اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  الإيمان بالغيب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100190
 الإيمان بالغيب Oooo14
 الإيمان بالغيب User_o10

 الإيمان بالغيب Empty
مُساهمةموضوع: الإيمان بالغيب    الإيمان بالغيب Emptyالخميس 6 يونيو 2013 - 15:52

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورس-وله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: من أعظم أسباب سعادة العبد في الدنيا والآخرة: طمأنينة قلبه وسكينته، والقلب لا يطمئن إلا بالإيمان. والإيمانُ يعني: التصديق بالغيب، والقناعة بأن العالم المشاهد ليس إلا جزءًا يسيرًا من الموجود، واليقين بأن لهذا الوجود بعالميه: عالم الغيب والشهادة، خالقًا ومدبّرًا، هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.
وأركان الإيمان الستة المنصوص عليها في السُّنَّة كلُّها غيب؛ ولذا استحق المصدقُ بها وصف الإيمان، وكان منتفعًا بالقرآن، كما قال الله - سبحانه وتعالى -: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ} [البقرة: 2-3].
والذين لا يؤمنون بالغيب مع قيام الأدلَّة على وجوده ما هم إلا جاهلونَ لأقدار أنفسهم، مستكبرون عن عبادة ربهم، ولو أُظهِر لهم هذا الغيبُ فشاهدوه أو لمسوه فلن يؤمنوا؛ لأن من أنكر الغيب مع تظاهُر الأدلَّة على وُجوده، فذلك دليل على فساد قلبه، واختلال عقله، ولن تنفعه مشاهدة الغيب شيئًا لو شاهده، وقد أخبر الله - تعالى - عن استكبار هذه الفئة من الناس؛ فقال – سبحانه -: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21]، وأخبر – سبحانه - عنهم بأنهم لو رأوا الغيب مشاهدًا أمامهم لما آمنوا {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111].

والغيبُ كله - سواءٌ ما كان منه في الماضي أم في الحاضر أم في المستقبل - لا يعلمه إلا الله - تعالى - ومهما بلغت منزلة المخلوق وعظمته وقوتُه، ومهما كان عنده من الوسائل والأساليب والصناعات فإنه لا يستطيع معرفة الغيب؛ إذ علم الغيب من خصائص الرب جلَّ جلاله.
وأفضل خَلْقٍ خلقه الله - تعالى - نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وله عند الله - تعالى - منزلة عظيمة، ومقام محمود، وحوض مورود، ومع ذلك فإنه - عليه الصلاة والسلام - لا يعلم الغيب، كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: "من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله - تعالى - يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ} [النمل: 65]" رواه مسلم[1].
وقد أمره ربه - تبارك وتعالى - فقال: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50].
ولما رميت عائشةُ - رضي الله عنها - بالإفك لم يعلم - عليه الصلاة والسلام - أهي بريئة أم لا، وعظم عليه الأمر حتى أخبره الله - تعالى – ببراءتها.
وذبح إبراهيمُ - عليه السلام - عجله للملائكة ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه وقالوا: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70]، ولما جاءوا لوطًا - عليه السلام - لم يعلم أيضًا أنهم ملائكة؛ ولذا {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] ولم يعلم خبرهم إلا لما أخبروه فقالوا: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود: 81].

ويعقوبُ - عليه السلام - ابيضت عيناه من الحزن على يوسف، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف عليه السلام.
وسليمان - عليه السلام - مع أن الله - تعالى - سخر له الشياطين والريح، ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد وقال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].
فهؤلاء الرسل - عليهم السلام - أفاضل البشر، ما كانوا يعلمون الغيب، إلا ما أطلعهم الله - تعالى - عليه، وكشف لهم خبره، من أنباء الماضي، وعلوم الحاضر والمستقبل. والملائكةُ - عليهم السلام - مع قربهم من الله - تعالى - وقيامهم بوظائفهم التي كلفوا بها؛ فإنهم لا يعلمون الغيب أيضًا؛ ولما أخبرهم الله - سبحانه وتعالى - أنه جاعل في الأرض خليفة {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، ولما قال لهم – سبحانه -: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة: 31-32]، فبان بذلك أن أعلم المخلوقات، وأقربها إلى الله - تعالى - وهم الرسل والملائكة - عليهم السلام - لا يعلمون الغيب؛ لكنَّ الله - تعالى - يطلعهم على شيء منه كما قال – سبحانه -: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]، وقال – تعالى -: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجنّ: 26-27].

وما كشفه الله - تعالى - لرسله من الغيب من قصة بداية الخلق، وعمارة الأرض، وأخبار الأمم الماضية، وما جرى لهم، أو ما كان منه في المستقبل من أنباء آخر الزمان، وعلامات الساعة، وأخبار البعث، والقيامة والمصير، فكل ذلك ما هو إلا جزء يسير من الغيب الذي أطلع الله عليه بعض خلقه، وإلا فإنه - سبحانه وتعالى -: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، وقد {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]، وأخبر – سبحانه - أن خلقه {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وهو ما علمهم إياه.
ولذا فإنه لما تقرَّر في الشريعة أنَّ الغيب لا يعلمه إلا الله - تعالى - فإنَّ كل طريقة يراد بها التوصلُ إلى شيء من علم الغيب غير طريقة الوحي الذي اختص الله - تعالى - به رسله فهي ضلال وإفكٌ وكذبٌ، ولا توصل إلى علم حقيقي؛ بل هي مجردُ ظنونٍ وأوهامٍ وأكاذيب لا تغني من الحق شيئًا. ولأجل ذلك حرم الله السحر والكهانة والعرافة، وما جرى مَجراها مِما فيه ادِّعاءُ علم الغيب بطرق شيطانية، وحِيَل كُفريَّة؛ لما فيها من منازعة الرب - جلَّ جلاله - في بعض خصائصه.
وكل ما يحتاج إليه البشر، وما يُصلح أحوالهم من الغيب كشفه الله - تعالى - لهم، وعلمهم إيَّاه؛ وهو ما أخبرت به الرسل من تفرد الله - سبحانه وتعالى - بالخلق والأمر والتدبير، ولزوم إفراده بالعبادة دون ما سواه، والطريق الموصلة إلى رضوانه، وأنباء المكذبين وما جرى لهم، وأخبار المؤمنين وجزائهم، والإخبار عن البعث والنشور والحساب والجنة والنار. فكل ذلك مما يحتاج المكلفون إلى العلم به؛ حتى يقودهم إلى الإيمان بالله - تعالى - وإخلاص العبادة له وحده؛ علمهم الله إياه.

كذلك كشف الله لهم من العلوم ما يحتاجون إليه في عمارة الأرض، وإصلاح دنياهم، وحَجَب عنهم ما لا يحتاجون إليه.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وكذلك أعطاهم من العلوم المتعلقة بصلاح معاشهم ودنياهم بقدر حاجاتهم؛ كعلم الطب والحساب وعلم الزراعة والغراس، وضروب الصنائع، واستنباط المياه، وعقد الأبنية، وصنعة السفن، واستخراج المعادن.. والتصرّف في وجوه التّجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيام معايشهم، ثم منعهم – سبحانه - علمَ ما سوى ذلك مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم؛ كعلم الغيب، وعلم ما كان وكل ما يكون، والعلم بعدد القطر، وأمواج البحر، وذرات الرمال، ومساقط الأوراق، وعدد الكواكب ومقاديرها، وعلم ما فوق السموات، وما تحت الثرى، وما في لجج البحار، وأقطار العالم، وما يكنُّه الناس في صدورهم، وما تحمل كلُّ أنثى، وما تغيض الأرحام وما تزداد؛ إلى سائر ما عزَب عنهم علمُه. فمن تكلف معرفة ذلك فقد ظلم نفسه، وبخس من التوفيق حظه، ولم يحصل إلا على الجهل المركب، والخيال الفاسد في أكثر أمره، وجرت سنة الله وحكمتُه أن هذا الضرب من الناس أجهلهم بالعلم النافع، وأقلهم صوابًا، فترى عند من لا يرفعون به رأسًا من الحِكَمِ والعلم الحق النافع ما لا يخطر ببالهم أصلاً، وذلك من حكمة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم" ا هـ[2].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - واعملوا صالحًا.
أيها المؤمنون: الإيمان بالغَيْبِ هو مفتاح الإيمان بالله - تعالى - وبما أخبرت به الرسل - عليهم السلام - ومن أنكر الغيبَ فليس لديه قابليةٌ لأن يُصَدِّق بما أخبرت به الرسل، وما أنزل من الكتب؛ لأن أساس الإيمان بذلك هو الإيمان بالغيب[3]. وكلما كان الإيمان بالغيب أقوى؛ كان الإيمان بالله - تعالى - وبما جاء من عنده أقوى وأمكنَ في قلْبِ العَبْدِ.
وكُلَّما ضعُف الإيمانُ بِالغيب؛ ضعف الإيمان بالله - تعالى – وهكذا. بل إن من أنكر الغيب فهو خارج من الإيمان كله، وليس في قلبه إيمان ألبتة، وكان حاله كحال الدّهرية الملاحدة الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].
ومن تكلف البحث في الغيبيات ففيه ضعفُ إيمان بها، ونوع إنكار لها؛ لأن قلبه لو اطمأن بالإيمان بالغيب لما راح يبحث عن هذا الغيب.

والنفسُ البشرية بحكم جهلها وعجزها، تنساق خلف دعوات البحث عن الغيب واكتشافه؛ ولكنها عاجزة عن ذلك. ومنذ أزمنة طويلة وإلى يومنا هذا كان كثيرٌ من البشر يبحثون في سر موت الإنسان ورُوحه، وما وجد الماديون منهم لذلك تفسيرًا، لكنهم لو آمنوا بالغيب لعلموا أنَّ الرُّوح من أمر الله - تعالى - وأنَّ البشر مهما بلغت أبحاثهم وعلومُهم فلن يصِلوا إلى علمها؛ لضعفهم، وقلة علمهم {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
إن المؤمن الحقَّ هو من يؤمن بالغيب، ولا يتكلَّف البحث فيه؛ لعلمه أنه من أسرار الله - تعالى - وأنه لن يدركه ما لم يطلعْه الله على شيء منه، ويجعلُ همّه ومهمته في العمل على تحقيق ما يرضي الله - تعالى - من الإيمان به، وإقامة دينه، والدعوة إليه. ولو نظرنا إلى طريقة العلماء الراسخين في العلم لما وجدناهم إلا على هذا المنهج السديد.

قارنوا مثلاً بين ما خلَّفه لنا علماؤنا من إرث في جوانب العقائد، وبين ما تركوه لنا في جوانب العبادات العملية؛ تجدوا أن ما كان في أمور العقائد لا يتجاوز العشر مما جاء في الفقه العملي، فما سبب ذلك؟ وهل يعني ذلك أنهم ما كانوا يهتمون بالعقائد؟! كلا، ليس الأمر كذلك، وإنما كانت كتبهم في العقائد أقلُّ حجمًا وكثافة من كتبهم في الفقه العملي؛ لأن ما جاء في العقائد غيب، أثبتوا منه ما ثبت في الكتاب والسنة، ولم يدخلوا في تفصيلات وجزئيات متكلفة لم يرد الجواب عنها لا في الكتاب ولا في السنة، ولم يكلفوا عقولهم اقتحام هذا الغيب، الذي حُجب عنهم بتفصيلاته وجزئياته، وعدوا بحث ذلك من أسباب الزيغ والضلال؛ ولذا كان تراثهم في العقائد قليلاً مقارنة بالفقه العملي؛ لاقتصارهم على ما جاءت به النصوص.

بينما لو نظرنا إلى نِتاج أسلافنا في الفقه العملي لوجدناه تراثًا ضخمًا، وما من جزئية فيه إلا وقد أَتَوْا عليها بالتفصيل؛ لحاجة المكلف إلى العلم بذلك؛ لأنه متعلق بعبادته، التي يطلب بها رضى الله - تعالى - ولإمكانية إعمال العقول في نصوصها بالاستنباط والقياس وما شابهه.
وكان من التعدي في الدعاء أن يسأل العبد ربه القصر الفلاني في الجنة، أو الشجرة الفلانية، أو النهر الفلاني، أو أوصافًا معيَّنة يطلبها في الجنة؛ لما في ذلك من التكلف في سؤال المغيبات؛ ولأنه إن دخل الجنة حاز قُصورها وأنهارها وأشجارها فلا يحتاج إلى تفصيل ذلك.
إن كثيرًا من المسلمين قد حادوا عن منهج أسلافهم؛ فقعدوا عن العمل، وصاروا يشتغلون بالغيبيات، محاولين كشف المستقبل المخبوءِ علمُه، إما بقراءة نبوءات أهل الكتاب، أو بالرؤى والمنامات، ولا سيما مع توارد الفتن في هذا الزمان، وانتقل هَمُّ الواحد منهم من العمل إلى التوقع، ومن الكسب إلى التخمين.

إننا نؤمن بأن الرؤى الصالحة مبشّراتٍ، وأنَّها جزء يسير من النبوة؛ ولكننا ما كلفنا بالبحث في الغيب، وتوقُّع ما سيحْصُل وما يَسْتَجِدُّ من أحداث، ومتى تكون هذه الأحداث، ولن يسألنا الله - تعالى - عن ذلك، وإنما سيسأَلُنا - تبارك وتعالى - عن عباداتنا، وعن دعوتنا، وماذا قدمنا في سبيل الله - تعالى -؟! فواجب علينا أن نعد للسؤال جوابًا، بالاشتغال بما يعنينا، والبعد عمَّا لم نكلف به؛ حتى ننال رضى الله تعالى.
ألا وإن من أعظم الفتن في زمن الفتن: اشتغال الناس بما لا ينفعهم، وانصرافهم عمَّا ينفعهم، وتركهم ما كلفوا به، وإسراعهم فيما لم يكلفوا به، وهذه فتن من نتائج الفتن الكبرى.

فاتقوا الله ربكم، واحذروا الفتن، وافقهوا سبل النجاة منها، بالعمل بما يرضي الله - تعالى - وترك القيل والقال في زمن كثر فيه الحديث، وقلَّ فيه العمل.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد كما أمركم بذلك ربكم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان باب معنى قول الله - عزَّ وجلَّ -: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النَّجم: 13] (177).
[2] "مفتاح دار السعادة" (1/282). انظر: "أضواء البيان" للشنقيطي (2/175 - 176).
[3] انظر: "أضواء البيان" (1/176).


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الإيمان بالغيب
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: