وتابعَها بعد وفاتِه حكَّامٌ وعلماءُ ومفسِّرون على مدى قرنين.



ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الظروفَ التي أحاطت بإعدادِ هذا المصحفِ لغريبةٌ جدًّا؛ فرغم أن الرسالةَ التي أتى بها نبي الإسلام قد قُدِّمت في الواقعِ بوصفِها وحيًّا ذا مصدرٍ إلهي، فإنها لم تحظَ جميعُها بالتسجيلِ أثناءَ حياةِ محمدٍ قط[2].



وكلُّ الوقائعِ تجوِّز افتراضَ أن معظمَ نصوصِ الوحي كانت عند وفاتِه محفوظةً في الصدورِ، أما المكتوب فلم يكن أكثرَ من بعضِ نسخٍ جزئيةٍ راجعةٍ إلى حماسة فريقٍ من المؤمنين.



وهذه النسخُ المكتوبةُ على أساسِ نظامٍ في الكتابة جد بُدائِي، لم يكن مستطاعًا قراءتُها قراءةً صحيحةً، إلا إذا كان القارئ يَعِي النصَّ المكتوبَ في ذاكرتِه[3]. وبمبادرةٍ من الخليفةِ أبي بكرٍ قام أحدُ الناسخين - وهو زيدُ بن ثابتٍ الذي كان في خدمة محمدٍ - بجمعِ القرآنِ مما كان موجودًا في نسخٍ جزئيةٍ مختلفة، مضيفًا إليها كثيرًا من متفرقاتِ الوحي التي كانت محفوظةً فقط في الصدورِ.



ولم يكن لهذا المصحفُ - مع ذلك - صفةٌ رسميةٌ، بيد أنه انتَقَل بعد موتِ أبي بكرٍ إلى خليفتِه عمرَ، ثم إلى ابنةِ هذا حفصةَ.



ولم يستطع قطُّ هذا المصحف - عندما تمَّ - أن يزيحَ المصاحفَ الأخرى التي كانت في حوزةِ أصحاب السيِّدِ الذي مَضَى أو المبرَّزين في حاشيتِه مثل: علي، وأُبَي، وابن مسعود، وغيرهم، وهو ما يوضِّحه ما اضطُرَّ إليه عثمانُ- خليفةُ عمرَ - "من 23 هـ - 643 م إلى 30 هـ - 650 م"؛ من اتخاذِ قرارٍ بجمعِ القرآنِ في مصحفٍ رسمي.



وقد قام هذا الجمعُ الأخيرُ - بناء على الرواية الشائعة - على أساسِ مصحفِ أبي بكرٍ، الذي كان مودعًا عند حفصةَ.



والذي دفَع عثمانَ إلى هذا القرارِ، ما وقَع في الكوفة بين الجنودِ الذاهبين إلى القتالِ من اختلافٍ في قراءةِ القرآن.



ويُسْتخلَص من الرواياتِ المتضاربةِ التفاصيلِ، أن الخليفةَ قد شكَّل لجنةً ضمَّت زيدَ بنَ ثابتٍ صاحبَ الجمعِ الأولِ، كما أمر أن تكونَ النسخةُ المودعةُ عند حفصةَ هي الأساسَ، إلا أنه أشار بالاعتمادِ أيضًا على الشهاداتِ الشفويةِ أو المكتوبةِ، التي من شأنِها أن تؤدِّي إلى كتابةِ أكملِ مصحفٍ ممكِنٍ[4].



وهناك كثيرٌ من الأفكارِ التي تَطرَأ على الذهنِ: بعضُها خاصٌّ بالاختلافاتِ التي تُورِدها الرواياتُ المتعلِّقة بتشكيلِ هذه اللجنةِ، وبعضها خاصٌّ بالنياتِ المعلنةِ أو الخفيةِ وراءَ اختيارِ أعضائها.



ماذا كانت نيَّات أولئك القومِ؟ لا شكَّ أن نيَّاتِهم ابتداءً - وكذلك نيَّاتُ الخليفةِ - كانت ممتازةً؛ فإن كتابةَ مصحفٍ رسميٍّ من شأنِه القضاءُ على اختلافاتِ الأمةِ في قراءة القرآن من جرَّاء وجودِ كثيرٍ من المصاحفِ التي ليس لأيٍّ منها طابعٌ رسميٌّ.



