اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  الخطاب الديني الصهيوني ... قتل، دماء، إبادة، زيف

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100165
 الخطاب الديني الصهيوني ... قتل، دماء، إبادة، زيف  Oooo14
 الخطاب الديني الصهيوني ... قتل، دماء، إبادة، زيف  User_o10

 الخطاب الديني الصهيوني ... قتل، دماء، إبادة، زيف  Empty
مُساهمةموضوع: الخطاب الديني الصهيوني ... قتل، دماء، إبادة، زيف     الخطاب الديني الصهيوني ... قتل، دماء، إبادة، زيف  Emptyالثلاثاء 14 مايو 2013 - 16:11

كلمة "خطاب" العربيَّة هي ترجمة لكلمة (discourse) الإنجليزيَّة، وهي كلمة مركَّبة وخلافيَّة، ولها معانٍ عديدةٌ، إذ تطوَّر حقْلها الدلالي بشكْلٍ ملحوظ منذ الخمسينيَّات مع ظهور البنيويَّة وما بعدها، وقد عُرِّف الخطاب بالمعنى المعْجَمي المباشر بأنَّه: "كلُّ كلامٍ تَجاوز الجملة الواحدة، سواءٌ كان مكتوبًا أم ملفوظًا"؛ ولكن للكلام دلالات غير ملفوظة يُدْرِكها المتحدِّث والسَّامع دون علامةٍ معلنةٍ واضحة.

ولهذا عُرِّف الخطاب بأنَّه: "نظام من القول له قواعدُه وخواصُّه التي تحدِّد شكل الجمل وتتابُعَها، والصور المجازيَّة، والخواصَّ اللفظيَّة، ونوع الأسئِلة التي تُسأل، والموضوعات الأساسيَّة الكامنة، وما يُقال وما يُسكت عنه؛ أي: تُحدِّد الاستدلالاتِ والتوقُّعات الدلاليةَ" [1].

ولكل مجتمعٍ خطابه، إذ تتآلف الجمل لتشكل نصًّا مفردًا، وتتآلف النصوص لتشكِّل نصًّا شاملاً؛ أي: نسقًا فكريًّا متكامِلاً، ورؤية للكون، ولكلِّ خطاب تحيُّزاته المعرفيَّة، ومن ثَمَّ فالمعرفة التي ينقلها الخطاب ليستْ مُحايدة أو بريئة كما قد يبدو من ظاهره.

وتكتسب دراسة الخطاب الصهيوني أهمِّيَّة قُصوى في مسار الصراع العربي - الصهْيوني، سواء لفَهْم خصائص هذا الخطاب، والأساليب التي يتبعها، والأسباب التي تؤدِّي إلى قبوله في الغرب، أو لصياغة خطابٍ مضادٍّ ذي منطلقاتٍ عربيَّة لا يكتفي بالإدانة أو التحريض أو الفضْح؛ بل يتجاوز ذلك إلى التَّحليل والتفسير، وهما أساسيَّان لأيَّة مواجهة جادَّة للمخطط الصهيوني الاستعماري.

من هنا تأتي مشْروعيَّة قراءة لغة الخطاب الدِّيني الصِّهْيوني أثناء الحرْب على غزَّة، لاسيَّما إذا كان هذا الخطاب صادرًا من رجالٍ ذوي نفوذ سياسي في الكيان الصهيوني، إلى جانب صفتِهم كرجال دين، وأنَّ خطابهم يحتوي من الألفاظ والعبارات ما قد ينمُّ مضمونه عن الصدق أو الكذب، كما يحتوي أيديولوجيات تكمن وراء توجيه هذا الخطاب وجْهَتَه التي يريد تحقيقها؛ وذلك في محاولة لكشف الزيف القابع بين جنبات هذه اللغة، وما تستخدمه من حيلٍ ووسائلَ للوصول إلى ما تهدف، وما تتميَّز به من سمات في مستوياتِها المختلفة.

ولعلَّنا إذا عُدْنا بذاكرتِنا إلى مشهد الحرْب الصهيونية الأخيرة على غزَّة، ندرك أنَّ قوَّات الاحتلال قد عمِلت - منذ اللحظة الأولى لقرارها بالخروج لعمليَّة عسكرية قاسية باتِّجاه حركة حماس في غزَّة - على حصار القطاع بواسطة تكنولوجيا عسكرية متطوِّرة، قادرة على رصد تحرُّكات المقاومة، وضبْطِها في مهدها بحرًا وبرًّا وجوًّا، فرأيْنا - حسب ما نقلت بعض وكالات الأنْباء - زوارق حربيَّة دون طاقم، وسيَّارات تجسُّس، ومدفعًا يعمل بالليزر، ومركبة عسكريَّة غير مأهولة.

ممَّا يجعلنا على يقينٍ بأنَّ الحملة العسكريَّة الصِّهْيونيَّة الأخيرة تكشِف عن تضخُّم حجْم الانشِغال، الذي عاشتْه الأوساط العسكريَّة الإسرائيليَّة، في تطوير وإنتاج آخِر ما ابتكرتْه الآلة الصناعية الحربية والعسكرية، لمواجهة جهود قوى المقاومة الفلسطينيَّة، وهو ما يفضح - في الوقْت ذاته - الأيدلوجيَّة الصهيونيَّة العسكريَّة المبنيَّة على إراقة الدماء، وإشْعال نار الحرب والتدمير، وجلب الخراب على مَن جاورهم.

وإذا بدتْ هذه الأيدلوجيَّة أمرًا طبيعيًّا - وهي ليست كذلك على أيَّة حال - بالنسبة للقوَّة العسكرية الصهيونية، فإنَّها تبدو أمرًا شديد الغرابة أن تظهر معْلنة واضحة مكشوفة، في الخطاب الصَّادر عمن يُعرفون أو يسمَّون برجال الدين الصَّهاينة.

لقد أصْدر العديد من الحاخامات اليهود تصريحاتٍ تَحضُّ على القتل والإبادة؛ بل تجعل من ذلك امتِثالاً لأمر التوراة.

ومن أمثلة هذا الخطاب الذي تناولتْه وسائل الإعلام:
كبير الحاخامات بالجيش الإسرائيلي أفيخاي رونتزكي وزَّع كُتيبًا على الجنود الذين يقاتلون في غزَّة، يحتوي على فتوى دينيَّة تُعارض الرَّحْمة بالأعداء.

الحاخام شلومو أفينير - وهو شخصية رئيسة في حركة الاستيطان في الضفة - قال في كتيِّب وزَّعه رونتزكي خلال حملة "الرصاص المسكوب": إنَّ إظهار الرَّحْمة إزاء عدوٍّ قاسٍ هو شيء لا أخلاقي بصورة فظيعة، وأبلغ الجنود بأنَّهم يحاربون قتلة!

نشرت "هآرتس" فتوى لعدد من الحاخامات، أفتَوا فيها بأنَّه: يتوجب على اليهود تطبيق حكم التوراة الذي نزل في قوم عملاق على الفلسطينيين، ونقلت الصحيفة عن الحاخام يسرائيل روزين قولَه: إنَّ حكم التَّوراة ينصُّ على قتْل الرِّجال والأطْفال وحتَّى الرضَّع والنساء والعجائز، وحتَّى سَحْق البهائم.

الحاخام الأكبر لمدينة صفد شلوموا إلياهو قال: "إذا قتلْنا 100 دون أن يتوقَّفوا عن ذلك فلا بدَّ أن نقتُل منهم ألفًا، وإذا قتلْنا منهم 1000 دون أن يتوقَّفوا فلنقتل منهم 10 آلاف، وعلينا أن نستمرَّ في قتْلِهم حتَّى لو بلغ عدد قتْلاهم مليون قتيل، وأضاف إلياهو قائلاً: "المزامير تقول: سوف أُواصل مطاردة أعدائي والقبْض عليْهِم، ولن أتوقَّف حتَّى القضاء عليهم".

بعث الحاخام مردخاي إلياهو خلال الحرْب إلى إيهود أولمرت، بكتيب ذكر فيه قصَّة المجزرة التي تعرَّض لها شكيم ابن حمور، والتي وردت في سفر التكوين، وبحسب صحيفة "الوطن" السعودية، فقد كتب إلياهو: أنَّ هذا المعيار نفسه يمكن تطبيقُه على ما حدث في غزَّة، حيث يتحمَّل جَميع سكَّانِها المسؤوليَّة؛ لأنَّهم لم يفعلوا شيئًا من شأْنِه وقْف إطلاق صواريخ القسام، واعتبر أنَّ المسَّ بالمواطنين الفلسطينيين الأبرياء أمر شرعي.

ولعلَّ أوَّل ما ترصده عين المتأمِّل في النماذج السَّابقة من فتاوى الحاخامات: هو شيوع مفردات مثل "القتل - الإبادة - سحق" في كافَّة التصريحات، التي تشير دلالاتُها المعجميَّة إلى العدوانيَّة وسفْك الدماء وإراقتها والدَّمار، وكأن معجم هؤلاء الحاخامات خلا من كلِمات غير تلك التي تنتمي إلى حقْل القتل والإبادة وسفك الدماء، بل إنَّ أحد الحاخامات - وهو شلوموا إلياهو الحاخام الأكبر لمدينة صفد - يرفُض أن يتوقَّف جنود جيْشِه عن القتل مهما كان عدد القتلى، فإن قتل الصهاينة من أعدائهم 100 ولم يتوقَّفوا قتلوا ألفًا وهكذا حتى يتحقَّق المراد، مهما تكلَّف هذا الغرض من نفوسٍ بشريَّة.

والحقُّ أنَّ شيوع هذه المفردات يتواكب مع الأيدلوجيَّة الصهيونيَّة القائمة على العدوان، ففي تاريخ الاستِيطان اليهودي ومراحل الصِّراع العربي الإسرائيلي، تبدو الحروب أسطورةً مغْلقة كغيرها من الأساطير التي يتعامل معها الفكر الصِّهْيوني الغيبي، كأسطورة أرْض الميعاد، والشَّعب المختار، والحق التاريخي في فلسطين، حيث يتعامل الوجدان الإسرائيلي مع الحرب كما لو كانت قدرًا وحالةً لا نهائية، ودائرة مغلقة لا فكاك منها.

ولا تُثير الملاحظة السَّابقة فينا عجبًا، فالدموية فكر مترسِّخ في العقل اليهودي منذ أمد بعيد؛ فقد اشتهر اليهود من قديم بتقديم القرابين البشريَّة بذبْحِها ومصِّ دمائها، أو مزجها في فطائر يأكلونها في مناسبات معيَّنة، كعيد الفصح عندهم، أو ما يُسمَّى بعيد الفطائر، وكذا في مراسم ختان أطفالِهم، وهم يزعمون أنَّ تعاليم دينهم تأمُرهم بذلك تقرُّبًا إلى إلههم "يهوه"، وقد أثبتتِ الدِّراسات: أنَّ السَّحرة اليهود في قديم الزَّمان كانوا يستخْدِمون دم الإنْسان من أجل إتْمام طقوسِهم وشعْوذتهم، وقد أوضح المؤرخ اليهودي "برنراد لافرار" في كتابه "اللاَّسامية": أنَّ هذه العادة ترجع إلى السَّحرة اليهود في الماضي.

ومعلوم أنَّ لليهود عيدين تقدَّم فيهما الفطائر الممزوجة بالدِّماء البشريَّة:

الأوَّل: عيد "البوريم" الذي يتمُّ الاحتِفال به في شهر مارس من كل عام.

والثاني: عيد الفصح الذي يحتفل به في شهر أبريل، ويتمُّ استنـزاف دم الضحيَّة إما بذبْحها كما تُذبح الشاة وتصفية دمها في وعاء، وإمَّا بوضعها في برميل تثبت في جوانبه إبر حادَّة، تغرس في جثة الضحية بعد ذبحها، وإمَّا بقطع شرايين الضَّحية في مواضع متعدِّدة ليتدفق منها الدم، الذي يجمع في وعاء، ويُعْطى للحاخام الذي يستعمله في إعداد الفطير المقدَّس.

وفي مناسبات الزَّواج: يقدِّم الحاخام للزَّوجين بيضةً مسلوقة مغموسةً في رماد مشرَّب بدم إنسان.

وفي مناسبات الختان: يضع الحاخام أصْبعه في كأس مملوءةٍ بالخَمر الممزوج بالدَّم، ثم يدخله في فم الطفل مرَّتين وهو يقول: إنَّ حياتك بدمك!

أمَّا الحوادث التي افتضح فيها اليهود بِجرائمهم تلك، فلا تكاد تُحصى، وهي مسجَّلة تاريخيًّا، وتعتبر من أسباب النكبات التي نكب بها اليهود بعد أن باؤوا بكراهية النَّاس واضطهادِهم في كل مكان، وسنذكر مثالاً واحدًا على ذلك، أمَّا مَن أراد المزيد، فليراجع الكتُب المعنيَّة بالمسألة، ككتاب "اليهود والقرابين البشرية" للأستاذ محمد فوزي حمزة، طبعة دار الأنصار بمصر، وكتاب "نهاية اليهود" للأستاذ أبي الفداء محمد عارف، طبعة دار الاعتصام بمصر.

أمَّا المثال الذي سنقْتَصِر عليه: فهو جرائم اليهود في بريطانيا، ففي سنة 1144م وجدت في ضاحية "نورويش" جثَّة طفل عمره 12 سنة مقتولاً، وقد استنـزفتْ دماؤه من جراح عديدة، وكان ذلك في يوم عيد الفصح اليهودي ممَّا أثار شكوك الأهالي في أنَّ القتلة من اليهود، وبالفعل تمَّ القبض على الجناة، وكانوا جميعًا من اليهود.

وفي سنة 1255 خطَفَ اليهود طفلاً من "لنكولن" في أيَّام عيد الفصح اليهودي، وعذَّبوه وصلبوه، واستنْـزفوا دمه، وعثَر والِداه على جثَّته في بئر بالقرب من منـزل يهودي يُدعى "جوبين"، وأثْناء التَّحقيق اعترف اليهودي على شُركائه في الجريمة، فحوكم منهم 91، أُعدم منهم 18، وكان الجميع من اليهود.

وتوالتْ جرائم اليهود في بريطانيا، حتَّى كانت جريمتُهم سنة 1290 التي ذبَحوا فيها طفلاً في "أكسفورد" واستنْـزفوا دمه، ممَّا أدَّى بالملك "إدوارد الأوَّل" إلى أن يصدر قرارَه التَّاريخي بطَرْدِ اليهود من بريطانيا.

ثُمَّ لما عادوا إليْها لم تتوقَّف جرائمهم، ففي أوَّل مارس عام 1932 تَمَّ العثور في إحْدى مدن بريطانيا على جثَّة طفل مذبوح ومستنـزف الدم، وكان ذلك قبل عيد الفصح اليهودي بيوم واحد، وتمَّ إدانة يهودي في تلك الجريمة، ثم اختفتْ هذه الجريمة تقريبًا من يوم دخل اليهود أرْض فلسطين واغتصبوها، ولعلَّ السِّرَّ في ذلك هو قدرتُهم على تنفيذ جريمتِهم البشِعة فيمن يعتقلونه من أهل فلسطين في سرِّيَّة تامَّة.

ولعلَّ ما قدَّمناه يفسِّر ما وصفْناه بخلوِّ معجم الحاخامات الصهاينة من كلِمات سوى الكلمات الدالَّة على القتل والإبادة؛ إذْ إنَّ القتل والإبادة شعيرةٌ من شعائِرهم.

وممَّا يُلاحظ أيضًا على التَّصريحات السَّابقة للحاخامات الصَّهاينة: أنَّ هؤلاء الحاخامات في خِطابِهم يستنِدون إلى أحكام التوراة، لإقْناع شعوبِهم وجنودهم بشرعيَّة ما يقدمون عليه من قتل وإبادة، فالحاخامات الذين نشرت "هآرتس" فَتاواهم يستنِدون في شرعيَّة الحرب على ما نصَّت عليه التَّوراة في قوم عملاق، ومردخاي إلياهو يستنِد في تبرير مجزرة أولمرت في غزَّة إلى حكم التَّوراة في شكيم بن حمور، وشلوموا إلياهو يُذكِّر بقول المزامير: "سوف أواصل مطاردة أعدائي والقبض عليْهم، ولن أتوقَّف حتَّى القضاء عليْهم".

وهنا لا بدَّ من العوْدة إلى التَّوراة للتأكُّد من صِدْق ما زعم هؤلاء الحاخامات، ففيما يخصُّ فتوى حاخامات "هآرتس" الذين استنَدوا في شرعيَّة الحرب على ما نصَّت عليه التوراة في قوم عملاق، وبالرجوع إلى التوراة نرى فيها أن الرب - كما يزعمون - خاطب موسى - عليه السلام - في سفر التثنية الإصحاح 24 بقوله: "فمَتى أراحَكَ الرَّبُّ إلهُكَ من جَميعِ أعْدائِكَ حَوْلَكَ في الأرْضِ الَّتي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلهُكَ نَصِيبًا لكَيْ تَمْتَلِكَها، تَمْحُو ذِكْرَ عَمالِيقَ مِن تَحْتِ السَّماءِ، لا تَنْسَ".

وحسب التراث الديني اليهودي فإنَّ قوم "عملاق" كانوا يعيشون في أرْض فلسطين منذ عدَّة قرون مضت، وكانت تحرُّكاتهم تصِل حتى حدود مصر الشَّمالية، ويقول اليهود: إنَّ العماليق شنُّوا هجماتٍ على مؤخرة قوافل بني إسرائيل التي كان يتزعَّمُها النبي موسى - عليه السَّلام - عندما خرجوا من مصر واتَّجهوا نحو فلسطين.

والواقع: أنَّ تاريخ العماليق غيرُ واضح إلى الآن، بل يصِل حدَّ التَّناقض بين رواية وأُخرى عن هؤلاء القوم، ويمتزج بشيءٍ من الأساطير وخيال القصَّاصين أحيانًا أخرى.

فاسمُهم يوحي إلى الأذْهان بالضخامة، وقد دفَع هذا الإيحاء بعضَ الرواة إلى المبالغة والتَّهويل، فنقل لنا محمد بن الحسن بن زبالة في كِتابه "أخبار المدينة"، جمع وتوثيق ودراسة: صلاح عبدالعزيز زين سلامة (ص 167) روايةً تزعُم أنَّ "ضبعًا وأولادها وُجِدتْ رابضةً في حجاج عين رجُل من العماليق، وأنَّه كانت تمضي أربعمائة عام وما يسمع بجنازة"، ولا شكَّ أنَّ هذه الرواية وأمثالها من صنع قصَّاصين يحرِصون على استِثارة جُمهورهم بالخوارق والعجائب.

وبعيدًا عن تلك المبالغات، فإنَّ كلمة عملاق في اللغة تعني: الطويل، ويبْدو أنَّ تلك القبائل كانت تتميَّز بشيء من الطُّول والجسامة.

ويَذهب بعض المؤرِّخين إلى أنَّ سكَّان الجزيرة العربيَّة كانوا حتَّى عام 1600 قبْل الهجرة ضِخامًا، وبقِي لهم أحفاد إلى ما بعد ذلك القدْر من الطول ولا يعمرون ما يعمر به أسلافهم، وليس ثَمَّة شكٌّ في وجود العماليق وفي عروبتِهم تاريخيًّا، فالمصادر العربيَّة وغير العربيَّة تذكر أخبارًا عدَّة عنْهم.

والطبري يعدُّ جدَّهم عمليق "أوَّل من تكلَّم بالعربيَّة"، والأسفار اليهوديَّة تذكرهم في عدَّة مواضع، باسمهم العماليق مرَّات، وباسم الجبابرة مرَّات أخرى، وتذكر بعض أسمائِهم وأسماء مدُنِهم العربيَّة.

ويقدِّر بعض دارسي الأسفار أنَّ تاريخهم يرْجِع إلى ما قبل القرْن العِشْرين قبل الميلاد، وأنَّهم عاصروا خروج بني إسرائيل من مِصْر، واصطدموا معهم في معارك عدَّة.

ومن المهمِّ هنا: أن نقِف عند ما ورد عنْهم في الأسفار اليهوديَّة؛ لأنَّ الصَّهاينة يزعُمون أنَّ اليهود قضَوا على العماليق، وخلَّصوا يثرب منهم واستوْطنوها بعْدَهم، وقد تبيَّن لي أنَّ في تلك الرواية خطأً كبيرًا، وأنَّ اليهود لم يقْضُوا على العماليق نهائيًّا، وأنَّهم سكنوا يثْرب بعدهم بمدَّة غير قليلة، والمُدْهش أنَّ الأسفار اليهوديَّة نفسها لا تقول ذلك، بل تذكُر معارك كثيرة معهم، وتصِف في مبالغات خياليَّة انتِصار اليهود عليْهم والتنكيل بهم.

إنَّ ذكر العماليق في الأسْفار التوراتيَّة يرجع إلى عهد إبْراهيم - عليه السلام - ففي الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين: أنَّ ملك عيلام ومعه مجموعة من ملوك المناطق المجاورة، جاؤوا إلى عين مشفاط، فضربوا كلَّ أرض العمالقة والأموريين، وأسروا كثيرين، منهم لوطٌُ ابن أخي إبراهيم "إبرام" - عليهما السلام - ومواليه ونساؤه، وجاء إلى إبراهيم فجدَّ في أثرهم ليلاً، فكسَرهم واسترْجع جميع المال ولوطًا والنِّساء وسائر القَوم.

ثم يتكرَّر ذِكْرهم في الأسفار الأخرى، ففي سفر الخروج خبرٌ عن مجيء العمالقة لمحاربة اليهود في زمن موسى - عليه السلام - في منطقة رنيديم، ويذكر الخبر أنَّ العماليق هزموا بمعجزة ربَّانيَّة، وهذا يعني: أنَّ بني إسرائيل لم يكونوا يملكون من القدرة ما يمكنهم من الانتِصار على العماليق، وتعدُّ هذه الموقعة أوَّل صدام بين العماليق واليهود تلَتْها موقعة أخرى، انتصر فيها العماليق، وقتلوا عددًا كبيرًا من اليهود، وذلك بسبب معصية اليهود لرسول الله موسى - عليه السلام.

وبعد وفاة موسى - عليه السلام - تكرَّر هجوم العماليق على اليهود بسبب معصية هؤلاء كما تذكر الأسفار، ففي عهد القضاة غزاهم ملك مؤاب بجيش من العماليق، وبني عمون، واستعبدهم ثمانيَ عشرة سنة، وبعد خلاصهم منهم بمدَّة وجيزة أعاد العماليق الغارة عليْهم، كما فعل أهل مدين، وقوِيت أيديهم عليهم حتى اضطرُّوهم إلى ترْك مدنهم وقراهم، والالتجاء إلى المنارات والحصون، فكانوا إذا زرعوا، باغتَهُم خصومهم فأفسدوا غلَّتهم.

ولم يبقوا لهم ميرة ولا ماشية، فذلَّت إسرائيل إذلالاً عظيمًا سبع سنين، إلى أن كان خلاصُهم على يد جدعون الذي اشتبك مع العمالقة والمدينيين في وادي يرزعبل، وضربَهم ضربًا شديدًا على ما ذكَره الإصحاحان السَّادس والسابع من سفر القضاة، في سياق طويلٍ فيه الكثير من الخيال.

ويبدو أنَّ الإسرائيليِّين ضعُفوا ثانية، وكانوا يتعرَّضون لضربات العماليق وغيرِهم من جيرانهم، إلى أن ظهر فيهم طالوت، حيث أبْلغه النبي صموئيل أنَّ الله يأمُره بالتصدِّي للعماليق والانتقام منهم، وتُظهر العبارة التي وردت في الأسفار مدى حِقْد اليهود على العماليق ورغْبتهم في الانتقام منهم بوحشيَّة لا نظير لها، ولا يُمكن أن يقبلها دينٌ سماوي.

فقد جاء على لسان صموئيل في سِفره:
"إيَّايَ أرْسلَ الرَّبُّ لِمَسْحِك مَلِكًا على شَعْبِه إسْرَائِيل، والآنَ فاسْمَعْ صَوْتَ كَلامِ الرَّبِّ، هكَذا يَقُولُ رَبُّ الجُنُودِ: إنِّي قَدِ افْتَقَدْتُ ما عَمِلَ عَماليقُ بإسْرَائِيلَ حِينَ وَقَفَ لَهُ في الطَّرِيقِ عِنْدَ صُعُودِه مِنْ مِصْر، فالآنَ اذْهَبْ واضْرِبْ عَمَالِيقَ، وحَرِّمُوا كُلَّ ما لَهُ، ولاَ تَعْفُ عَنْهُمْ؛ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وامْرَأَةً، طِفْلاً ورَضِيعًا، بقَرًا وغَنَمًا، جَمَلاً وحِمَارًا"، ويروي السِّفر أنَّ شاؤول (طالوت) قاد مائتين وعشرة آلاف رجُل من اليهود، وزحف بهم على العماليق، وضربَهم من حويلة إلى شور، وقبض على ملكهم (أجاج)، وحرم قتل جميع الشعب بحدِّ السيف، وعفا عن أجاج وعن خيار الغنم والبقَر والخراف، وعن كلِّ ما هو جيد، وحرم الأملاك المحتقرة والمهزولة.

ويروي السِّفر أنَّ الله غضِب على شاؤول؛ لأنَّه لم ينفِّذ أمره بقتل العماليق جميعِهم ودوابِّهم وماشيتهم، فكلَّم النبي صموئيل قَائِلاً: "نَدِمْتُ على أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ شَاوُلَ مَلِكًا؛ لأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ ورَائِي ولَمْ يُقِمْ كَلامِي: فَاغْتَاظَ صَمُوئِيلُ، ثمَّ إنَّه جاء إلى شاؤول وأنَّبه، فأظهر النَّدم وطلب المغفِرة، وأتى بأجاج فقطعه بالسيف، ولكنَّ صموئيل أخْبره أنَّ الله رفضه من الملك، وذهب غاضبًا، ولم يعدْ يَراه إلى أن مات.

هذا ما تحكيه التَّوراة عن العماليق وحروبِهم مع اليهود، وليس في التَّوراة بعد ذلك أيُّ خبرٍ عن جيش لإسرائيل قضى على العماليق أو أبادَهم.

كذلك لا يُمكن أن نحكُم بأنَّ حملة شاؤول على العماليق قد قضتْ عليْهِم؛ لأنَّنا نجِد في الأسْفار التَّالية لسفر صموئيل عدَّة أخبار تذْكُر وقائع أخرى بين الإسرائيليِّين والعمالقة.

ومن هذه الأخبار: أنَّ العمالقة في عهد داود - عليْه السلام - الذي تسلَّم الملك من شاؤول بعد غضَب الله عليْه - كما تقول الأسفار - غزوْا مدينة صقلاح وأحْرقوها وسبَوا مَن فيها من النساء، ولم يقتلوا، لا صغيرًا ولا كبيرًا، خلافًا لما كان يفعله الإسرائيليُّون، وكان داود غائبًا عن المدينة، فلمَّا علم بذلك أسْرع ولحقهم بجنده، فأدركهم واستخلص الأسْرى والسَّبْي والأموال.

ويدلُّ سياق الخبر على أنَّ الحادثة وقعت في حياة شاؤول المعزول عن الملك؛ أي: غير بعيد عن معركتِه مع العماليق، فكيف نصدِّق أنَّ حملة شاؤول قد قضتْ عليهم - أي: العماليق؟!

ولعلَّ في ذلك ما يؤكِّد لنا أنَّ الزَّعم بأنَّ العماليق قد انتهَوا على أيدي اليهود غيرُ صحيح على الإطلاق، أمَّا كيف انتهَوْا ومتى، فهذه قضيَّة ليس موضعها هاهنا.

من الغريب أيضًا: أنَّنا لا نجد في المزامير ما زعمه شلوموا إلياهو، وكذلك في باقي الأسفار، ولا ندري من أين جاء شلوموا إلياهو بهذه الفتوى!

صحيح أنَّ سِفْر المزامير هو أكْثر أسفار العهد القديم حديثًا عن الأعداء، وقد لاحظت أنَّه يغلب على استِعْمالها نسبتها إلى ياء المتكلم "أعدائي"، وقد تكرَّرت على هذا النحو 36 مرَّة في المزامير؛ لكن ما يَجب أن يُوضع في الاعتِبار أنَّ المزامير نزلت في عهد داود، وهو العهْد الذي كثُر فيه أعداء اليهود، وقادهم داود لانتِصارات عدَّة على هؤلاء الأعْداء، حيثُ كان - عليْه السَّلام - إلى جوار نبوَّته ملِكًا محاربًا.

ومن الطبيعيِّ أن يشرع الله لبني إسرائيل كيفيَّة معاملة أعدائهم، ولكن هذا لا يعني أنَّ التَّوراة قد شرعت القتْل، أو أنَّها أمرتْ بالإبادة، فالرَّبُّ - كما تقول التَّوراة في رسالة يعقوب -: "غير مجرّب بالشُّرور"، بل نهت بني إسرائيل عن أن يقولوا هذا: "لا يَقُلْ أحَدٌ إذَا جُرِّبَ: إنِّي أُجَرَّبُ مِن قِبَلِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بالشُّرُورِ، وهُوَ لا يُجَرِّبُ أحَدًا" (رسالة يعقوب: 1/13).

فإمَّا أنَّ شلوموا يَمتلك توراةً غير تِلْك التي بين أيْدي النَّاس، أو أنَّه يَبحثُ عن مبرِّر شرْعيٍّ مقْنع لما تُقْدِم عليه قوَّات جيشه من قتْلٍ وإبادة، وبوصْفِه رجل دين لا بدَّ أن يقول: إنَّ قولَه يستند إلى كتابِهم المقدَّس.

أمَّا ما دعا إليه مردخاي إلياهو أولمرت من تطبيقِ حُكْمِ التَّوراة في شكيم بن حمور على الفِلَسطينيِّين، فملخَّص هذه القصَّة - حسب ما جاء في سِفْر التَّكوين إصحاح 34 -: أنَّ شكيم بن حمور أوْقع بإحْدى بنات يعقوب "دِينَةُ ابْنَةُ لَيْئَةَ"، ثم إنَّه "تعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِدِينَةَ"، وأحبَّها، وكلَّم أباه حَمُورَ في أن يَطلُبها له من أبيها يعقوب ليتزوَّجها، فما كان من حمور إلاَّ أنَّه أتى يعقوب، وقال له: "شَكِيمُ ابْنِي قدْ تَعَلَّقَتْ نَفْسُه بِابْنَتِكُمْ، أعْطُوهُ إيَّاها زَوْجَةً، وصَاهِرُونَا، تُعْطُونَنا بنَاتِكُم، وتَأخُذُونَ لكُم بَنَاتِنا، وتَسْكُنُون معَنَا، وتَكُونُ الأرْضُ قُدَّامَكُمُ، اسْكُنُوا واتَّجِرُوا فِيها وتَمَلَّكُوا بها".

ثُمَّ قال شَكِيمُ لأبِيها ولإخْوَتِها: "دَعوني أجِدْ نِعْمَةً في أعْيُنِكُم، فالَّذِي تَقُولونَ لي أعْطِي، كَثِّرُوا علَيَّ جِدًّا مَهْرًا وعَطِيَّةً، فأُعْطِيَ كَما تَقُولُون لي، وأعْطُونِي الفَتَاةَ زَوْجَةً"، وعندها "أجَابَ بَنُو يَعْقُوبَ شَكِيمَ وحَمُورَ أبَاهُ بِمَكْرٍ" بأنَّهم يوافقون على الزَّواج؛ ولكن بشرط أن يختن بنو حمور "كُلَّ ذَكَرٍ"، وبالفعل وافق الأب والغلام على هذا الشَّرط، "ولم يَتَأَخَّرِ الغُلاَمُ أنْ يَفْعَلَ الأمْرَ؛ لأَنَّهُ كَانَ مَسْرُورًا بِابْنَةِ يَعْقُوبَ".

ثم أتَوا قومَهُما ليعْرِضا عليْهِما ما توصَّلا إليه، ولإقْناع القوم قالا لهم: "بِخَتْنِنا كُلَّ ذَكَرٍ كَما هُمْ مَخْتُونُونَ، ألاَ تَكُونُ مَواشِيهِمْ ومُقْتَنَاهُمْ وكُلُّ بَهَائِمِهِمْ لنَا؟"، فسمع القوم لحمور وابنه وأطاعوا فاختتنوا جميعًا، وفي اليوم الثالث إذْ كَان القوم مُتَوَجِّعِينَ أخذَ ابنا يعقوب شِمْعُونَ ولاَوِيَ أخَوا دِينَةَ، أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ، "وأتَيَا على المَدِينَةِ بِأمْنٍ وقَتَلا كُلَّ ذَكَرٍ، وقَتَلا حَمُورَ وشَكِيمَ ابْنَهُ بِحَدِّ السَّيْفِ، وأَخَذَا دِينَةَ مِنْ بَيْتِ شَكِيمَ وخَرَجَا، ثُمَّ أتَى بَنُو يَعْقُوبَ على القَتْلَى ونَهَبُوا المَدِينَةَ ... وكُلّ ما في المَدِينَةِ ومَا في الحَقْلِ أخَذُوهُ، وسَبَوْا ونَهَبُوا كُلَّ ثَرْوَتهِمْ وكُلَّ أطْفَالِهِمْ، ونِسَاءَهُمْ وَكُلَّ مَا في البُيُوتِ" فعلق يعقوبُ على ذلك بقولِه لابنيْهِ: "كدَّرْتُماني بتَكْرِيهِكُما إيَّايَ عِنْدَ سُكَّانِ الأرْضِ الكَنْعَانِيِّينَ والفِرِزِيِّينَ".

والقصَّة على النَّحو الذي مضى توقع عقوبة القتْل على مَن تجنَّوا على اليهود، أو هتكوا أعراض بناتِهم، ولم يكن ذلك متحقِّقًا في حال سكَّان غزَّة المحاصَرين من قِبَل اليهود أنفُسِهم منذ عامين، ممَّا ينفي زعْم انطباق حكم التوراة في شكيم بن حمور على أهْل غزَّة.

ولعلَّ من الجدير هنا: أن نأخذ في الاعتبار تعليقَ يعقوب نفسِه على فِعْل ولديه، فالواضح - كما تقول القصَّة - أنَّه لم يكن راضيًا عن فِعْلِهما القائم على الخِيانة، واستدراج العدوِّ الذي جاء مسالمًا، طالبًا المصاهرة، وأذْعَن لما اشترطوه عليه، فيعقوب "تكدَّر"؛ لأنَّه أدرك أنَّ فعل ولديْه لن يكون موضِعَ استِحْسان من شعوب الأرض.

ولعلَّ ذلك يدفعُنا إلى القول بأنَّ فِعْلَ ولدَي يعقوب لم يكن هو ما أمرَ به الشَّرع، وأنه كان اجتهادًا فرديًّا مندفعًا من شابَّين أخذتْهُما الغيرة على أُخْتِهما؛ إذ لو كان هذا الحكم هو ما رضِيَه الرَّبُّ لَما شعر يعقوبُ بالتكدير، ولما علَّق بما علَّق به.

والملاحظة السَّابقة - على هذا النَّحو - تثير تساؤلاً يُحاول أن ينفذ إلى سرِّ هذه التَّصريحات من رجالٍ يعرفون بأنَّهم رجال دين، ومن المفتَرَض أنَّهم يقرؤون التَّوراة ويعرفون أحكامَها، ويُدركون أنَّ دعوة موسى - عليه السلام - التي ينسبون أنْفُسَهم إليْها ظلمًا وزورًا وبهتانًا لم تدْعُ إلى القتل وسفك الدماء، ولا إلى سحْق المدنيين العُزَّل بالطَّائرات، ولا إلى الاعتِقالات الجماعيَّة والاجتياح بالدبَّابات، واحتِلال الأرض، وهدْم البيوت، وحتَّى حين دعت إلى ذلك أمرتْهم أن يكون القصاص: "نفسًا بنفسٍ، وعينًا بعينٍ، وسنًّا بسنٍّ، ويدًا بيدٍ، ورِجْلاً برجلٍ، وكيًّا بكيٍّ، وجرحًا بجرحٍ، ورضًّا برضٍّ"؛ "سفر الخروج: 23-25".

ولعلَّ التفسير المناسب أو الإجابة اللائقة التي لا تكاد تتوارى عن الأفْهام: أنَّ هؤلاء الحاخامات أرادوا أن ينحتوا من نصوص توْراتِهم فتاوى تُبيح ما يقوم به جنودُهم، من دمارٍ وقتْل وخراب في قطاع غزَّة، فجاءت فتاواهم تنضَحُ بلوْنِ الدِّماء الذي خضب أرض غزَّة، فتبلورت مهمَّتها في الدِّفاع عن أقبح الجرائم، متَّخِذة من النفوذ اللُّغوي الإعلامي سلاحًا حاسمًا في الإقْناع بالأفْكار السياسيَّة المختلفة والتَّرويج لها، وتَحفيز الجماهير للمشاريع السياسيَّة المختلفة، فكانت بذلك عونًا لآلة الحرْب الصهيونيَّة فيما جلبتْه على غزَّة من دمارٍ وقتْل.

أجدُني أخيرًا أردِّد مقولَتَيَّ: "من تعلَّم لغة قوم أمن مكرهم"، "أمعِن النَّظر في الكلِمات"، وهما مقولتان تنتمِيان إلى ثقافتين مختلفتين؛ إذ تنتمي الأولى إلى الثَّقافة الإسلاميَّة بقيمها الربَّانية الخالدة، والثَّانية تنتمي إلى الثَّقافة الغربية بنزعتها المادِّيَّة التجريدية، وقد جاءت على لسان عالم اللغة الأمريكي ذي الأصل اليهودي ناعوم تشومسكي، في تعليقٍ له على خطابٍ ألْقاه الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن، بعد حادث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وهما مقولتان باتتا من الأهميَّة بمكان، خاصَّةً بعد أن تدخَّلت اللغة - بوصْفِها ظاهرةً إنسانيَّةً في المقام الأوَّل - في كلِّ مظاهر الحياة البشريَّة التي أصبحتْ أكثر تعقيدًا في العصر الحاضر.

ـــــــــــــــــــ
[1] د. عبدالوهاب المسيري: الخطاب الصهيوني المراوغ، مقال بصحيفة الاتحاد الإماراتية، العدد الصادر بتاريخ 31/5/2003م.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الخطاب الديني الصهيوني ... قتل، دماء، إبادة، زيف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  قراءة في الخطاب الديني وأزمة حظر المآذن
»  الاستبداد الديني - أو كشف اللثام: عن المدونة البابوية للمحظور من الفكر والكلام
»  كيف أزرع في أبنائي الوازع الديني؟
» التسامح الديني اختراع إسلامي
»  بين التكفير الديني والتكفير الوطني

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: