السؤالأنا
سيدة منفصلة، وليس لدي أولاد، كنتُ مخطوبةً لشخصٍ مُنفصل وَلَديه أولاد،
مدة الخطوبة كانت شهرين، وخلال هذين الشهرين لاحَظت تشابُهًا في الأفكار
والآراء بيني وبينه، فكنتُ سعيدة جدًّا به، وفجأة حدَث شيء لَم أتوقَّعه،
حدَث أن جاء خطيبي وأخبَرني أنه قد سُرِقت سيارته، فحَزِنتُ وواسَيْته،
ومرَّ يومان، وجاء قريبٌ منَّا - زميله في العمل - يُخبرنا بأنَّ خطيبي لَم
تُسْرَق منه سيارته، بل إنَّه كان قد أخَذها من جارة له، وأنَّ زميلاً
قريبًا لنا من نفس منطقة خطيبي هو الذي أخبَر قريبنا بهذا، فقرَّر والدي أن
يُسافر ويقابل زوج أُخت جارة خطيبي الذي كان قد أخَذ منها السيارة، وعرَفت
أن الخبر صحيح، فواجَهت خطيبي، فأخبَرني أنه كان قد أعطى لجارته مبلغًا من
المال؛ لأنه يريد أن يشتري السيارة منها، فأعطاها جزءًا، وباقي المبلغ لَم
يُعطها إيَّاه بعدُ، وهذا هو الذي جعَلها تترك له السيارة؛ لأنها وَثِقتْ
فيه؛ لأنهم جيران، ووَثِق فيها؛ لأنهم عِشرة منذ سنين، فقرَّر والدي فَسْخَ
الخِطبة؛ لأنه لا يُصدِّق خطيبي.المهم
اتَّصَلت أنا على جارته، وتحدَّثت معها، فأخبَرتني أن خطيبي اقترضَ منها
مبلغًا من المال؛ لإجراء عملية لوالدته، وكَتَبتْ عليه "وصل أمانة"
بالمبلغ، ولَم يُسدِّد المبلغ حتى الآن، وأخبَرتني أنها فعلاً كانت تترك
السيارة معه؛ لأنها تَثق به ثقة عمياءَ، وأخبَرتني أنه - بحُكم العِشرة -
يذهب لها في منزلها أمام زوجها، وتدعوه لتناوُل وجبة الغداء، وتُحضِّر له
أصناف الطعام التي يُحبها، وطلَبَت مني أن تُقابلني؛ حتى ترى شكلي، رغم
أنها تعرف جيدًا أننا قد أنْهَينا خطوبتنا.هو يحبُّني جدًّا وأنا أيضًا أحبُّه جدًّا، لكني محتارة، ولا أدري ماذا أفعل؟ هل أعطيه فرصة ثانية، أو لا؟وإذا طلبتُم مني أن أُعطيَه فرصة، فكيف أُقنع والدي ووالدتي بالموافقة وإعطائه فرصةً ثانية؟ أرجو الردَّ في أقرب وقتٍ؛ لأني في غاية التعب والحَيرة، وشكرًا لكم. الجواببسم الله الموفِّق للصواب
وهو المستعان
أيتها العزيزة، يقول ابن حزم - رحمه الله تعالى - في كتابه "
طوق الحمامة":
"وإني لأُسامح في إخاء كلِّ ذي عيبٍ وإن كان عظيمًا، وأَكِلُ أمرَه إلى
خالقه - عز وجل - وآخُذ ما ظهَر من أخلاقه، حاشا مَن أَعلمه يَكذب؛ فهو
عندي ماحٍ لكلِّ محاسنه، ومعفٍّ على جميع خصاله، ومُذهب كلَّ ما فيه، فما
أرجو عنده خيرًا أصلاً؛ وذلك لأنَّ كلَّ ذنبٍ فهو يتوب عنه صاحبه، وكلَّ
ذَامٍ فقد يُمكن الاستتارُ به والتوبة منه، حاشا الكذب، فلا سبيل إلى
الرجعة عنه، ولا إلى كِتمانه حيث كان، وما رأيتُ قطُّ، ولا أخبَرني مَن رأى
كذَّابًا ترَك الكذب ولَم يَعُد إليه، ولا بدَأت قط بقطيعة ذي معرفة،
إلاَّ أن أطَّلعَ له على الكذب، فحينئذٍ أكون أنا القاصد إلى مُجانبته،
والمتعرِّض لمُتاركته، وهي سِمة ما رأيتها قط في أحدٍ إلاَّ وهو مَزنون
إليه بشرٍّ في نفسه، مَغموز عليه لعاهة سوء في ذاته، نعوذ بالله من
الخِذلان".
ثم يسوق الأدلة والشواهد على قُبح الكذب والكذَّابين في كلام نفيس تَجدينه بطوله من "
الطوق" في "
باب الواشي" من ص 119 إلى ص124 من طبعة المكتبة العصرية.
وبعدُ:
فهذا رأي ابن حزم في هذا الرجل،
وهو رأيي أيضًا، ورأي والدك الفاضل من قبلُ، فالكذوب إذا ضُيِّق عليه
بالتتبُّع، فإنه يضطرُّ ولا بدَّ لمعالجة أكاذيبه بأكاذيب أُخَر؛ ((وما
يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب؛ حتى يُكتب عند الله كذَّابًا))؛ رواه
مسلم.
وقد عالَج هذا الرجل كذبته
الأولى بكذبة ثانية؛ فكما تَرَينَ فثمَّة تضارُب بين كلامه وكلام جارَته،
وليس هذا وحسب، بل إنَّ هذه العلاقة المريبة التي تَجمعه بهذه الجارة، فيها
ما يُنَفِّر من هذا الارتباط؛ إذ أرى تعمُّدًا وَقِحًا من هذه المرأة؛
لاستفزاز مشاعرك، وبَعْثرة قراراتك، حين أخبَرتْك بدعواتها الدائمة لهذا
الرجل؛ لتناول الغداء في بيتها، وطَبْخ صنوف الأطعمة التي يُفضِّلها! هذا
كلام غير مقبول ألبتَّة من امرأة في وضَعها، لامرأة في وضْعك ترتبط بخِطبة
مع هذا الرجل؛ سواء أتْمَمْتِ هذه الخِطبة أم فَسَخْتِها، وأخشى أن يوقِعنا
التحليل في الغـيبة وسوء الظنِّ بالناس؛ لذلك أكتفي بقول شيءٍ نُدركه نحن
النساء على اختلاف نِحَلنا وأعراقنا وجنسيَّاتنا: لا ترغب امرأة في رؤية
امرأة أخرى، إلاَّ لتعرفَ منها مواطنَ جمالها، فماذا يهمُّ هذه المرأة إذا
عرَفت أنَّك الأجمل أو هي؟!
شيء واحد ولا ريبَ قد يقودها إلى مثل هذا التفكير السخيف، وهو الغَيْرة على هذا الرجل!
أقول لكِ: هذه المرأة تحبُّ هذا
الرجل، فاقْطَعي اتصالك بها، ولا تُصَدِّقي شيئًا مما تقول؛ لأنها إنما
تقول ما تقول؛ لإفساد العلاقة بينك وبين الرجل؛ لمصلحة نفسها لا لمصلحة
نفسك.
وَاحْذَرْ أُنَاسًا يُظْهِرُونَ مَحَبَّةً وَعُيُونُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ مَرْضَى
حَتَّى إِذَا أَمْكَنْتَهُمْ مِنْ فُرْصَةٍ تَرَكُوا الْخِدَاعَ وَأَظْهَرُوا البُغْضَا
|
ولو أنَّ هذا الرَّجل يستحقُّ
شعورَكِ وعُمركِ، لشجَّعتُكِ على إقناع والدَيْك به، لكنَّه لا يستحقُّك،
لكِ - إن أردتِ فَهْمَ هذا الرجل جيدًا - أن تسألي عن أسباب انفصاله عن
زوجته الأولى، فالبحث في أسباب الطلاق من أهم الأمور التي ينبغي للمرأة أن
تسألَ عنها قبل ارتباطها برجل مُطلقٍ، على أنه لن يُغني ذلك شيئًا،
فكَذِبُه يكفي لاطِّراحه من بالك، وأَعزِرْ عليّ بأن أقول لك ذلك؛ لعلمي
أنَّ الأمر ليس سهلاً عليك بعد أن أحبَّه قلبُك وتعلَّق به.
هَذَا فُؤَادِي فِي يَدَيْكَ تُذِيبُهُ غَادَرْتَهُ غَرَضَ السِّهَامِ تُصِيبُهُ
زَادَتْ صَبَابَتُهُ فَهَلْ تُجْدِي لَهُ نَفْعًا إِذَا مَا قَلَّ مِنْكَ نَصِيبُهُ
مَا كَانَ يَبْلُغُ مِنْ أَذَاهُ عَدُوُّهُ مَا قَدْ بَلَغْتَ بِهِ وَأَنْتَ حَبِيبُهُ
تُهْدِي الشَّقَاءَ لَهُ وَأَنْتَ نَعِيمُهُ وَتَزِيدُهُ مَرَضًا وَأَنْتَ طَبِيبُهُ
|
مَن يبدأ مشواره بكذبة كبيرة،
فحتمًا سيحوِّل حياتك إلى مصيبة كبيرة، وقد جرَّبتِ قبله، وتألَّمتِ بما
يكفي، فلا تُسلمي قلبَك لرجل أقلُّ ما فيه من العيوب أنه لا يَصلح أن يكون
أبًا مربِّيًا لأبنائك؛ لأنه سيعوِّدهم على الكذب، فماذا تُريدين من رجلٍ
عاش أربعين عامًا على الكذب؟! ثم ألَم تَستخيري الله - عز وجل؟!
إذًا فهذه نتيجة الاستخارة،
فالاستخارة لا تَعني بالضرورة القَبول أو الرفض بعد الرؤية، بل هي في بعض
معناها: "أنْ أَرِني يا رب من الأسباب، ما يَجعلني أقتنع بأنَّ هذا الأمر
في صالحي أو في غير صالحي"، وقد خارَ الله لك ما هو خيرٌ لك، وأراد -
سبحانه - أن يُرِيَك صفحة من حياة هذا الرجل، ما كنتِ سترينها بلا استخارة.
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ سَدَّتْ عَلَيْهِ طَرِيقَهُ الأَسْبَابُ
|
ولعلَّ والدك قد عرَف أشياء عنه
لَم يرغب في جرح قلبك بها، فلقد تجشَّم السفر؛ ليتبيَّن الأمر بنفسه، وهذا
تصرُّف حكيم وصائب؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول في كتابه العزيز: ﴿
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
فثقي برأي والدك وتصرُّفه؛ فلقد
كان حريصًا على تزويجك، مثلما هو حريص اليوم على مصلحتك، وهَوِّني على
نفسك؛ فما يَختاره الله هو الخير والأصلح، "وتلك الحقيقة هي أنَّ الله لا
يُمسك عنَّا فضْله إلاَّ حين نَطلب ما ليس لنا، أو ما لسنا له"؛ كما يقول
الرافعي في "
حديث القمر".
وأنتِ امرأة فاضلة، وعاقلة
وناضجة، أحسبُك كذلك والله حسيبُك، فانظري في مصلحة نفسك، واشْغَلي ذِهنك
ووقتك بالعمل، والهوايات المفضَّلة، والرياضة، وتلاوة القرآن الكريم، وإن
أمْكَنك الالتحاق بدورة تدريبيَّة لتنمية مهاراتك، وتطوير ذاتك، فحَسَنٌ،
المهم ألاَّ تُسلمي عقلك للفراغ والانفراد، وتَذكَّري أنَّ الحياة مستمرَّة
في وجود مَن نحبُّ وفي رحيلهم عنَّا، فلا تَضْعُفي ولا تَنكسري، ولا
تَجعلي فَقْد رجلٍ في حياتك يَقتل فيك كلَّ حياتك، انهضي - أيتها العزيزة -
وابني نفسك من جديد.
يقول الرافعي في "
رسائل الأحزان":
"إنَّ القلوب الضعيفة هي التي تَصْدأ في فكرة واحدة، تُلِحُّ عليها؛ حتى
تتآكَل صدَأً، ثم تتفَتَّت، فإذا حدَثت عليها الحادثة، انكسَرت ولَم تقُمْ
لها، وبَقِيت زمنًا طويلاً في الهموم؛ حتى تتعب الحوادث والأقدار المختلفة
في أيام تتصرَّم بعد أيام، إلى أن تجمع من حُطام القلب قلبًا مُتحطِّمًا،
ولكن القلوب القويَّة الصارمة ذات الصدور الجريئة الواسعة، تُكوِّنها القوى
المختلفة من العمل والفكر وعدم المبالاة، على هيئة تَجعلها مَرِنة في
صلابة، فهي تلتوي ولا تَنكسر، وما أسرع ما ترجع كما كانت إذا لَوَتها
الخيبة، أو نَجَمت لها قاصمة من الحوادث التي هي مطارق القلوب، لا تَضرب
إلاَّ عليها، ولا تحطم إلاَّ فيها، أقول لك: "عدم المبالاة"، فافْهَم عني،
فإني أُريد أن تحفظَ هذه الكلمة وتَعيَها من بوادي هذا الحب إلى أعقابه، إن
عدم المبالاة يكون في بعض الأحيان وفي بعض الأمور، هو كلُّ ما تُكلِّفنا
به الطاقة البشرية من المبالاة".
والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب، وله الحمد والمِنَّة، والصلاة على سيدنا محمدٍ وآله وأصحابه.