وإذا كان عثمان - كما تصوِّره الرواية - قد اعتَمَد على مصحفِ أبي بكرٍ، فلم يكن ذلك مصادفةً، بل حسبةً سياسيةً؛ إذ لا بدَّ أنه وأعضاءَ اللجنةِ قد شعروا بأنه ما من مصحفٍ غيرِ مصحفِ أبي بكر - الذي نال رضا عمرَ - يُمكِنه أن يزيحَ المصاحفَ الأخرى، التي ليست لها هذه الأهمية[5].



وقد يضافُ إلى هذا الاعتبارِ اعتبارٌ ثانٍ ذو نتائجَ أخطرَ، ففي خلافة عثمانَ أخذت معارضةُ عليٍّ وأنصارِه تَتَبلور، وكان لهذه المجموعة أيضًا مصحفُها الذي كَتَبه عليٌّ لنفسه.



ولكي يتخلَّص عثمانُ واللجنةُ التي عيَّنها من هذا المصحفِ، فإنهم أَرَادوا أن يَظهَروا بمظهرِ الورثةِ الحقيقيينَ؛ وذلك باعتمادِهم في كتابةِ مصحفِهم على مصحفِ أبي بكرٍ.



وبمرورِ الوقتِ نُسِب لعثمانَ الفضلُ في جمعِ غالبية أفرادِ الأمة الإسلامية على النصِّ، الذي ربما كان في مصلحةِ حزبِه، لكنه أضحى بمساعدةِ الظروفِ المصحفَ الرسميَّ للمسلمينَ[6].



إذا قَبِلنا هذا، جاز إبداءُ أشدِّ التحفظاتِ تطرفًا على الطريقة التي اتَّبعتها هذه اللجنةُ، لا لأنها كان ينقصُها الحماسةُ أو الحذرُ أو الإحساسُ العميقُ بالمسؤوليةِ؛ فإن الرواياتِ تذكرُ لنا أن أعضاءَها كانوا يُبْدون كثيرًا من التكتُّمِ والحرصِ قبل أن يُصلِحوا أو يُضِيفوا شيئًا في النصِّ الذي أمر أبو بكرٍ بكتابتِه، بل لأنه كانت هناك صعوباتٌ لم يَكْفِ معها الضميرُ والنيةُ الطيبةُ، ولم يستطيعا كذلك أن يقلِّلا الضرر الناجم عن غياب المنهجِ النقديِّ الذي لم يخطر ببالِ أحدٍ حينذاكَ[7].



وبمُكْنَةِ اللُّغَوي الحديثِ[8] أن يُبصرَ في النصِّ الحالي هنا وههنا من الاضطرابِ والتذبذبِ ما يدلُّ في ذاتِ الوقتِ على نزاهةِ هذه اللجنةِ وعلى عجزِها عن حلِّ عددٍ من المشكلات، وهذه هي الحالاتُ الواضحة.



كذلك يُمكِن الافتراضُ أننا في كثيرٍ من الحالاتِ لم نعد قادرينَ على تتبعِ أوجهِ النقصِ المشابهة.



ألا يجوزُ لنا إذًا أن نتساءلَ عن دورِ المصادفة والمبادرة الفرديةِ، ونفوذِ بعض الشخصيَّاتِ في حسمِ الصعوباتِ المستعصيةِ؟



وبالفراغِ من هذا المصحفِ، لم تبْقَ إلا مسألةُ فرضِه على الأمةِ كمصحفٍ رسميٍّ، وقد اتخذَ الخليفةُ بهذا الصددِ إجراءينِ:

الأول: أَمْرُه بالقضاءِ على مختلفِ الموادِّ؛ ككِسَر الفَخَّار، وأكتافِ الحيوانات، وقِطَع الجلد التي كُتب عليها شذراتٌ من الوحي أثناءَ حياةِ محمد.



وهذا الإجراءُ الفائقُ الجسارةِ يُشِير إلى أي مدًى أوْغَلَ عثمانُ في محاولةِ فرضِ مصحفِه الذي يُعَدُّ - على قدرِ ما كان يسمحُ نظامُ الكتابةِ - نصًّا نهائيًّا.



أما الثاني: فإن الخليفة قد أمرَ بكتابةِ أربعِ نسخٍ، أو سبعٍ من المخطوطِ الذي فَرَغت منه اللجنةُ، وإرسالِها إلى الأمصارِ الكبرى في الإمبراطورية، وهي: مكة، والبصرة، والكوفة، ودمشق.



وثَمَّة إجراءٌ ثالثٌ - كان يجب أن يُتَّخَذ - وهو إلغاءُ المصاحفِ التي جُمِعت مع مصحفِ أبي بكر، لكن الرواياتِ تتضاربُ حولَ هذه النقطةِ تضاربًا لا يصعبُ فهم أسبابه:

• فمن جهةٍ أُودِع مصحفُ أبي بكر ثانيةً عند صاحبتِه حفصةَ.



• ومن جهةٍ مُنِع مصحفُ ابن مسعود على مضضٍ شديدٍ من جانبه، بيد أنه ليس لدينا دليلٌ على أن مثل هذا الإجراءِ قد طُبِّق على مصحفِ أُبَي.



وربما آثر حزبُ الخليفةِ - بما عُرِف عنه من حسٍّ سياسي - الإغضاءَ لكيلا يثيرَ عليه المعارضةَ الفعلية أو الكامنة.



ولا بدَّ أنه اعتمدَ على أن مرورَ الوقتِ في صالحِه، بيد أننا نُخطِئ إذا اعتقدنا أن مصحفَ عثمانَ قد فَرَض نفسَه على مجموعِ الأمة، دونما أيَّة مقاومةٍ.



ولا ريبَ في أن الكتَّاب المسلمينَ قد شوَّهوا الحقيقةَ حين جعَلوا دورَ عثمانَ حاسمًا في إعدادِ المصحفِ الرسميِّ؛ إذ ظلَّ النصُّ القرآني - حتى بعد هذا الخليفة - غيرَ وافٍ بجميعِ المتطلباتِ، وتَمَّ خلالَ الستَّ عشرةَ سنةً التاليةِ كثيرٌ من التحسينات، وبخاصةٍ حين طوَّر النُّسَّاخ العربُ نظامَ الكتابةِ المعروفَ وقتئذٍ[9].



وهنا لا يسعنا أن ننسى ما بادرَ به الحَجَّاج والي العراقِ من إجراءاتٍ.



أيًّا ما يكن الأمر، فإن عثمانَ - مع ذلك - هو صاحبُ الفضلِ الكبير في المساهمةِ في تجنب الأخطارِ الناجمةِ عن تعدُّد المصاحف.



وكذلك إليه - وإليه وحده - تَدِينُ الأمة الإسلامية بتثبيتِ نموذجِ كتابِها المقدَّس للأجيالِ القادمة.



الحالةُ الراهنةُ للقرآنِ، وما يتصل بها من مشاكل:

ينقسمُ القرآنِ - كما هو في المصحفِ العثماني - إلى مائةٍ وأربعةَ عشرَ قسمًا كلٌّ منها يسمَّى "سورة"، وهذا التقسيمُ يَرجِع إلى عهد محمد، وكلُّ قسمٍ من هذه الأقسام - هو في الحقيقة - تركيبةٌ مصطَنَعةٌ مكوَّنة من عدَّة نصوصٍ، وهذا التركيب - في معظم الحالات - يبدو أنه أيضًا من عملِ محمدٍ.



وفي غالب الأحيان نرى أن السورةَ الواحدة تضمُّ نصوصًا من مراحلَ مختلفةٍ؛ إذ المشاهَد أن نبي الإسلام كان يضمُّ نصًّا متأخرًا إلى آخرَ مبكرٍ، لا لشيء إلا لأن الثاني يكمِّل الأولَ، أو يعدِّله أو يُشبِهه مضمونًا.



ومثالُ سورةِ "البقرة"؛ حيث أُضِيفت الآية [237] إلى الاثنتَي عشرةَ آيةً السابقةَ؛ لأنها كلَّها تعالِج الطلاقَ - يُغنِي عن كثيرٍ مثلِه.



ويتكوَّن كلٌّ من هذه النصوصِ في داخلِ السورِ من وحداتٍ موزونةٍ موقَّعة كما في السجعِ، ويحسُّ الإنسانُ غالبًا كما لو أنها أبياتٌ منفصلةٌ، إلا أن أصالة هذا الإحساسِ غيرُ مؤكَّدة؛ لأننا أحيانًا ما نجد في بعضِ المخطوطاتِ القديمة وحداتٍ موزونةٍ ذاتِ إيقاعٍ، كلُّ ثلاثٍ أو خمسٍ أو عشرٍ معًا.



والمائة والأربعة عشر قسمًا الواردة في مصحفِ عثمانَ مرتبةٌ - بوجهٍ عامٍّ - ترتيبًا طوليًّا تنازليًّا ما خلا السورةَ الأولى "الفاتحة" التي - رغم عدمِ تجاوزِها تسعَ آياتٍ - تمثِّل ما يشبهُ "قانون الإيمان".



وهذا الترتيبُ العجيبُ - الذي ربما كان راجعًا لتأثيرٍ آرَامِيٍّ - موجودٌ في مصاحفَ أخرى غيرِ معتمدةٍ كمصحفِ ابن مسعود.



وقد رأينا كيف أن الترتيبَ التاريخيَّ للقرآنِ قد عَبَث به محمدٌ نفسُه جزئيًّا في داخل السور "15"، ثم كان من جرَّاء الترتيبِ المتَّبع في مصحفِ عثمانَ أن ازداد اضطرابًا.



ويمثِّل القرآن - بوضعِه الحالي - رسالةَ محمدٍ مقلوبة؛ فالسورُ التي يبتدئ بها لكونِها هي الأطولَ مكوَّنةٌ في الأغلبِ من آياتٍ نزلت في المدينة "622 - 632م"، وعلى العكسِ تَرجِع سورُ المؤخِّرة في الأغلب - وهي السور الأقصر - إلى بدايةِ الدعوةِ؛ أي: بعد حوالي سنة 612 م.



وقد تنبَّه العلماءُ والفقهاءُ المسلمون إلى الصعوباتِ الناجمةِ عن هذا الوضعِ؛ إذْ هم - انطلاقًا من الإشاراتِ الحقيقيةِ أو المتوهِّمة المتعلِّقة بأحداثِ الدعوة المحمديةِ - قد رَبَطوا بين الآياتِ وما تُشِير إليه.



فإذا وضعنا في تقديرِنا ما يُحِيط بهذه النصوصِ من إبهامٍ وما يغلِّف بعضَ الفتراتِ في حياةِ النبي من غموضٍ، وإذا أضفنا إليها قصورَ المنهجِ المتَّبع - فسوف نشعرُ بما في جهودِ المفسِّرين من تقصيرٍ عن متطلَّبات التاريخ.



وقد اضطلع المستشرقون في منتصفِ القرنِ التاسعَ عشرَ بهذه المشكلة على أسسٍ جديدة، وتوصَّلوا بفضلِ "نولدكه"، و"شفالي" لا إلى إعادة ترتيب "النصوصِ" القرآنية تاريخيًّا - فهذا مستحيلٌ - بل على الأقلِّ إلى إعادةِ ترتيبِ "السور" ترتيبًا يقوم في عمومِه على ما لحق دعوةَ مؤسسِ الإسلام من تطوُّر.



ولا يُمكِن أيَّ باحثٍ جادٍّ أن يفكِّر في دراسةِ أصول الإسلامِ مع إغفالِ النتائج التي توصَّلت إليها هذه المجهوداتُ الجادَّة.



كذلك لا يُمكِن أيَّةَ دارسةٍ أدبيةٍ للقرآنِ أن تكون مُرْضيةً إلا إذا توخَّت أن تتَّبع في المصحفِ الحالي المراحلَ المختلفةَ لدعوة محمد.

[1] من كتاب "Histoire de la litterature Arabe "لـ Regis Blachere ( ط. Librairie d' Amerique et d' Orient , Paris , 1964) / ج 2 / من ص 19 فصاعدًا.

[2] الروايات الموثقة المتواترة تقول عكس ذلك، فلماذا هذا الاجتراء العجيب على حقائق التاريخ؟

وماذا كان يفعل كتبة الوحي إذًا؟

وما تلك النصوص التي اعتمدت عليها اللجنة التي كلفت بجمع القرآن على عهد أبي بكر بين دفتي كتاب، إن لم تكن هي نصوص الوحي جميعه التي كان يسجلها كتبته أولاً بأول، حسب أمر الرسول - عليه السلام - وتوجيهه، والتي كانت محفوظة عنده - عليه السلام؟

[3] مع هؤلاء المستشرقين لا بد من أن يتمتع الإنسان بصبر أيوب، وألا يمل من تكرار البدهيات والحقائق التاريخية؛ بغية القضاء على الأثر الذي ربما خلفه تكرارهم المستمر للشبه الواهية، فإن الحديد لا يفله إلا الحديد.

ولذلك فلا بد من العودة ثانيةً إلى الرد على شبهة "نظام الكتابة البدائي"، فنقول - وبالله التوفيق -: إن مسألة الطريقة المتبعة في الكتابة هي مسألة اصطلاحية.

وأيًا ما يكن الأمر، فهل طريقة الكتابة في اللغة الإنجليزية في الوقت الحالي - في بريطانيا وأستراليا وأمريكا أعظم دول الأرض تقدمًا وعلمًا - أفضل كثيرًا من طريقة كتابة اللغة العربية على عهد النبي - عليه الصلاة والسلام؟

فهل هذا مسوغ للشك في دقة قراءة ما تكتبه هذه الأمم بها؟

ثم إن هذه الطريقة البدائية في الكتابة - على زعم هؤلاء المستشرقين - هي التي كانت متبعةً في: كتابة العهود السياسية، والرسائل السفارية إلى أعاظم ملوك الأرض، والمعاملات التجارية، والديون، وعقود الزواج، وأسماء الجنود، والموظفين وغير ذلك.

ولم يحدث لفترة طويلة أن ثارت بسببها أية مشاكل فيما حفظه لنا التاريخ.

وعندما لم تعد هذه الطريقة كافيةً في تجنب اللحن في القرآن بعد دخول الأعاجم أفواجًا أفواجًا في حظيرة الإسلام، أحدث المسلمون فيها التطورات المطلوبة؛ لمواجهة الظروف الجديدة، فكان النقط والشكل.

ولا شك أن هذه الطريقة - المزعوم أنها بدائية - كانت أنسب للعرب والمسلمين في ذلك الوقت من الطريقة المكتوب بها المصحف الآن بالنسبة للمسلمين اليوم؛ فالمسلمون القدماء لم يكونوا يعرفون إلا تلك الطريقة التي ليست أسوأ من طريقة كتابة اللغة الإنجليزية مثلاً - كما قلت قبل قليل - ومن ثم لم يكونوا يجدون في قراءة النصوص المكتوبة بها أية صعوبة، وبخاصة إذا كانوا قد حفظوا هذه النصوص حفظهم للقرآن الكريم الذي كان شغلهم الشاغل ليل نهار؛ إذ كان كل حياتهم، وكان الهواء الذي يتنفسونه.

أما نحن، فإن طريقة كتابتنا الحالية قد ابتعدت أشواطًا عن الطريقة التي كتب بها المصحف، "انظر التعليق [6] على الفصل الثالث من هذا الباب".

ومع ذلك، فإن حافظ القرآن في عصرنا - حتى لو كان قد نسيه - يكفيه أن يقع بصره على السطور، ولو من غير تدقيق، ليتذكر النص كما حفظه لأول مرة، وهو ما يحدث لنا نحن الذين حفظنا القرآن الكريم ونحن صغار؛ فمجرد إمساكنا المصحف، وفتحنا إياه على الصفحة المطلوبة، ومتابعة السطور من بعيد متابعة عامة - كفيل بعدم الوقوع في الخطأ، إلا إذا سها القارئ أو شت ذهنه، وذلك برغم الفرق الهائل بين درجة اهتمامنا بالقرآن ودرجة اهتمام المسلمين الأوائل به.

[4] انظر التعليق 9 على الفصل الثاني في هذا الباب.

[5] هؤلاء المستشرقون يعكسون أخلاقهم وأخلاق زعمائهم السياسيين على المسلمين الأوائل في مسألة مقدسة كمسألة جمع القرآن.

الأمر - ببساطة - أنه ليس من المعقول أن يعتمد الجمع الثاني على مصحف هذا الصحابي أو ذاك، وهي مصاحف قصد بها الاستعمال الشخصي، ولم تخضع لما خضع له مصحف أبي بكر من تدقيق شديد، قام به مجموعة من الصحابة الذين اشتهروا بحفظهم التام للقرآن، وإتقانهم الكتابة، وغير ذلك من الصفات اللازمة للاضطلاع بهذه المهمة المقدسة.

ونحن نعرف أن النسخة الشخصية لأي نص كثيرًا ما يصعب - بل قد يستحيل - قراءتها على غير صاحبها، الذي ربما يكون قد أضاف إليها ما يراه مفيدًا من تعليقات وهوامش.

[6] وأين ذهب مصحف علي - كرم الله وجهه - ومصاحف أنصاره؟ أوقد اغتصبها عثمان؟ ولنفترض أن عثمان قد اغتصبها، فهل يا ترى قد اغتصب أيضًا ما كانوا يحفظونه في صدورهم؟ إن أهمية هذين السؤالين تتضح إذا ذكرنا القارئ الكريم بالحقيقة التاريخية - التي هي أشهر من أن تنسى - حقيقة تولي علي الخلافة بعد عثمان، فإذا كان عثمان قد كتب مصحفًا يختلف عن مصحف علي وأنصاره، فلماذا لم يلغ علي مصحف سلفه ويفرض مصحفه هو بعد أن أصبح خليفة؟

[7] كان لهذه اللجنة منهجها النقدي، الذي على أساسه رفضت روايات لبعض الصحابة الكبار، ولم تأخذ بالمصاحف الشخصية التي كتبها هذا الصحابي أو ذاك لاستعماله الذاتي.

ومن ذلك أنها لم تكتف بالمكتوب وحده ولا بالمحفوظ وحده، بل كان يظاهر هذا "عن طريق شاهدين على الأقل" ذاك.

وهي في كل ذلك إنما كانت تستند إلى النسخة المكتوبة بأمر الرسول - عليه الصلاة والسلام.

[8] يقصد بلاشير بـ "اللغوي الحديث" هنا نفسه ونظراءه من المستشرقين، الذين لا يستطيعون أن ينطقوا حتى اسم الملاك "جبريل"، ولا اسم النبي "محمد" نطقًا صحيحًا، والذين يؤكد بعضهم أن الشعر الشرقي - الشرقي كله من غير استثناء: أقصاه ومتوسطه وأدناه - كثيرًا ما يشبه العيون الحوراء بالبيض.

لقد ناقشنا ملاحظات هذا "اللغوي الحديث" على أسلوب القرآن؛ فتبين لنا أنه لا يحسن فهمه، وإلا لما ترجم مثلاً قوله - تعالى -: ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18]؛ بمعنى: "أليست لعنة الله على الظالمين؟"، مما لا يسيغه الأسلوب العربي بحال، مع أن النحاة قد أفاضوا القول في "ألا" هذه، ووضعوا لها مصطلحًا خاصًا بها، هو "ألا الاستفتاحية".

[9] أرجو أن يعيد القارئ الكريم قراءة التعليق [8] على الفصل الحالي.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (2)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (6)
» المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1](4)
» المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (3)
» المستشرق Regis Blachereوحديثه عن القرآن[1] (5)
» المستشرق "بلاشير" وحديثه عن القرآن (2)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: