شرح حديث مررت على موسى وهو يصلي في قبره
ذُكر في أحد أحاديث صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره . أرجو شرح هذا الحديث بالتفصيل .
الجواب :
الحمد لله
هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة التي يوردها العلماء في فضائل نبي الله موسى عليه السلام ، يرويه الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أَتَيْتُ – وفي رواية : مررت - عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ ) رواه مسلم (2375) .
وفي هذا الحديث مسائل ، يمكن إجمالها فيما يأتي :
أولا :
اختلف العلماء في مكان قبر موسى عليه السلام ، وهذا الحديث يدل على أنه في طريق بيت المقدس عند الكثيب الأحمر ، وهذا وصف مبهم بعض الشيء ، وليس وصفا محددا ، ولعل الحكمة من ذلك ألا يتخذ قبره معبدا .
قال القرطبي رحمه الله :
" الكثيب : هو الكوم من الرمل ، وهذا الكثيب هو بطريق بيت المقدس " انتهى.
" المفهم " (6/192)
وقال أيضا :
" وهذا يدل على أن قبر موسى أخفاه الله تعالى عن الخلق ، ولم يجعله مشهورا عندهم ، ولعل ذلك لئلا يعبد ، والله أعلم " انتهى.
" المفهم " (6/222) . وانظر: " عمدة القاري " للعيني (12/474)
ثانيا :
في هذا الحديث دليل على حياة الأنبياء بعد موتهم ، وأنهم يتميزون عن سائر الأموات ، إلا الشهداء ، بأن الله يحييهم مرة أخرى حياة خاصة ، فيها من النعيم والكرامة ما لا يتعرض له أحد من الناس .
وقد دلت على ذلك أدلة أخرى كثيرة ، من أصحها وأشهرها حديث الإسراء والمعراج ، حيث جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء في السماوات ، وصلى بهم إماما في بيت المقدس.
ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون )
رواه البزار (256)، وحسنه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (621)
وقد قرر ذلك أهل العلم في كتبهم ، حتى صنف الإمام البيهقي في هذه المسألة جزءًا بعنوان : " حياة الأنبياء بعد وفاتهم "، وصنف الإمام السيوطي جزءًا بعنوان : " إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء " .
وقال البيهقي رحمه الله :
" لِحياة الأنبياء بعد موتهم صلوات الله عليهم شواهدُ من الأحاديث الصحيحة " انتهى.
" حياة الأنبياء " (ص/77)
وقال السيوطي رحمه الله :
" حياة النبي صلى الله عليه وسلّم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا علماً قطعياً ؛ لما قام عندنا من الأدلة في ذلك ، وتواترت به الأخبار " انتهى.
" الحاوي للفتاوي " (2/139)
ثالثا :
قال القرطبي رحمه الله :
" وهذا الحديث يدل بظاهره على : أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى رؤية حقيقية في اليقظة ، وأن موسى كان في قبره حيا ، يصلي فيه الصلاة التي كان يصليها في الحياة ، وهذا كله ممكن لا إحالة في شيء منه ، وقد صح أن الشهداء أحياء يرزقون ، ووجد منهم من لم يتغير في قبره من السنين ، وإذا كان هذا في الشهداء كان في الأنبياء أحرى وأولى " انتهى.
" المفهم " (6/192)
وقال ابن القيم رحمه الله :
" الأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك – يعني في السماء - بعد مفارقة الأبدان ، وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت – يعني في الإسراء والمعراج - ، وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ومع هذا فلها إشراف على البدن ، وإشراق ، وتعلق به ، بحيث يرد السلام على من سلم عليه ، وبهذا التعلق رأى موسى قائما يصلى في قبره ، ورآه في السماء السادسة ، ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ثم رد إليه ، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها ، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها ، فرآه يصلى في قبره ، ورآه في السماء السادسة ، كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقرا هناك ، وبدنه في ضريحه غير مفقود ، وإذا سلم عليه المسلم رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، ولم يفارق الملأ الأعلى .
ومن كَثُف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا ، فلينظر إلى الشمس في علو محلها ، وتعلقها وتأثيرها في الأرض ، وحياة النبات والحيوان بها ، هذا وشأن الروح فوق هذا ، فلها شأن ، وللأبدان شأن ، وهذه النار تكون في محلها ، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها ، مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم ، فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف " انتهى.
" زاد المعاد " (3/40-41)
وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
" حياته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة ، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب ، ولا يدري كنهَها إلا الله سبحانه وتعالى ، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية ، ولا تخضع لقوانينها ، فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب ويتنفس ويتزوج ويتحرك ويتبرز ويمرض ويتكلم ، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحدا بعد الموت حتى الأنبياء عليهم السلام - وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - تعرض له هذه الأمور بعد موته. ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته ، ولم يخطر في بال أحد منهم الذهاب إليه صلى الله عليه وسلم في قبره ومشاورته في ذلك وسؤاله عن الصواب فيها لماذا ؟ إن الأمر واضح جدا وهو أنهم كلهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم انقطع عن الحياة الدنيا ، ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حي أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ ، ولكنها حياة خاصة لا تشبه حياة الدنيا ، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )، وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى ، ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية ، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منها أحكام الأخرى ، بل لكل منها شكل خاص ، وحكم معين ، ولا تتشابه إلا في الاسم ، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى " انتهى.
" التوسل " (ص/60)
رابعا :
صلاة موسى عليه السلام وسائر الأنبياء في قبورهم ليست على وجه التكليف ، إذ التكليف منقطع بالموت ، وإنما هي على وجه التنعم والتلذذ بعبادة الله وإقامة ذكره .
قال القرطبي رحمه الله :
" فإن قيل : كيف يصلون بعد الموت وليس تلك الحال حال تكليف ؟
فالجواب : أن ذلك ليس بحكم التكليف ، وإنما ذلك بحكم الإكرام لهم والتشريف ، وذلك أنهم كانوا في الدنيا حببت لهم عبادة الله تعالى والصلاة بحيث كانوا يلازمون ذلك ، ثم توفوا وهم على ذلك ، فشرَّفهم الله تعالى بعد موتهم بأن أبقى عليهم ما كانوا يحبون ، وما عرفوا به ، فتكون عبادتهم إلهامية كعبادة الملائكة ، لا تكليفية ، وقد وقع مثل هذا لثابت البناني رضى الله عنه ؛ فإنه حببت الصلاة إليه حتى كان يقول : اللهم إن كنت أعطيت أحدا يصلي لك في قبره ، فأعطني ذلك ، فرآه مُلَحِّدُهُ بعدما سوى عليه لحده قائما يصلي في قبره ، وقد دل على صحة ذلك كله قول نبينا صلى الله عليه وسلم : ( يموت المرء على ما عاش عليه ، ويحشر على ما مات عليه )، وقد جاء في الصحيح : ( أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس ) انتهى.
" المفهم "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" هذه الصلاة ونحوها مما يتمتع بها الميت ويتنعم بها كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح ، فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهم الناس في الدنيا النَّفَس ؛ فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل ، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (4/330)
خامسا :
حياة الأنبياء بعد موتهم ، وخصائصها ، وكيفيتها ، وما يتعلق بذلك : كله أمر غيبي لا يرجع المرء من تكلف التنقير عنه بطائل ، فالتسليم أولى ، وتفويض العلم إلى الله هو الواجب ابتداء وانتهاء .
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة":
" كل ذلك حق يجب الإيمان به والتسليم له ، وإثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام في قبره يصلي ، ورآه أيضا في السماء ، والله على كل شيء قدير ، ولا يجوز إنكار ما ثبت في النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم لحيرة العقول فيه ، أو قياس عالم الغيب وعالم البرزخ على عالم الشهادة ، أو دعوى أن ذلك من مختلقات اليهود ، فكل ذلك خطأ وضلال ، وانحراف عن الصراط المستقيم " انتهى.
عبد العزيز بن باز – عبد العزيز آل الشيخ – عبد الله غديان – صالح الفوزان – بكر أبو زيد.
"المجموعة الثانية" (1/175)
وجاء في " الدرر السنية " (1/548):
" سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن أيضا - رحمهم الله - عما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى وهو يصلي في قبره ، ورآه يطوف بالبيت ، ورآه في السماء ، وكذلك الأنبياء .
فأجاب : هذه الأحاديث وأشباهها تُمَرُّ كما جاءت ويُؤمَن بها ، إذ لا مجال للعقل في ذلك ؛ ومن فتح على نفسه هذا الباب هلك في جملة من هلك ; وقد غضب مالك بن أنس لمَّا سأله رجل عن الاستواء ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، إلى آخر كلامه ، ثم قال : وما أراك إلا رجل سوء ، فأمر بإخراجه ; هذه عادة السلف " انتهى.
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :
" قوله تعالى: ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ) الآية ، هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات , وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ )
والجواب عن هذا :
أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية ، فتورث أموالهم ، وتنكح نساؤهم بإجماع المسلمين , وهذه الموتة التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم : ( بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين , أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها ) وقال : ( من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ) ، واستدل على ذلك بالقرآن ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وأما الحياة التي أثبتها الله للشهداء في القرآن ، وحياته صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه : فكلتاهما حياة برزخية ، ليست معقولة لأهل الدنيا .
أما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله : ( وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ), وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم : ( تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك )
وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه ( لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ) و ( أن الله وَكَّل ملائكته يبلغونه سلام أمته ) فإن تلك الحياة أيضا لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا ؛ لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى ، فوق أرواح الشهداء ، فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته ، ولا يعلمها الخلق ، كما قال في جنس ذلك : ( وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ )، ولو كانت كالحياة التي يعرفها أهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مات ، ولما جاز دفنه ، ولا نصب خليفة غيره ، ولا قتل عثمان ، ولا اختلف أصحابه ، ولا جرى على عائشة ما جرى ، ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده ، كالعول ، وميراث الجد ، والإخوة ، ونحو ذلك .
وإذا صرح القرآن بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى : ( بل أحياء ) ، وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله : ( وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ), وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده ، وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة ، عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضا , ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم ، فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات ، مع أنه يدرك الرؤيا ، ويعقل المعاني والله تعالى أعلم " انتهى.
" دفع إيهام الاضطراب " (24-25)
والله أعلم .