اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  دراسة فكر الدكتور محمد أركون (1)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100010
 دراسة فكر الدكتور محمد أركون (1) Oooo14
 دراسة فكر الدكتور محمد أركون (1) User_o10

 دراسة فكر الدكتور محمد أركون (1) Empty
مُساهمةموضوع: دراسة فكر الدكتور محمد أركون (1)    دراسة فكر الدكتور محمد أركون (1) Emptyالأربعاء 15 مايو 2013 - 11:21

مدخـل[1]
"إن انغماس الجماهير في الحركات الصوفية، الذي كان موضع استهجان وازدراء من المثقفين العلمانيين، ظاهرةٌ فشل المثقفون في فَهْم أسبابها ودواعيها. وكذلك فإن عودة الجماهير إلى الدين بأعداد كبيرة، وفي مختلف أقطار الوطن العربي، وخصوصًا بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، لم يستطع المثقفون أن يتنبؤوا بها قبل حدوثها، ولم يستطيعوا فَهْم دَلالتها ومغزاها. وبعبارة مختصرة: "إن سلوك الجماهير سواء إزاء الموروث أو الوافد لم يكن أبدًا موضع دراسة حقيقية مِن قِبَل المثقفين"[2]. هذه العبارة الصادرة عن أحد المثقفين العرب الذين يَعِيبون على الفكر الإسلامي والثقافة العربية "غياب المشروع العلماني البديل الذي سيحقق إشباع الحاجات الإسلامية الأساسية للجماهير"[3]، تفسر لنا الاهتمام المتزايد الذي يُولِيه عدد من هؤلاء المثقفين للإسلام والدعوة الإسلامية، بعد أن كانوا بالأمس القريب يتذبذبون بين الدعوة إلى العلمانية والحث على اختيار المادية كنهج "فكري ثوري" سيتيح للشعوب العربية الخلاص من قيود التخلف والخروج من ظلمات الجهل التي ساهمت في صنعها "العقائد الدينية" إلى عالم التقدم والعلم في رحاب المادية "والتحرر الفكري والثقافي" العلماني.

نفس العبارات نجدها عند كثير من المثقفين العرب المعاصرين، بصورة أكثر أو أقل حدة، لكن كلها تعبر عن نفس المبتغى وهو الاهتمام بالإسلام والفكر الإسلامي؛ لإعادة النظر فيه، وقلب موازينه، وفصله عن الغيبيَّات، وتفكيك أجزائه؛ لإخضاعها لعمليات البحث "التاريخاني"، وترك العبادة جانبًا بعيدًا عن الأحاديث النبوية ومقولات العلماء الفقهية، وللعمل على تغيير فكر المجتمعات البشرية التي تشكل الدعامة الأساسية لاستمرار الحركات الإسلامية "التقليدية "... بعض هؤلاء المثقفين لا يخلو من حسن في النية وصدق القول، لكن جُلَّهم متفقون على الدعوة إلى ثورة شاملة تهز فكر العالم العربي والإسلامي رأسًا على عقب مطالبين بعدم ترك الإسلام بأيدي الشيوخ و"علماء الدين". وإذا اقتصرنا على المغرب العربي، فإنه يمكننا تقديم الأمثلة التالية:

- د. محمد أركون: "إن اقتحام الإسلام لخشبة المسرح باعتباره قوة تعبئة للجماهير لم يُتخذ موضوعًا لتحليلات نظرية جادة، وأعتقد أننا نتوفر هنا على مادة جديدة لنراجع مقارباتنا وتعريفاتنا للظاهرة الدينية بصفة عامة.... إن مفهوم الدين لم يبلور بلورة كافية في الوقت الحاضر لتبيح لنا الكلام عنه علميًّا، ولنستطيع القيام بتلك النظرية التي تتردد بأن نجزم أن الأديان ما هي إلا أيديولوجيات"[4].

- د. محمد جسوس: "في هذا المجهود لإعادة التفكير والتخطيط للمستقبل، أتمنى أن تتاح الفرصة لكي نبدأ لأوَّلِ مَرَّةٍ بالطَّرْحِ العَلَنِيّ والعقلانِيّ للعديد من القضايا الأساسية التي تتخبط فيها المجتمعات العربية، والتي أعتقد أنه لا الحكم ولا الطبقات الحاكمة ولا المسار التاريخي، ولا اليسار العربي، بما فيه طليعة الطليعة، قد بدأت تطرح النقاشات حولها حتى بطرق لينة ومتواضعة.
هناك ما اقترحت تسميته بالقارات العربية الثلاث التي مازالت غائبة ومغيبة، مجهولة، خفية ومستترة، نتحدث عنها في الخفاء أو ندعي أننا نتحدث عنها ولا نحللها، بل ليست لنا مواقفُ منها ولا مخطَّطات.
أعتقد أن جزءًا كبيرًا من الإحباط والانكسار الذي حدث لليسار العربي يرجع إلى عدم شمولية نظرته، عدم شمولية استراتيجيته وممارسته. هذه القارات الكبرى الثلاث هي: الإسلام، الجنس، السلطة، أولى تلك القارات الغائبة والمغيبة هي الإسلام باعتبار أن الإسلام كان ولا يزال مركزَ الشرعية الأول والأخير بالنسبة للأغلبية الساحقة من الجماهير العربية التي تتعامل معها، وأن كل الطروحات الأيديولوجية الأخرى لم تتمكن من الحصول حتى على بصيص من الوفاء والالتزام الذي أمكن الوصول إليه عن طريق الإسلام. في حين أننا تركنا الإسلام في يد المشعوذين والمتطفلين والمنافقين وشيوخ الزوايا ومنعدمي الضمائر، وإن هذا الانفصام بين الثقافة السياسية وثقافة الجماهير قد أصبح من أخطر مكونات الأزمة الراهنة. لقد حان الوقت لكي تُطرح علنًا، بدون لفٍّ ولا دوران، مسألةُ موقف اليسار العربي من الإسلام ومختلف مكونات الإسلام، فلا نكتفي بمنطق المناورات والتعامل التاكتيكي معها في أحسن الأحوال، وبمنطق الانتهازية والشطارة والتحليل في أسوئها، فلا يكفي أن نستشهد فقط بالإسلام، وفي نهاية الأمر نحوله إلى مجرد سلعة ونتعامل معه بصفة أدواتية وانتهازية لا تختلف عن تعامُل ما سمَّيْته بالمُشَعْوِذين والمُتَطَفِّلين"[5].

- د. هشام جعيط: "لا وجود للشتات في الإسلام العربي. إن الإسلام كما بينه شبنغلر جيدًا: "له تربة تحت أقدامه". إن قدرته الهجومية المشكّلة لكيانه تحميه من كل تحطيم قادم من الخارج،... الإسلام لا يمكن أن ينزل منزلة موضوع تلاعب... الحقيقة أننا منذ عهد التنوير الأوروبي نمر بواحدة من تلك المراحل فوق التاريخية حيث يستعد الإنسان لمصير جديد محدد، بعد أن تخلص لا محالة من ثقل المجهول الأزلي. لكن إلى أن يأتيَ ما يخالف ذلك، فالإسلام باقٍ بالنسبة لملايين البشر بمثابة جواب صالح لقضية الموت وأسٍّ للسلوك الأخلاقي والاجتماعي أكثر من المسيحية؛ لكونه يتحرك في مجال ثقافي أقل تطورًا. ولذا فان مستقبلنا سيندرج في جدلية ذات الشيء وخلافه. لسنا بمتغربين ولا مغتربين، ولذا علينا أن نفصل حداثتنا في نسيج كياننا، إذًا نحن مجبورون على ذلك لا محالة. لقد قُضي علينا بالتحرك في دائرة الانتماء العربي الإسلامي لثقل معطياتنا التاريخية بالذات. وذلك مهما كان الشكل الذي نريد إضفاءه عليهما، ومهما تخيلنا من دور لهما. وبذا يتداخل التعبير الفردي عن إنسانيتنا، والإطار الشكلي على الأقل للكيونية التي نطمح إليها. وبعبارة أخرى، فتجاوزًا للنرجسية والمركزية العريقة والقومية من جهة، إنا لا نعتبر العروبة غاية قصوى لمصيرنا وقيمة في حد ذاتها. ومن جهة أخرى فنحن لا نقبل أن يكون الإسلام الأس الوحيد للأخلاق والمجتمع، والمحرك الأساسي الفعلي للعبة الاجتماعية، فارضًا قواعده الدينية وما يرتبط بها من فروض في العادات والقضاء، كما كان الأمر في الدولة الخاضعة للحكم الإلهي في العهد الوسيط وكما هي الحال في بعض الدول المعاصرة سواء كان حكمها تيوقراطيًّا أم لا. وعلينا تحمل تراثنا الثقافي والروحي وإحياؤه. وعلى مستوى أكثر عمقًا، علينا أن نشعر بأننا مستمرون من حيث التاريخ في عمل كل الذين شيدوا الحضارة العربية والإسلامية، والذين قاسوا من أجل الهُوية التي منحتها لهم، وأخيرًا أن نفصل تطورنا في نسيج هذه الهُوية التي استرجعناها واستبطناها؛ حتى لا نحس بها كقوة إكراه خارجية فُرضت علينا فتحمَّلناها"[6].

هذه العبارات تُظهر حدة الأزمة التي تعيشها النخبة المثقفة اليسارية في العالم العربي تُجاه الدين الإسلامي والتراث العربي الإسلامي[7]، تلك الأزمة التي تجسد الصراع الدائر على الساحة الثقافية العربية بين المذاهب السياسية؛ لاكتساب العدد الأكبر من الجماهير والبزوغ بثقل على بساط الساحة. والصراع هذا يجد أصوله وجذوره في بداية الحقبة التاريخية المصطلح على تسميتها "باليقظة العربية"، أي تلك الفترة التي انتبه فيها العقل العربي من سُباته تحت الضغط القوي والمؤلم لأقدام المستعمر.

والمطلع عن كَثَبٍ على ما يجري من أحداث على الساحة الثقافية يمكنه أن يستنتج دون صعوبة أن رحى الحرب فيها تدور على واجهات ثلاث تُمثِّل كل منها "إشكالية" تستدعي بالنسبة للمثقفين "المتبارزين" بحثًا وتحليلاً واتخاذ موقف، ومرتبطة ارتباطًا عضويًّا يصعب معه فصل إحداها عن الأخرى. هذه " الإشكاليات الثلاث هي:

- المدارس السياسية والفكرية الغربية والشرقية بشقيها الليبرالي الديمقراطي، والاشتراكي الماركسي، ومدى صلاحيتها للتطبيق في العالم العربي والإسلامي؛ لتشخيص مشكلاته وتفسيرها وتقديم حلول عملية لها ترضاها الجماهير وتؤمن بها.

- "التراث العربي الإسلامي" بما فيه الوحي الإلهي "الكتاب والسنة" بالانكباب على تحديد واضح لمفهومه ووظيفته، واتخاذ موقف منه ينطلق إما من كون الكتاب والسنة وحيًا إلهيًّا سماويًّا، لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، وإمَّا مِنْ كَوْنِهما إرثًا ورصيدًا تاريخيًّا ثقافيًّا وحضاريًّا ليس غير.

- الواقع العربي المعيش وكيفية التعامل مع مشاكله المعاصرة كالتَّخَلُّف والتَّبَعِية والغزو الفكري والثقافي الغربي والتحدي الصِهْيَوْنِيِّ، وغياب الوَحْدة بين الحكومات العربية في المواقف السياسية، وانعدام الحرية في عديد منَ البُلدان العربية، وغيرها من المشاكل التي أثقلت الدراساتُ والأبحاث والمراسلات حولها رفوفَ مكتبات وأرشيف الجامعة العربية.
وازداد حجم هذه الإشكاليات أو الواجهات وتراكمت التساؤلات حولها بعد أن أحس مثقفو اليسار العربي أن انشغالَهُمْ بالثقافة السياسية، واستيرادهم لمفاهيم ومعطيات المدارس الفكرية الشرقية والغربية في شكلها الخام وصبَّهم لها على الواقع العربي، وأخذهم من الدين الإسلامي موقفًا غامضًا يعارض أكثر مِمَّا يُسانِد، وبعد أنْ أَدْرَكُوا أن ابتعادهم هذا جعل الهوة بينهم وبين الجماهير التي يُصَرِّحون أنَّهم يعملون من أجلها تَتَّسِعُ وتزداد، في حين أن الثقافة الإسلامية في شكلها الشعبي من مَوَاعِظَ دينية ودروس فقهية بالمساجد والدور الثقافية، وشكلها الأكاديمي من خلال المقالات والنشرات بالصحافة الوطنية والدولية، أو الأبحاث والدراسات من خلال الندوات والمحاضرات في اللقاءات الثقافية، أو المؤتمرات الفكرية من طرف جهابذة الفكر الإسلامي والدعاة الإسلاميين المعاصرين، تكسب الأنصار تلو الأنصار وتكتسح الساحة بعودة فئات كبيرة من الشعوب العربية الإسلامية إلى ممارسة شعائرها الدينية مع إيمان كبير ويقين صادق، واستعداد لنصر الملة الإسلامية والذود عن الشريعة المحمدية.

وإقبال هذه الفئات على تجديد إيمانها وإخلاص الدعاة لها وصدقهم في دعوتها؛ جعل مثقف اليسار العربي يحار بين نظريات تفجر الثورات وتحرك الشعوب على مُسَوَّدات الكتب وصفحات الجرائد والمجلات، وبين واقع معيش يُظهر تشبث تلك الشعوب بدينها والتفافها حول شريعة نبيِّها، وسرعة تأثير دعوة الإسلام فيها. فتأكد لغير واحد مِن أمثال هذا المثقَّفِ الحائِرِ أنَّ المدارس الفكرية المادية والليبرالية ليست دواء ناجعًا لكل مشاكل العالم العربي الإسلامي بحُكْم أنها تفترض قبل قيامها، كلٌّ حسَب أيديولوجيتها، " تكوين تقليد للتفكير والكفاح، وطليعة واعية يحركها إيمانٌ قويٌّ، ومسيرة طويلةٌ إلى الحُكْم، فضلاً عن ظروف تاريخية ملائمة. وإلا يكون ذلك جدلاً لفظيًّا، وذريعة لطموح طائفة تغطي ولعلها تعمق النقائص الهيكلية الدائمة"[8]، وإن الشعوب الإسلامية المخاطَبة بفكر تلك المدارس الغريبِ عن تراثها وأصالتها، والمعاكس لطموحاتها وآفاق مستقبلها، لا ترغب في الابتعاد عن دينها وعقيدتها؛ لكون هذه العقيدة علاوةً على صدقها وحقيقتها لا تقف معارضًا لركب الحضارة، وليست عائقًا في طريق النهوض بالأمة نحو التقدم والرقي بقدر ما هي المحرك والدافع لمجهودات ومقدرات هذه الأمة نحو الحضارة الراقية والازدهار المستمر. ولتأكدهم هذا مَرَقَ العديد مِن مثقفي اليسار مِن صفوف تَكَتُّلاتهم الحزبية ومدارسهم الفكرية، وأقبلوا على دراسة الإسلام؛ ليعيدوا نظرتهم إليه بعيدًا عن الآراء الاستشراقية والافتراءات المعادية.

وأمام هذا المروق الذي أحدث الصدع في التكتلات الثقافيَّة القائمة، ومناصرة عدد من منظِّري التجمعات اليسارية العربية للدعوة الإسلامية إنْ سرًّا وإن علنًا، وتصريح باقيهم بالخوف من هذا الانتشار الكاسح للشريعة الإسلامية والملة المحمدية بين صفوف الشباب بالمدارس والجامعات، بل إعلان بعضهم أنَّهُمْ يَعِيشُونَ فَتْرَةَ مَخاضٍ فِكْري تُنبِئ عنِ انقلابٍ على الأفكار المادية أو الليبرالية، وتُبَشِّرُ بالعودة إلى الإسلام قولاً وعملاً، ولوضع حد للأزمة المشار إليها بحسم الصراع الدائر حول المواقف الثلاثة السابق ذكرُها؛ عَكَفَ عَدَدٌ غَيْرُ يسير من المخلصين لمذاهبهم السياسية، والموفون بالتزاماتهم تُجاه أساتذتهم في جامعات ومدارس الكتلة الشرقية أو الغربية على تحرير مشاريع ثقافية وإعداد برامج فكرية "نهضوية"؛ لإعادة تشكيل العقل العربي، وبالتالي إعادة تأريخ الفكر العربي الإسلامي، تنقسم في معظمها إلى قسمين[9]:

- قسم يرى ضرورة تبني الأفكار المادية، واقتباس المناهج الاشتراكية الماركسية؛ للخروج بالفكر العربي من أوضاعه المتردية الراهنة، ويرى ضرورة البَدْء بإعادة كتابة التاريخ على ضوء مناهج المادية الجدلية.

- وقسم يرى أنَّ تَبَنِّي الأفكار المادية أو غيرها من أفكار المذاهب السياسية المعاصرة يستلزم المرورَ من مرحلة تاريخية تتم فيها علمنة الشعوب العربية الإسلامية، وجعل إيمانها بعقيدتها الإسلامية، وعملها بشريعتها المحمدية، ينقلب إلى تقديس لتلك العقيدة كإرث حضاري وثقافي إنساني، وتعظيم من طرفها لتلك الشريعة كعطاءات فكرية بشرية، تحمل في كيانها عناصرَ ثورية إذا ما قورنت بزمانها وفترة تاريخها، ثم سلْخ ذلك التقديس وذلك التعظيم عن كل إيمان بالدار الآخرة.

وإذا كان القسم الأول قد تناولته أقلام بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين بالبحث والتحليل، وتجلَّى للعيان مضمونُه وأهدافُه، وأساليبُه ووسائِلُه، فإن القسم الثاني بحُكْم تستُّرِه بستار الدعوة لتجديد الدين، وإحياء علومه وفنونه، وإعادة قراءة تراثه وكتابة تاريخه، لم يَنَلْ حَظَّهُ منَ الدراسة، ولم تسلط عليه الأضواء بالقدر الكافي، الذي يجعله بارزًا واضحًا لا غُبَارَ عَلَيْهِ خاليًا من كل أثر للتمويه أو التزييف.

من هذه المشاريع مشروع" إعادة القراءة للقرآن" للدكتور محمد أركون، وهو مشروع جزئي يدخل ضمن مشروعه العامّ المتعلق بإحياء جديد لعلوم الدين على ضَوْءِ ما استَجَدَّ من علوم في ميدان الآداب والعلوم الإنسانية كالألسنية والبنيوية والأنتروبولوجيا وغيرها. وحسَب ما وصل إليه عِلمُنا فإن مشروع محمد أركون لم يُتناول بالبحث والتحليل أو النقد والدراسة، لا من طرف المفكرين الإسلاميين ولا من طرف المفكرين اليساريين أو العلمانيين بشقَّيْهِم: الليبرالي والاشتراكي الماركسي، وإنما اكْتُفِيَ بتمجيده والإشادة به، وترجمة بعض مقالاته ونصوصه في بعض المجلات والدوريات العربية.

لذا، ولخطر هذا المشروع على مستقبل الدراسات الإسلامية بجامعاتنا العربية، ولفتح نافذة على التيارات المعاصرة الراغبة في قلب الدِّين رأسًا على عقب[10]، رأينا أن نقوم بجولة في أروقة القاعة الفكرية المجسدة لفكر ومشروع محمد أركون، والوقوف على بعض آرائه ومقترحاته ومدى صلاحيتها لتجديد الدين وإحياء شرعه القويم.

وسينقسم بحثنا إلى أربعة فصول هي:
1- الفصل الأول: من هو محمد أركون؟ وفيه سنعرف بصاحب المشروع وبمؤلفاته وبعض ما قيل فيه وكتب حوله.
2-الفصل الثاني: لماذا محمد أركون؟ وسنتناول فيه الأسباب التي دعتنا لدراسة مشروع محمد أركون دون بقية المشاريع المقترحة والمتداولة بالساحة الثقافية.
3-الفصل الثالث: ماذا يريد محمد أركون؟ وفيه سنعطي نظرة موجزة عن الغاية من المشروع والأهداف التي يرمي إلى تحقيقها.
4-الفصل الرابع: أركونيات، وفيه سنورد بعض الفقرات من مقالات وكتب محمد أركون؛ لاستكمال جولتنا في أروقة نتاج فكره ومشروعه.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] "الأوجه الاجتماعية والدينية للأنسية الإسلامية"، وهو بحث شارك به المستشرق روجي أرنالديز، أستاذ كرسي الفلسفة الإسلامية والإسلاميات سابقًا بجامعة باريس الرابعة، في اللقاء الثقافي الذي نظمه المجمع اليهودي الدولي – فرع فرنسا – في نوفمبر 1977 م والذي كان موضوعه: "الأمة الإسلامية". ويعني أرنالديز بالمفكرين المسلمين المعاصرين، خاصة أولئك الذين حصر نشاطهم في عبارته بباريس، ومنهم الدكتور محمد أركون والدكتور عبد المجيد تركي وغيرهما من المفكرين المقيمين بفرنسا والقاطنين أو المدرسين بجامعات باريس، والمفكران المشار إليهما شاركًا في اللقاء المذكور ببحثين وسنشير إلى بحث أركون منهما بشيء من التفصيل في الفقرة المعنونة: "لماذا محمد أركون؟".
"ASPECTS SOCIAUX ET RELIGIEUX DE L'HUMA-NISME MUSULMAN" par roger ARNAlDEZ, professeur de philosophie musulmane et d'islamdologie a l'Universite de Paris IV, "COMMUNAUTE MUSULMANE" Presses Universitaires de France, 1978, page 51 et 52.
[2] يسين السيد/ مدير الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، والمقولة التي أوردناها مقتبسة من عرضٍ قام به لصالح مجلة "المستقبل العربي" حول ندوة"التراث وتحديات العصر في الوطن العربي" التي عقدت بالقاهرة ما بين 24-27سبتمبر 1984، والتي شارك فيها محمد أركون موضوع مقالنا ببحث معنون:"التراث: محتواه وهُويته، إيجابياته وسلبياته". المستقبل العربي، العدد 69، نوفمبر1984، ص160.
[3] المرجع السابق.
[4] العبارة وردت ضمن مقابلة مطولة أجراها محمد أركون مع رئيس تحرير مجلة هيرودوت Herodote الفصلية والمتخصصة في الجغرافية السياسية "إيف لاكوست" نشرتها المجلة المذكورة في عددها الخاص بالجغرافية السياسية للعالم الإسلامي وقامت بنقل بعض فِقْراتها إلى العربية مجلة " الوحدة " الصادر عن المجلس القومي للثقافة العربية، عدد6، مارس1985، ص152-153.
[5] "أزمة المجتمع العربي وأزمة اليسار " محمد جسوس، وهو بحث شارك به في الندوة التي نظمها "منتدى الفكر والحوار " بالرباط ما بين 22-24نوفمبر 1984 م، نشر نص البحث في الملحق الثقافي لجريدة "الاتحاد الاشتراكي" العدد 54، الأحد / الاثنين 2 – 3 ديسمبر 1984، وفي مجلة "الوحدة" عدد 6 مارس 1985 م، ص21. وتجدر الإشارة إلى أن البحث يوضح تحولاً جذريًّا في فكر الدكتور محمد جسوس، وهو جدير بالقراءة.
[6] "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي"، د. هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الأولى مايو 1984، ص102و103.
[7] لدراسة أسباب هذه الأزمة ومظاهرها وطرق علاجها يمكن مراجعة الكتاب الأخير للدكتور محسن عبد الحميد:" أزمة المثقفين تجاه الإسلام في العصر الحديث " مكتبة أسامة بن زيد – الرباط 1405/1985م.
[8] د. هشام جعيط، الكتاب السابق، ص103.
[9] ظهرت في السنوات الأخيرة عدد من مشاريع الدراسة، وإعادة القراءة للدين الإسلامي والتراث العربي الإسلامي، تقترح مناهج فكرية مادية أو ليبرالية أو علمانية أو يسارية غير محددة المعالم؛ لإعادة النظر في الموروث الثقافي بما فيه الوحي الإسلامي وصياغة كتابة تاريخه من جديد، [يحتاج التاريخ العربي الإسلامي إلى إعادة قراءة وتدوين؛ لتَنْقِيحِه مِنَ الدَّخَن وإزاحة الأباطيل والشبهات عنه، والساحة الثقافية الإسلامية ما زالت تفتقر إلى مشاريع إسلامية معتمدة على برامج علمية للقيام بهذا العمل اللازم لتجديد الدين الإسلامي والفكر العربي الإسلامي] من ضمن المشاريع الثقافية اليسارية المطروحة على الساحة:

أ- مشروع الدكتور طيب تيزيني، أستاذ جامعي سوري، والذي سماه "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بدايته حتى المرحلة المعاصرة"، وهو مشروع يعتمد الماركسية كمذهب والمادية التاريخية كمنهج، ينوي صاحبه إصداره في اثني عشر جزءًا، صدر منها حتى اليوم جزءان، خصص الجزء الأول لعرض النظرية المقترحة قي قضية التراث العربي. وللدكتور تيزيني أفكارٌ وآراء في قضية التراث العربي، لا يوافقه عليها عديد من الماركسيين العرب علاوة على غيرهم من مفكري المذاهب السياسية الأخرى.

ب- مشروع الدكتور حسين مروة، باحث لبناني، والمعنون:"النزاعات المادية في الفلسفة الإسلامية" صدر في جزأين ابتداء من 1978 وهو موضوع رسالة دكتوراه ناقشها الباحث في جامعة موسكو، وقد نشرت دار الحداثة للطباعة والنشر ببيروت كتابًا ضَمَّ أغلب المقالات والمناقشات التي تناولت مشروع طيب تيزيني ومشروع حسين مروة بالبحث والدراسة من قِبَل مثقفي اليسار أنفسهم، وعنوانه "الماركسية والتراث العربي الإسلامي "، الطبعة الأولى 1980.

ج- مشروع الدكتور حسن حنفي، أستاذ جامعي مصري، سبق له أن درس في جامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس، عنوان مشروعه " التراث والتجديد" يقول عنه إنه سيشمل ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: موقفنا من التراث القديم وفيه 8 أجزاء.
- القسم الثاني: موقفنا من التراث الغربي وفيه 5 أجزاء.
- القسم الثالث: نظرية التفسير وفيه 3 أجزاء.

صدر حتى الآن من هذا المشروع كتاب واحد بعنوان "التراث والتجديد"وهو عبارة عن مقدمة للمشروع – دار التنوير للطباعة والنشر – الطبعة الأولى 1981، علمًا بأن للباحث كتبًا أخرى تناول فيها الموقف من الفكر العربي المعاصر، والفكر الغربي المعاصر، ودراسات في علم أصول الفقه وعلم أصول الدين والفكر الإسلامي المعاصر. وتجدر الإشارة إلى أن الدكتور حسن حنفي هو أبرز منظري ما اصطلح على تسميته "باليسار الإسلامي "، وله بحث في هذا الباب عنوانه "ماذا يعني اليسار الإسلامي"؟ كما أصدر مجلة عنوانها "اليسار الإسلامي" (صَدَرَ مِنْهَا عدد واحد فقط ). ولمن أراد مزيدًا من البحث في نقد مشروع باحثنا فليرجع إلى كتاب "ظاهرة اليسار الإسلامي"لمحسن الميلي- مطبعة تونس-قرطاج - أكتوبر1983 وهو يَتَنَاوَلُ الظاهرة من وجهة نظر إسلامية، ومقال الدكتور فؤاد زكريا بعنوان " مستقبل الأصولية الإسلامية"، مجلة فكر، العدد 4، ديسمبر 1984 ضمن ملف عن "الفكر الديني والفكر العلماني" ص16-50 وهو يتناول الظاهرة من موقع علماني

د- مشروع الدكتور محمد عابد الجابري، أستاذ جامعي مغربي، الذي بدأه بكتابه " نحن والتراث" وأعقبه بمحاولته الأخيرة " نقد العقل العربي "-صدر منه الجزء الأول "تكوين العقل العربي " دار الطليعة –بيروت الطبعة الأولى 1984، وهو مشروع ينطلق من منهجية مادية، لكن مختلفة عن منهجية طيب تيزيني أو حسين مروة، ومعتمدة على أفكار المدارس الفكرية الفرنسية الحديثة في ميدان العلوم الإنسانية كالأبستمولوجيا والبنيوية وغيرهما....

هـ-مشروع الدكتور محمد أركون وهو موضوع بحثنا هذا.
كما أن هنالك عددًا آخر من مشاريع الثقافة كمشروع الدكتور غالي شكري وغيرها لم نر ضرورةً لذكرها.
[10] يقول أمير الشعراء شوقي في مِثْل هؤلاء الدعاة المجددين:
لاَ تَحْذُ حَذْوَ عِصَابَةٍ مَفْتُونَةٍ يَجِدُونَ كُلَّ قَدِيمِ أَمْرٍ مُنْكَرَا
وَلَوِ اسْتَطَاعُوا فِي الْمَجَامِعِ أَنْكَرُوا مَنْ مَاتَ مِنْ آبَائِهِمْ أَوْ عُمِّرَا
مِنْ كُلِّ سَاعٍ فِي الْقَدِيمِ وَهَدْمِهِ وَإِذَا تَقَدَّمَ لِلْبِنَايَةِ قَصَّرَا.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
دراسة فكر الدكتور محمد أركون (1)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  وقفات مع محمد أركون من خلال إنتاجه وفكره (2)
»  النبي : لا كذب المؤلف الدكتور محمد فؤاد الهاشمي
» تعقيب على رد الدكتور المزيني على الدكتور البراك
» قراءة في "الفكر العربي" لمحمد أركون
»  تعريف البدعة مع الدكتور المحدث الشيخ محمد إبراهيم عبدالباعث الكتاني

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: