طالب الله والدار الآخرة
لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بالحبس.
حبس قلبه في طلبه ومطلوبه , وحبسه عن الإلتفات إلى غيره. وحبس لسانه عما لا يفيده , وحبسه على ذكر الله وما يزيد في إيمانه ومعرفته.
وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات , وحبسها على الواجبات والمندوبات ,
فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن إلى أوسع فضاه وأطيبه .
ومتى لم يصبر على هذا الحبس وفر منه إلى فضاء الشهوات
أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا ,
فكل خارج من الدنيا
إما متخلص من الحبس
و
إما ذاهـب إلى الحبس
- ودّع ابن عون رجلا فقال:
عليك بتقوى الله , فإن المتقي ليست عليه وحشة.
- وقال زيد بن أسلم:
كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا.
وقال الثوري لابن أبي ذئب:
إن اتقيت الله كفاك الناس ,
وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئا.
وقال سليمان بن داود:
أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا,
وعلّمنا مما علّم الناس ومما لم يعلموا,
فلم نجد شيئا أفضل من تقوى الله في السر والعلانية ,
والعدل في الغضب والرضا , والقصد في الفقر والغنى .
فائدة جليلة
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق ,
لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه ,
وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه .
فتقوى الله توجب له محبة الله , وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
فائدة ( اللذة تابعة للمحبة )
اللذة تابعة للمحبة , تقوى بقوتها وتضعف بضعفها ,
فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق إليه أقوى كانت اللذة بالوصول إليه أتم .
والمحبة والشوق تابع لمعرفته والعلم به ,
فكلما كان العلم به أتم كانت محبته أكمل ,
فمن كان يؤمن بالله وأسمائه وصفاته ودينه أعْرَفُ, كان له أحَبّ, وكانت لذته بالوصول إليه ومجاورته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه أتم.
وكل لذة ونعيم وسرور وبهجة بالإضافة إلى ذلك كقطرة في بحر,
فكيف يؤثر من له عقل
لذة ضعيفة قصيرة مشوبة بالآلام على لذة عظيمة دائمة أبد الآباد ؟!
وكمال العبد بحسب هاتين القوتين: العلم والحب ,
وأفضل العلم العلم بالله ,
وأعلى الحب الحب له ,
وأكمل اللذة بحسبهما .
الدنيا مضمار سباق ,
وقد انعقد الغبار وخفي السابقُ ,
والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر معقرة
سوف ترى إذا انجلى الغبار
أفرس تحتك أو حمار
الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج ,
وليس ما أعِِدَّ للاستفراخ كمن هيئ للسباق
اشتر نفسك اليوم , فإن السوق قائمة , والثمن موجود , والبضائع رخيصة , وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير: { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} التغابن 9, { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْه} الفرقان 27.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التـقى ** وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طـُردْتَ ,
ولا تقطع الاعتذار ولو رددت ,
فإن فتِـحَ الباب للمقبولين دونك ، فاهجم هجوم الكذابين ، وادخل دخول الطفيلية ، وابسط كف {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} يوسف 88.
كيف يسلم من له
زوجة لا ترحمه, وولد لا يعذره, وجار لا يأمنه, وصاحب لا ينصحه, وشريك لا ينصفه, وعدو لا ينام عن معاداته,
ونفس أمارة بالسوء, ودنيا متزيّنة, وهوى مرد, وشهوة غالبة له, وغضب قاهر, وشيطان مزين, وضعف مستولٍ عليه.
فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها,
وان تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.
والله المستعان