اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (6)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99980
المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (6) Oooo14
المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (6) User_o10

المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (6) Empty
مُساهمةموضوع: المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (6)   المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (6) Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 15:40

المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (6)


سور المرحلة المدنية:

إن الأَوْحَاء التي نزلت أثناء هذه المرحلة الأخيرة للدعوة - لتَعكِسُ بدقَّة كافَّة الهموم التي كانت تساور محمدًا والمصاعب التي كان عليه أن يقهَرها.



وبفضلِ كثيرٍ من الإلماعات التي لا تقبلُ المناقشة والتي يسهلُ تفسيرُها - يُمكِننا أن نتتبَّع الحوادثَ التي تدلُّ على الانتصارِ المثابرِ للإسلامِ وصاحبِه: من مجادلاتٍ مع قبائلِ اليهود، وفشلٍ في محاولة ضمِّهم إلى الحنيفية، إلى الحربِ في سبيلِ الله ضدَّ "الإخوة" القُدَامى بمكة، وأخيرًا انتصارِ الأمةِ المحاربةِ على جميع أعدائها، ثم الحملاتِ الأولى على حدودِ الأرض العربية.



وفي هذه النصوص أيضًا نجدُ حلاًّ للمشاكلِ المتعلِّقة بالأوضاعِ الشخصيةِ، والعلاقاتِ الدولية، والقانون الجنائيِّ، والروابطِ الاجتماعية بعامة.



إن الأَوْحَاء التي نزلت على محمد في المدينة من [622 م إلى 632م]، تشكِّل مادةَ أربعٍ وعشرين سورة. وهي بعامةٍ شديدةُ الطولِ، ولهذا وُضِعَت في أول مصحفِ عثمان.



ومع ذلك فإن بعض هذه السور - من جراء قصرها النسبي - قد وُزِّع على أمكنة أخرى.



وبسببِ محتوى هذه النصوصِ - وما فيها من موادَّ تشريعيةٍ بخاصةٍ - كان لا بدَّ أن تتمَّ كتابتُها بعد قليل من نزولِها إن لم يكن فوره، بيد أنه لا يوجدُ دليلٌ على أن ذلك الفرضِ[2] يَصْدُق على كلِّ الحالات.



لقد كان ضَمُّ الأَوْحَاء المتفرقة زمنيًّا يتمُّ بتجميع الأفكارِ التي تدورُ حولَ موضوعٍ مركزي.



وهكذا فإن الآيات [220 - 232] من السورة الثانية تتناول على التوالي الزواجَ، والأيمانَ بعامة [الآيات 224 - 225 ]، والإيلاءَ.



ومع ذلك فهناك حالاتٌ خاصَّة أو غير متوقَّعة استدعت نزولَ وحيٍ جديدٍ يُمكِننا أن نجدَها في كثير من السورِ.



مثال ذلك، الأحكامُ المتعلِّقة بالطلاق، والموجودةِ في ست سور.



وهنا أيضًا يعطينا القرآنُ انطباعا بالفوضى، إن الدوار ليصيبُنا ونحن نتصفَّح السورة الثانية إذا رحنا نُحْصي ما تناولته من موضوعاتٍ تنتقلُ فجأةً من توجيهاتٍ للمؤمنين إلى حِجَاجٍ ضدَّ اليهود، لنصلَ إلى أحكام تتعلَّق بالأطعمةِ المحرَّمة، فالقصاص، فالشهادة، فالصيام، فالزواج، فالطلاق... إلخ.



والشيء ذاته يَسْرِي على نصوصٍ أخرى تشريعية كانت قريبةَ الاتصالِ بالدعوةِ أو بالأحرى بالدعاية.



ونجد مثالاً على ذلك في السورةِ الثالثةِ من الآية 77 فصاعدًا، فإن الإشارة الواضحة إلى فشلِ محمد في أُحدٍ "624 م" يقطعها التحريم المعروف للقرضِ الرِّبَوي [الآية 125]، لتعودَ فتتَّخذ صورةَ التشجيع للمؤمنين. ما السببُ في ذلك؟ أهو نصٌّ وُضع في غيرِ مكانه؟

هناك فروضٌ كثيرةٌ محتملة، لكن يبقي الانطباع بوجود هذا التنافر العجيب[3].



ولقد كان على الأَوْحَاء المدنية أن تتكيَّف مع ألوان جديدةٍ من الفكرِ، فكانت الآيات تزدادُ باستمرارٍ ميلاً إلى الطولِ حتى لتبلغ الآيةُ الواحدة أحيانًا صفحة بتمامها.



أما الجملُ القصيرةُ المقفَّاة أو المسجوعةُ، فكانت كمثيلاتِها في المرحلةِ السابقة أو قريبةٍ من ذلك.



ومع هذا، فإن الحاجةَ إلى إتيانِها في نهايةِ مجموعةٍ من الجملِ كانت على أشدِّها، وإلا ما استطاعت هذه الجملُ أن تشكِّل وحدةً أسلوبية.



وإن الإنسانَ ليميلُ في كثيرٍ من الأحيانِ إلى مقابلة السورِ المدنيةِ بالأَوْحَاء السابقةِ عليها مباشرةً، وإن كان الانتقالُ من هذه إلى تلك لا يتمُّ في الواقع على التوِّ.



وفضلاً عن ذلك، فإننا نجد في سورة "البقرة" - التي تتكوَّن في معظمِها من نصوصٍ نزلت في المدينةِ - أوحاءَ أقدمَ وُضِعت هناك بلا سببٍ واضح.



وإذا كان لا بدَّ على الإطلاقِ أن نقابلَ هذه السور بالسورِ السابقةِ عليها، فإن هذه المقابلةَ تدورُ حول نقطةٍ واحدةٍ فحسب، وكثيرةٌ هي العظات الموجَّهة للمؤمنين في هذه السور، وكذلك المجادلات ضدَّ غير المسلمينَ، وهي تَجرِي على منوالِ السور السابقة. وقد يتغيَّر الخصومُ، فيُصبِحون اليهودَ بدلاً من مشركي مكَّة، ولكن النبرةَ والحماسةَ وتوفُّز الكلام هي هي.



أما الجديد في الأمر، فهو ظهورُ البنودِ التشريعية بدلاً من "الوصايا"، وهذه البنود مضغوطةٌ في نصوص جافَّةٍ تشبهُ موادَّ لائحةٍ قانونيةٍ، حيث تُذكُر الحالات المندرجةَ تحت كلِّ مادَّة، والاستثناءاتِ الضروريةِ، والعقوباتِ التي تقعُ على مخالفي القانون.



وهذه الأوحاء التي ليست لها أيَّة قيمة أدبية[4]، بل كلُّ قيمتِها في أنها تشكِّلُ القانونَ الإسلامي، ربما كانت أقدمَ الأمثلةِ على اللغة القانونية عند العرب.



لقد كان محمدٌ مشغولاً تمامًا بتوجيهِ أمتِه والكفاحِ ضدَّ الكافرين حين نزلت عليه - أثناءَ إقامتِه بالمدينةِ - أوحاءٌ تغلبُ عليها الاهتماماتُ العمليةُ، فكان من جرَّاء الاهتمام الزائد بالواقعيِّ من الأمور والمباشر منها أن اختفى الطابعُ الغنائي[5]، وإن كنا لا نَعْدَم أن نجد هنا أو ههنا شيئًا جِد ضئيلٍ من التوهُّج الجذَّاب الذي قد يَنصَهِر في بعضِ الأحيانِ في تسابيحَ وترانيمَ.



وقد يلوح أيضًا في نصوص حجاجية:

• ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 59 - 63].



وقد ترتَّب على هذا الوضعِ الجديد أن قصصَ الأنبياءِ العربِ: صالحٍ، وشعيبٍ، وهودٍ - لم تَعُدْ تظهر في السورِ المدنيةِ، وفي مقابلِ ذلك، فإن الحجاجَ ضدَّ اليهودِ ثم النصارى بعد ذلك - قد استتبع إيرادَ تفصيلاتٍ جديدةٍ تتعلَّق: بإبراهيمَ، وموسى، وعيسي.



وفي هذه السورِ لم تعد الوقائعُ القصصيةُ أشياءَ مستقلةً بنفسها، بل أصبحت وكأن المهمَّ هو الدرس أو العبرة التي يُمكِن استخلاصُها منها.



وهنا تبرز إحدى خصائص العقل العربي، ألا وهي الميل إلى التجريد[6]:

• ﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 112 - 115].



وأيًّا ما يكن مصدرُ هذه القصةِ، فمن الواضحِ أن ما يهمُّ محمدًا ليس هو المعجزةَ بقدرِ ما هو إدانة من يدَّعون الإيمان، ولكنهم ضعيفوه.



ومن الملاحظِ أن النصوصَ الأخروية كانت تقل تدريجيًّا طوالَ فترة الدعوة، وقد ظهَر هذا الطابعُ أجْلَى ما يكون في السورِ المدنية؛ إذ ليس هناك موضعٌ آخر يقلُّ فيه على هذا النحوِ التأكيدُ على عقيدةِ الجزاءِ الأخروي.



ومع ذلك فهذا التأكيد - كما هو الحال قبلاً أو أكثر - يقتصر على رواسمَ تتكرَّر دون تنويعٍ لدرجة الكِظَّة.



حقًّا أننا في بعض الأحيان نجدُ رسمًا تخطيطيًّا لا يخلو من إيحاءٍ [ النساء 59 – 60]، وأحيانًا أخرى لا نعدمُ داخلَ الصورةِ التجريديةِ بضعَ تفاصيلَ طريفةً تذكِّرنا ببعضِ صورِ المرحلة المكية الأولى:

• ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 15].



إلا أن هذه الأشياءَ - فوق أنها استثناء من القاعدة - تؤكِّد الانطباعَ بأن الوحيَ المدني هنا أيضًا كان خاضعًا لحاجات المستمعين.



لقد كان الرسول يتَّجه إلى ناسٍ مؤمنين يعرفون جيدًا - من خلال السور المكية - ما الجنةُ وما النار، ومن ثَمَّ لم يكن الأمر يتطلَّب أكثر من إشارة أو تذكير، وهو ما كان يكفي فيه رَوْسَم أو جزئية دالَّة.



ولكن كان من الممكنِ أن يجد بعضَ التطورِ حتى في مفهومِ الجزاء، فلم يعد نعيم الجنة وعذاب الجحيم يُعْرَضان بوصفِهما لذائذَ وآلامًا جسديةً وحسب، بل أضيف إليها مُتَعٌ وآلامٌ أخرى صادرة عن شعور أحد بالذنب أو بالنجاة:

• ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم:6 - 8].



إن الإشاراتِ الكثيرةَ إلى الأحداث المتنوِّعة التي صاحبت تاريخَ المسلمينَ في المدينةِ - تستحقُّ وقفةً خاصةً، وهذه الإشارات ليس فيها ما يشبهُ رواية مفصلةً، أو تسجيلاً، أو حتى تخطيطًا تاريخيًّا، فكلُّ شيءٍ غامضٌ وغيرُ محددٍ؛ إذ لا ذكرَ لأسماءٍ أو شخصياتٍ أو تواريخَ، اللهم إلا إشارة خاطفة للمكانِ في بعض الأحيانِ، بل ليس هناك هذه النيةُ الخفيةُ التي ألهمت محرِّري سِفْرَي "الأخبار" اليهود الذين رغبوا في تخليدِ إنجازاتِ الشعب المختار[7]:

• ﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ﴾ [آل عمران: 121 - 127].



ولا بدَّ أن نعرفَ أن هذا النصَّ - وهناك الكثير الذي يجري على وَتِيرتِه - يتضمَّن الإشارة إلى واقعةٍ تاريخيةٍ مؤكَّدة، هي فشل المسلمين في أحُدٍ عام 625م.



ومن السهلِ إدراكُ الصعوبةِ التي تواجِه المؤرِّخ عند محاولتِه الاستفادةَ من مثل هذه الدراساتِ.



إن النصَّ القرآني يجولُ في مَيدَانٍ مختلفٍ تمامًا عن مَيدَانِ التاريخِ؛ لأنه يَهدِف إلى غايةٍ أعلى، ولا يَنزِل إلى ما دونها.



إنه توجيهٌ وأسلوبٌ للدعوة


وإذا كانت الهزيمة - كما هو الحال هنا - قد وقَعت بالمسلمينَ؛ فذلك لأنهم لم يتَّبعوا الأوامرَ الإلهية التي بلَّغهم إيَّاها نبيُّهم:.

﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ [آل عمران: 165 - 167].



وخلاصةُ القولِ: إنه ليس في الأوحاءِ المدنية - من الوجهة الأدبية - أيُّ جديدٍ، وهذا راجعٌ إلى محتواها نفسه.



إن الحِجَاج ضدَّ اليهود ليس في حقيقتِه إلا امتدادًا للهجومِ على مشركي مكَّة، والنصوصُ التشريعيةُ - وإن كانت ذاتَ أهميةٍ فائقةٍ في نظرِ تاريخ اللغة - ليست بطبيعتِها نصوصًا أدبيةً، وقيمتها في نظر المسلم تنحِصر في دقَّتها لخلوِّها من أيَّة قيمةٍ أسلوبيةٍ[8].



إن دعوة محمدٍ - وهي تكيِّف نفسَها مع هذا المنعطفِ الجديد - قد اتَّخذت في هذه المرحلة النهائيةِ شكلاً من الممكنِ جدًّا من بعضِ النواحِي أن يكونَ محتويًا بالقوةِ على الجراثيمِ الأولى للنثر الأدبي.

[1] من كتاب "Histoire de la litterature Arabe "لـ Regis Blachere ( ط. Librairie d' Amerique et d' Orient , Paris , 1964) / ج 2 / من ص 19 فصاعدًا.

[2] إنه يسمي كتابة الوحي "افتراضًا"، وكأنه هو الذي خمنه، وليس حقيقة مدعومة تاريخيًا وتصدق على كل الوحي لا المدني فقط.

[3] لقد سبق الرد على هذه الشبهة في الفصل الثاني من الباب الأول، وقد دعمنا ردنا هناك ببعض الأمثلة، التي اعتمدنا فيها على تصفح السور المستشهد بها في المصحف.

ويستطيع من يريد التوسع في هذا أن يرجع إلى المقدمات التي استهل بها المرحوم سيد قطب تفسيره لسور القرآن.

وأحب أن أقول: إن الباحثين عن الخيط الفكري والنفسي العام - الذي يربط أجزاء السورة القرآنية بعضها ببعض - قد يختلفون فيما بينهم، وهو ما يدل على أن السورة القرآنية يمكن النظر إليها - في هذه المسألة - من أكثر من زاوية لثرائها وعمقها.

وبالمناسبة، فلكاتب هذه السطور فصل عن "ظلال القرآن" لسيد قطب، يجده القارئ في كتاب "من الطبري إلى سيد قطب - دراسة في مناهج التفسير ومذاهبه"، وقد عالجت هذه النقطة فيه بشيء من الاستفاضة.

[4] حتى هذه الموضوعات - وهي في أي قانون جافة شديدة الجفاف - نجد التعبير عنها في القرآن رونقًا وجمالاً غريبين، وذلك من جراء ما تحفل به الآيات التي تتناولها من: توقيع موسيقا، وتقديم وتأخير، وعبارات اعتراضية مموسقة، وتنويع في الجمل، إلى جانب ما تضفيه الصور الجديدة أحيانا من لمسات سريعة حية... إلخ، اقرأ مثلا الآية 23 من سورة "النساء"، وهي تتناول محرمات الزواج، وأسلم فقط أذنك إليها تحملها الموجات الموسيقية وتهدهدها: ما بين سكون بعده حرف صائت يوقف عليه كأنه نصف سكون في "وبنات الأخت"، وتاء مربوطة متحركة يوقف عليها؛ فتتحول إلى هاء ساكنة مهموسة في "الرضاعة"، وتشديد في "بهن"، ثم سكون مرتين في "فإن لم"، لينتهي ذلك كله بتنوين تعقبه مدة ألف في﴿ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ ، فكأنك تخرج بهذا التنوين والمد من نطاق الموجات الصغيرة، لتحملك موجة كبيرة بعيدًا بعيًدا.

وهذا كله ليس إلا نغبة صغيرة - على رغم أننا لم نبرح مجال الموسيقا بعد - فكيف يتسنى لهذا الرجل الحكم على مثل هذه الآيات بالجفاف؟

والسورة من أولها تتناول تشريعات مثل هذه في: الزواج، والميراث، والزنا، وما إلى ذلك، فليقرأها القارئ مستعملاً من أدوات حسه وإدراكه الأذن فقط، وأنا كفيل بأنه سيجد فيها موسيقا غنيةً لا توجد في أحلي قصائد الشعراء.

[5] لا أظن أن من بين سور القرآن ما يضارع سورتي "الأنفال" و "التوبة" من حيث اهتمامهما بموضوعات الحرب والجهاد وتوزيع الغنائم وما إلى ذلك، من الأمور العملية - على حسب تعبير هذا المستشرق - ومع ذلك فإن طابع الرونق والجمال والشاعرية التصويرية والموسيقية متحقق على أتمه فيهما.

وإذا كنا قد رأينا ذلك متحققًا في آيات القرآن التي تتناول موضوعات هي بطبيعتها شديدة الجفاف، فكيف لا يكون متحققًا في موضوعات الحرب والجهاد وخيانات المنافقين وطريقة توزيع الغنائم، وهي أكثر مورانًا بالحياة والحركة: الحركة المادية، وحركة النفس والمشاعر؟

إن السورتين موجودتان في المصحف، ولا أحب أن أقف حائلاً بين القارئ وبينهما بتعليق أو توضيح، فليقرأ بنفسه، وليتذوق بنفسه.

[6] ألم يقل هذا المستشرق من قبل: إن القرآن هو انعكاس للفكر العربي؟

إننا طبعًا لا نؤمن بهذا، وقد سبق أن رددنا عليه بالتفصيل في التعليق رقم 1 على هذا الفصل، ولكننا نحب أن نحاكم فكر هذا المستشرق بعضه إلى بعض؛ لنرى ما فيه من تهافت وتناقض وفسولة.

إنه هنا يزعم أن قصص الأنبياء الموجزة تبرز سمةً من سمات العقل العربي، وهي ميله إلى التجريد.

إذًا فما الذي تبرزه هذه القصص ذاتها حين يفصل القول فيها ولا تساق بهذا الإيجاز؟

أليس ينبغي - بناء على طريقته في الاستنباط - أن نقول: إنها تبرز خصيصة من خصائص العقل العربي، هي ميله إلى التفصيل والتوسع في تصوير المواقف الحية لا الفكرة المجردة؟

وأين العقل العربي إذًا بين هذه السمة وتلك؟

أليس هذا هو التناقض بعينه؟

[7] نكرر القول هنا ثانيةً بأن القرآن لم ينزل ليسجل ما فعله الرسول- صلى الله عليه وسلم - وأتباعه، بل ليهدي الناس جميعًا إلى دعوة الحق، فهو ليس نتاجًا عربيًا، ومن ثم لا يهمه تخليد إنجازات العرب ولا كان ذلك في نيته؛ لأن العرب عنده ليسوا أفضل من أي جنس آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهم يجوز عليهم الضعف والانحراف والخيانة، مثلهم مثل أية أمة أخري.

[8] فليترك "بلاشير" الحديث عن القيمة الأسلوبية لمن يحسنه؛ فإنه من الطموح المستحيل أن يحاول إنسان ما الحكم على أثر أدبي بالغ من الروعة مبلغ القرآن، وهو لا يحسن فهمه ولا يتقن "نحو" اللغة التي كتب بها.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (6)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1](4)
» المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (3)
» المستشرق Regis Blachere وحديثه عن القرآن[1] (2)
» المستشرق Regis Blachereوحديثه عن القرآن[1] (5)
» المستشرق "بلاشير" وحديثه عن القرآن (4)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: