تجليات محاسن أخلاق الصديق
الكاتب: مدير الموقع
وتجلى حسن خلق الصديق رضي الله عنه في أمور كثيرة، منها:
الصدق والتصديق:
يكفيه شهادة على ذلك تفرده بلقب (الصديق) من بين الأصحاب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً}.
وقد لقب أبو بكر في الجاهلية -كما لقب محمد- بـ (الصادق) فزاده الإسلام فلقبه بـ (الصديق).
إن العرب قوم معروفون بصدق الحديث، يستحيي أحدهم أن يؤثر عنه شيء من الكذب، فوجود الصادق بينهم لا يثير الانتباه ما لم يكن صدقه متميزاً؛ لأن عامتهم صادقون، فأن يفوز في مجتمع الصادقين شخص بلقب (الصادق) دليل على تميزه في الصدق وبلوغه شأنا عالياً فيه كالبطل المتميز بين الأبطال، والشجاع بين الشجعان! وهذا كقوله تعالى: (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ))[الأحزاب:23].
وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل قوله تعالى: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:33] وفيه نزل قوله تعالى: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ))[الليل:5-7].
وقوله: (( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ))[الحديد:18] بتخفيف الصاد وهي قراءة متواترة.
لقد كان هذا التصديق أثراً من آثار صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفه معرفة الخبير، فكان يصدقه دون تردد في كل شيء مهما كان غريباً! وكان يردد دائماً: {إن كان قاله فقد صدق} ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر}.
والتصديق إذا بلغ هذه الدرجة فهو أثر من آثار الصدق الفطري الذي طبعت عليه النفس وجبل عليه الطبع.
والصادق لا يدور في نفسه الشك، ولا يتوقع الكذب قط ممن وثق بهم؛ لأنه يرى فيهم نفسه التي ليس فيها إلا الصدق، فيكون حسن الظن تعبيراً عن الخير الذي جبلت عليه النفس.
الشجاعة:
لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أشجع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتردد في موقف ولم يضطرب أو يفر في معركة، بل كان حيث يكون الخطر أقرب الناس إليه؛ ولذلك اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم صاحباً له في أحرج المواقف وأصعب الظروف، فكان في الغار ثاني اثنين، وفي عريش بدر كذلك، وثبت معه في أحد وحنين -إذ قتل حامل لواء المشركين- وجميع المعارك، ودافع عنه في مكة فضرب حتى كاد يموت.
أما موقفه -وقد انفرد بعد (صاحبه)- من المرتدين ومانعي الزكاة، والجزيرة قد انتقضت عليه وصارت قبائلها تغزو المدينة نفسها، فهو الموقف الذي تميد له الشم الرواسي.
وكان أبو بكر الجبل الوحيد الذي ظل راسياً لم تهزه الزلازل!
لقد قرر قتال الدنيا مجتمعة مهما كانت الظروف وبلغت التضحيات.. وكانت النتائج!
جاءه عمر بن الخطاب يقول له: {تألف الناس وارفق بهم} فصرخ في وجهه: {أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام! رجوت نصرك فجئتني بخذلانك!} وأقسم بالله ليقاتلنهم حتى يؤدوا الخيط والمخيط ثم قال: {إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أو ينقص الدين وأنا حي!!}.
ولك أن تتصور شجاعة رجل يقف لعمر ويصرخ في وجهه ينبزه بالخَور! وعمر هو عمر في شجاعته، وسطوته وهيبته!!
ثم تفكر في مدى صلابته ورباطة جأشه وثبات قلبه، وقد اجتمع حوله الصحابة رضي الله عنهم يرجونه أن يلين فيوافقهم على إرجاع جيش أسامة ليستعينوا به في القتال، ويذكرون له حراجة الموقف وتغير الظرف، فما يزيدونه إلا عزماً ومضاءً! ويقسم أن لن يحل عقدة عقدها رسول الله بيده، ولن يرجع جيش أسامة ولو رأى الكلاب تجري بأرجل أمهات المؤمنين في سكك المدينة!
إن هذا رجل بلغ في الإيمان مداه! وفي الشجاعة مداها!
أخرج البزار في مسنده عن علي رضي الله عنه أنه قال: {أخبروني من أشجع الناس؟
قالوا: أنت. قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس. قالوا: لا نعلم، فمن ؟ قال: أبو بكر، إنه لما كان يوم بدر فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فو الله! ما دنا منا أحد إلا أبا بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه فهو أشجع الناس، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذته قريش فهذا يجبأه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟
فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبا بكر يضرب هذا ويجبأ هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟! ثم رفع علي بردة كانت عليه، ثم بكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله! أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فو الله! لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة مثل مؤمن آل فرعون! ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه}. [(أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة) (ص15)، رفيق العظم].
الإنفاق والكرم:
الشجاعة والكرم توأمان مقترنان فكل شجاع كريم وكل كريم شجاع سجية.
لقد كان أبو بكر متميزاً في إنفاقه وكرمه، والدليل: أن القرآن الكريم جعل من ذلك العلامة والنقطة الدالة عليه، فقال
( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ))[الليل:17-18] ، وقال قبلها : (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ))[الليل:5-7].
فأول صفة له وعلامة عليه: الإعطاء والكرم·
أخرج الحاكم وابن أبي حاتم والبزار في أسباب نزول قوله تعالى: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)) وما بعدها: (أعتق أبو بكر الصديق سبعة كلهم يعذب في الله تعالى، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، ومنهم بعض نساء أسلمن فكن يعذبن على إسلامهن، فقال له أبو قحافة: أراك تعتق رقاباً ضعافاً فلو أنك أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون ويدفعون عنك دونك؟ فقال: يا أبت إني إنما أريد ما عند الله، فنزلت في أبي بكر: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى )) الآيات إلى آخر السورة [(أسباب النزول في حاشية روائع البيان لمعاني القرآن)، أيمن عبدالعزيز جبر].
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- مزيد بيان لإثبات نزول هذه الآيات في حق الصديق رضي الله عنه·
لقد أنفق الصديق أمواله وسخر تجارته في مكة في سبيل الله، حتى لم يبق له يوم الهجرة من رأس ماله البالغ أربعين ألفاً في أول دخوله الإسلام وأرباحه معه إلا خمسة آلاف أخذها معه، وما أبقى لأهله درهماً!
ومن مواقف كرمه وإنفاقه المشهودة؛ ما كان منه عند تجهيز جيش العسرة المتوجه إلى تبوك -وهي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذ أنفق يومها أبو بكر ماله كله! حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فأجابه: أبقيت لهم الله ورسوله!!}.
وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر}.