اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 المستشرق Regis Blachereوحديثه عن القرآن[1] (5)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99975
المستشرق Regis Blachereوحديثه عن القرآن[1] (5) Oooo14
المستشرق Regis Blachereوحديثه عن القرآن[1] (5) User_o10

المستشرق Regis Blachereوحديثه عن القرآن[1] (5) Empty
مُساهمةموضوع: المستشرق Regis Blachereوحديثه عن القرآن[1] (5)   المستشرق Regis Blachereوحديثه عن القرآن[1] (5) Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 15:47

المستشرق Regis Blachereوحديثه عن القرآن[1] (5)


سور المرحلة المكية الثالثة:

وهناك اثنتان وعشرون سورةً - استخرجها "نولدكه" و"شفالي" - تمثِّل ما نزل على محمدٍ من وحي خلال الأعوامِ الأخيرةِ من إقامته بمسقطِ رأسِه، وغالبًا ما نجدُها مختلطةً بسورِ المرحلةِ السابقة أو موضوعةً قبلها بقليلٍ في مصحفِ عثمان.



وهذه السورُ ذاتُ طولٍ شديدِ التنوع، مما يفسِّر تفرُّقها في المصحف، كما أنها أيضًا توليفاتٌ مركَّبة، ولأن غالبيتَها تتَّخذُ طابعَ مواعظَ ثلاثيةِ الأجزاءِ، فإن بإمكانِنا أن نتساءل:

أهذا اتجاه أصيل؟



إن الجواب بالنسبة لاثنتين منها بالإثبات، أما بالنسبة للأخرى فهذه الخطة هي - على العكس - نتيجة لإضافة أوْحاءٍ لاحقةٍ إلى أول السورةِ أو نهايتها.



وربما حقَّ لنا أن نظنَّ أن هذا الشكلَ الثلاثي له علاقةٌ بتسجيلِ النصِّ كتابةً.



ومن جديدٍ تظهرُ لفظةُ "الله"؛ دلالةً على الإلهِ بدلاً من اسم "الرحمن".



وهذه السورُ تُعَدُّ امتدادًا لسورِ المرحلة السابقة في الشكل ِوالمضمون معًا، ونشعرُ من خلال عدوانيةِ الردودِ بأن عداوةَ المعارضةِ المكِّية قد اتَّخذت طابعًا أعنف.



أما صور اليوم الآخر، فتظل في تراجع - وإذا ظهرت فإنها تكون مصغَّرة - أو تبدو على استحياءٍ كما في النص التالي:

• ﴿ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [الرعد: 5].



وثَمَّة استثناءٌ وحيد في سورة "الأعراف"، حيث يتناولُ الوصف العالَمَ الآخر، وعلى العكس تكون السيادة لموضوع "النبي الصارخ في البرِّيَّة"، وكثيرًا ما تضافُ إلى قصصِ: نوحٍ، وإبراهيمَ، ولوطٍ، وموسَى، قصصُ هودٍ وصالحٍ وشعيبٍ أنبياءِ عادٍ وثمودَ ومَدْيَنَ، وأحيانًا يأتي السرد، كما في قصة موسى من سورة "الأعراف" [ 101 - 154]، بحلقاتٍ جديدةٍ كتلك المتعلِّقة بما أصاب المصريِّين.



لكن الأمرَ في أغلبِ الأحيانِ يقتصرُ على تناولِ موضوعٍ معروفٍ.



وهكذا فإن وصفَ المواجهةِ بين موسى والسحرةِ، هو تكرارٌ للقصةِ الواردةِ في سورة "طه" [ 68 - 74]، و"الشعراء" [ 42 - 45] في خطوطِها العامَّة، وبنفسِ عباراتِها أحيانًا، مما يتولَّد عنه رتابةٌ، بل ضيق من هذا التكرار الزائدِ[2].



وهذه القصصُ التي نقرؤها في مصحفِ عثمان بوصفِها سلسلةً متصلةً تقريبًا، إنما تفصلُها في الواقع مسافاتٌ زمنيةٌ طويلةٌ أو قصيرةٌ.



إن محمدًا - باختصار - يَخْضَع هنا للقانونِ الذي يسري على كلِّ خطيبٍ شعبي[3]؛ فإنه لكي يقنعَ سامعيه ولكي يغلغلَ دروسَ الماضي في عقولِهم، كان لا بدَّ أن يلجأَ إلى التكرار.



وبنفسِ الطريقةِ التي يُتَناوَل بها موضوع "نبي البَرِّيَّة" في هذه السورةِ، يتأكَّد في النفوس أن مصيرُ نبي الإسلام هو مصير هؤلاءِ الرسل.



ومن أوضح الأمثلة في هذا الصددِ النصُّ التالي الخاصُّ بالنبي شعيبٍ:

• ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *...* فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 85 - 93].



إلا أنه لا يُمكِن - بناءً على ذلك - القولُ بأن هذه الادعاءاتِ هي مجرَّد تكرارٍ، بل إنها عنصرٌ من عناصرِ الدعوةِ أمْلَتْه طبيعيةُ الأحداثِ.



أما الهجوم على الكفار والحِجَاج ضدهم، فلم يكونا في هذه المرحلةِ الثالثةِ أقلَّ ظهورًا منهما في السور السابقة، ومن هنا كانت تلك الإعادات والتكرارات لنفس الفكرةِ، ونفس الحجةِ، ونفسِ التأكيد بصورة قلَّما تتغيَّر.



وعلى عكسِ الأناجيلِ يحتوي القرآنُ على أمثال قليلة، وفي أوْحاءِ المراحلِ السابقةِ لا نجدُ منها إلا خمسةً، أما في السور الحاليةِ، فيقابلنا منها نحو اثني عشر، وهي بعامةٍ قصيرةٌ وجافةٌ لدرجة الإجداب:

• ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 41].



وأحيانًا تظهر على هيئةِ نسقٍ أكثرَ منها وصفًا؛ وذلك لإبراز الفكرة المجرَّدة:

• ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 24- 27].



إلا أن هناك مع ذلك مثلاً واحدًا قد تطوَّر إلى صورة تتَّسم بالدقة والشاعرية:

• ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].



وبهذا العددِ الضئيلِ من الأمثالِ ومن خلالِ أسلوبِها يتأكَّد الانطباعُ العامُّ، بأن الدعوةَ كانت تَهدِف إلى فرضِ الإيمانِ وهزيمةِ الخصم - عن طريق الجدال وإفزاعه بالتهديد بعذاب الجحيم - أكثرَ من تنويرِه وإقناعِه بضلاله إقناعًا هادئًا[4].



لقد كان لا بدَّ لرسالةِ محمدٍ بطبيعتِها أن تتضمَّن منذ البدايةِ حشدًا من التوجيهاتِ موجَّهًا للمؤمنين، ومع ذلك فقد كان علينا أن نصلَ إلى سورِ هذه المرحلة قبل أن نجدَ لا توجيهاتٍ مبهمةً أو مفصَّلة، بل وصايا من نوعِ الوصايا المُوسَوية:

• ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 151 - 153].



كما يوجد أيضًا نصٌّ من هذا النوعِ في سورةٍ قد تكون سابقةً زمنيًّا.



وهذان الوَحْيَانِ الغَنِيَّانِ مضمونًا - ويُمكِنُنا أن نخمِّن ما استخلصه المفسِّرون وعلماءُ الدينِ منهما بعد ذلك - ليسا أقلَّ أهميةً من ناحيةِ الشكل أيضًا، فإنهما يَنُمَّان في الواقعِ عن وجودِ محيطٍ جديدٍ وأمةٍ سهلةِ الانقيادِ لرئيسٍ ديني، فضلاً عن لَفْتِ الانتباه إلى أفقٍ أرحبَ.



أما بالنسبةِ للأسلوب، فإن سُوَر هذه المرحلة الثالثة قد أبرزت الاتجاهاتِ التي كانت في الأَوْحَاء السابقة.



لقد اختفت الآياتُ الملتهبةُ اللاهثةُ، وانقضى زمن التهديدِ والتخويفِ باقترابِ الساعة، ولم تعد نبرةُ الكلامِ - حتى أثناء حُمُوِّ الجدال - تَشِي بالاندفاعِ، بل بالفكرةِ الموجهة المملوكةِ الزمام، كما يدفعُ النَّفَس الإلهي متلقِّي الوحي إلى الصيغِ والرواسمِ التي تجلب الضيقَ هنا أيضًا، وتظهر الفكرة منسجمةً في قالبها، وتطولُ العبارةُ التي تؤدِّيها، ولكنها تُضحِي بلا إيقاع.



وفي الوقت ذاتِه تصبحُ أهميةُ القافيةِ أو السجعةِ مبالغًا فيها، ومع ذلك يقلُّ عددُ القوافي المتناغمة، مع شيوع استخدامِ الصفاتِ المزدوجةِ المستعملةِ في أَوْحَاء المرحلة الثانية، كـ "العزيز الحكيم"، أو "العزيز الغفور"؛ ربما للتعويض عن ذلك.



وقد يجد من يقرأ القرآن مترجَما إغراء في الحكم على أسلوب هذه السور بأنها تعبير نثري لموضوعات تُنُووِلَتْ قبلاً تناولاً أكثرَ غنائيةً أو أكثرَ شاعريةً.



وهذا الحكمُ مصيبٌ في عددٍ كبيرٍ من الحالاتِ؛ إذ إن القصصَ السابقةَ التي يكثرُ فيها الإيحاء والإبهام من جرَّاء الحذفِ قد أخْلَت الطريقَ للَوْنٍ من القصص متَّصل الأحداث.



وهذا يظهرُ من المقارنةِ بين النصَّين التاليين اللذين ينتمي أوَّلهما إلى بدايةِ المرحلةِ المكِّية الثانيةِ، وثانيهما إلى المرحلة الثالثةِ:

• ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الذاريات: 24 - 36].



• ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [هود: 72 - 74].



وربما كان من الخطأ أن نعْزوَ إلى موسيقا الكلمات وحدَها[5] القيمةَ الأدبية لقَصَصٍ يُمكِن مقارنتُه بما سبق.



إن قيمةَ هذه القطعِ ترجعُ إلى ما فيها من: البساطةِ الفنيةِ، وإيراد التفصيلةِ في موضعِها، والتقاط الحركةِ الصادرةِ عن الشخصية.



وهذا الأمر يظهرُ بخاصة في سورة "يوسف"؛ فإنها إذا قُورِنت بالقصة المماثلة في سفر "التكوين" المُثقَل بالزوائدِ والاستطرادات تبدو أرقى؛ إذ إن أحداثَها تتطوَّر تطورًا يقظًا، وتخلو من كلِّ ما لا يُفِيدُ[6]، كما أنها تخضعُ للفكرةِ المعزِّية التي تؤكِّد أن صاحبَ الحقِّ منتصرٌ بإيمانه وإخلاصه.



ثم إن المقدرة على القصصِ ليست هي وحدها المستحقَّة للتقديرِ، بل يشاركُها أيضًا السماتُ الخطابية والأسلوبية.



والقارئ للآيات [57 - 91] من سورة "الأعراف" - التي تتناول قصص: نوحٍ، وهودٍ، وصالحٍ، ولوطٍ، وشعيبٍ - يَشْدَهُه التوازنُ بين هذه القصصِ الخمس، والتأثير الناتج من تكرارِ هذه اللازمةِ في اثنتينِ منها: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [الأعراف: 78 ، 91].



وأخيرًا ففي هذه الأَوْحَاء، حيث تتولَّد الرتابةُ عن هذا التكرارِ لا نَعْدمُ أن نجدَ مثلَ النصِّ التالي:

• ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [يونس: 31 - 36].



وإلى جانب التنوعِ الأسلوبي ما بين استفهامٍ وتأكيدٍ قاطعٍ مُعْجِب، فإننا نلاحظ توثُّبَ الفكرة التي تدفعُ الخصمَ أمامها وترهقُه غيرَ تاركةٍ له وقتًا للرد أو لاستجماعِ قواه، فههنا بلاغة عفويةٌ تظهرُ حتى في الترجمةِ.

[1] من كتاب "Histoire de la litterature Arabe "لـ Regis Blachere ( ط. Librairie d' Amerique et d' Orient , Paris , 1964) / ج 2 / من ص 19 فصاعدًا.

[2] تناول بعض الدارسين المسلمين هذه القصص، التي يبدو أنها في كل مرة تتكرر فيها يتم عرضها على نحو جديد يتطلبه الموقف الذي نزلت فيه.

ولو كان بلاشير صادقًا لأشار على الأقل إلى هذه الدراسات، حتى لو عقب عليها بأنها غير مقنعة.

[3] أرجو التنبه إلى هذه اللسعة الخبيثة! إن الرسول- صلى الله عليه وسلم - حين يلح على مبادئ دعوته إنما هو خطيب "شعبي"!

أما "بلاشير" ونظراؤه الذين يفعلون الشيء ذاته في أبحاثهم وكتبهم، فهم من صفوة الكتاب والمفكرين.

إننا لو خلصنا الحياة مما فيها من تكرار لانتهى عمر كل منا في ساعات.

إن لاعب الكرة يظل في كل تدريب يتدرب مثلاً على ضربة الجزاء حتى يتقنها، والتلميذ في المدرسة يدرس في المرحلة الإعدادية ما درسه في المرحلة الابتدائية مع شيء من التوسع والتفصيل، ثم يعيد دراسة ذلك في المرحلة الثانوية، ثم يكرره في الجامعة بمزيد من التفصيل وإدخال عناصر جديدة في كل مرة... وهكذا.

[4] وهل بين الكتب السماوية كتاب يخاطب العقل ويحاوره بالمنطق المبين، كما يفعل القرآن؟

إن القرآن من الغلاف إلى الغلاف دعوة إلى استخدام العقل والتفكير، بحيث إن من تضييع الوقت أن أحاول التدليل على هذا.

ولقد ألف عملاق الفكر العربي والإسلامي المرحوم الأستاذ العقاد في هذا الموضوع كتابًا بعنوان "التفكير فريضة إسلامية".

[5] الحمد لله أن اعترف بلاشير لأسلوب القرآن الكريم، إلى جانب موسيقا كلماته، بمزايا أخرى، "انظر التعليق 23 على هذا الفصل".

[6] الحقيقة أن كل قصص العهد القديم تعاني من هذه العيوب، وقد سلفت الإشارة إلى وجود تلك العيوب في قصة "الخروج"، انظر التعليق 22 على هذا الفصل".


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المستشرق Regis Blachereوحديثه عن القرآن[1] (5)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (6)
» المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1](4)
» المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (3)
» المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (2)
» المستشرق "بلاشير" وحديثه عن القرآن (4)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: