اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 المشكلة الأخلاقية وكيفية التغلب عليها عند ابن قيم الجوزية (751 هـ)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99975
المشكلة الأخلاقية وكيفية التغلب عليها عند ابن قيم الجوزية (751 هـ) Oooo14
المشكلة الأخلاقية وكيفية التغلب عليها عند ابن قيم الجوزية (751 هـ) User_o10

المشكلة الأخلاقية وكيفية التغلب عليها عند ابن قيم الجوزية (751 هـ) Empty
مُساهمةموضوع: المشكلة الأخلاقية وكيفية التغلب عليها عند ابن قيم الجوزية (751 هـ)   المشكلة الأخلاقية وكيفية التغلب عليها عند ابن قيم الجوزية (751 هـ) Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 13:44

المشكلة الأخلاقية وكيفية التغلب عليها عند ابن قيم الجوزية (751 هـ)


التعريف بابن القيم:

هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حارز المعروف باسم ابن القيم الجوزية ولد عام 691هـ بدمشق، وكان شغوفًا بالعلم منذ نعومة أظافره، حريصًا على اقتناء الكتب في اختلاف فروع العلوم والمعارف المطلوبة في عصره، فامتلك مكتبة ضخمة عكف على الاطلاع على محتوياتها ليلًا ونهارًا كما يذكر عن ذلك ابن كثير في تاريخه، وقد ترك لنا مؤلفات في شتى فروع العلوم كالفقه وأصوله والكلام والفلسفة والتصوف والسيرة النبوية. لازم أثناء حياته شيخه ابن تيمية وتلقى عنه وتأثر به لا سيما منذ عودته من مصر عام 712هـ، وابتداءً من هذا الوقت ارتبط مصيره بمصيره، وكان من نتائج هذا الوفاء أن قاسم أستاذه في كثير من محنه.



ابتلي وسجن بسبب بعض آرائه التي التزم بها شيخه ووقع في نزاع مع بعض الفقهاء والصوفية المعاصرين له، وتوفي سنة 751هـ بعد أن أثر طوال حياته تأثيرًا عميقًا في كثير من معاصريه، وترك لنا مؤلفات عديدة يغلب عليها منهج أستاذه من حيث الارتباط بالكتاب والسنة والدفاع عنهما، والدفاع كمنهج أصلي يغنى عن اتباع مناهج المتكلمين والفلاسفة والصوفية، وإن مال في كثير من تصانيفه إلى الاتجاه الأخلاقي الصوفي، مع ملاحظة أنه لا يعد صوفيًا بالمعنى الحرفي للكلمة، وإن كان ذا مذهب خاص في الحياة الوجدانية والأخلاقية، وأخذ ينقد بشدة الصوفية المنحرفين عن الطريق الإسلامي الصحيح، البعيد عن منهج القرآن "فالحقيقة والطريقة والأذواق والمواجيد الصحيحة كلها لا تقتبس إلا من مشكاته ولا تستمد إلا من شجرته"[1].



وقد التزم فعلًا في مؤلفاته بهذه القاعدة.



وسنتوخى في هذه الدراسة بيان موقف ابن القيم من المشكلة الأخلاقية ومعاناة الإنسان لهذه المشكلة، مع تتبع آرائه في كيفية التغلب عليها وحلها والطريقة الموصلة إلى السعادة الحقيقية المنشودة.



ومما يساعد على فهم آرائه أن نقف على تحليله لحقيقة الانسان، وتفسيره لقصة خلق آدم عليه السلام، وشرحه لآثار خلقة الإنسان على أخلاقه بسبب التنازع بين الجانبين المتضادين في النفس البشرية أحدهما يجذبه إلى الرفيق الأعلى من أعلى عليين وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين.



الإنسان على الحقيقة:

إننا لا نستطع فهم الانسان وتفسير سلوكه وأخلاقه إلا إذا عرفنا حقيقته، فليس هو الظاهر أمامنا بجوارحه وأعضائه التي تصور فقط الهيكل الخارجي، وإنما حقيقته تكمن في داخله، أي في قلبه، فمن أراد إصلاح أخلاقه فعليه أيضًا البدء بإصلاح قلبه.



والقلب يطلق على معنيين:

أحدهما: أمر حسي وهو العضو اللحمي مجمع الدم.

والثاني: معنوي، وهو لطيفة ربانية رحمانية روحانية لها بهذا العضو تعلق واختصاص، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسانية[2].



ويقرب إلينا ابن القيم فهم هذا القلب الذي هو الإنسان على الحقيقة فيصوره في شكل ملك عظيم جالسًا على سرير مملكته، يأمر، وينهي، ويولي، ويعزل، وقد حف به الأمراء والوزراء والجند، كلهم في خدمته، وإن استقام استقاموا وإن زاغ زاغوا، وإن جنح جنحوا، وإن فسد فسدوا، فعليه المعول، وهو محك نظر الرب تعالى، ومحل معرفته ومحبته وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضى به، وعنه، والعبودية عليه أولًا وعلى رعيته وجنده تبعًا.



ولما خلق القلب للسفر إلى الله والدار الآخرة وحصل في هذا العالم ليتزود منه، افتقر إلى المركب والزاد لسفره الذي خلق لأجله. فأعين بالأعضاء والقوى وسخرت له، وأقيمت له في خدمته لتجلب له ما يوافقه من الغذاء والمنافع ويدفع عنه ما يضره ويهلكه.



لذلك احتاج القلب إلى جنديين:

باطن: وهو الإرادة والشهوة والقوى.

ظاهر: وهو الأعضاء أي آلة الإرادة.



وعلى ضوء حقيقة ابتلاء الإنسان في الدنيا بالشهوة والغضب والشيطان فإن الله تعالى أعانه عليها بجند من الملائكة. بل ما ابتلى بصفة من الصفات إلا وجعل لها مصرفًا ومحلًا ينفذها فيه: فبإزاء الحسد جعل له المنافسة في فعل الخير والغبطة عليه والمسابقة إليه.



وبإزاء الكبر جعل له التكبر على أعداء الله تعالى وإهانتهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه يختال بين الصفين في الحرب ((إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)).



وهكذا جعل لكل أحاسيس النفس وإرادات القلب مصارف ومواضع تستعملها بأعمال الحلال.



وإليكم هذه المصارف:

جعل لقوة الحرص مصرفًا، وهو الحرص على ما ينفع كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((احرص على ما ينفعك))، ولقوة الشهوة الزواج، ولقوة حب المال إنفاقه في مرضاته تعالى، ولمحبة الجاه مصرفًا وهو استعماله في تنفيذ أوامره وإقامة دينه ونصر المظلوم وإغاثة الملهوف وإعانة الضعيف وقمع أعداء الله، فمحبة الرياسة والجاه على هذا الوجه عبادة.



وجعل لقوة اللعب واللهو مصرفًا، وهو لهوه مع امرأته أو بقوسه وسهمه أو تأديبه فرسه "أي التمرين على آلات الحرب وأسلحة القتال في عصرنا الحاضر"[3].



الإنسان ومكانته في الكون:

إذا لخصنا عقيدته المتصلة باللإيمان بالله تعالى وموقفه من قضايا خلق الإنسان والعالم فسنرى أنه تقيد بعقيدة شيخه ابن تيمية، فاعتمد على النصوص الواردة عن الصحابة والتابعين وتابعيهم لإثبات الصفات والأفعال لله تعالى، وهي أدلة الكمال، ويستخدم أحيانًا نفس عبارات شيخه للتعبير عن آرائه، مثل قوله: إن الرسل صلوات الله عليهم لم يخبروا بما تحمله العقول والفطر، والثاني: ما لاتدركه العقول، كالغيوب التي أخبروا بها" فالمنهج الذي يفضله هو اتباع الأنبياء، ومن ثم إبعاد الآراء الفلسفية والكلامية والمبتدعة، وكان من نقاد الأخلاق عند الفلاسفة كما سنرى.



ومن النظر في القرآن الكريم نعرف الله سبحانه، "ومعرفة الله نوعان:

1- معرفة إقرار.

2- معرفه توجب الحياء والمحبة له وتعلق القلب به"[4].



والسالك إلى ربه لابد له من التقرب بالأعمال الظاهرة ثم أعمال القلوب، ويبدو أنه خلص إلى القرب بهذا المعنى من شرح حديث التقرب إلى الله تعالى بالفروض ثم بالنوافل.



أما عن الإنسان فقد اقتضت حكمة الله تعالى خلق آدم عليه السلام من مواد مختلفة: تراب الأرض والماء فأصبحت كالحمأ المسنون، ثم جفت بواسطة الريح فصارت صلصالًا كالفخار، ثم قدر لها الأعضاء وغيرها وأبدع تصويرها وتشكيلها حتى صارت جسدًا متكاملًا كأنه ينطق، إلا أنه لا روح فيه ولا حياة، فلما نفخ الله تعالى فيه نفخة "انقلب ذلك الطين لحمًا ودمًا وعظامًا وعروقًا وسمعًا وبصرًا وشمًا ولسانًا وحركة وكلامًا"[5].



ويستند ابن القيم في تفضيل آدم على الملائكة إلى عدة أسباب، منها العلم، وأنه خلاصة الوجود ووفرته، وأنه جمع ما فرقه في العالم في آدم "فهو العالم الصغير وفيه ما في العالم الكبير"[6].



وبالنظر إلى القرآن، استمد حقيقة الإنسان الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض، لأنه الغاية التي من أجلها خلقت السموات والأرض والشمس والقمر والبر والبحر[7].



وبالنظر أيضًا إلى الحديث النبوي عثر على المزايا التي اختصها آدم وحده، وهي "خلق الله له بيديه، النفخ فيه من روحه، وإسجاد ملائكته له وتعليمه أسماء كل شيء"[8].



ولتتضح لنا محنة الإنسان فإن الشيخ يلجأ كدأبه إلى القرآن الكريم ليستخرج منه المكونات المادية والروحية للإنسان، فيعود بنا إلى خلقه ونشأته.



خلق الإنسان ونشأته:

إن لفظ "الإنسان" في القرآن لا يقصد شخص معين كأبي جهل أو غيره كما يقول كثير من المفسرين في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6]؛ لأن القرآن أجل من ذلك، بل الإنسان هو الإنسان من حيث هو من غير اختصاص بواحد بعينه، أي أنه الإنسان المشخص الواقعي الذي يجده الفرد منا في ذاته وفي غيره، لا إنسان عصر بعينه ولا قارة ولا بلد ولا الإنسان المطلق الذي يتصوره الفلاسفة عادة.



ولهذا فإنه يتتبع السور والآيات التي ذكر فيها الإنسان بالكتاب الكريم وساعدته حصيلته الوفيرة من المعرفة بالتفسير، واطلاعه على الحديث ومعلوماته الوفيرة في علوم ومعارف عصره، كل هذا شكل منها نظرته لحقيقة الإنسان سواء بتتبع خلق آدم عليه السلام، أو بما اشتملت عليه الطيعة الإنسانية من خير وشر والصراع الدائب بينهما أخذ يبحث في أصل الخلق الأول من المادة - وهي التراب - والروح، فأصبح الإنسان مضطرًا إلى نوعين من الحياة، حياة بدنه وحياة قلبه وعني أكثر بحياة القلب وما يملأه من معرفة الله تعالى به، وهي معرفة فطرية.



وعندما فضله الله تعالى على باقي المخلوقات وخصه بالخلافة وأمر الملائكة بالسجود ففعلوا إلا إبليس أصبح الصراع بينهما دائرًا في الحياة الدنيا، وهي مرحلة انتقال، تتم بها دورة الإنسان ليعود في النهاية إلى المصير المحتوم، فالناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حظ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار.



ومن هنا كان من الضروري لبني آدم من يرشدهم - وهم الرسل والأنبياء - المكلفين بمهام علمية وتشريعية وأخلاقية، وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث هاديًا وداعيًا إلى الله وإلى جنته، ومعرقا بالله ومبينًا للأمة مواقع رضاه، وآمرًا لهم بها ومواقع سخطه وناهيًا لهم عنها ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم وأخبار تخليق العالم وأمر المبدأ والمعاد، وكيفية شمقاوة النفس وسعادتها وأسباب ذلك.



ويرى ابن القيم أن الخلق الفاضلة يمكن اكتسابها ويرسم لنا الطريق.



الخلق مكتسبة:

يعرف ابن القيم الخلق بأنها "هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل والحكمة والمصلحة وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات، فتكتسب النفس بها أخلاقًا، هي أزكى الأخلاق، وأشرفها، وأفضلها"[9].



ويرى ابن القيم أن الصفات الخلقية تكتسب بالمران والجهاد والمثابرة، كالتحلم والتشجع والتكرم ونحوها، وإذا تكلفه المرء واستفاده صار سجية له كما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((ومن يتصبر يصبره الله))[10]، وكذلك العبد يتكلف التعفف حتى يصير التعفف له سجية، كذلك سائر الأخلاق. وقد عرض لوجهتي النظر المتعارضتين، فالجبريون يرون أن الله سبحانه قد فرغ من الخلق، وعارضهم آخرون فقالوا بل يمكن اكتساب الخلق كما يكتسب العقل والحلم والجود والسخاء والشجاعة والتجارب شاهدة بذلك إذ أن المزاولات - أي مزاولة الخلق المطلوب - تعطي الملكات، أي تصير ملكة لصاحبها، ومعنى هذا أن من زاول خلقًا يريده واعتاده وتمرن عليه صار ملكة له وسجية وطبيعة، فلا يزال الفرد يتكلف التصبر حتى يصير الصبر له سجية، كما أنه لا يزال يتكلف الحلم والوقار والسكينة والثبات حتى تصير له أخلاقًا بمنزلة الطبائع، وقد جعل الله سبحانه في الإنسان قوة القبول والتعلم، فنقل الطبائع إذن عن مقتضياتها غير مستحيل، غير أن هذا الانتقال قد يكون ضعيفًا وقد يكون قويًا بحسب الجهد الخلقي المبذول[11]، وسنرى بعد قليل كيف يرسم طريق هذا الجهاد ويستحثنا على صعود الدرج الأخلاقي بمثابرة وهمة وإصرار لنغير أخلاقنا إلى الأحسن، ونقاوم آثار البيئة والعادة وأوهام الخضوع للطبائع الذميمة، وخير من يعين على ذلك هو الدين لا الفلسفة عن اقتناع بالفارق الكبير بينهما في علاج المشكلة الأخلاقية.



الأخلاق بين الدين والفلسفة:

لتعريف الدين عند ابن القيم أولًا أن نعرف العلم الإلهي، كما يراه فأصل العلم هو العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، كذلك العمل بمرضاته وانجذاب القلب إليه بالخوف والرجاء فيتعين من ذلك أن تصبح أجل المقاصد في الشوق إلى لقائه والتنعم بذكره "وهذا أجل سعادة الدنيا والآخرة، وهذا هو الغاية التي تطلب لذاتها"[12].



وهكذا لخص الدين كله بمقصوده الأسمى وغاياته العظمى فعرفه بكلمات مختصرة لها دلالات أخلاقية ((فالدين كله يدور على أربع قواعد: حب وبغض ويترتب عليهما فعل وترك))[13] وذلك على التفصيل الذي سيأتي بيانه بعد اعتراضاته على الأخلاق الفلسفية ونلاحظ أنه تأثر فيها بشيخه ابن تيمية.



أما الفلاسفة فقد افتقدوا هذه النظرة المتكاملة للنفس البشرية وما يوجب سعادتها أو شقاوتها، فاعتبروا أن المقصود بالشرائع والعبادات تهذيب أخلاق النفوس وتعديلها لتستعد بذلك لقبول الحكمة العملية والعلمية، إذ إنهم رأوا النفس لها شهوة وغضب بقوتها العملية ولها تصور وعلم بقوتها العلمية فقالوا: وكمال الشهوة في العفة وكمال الغضب في الحلم والشجاعة وكمال القوة النظرية بالعلم والتوسط في جميع ذلك بين طرفي الإفراط والتفريط هو العدل أي بعبارة أخرى دارت تفسيراتهم الأخلاقية حول الغاية من العبادات والشرائع فظنوا في النفس واستكمال قوتها العملية بالعدل.



والحقيقة غير هذا فإنه لا كمال للنفس إلا بتحقيق ما خلقت لأجله ويتلخص في معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة أمره ودينه والتمييز بين مواقع رضاه وسخطه، واستفراغ الوسع في التقرب إليه وامتلاء القلب بمحبته، بحيث يكون سلطان حبه قاهرًا لكل محبة ولا سعادة للعبد في دنياه ولا في أخراه إلا بذلك[14]، وهذا هو مقصود الدين الأسمى الذي يدفع بالعبد إلى الكمالات الأخلاقية.



ونفهم من سياق نقده للنظريات الأخلاقية عند الفلاسفة أنه يعني نظرية الوسط عند أرسطو من قلده من فلاسفة المسلمين، فأخذ ابن القيم يناقش الفكرة من كافة وجوهها، ويخصص بعض السجايا الأخلاقية عندهم بالنقد، ففيما يتعلق بالعفة مثلًا لم يذكروا عن ماذا تكون ولا مقدارها الذي إذا تجاوزه العبد وقع في الفجور وكذلك الحلم لم يذكروا مواقعه ومقداره وأين يحسن وأين يقبح، وكذلك الشجاعة وكذلك العلم لم يميزوا العلم الذي تزكو به النفوس وتسعد به من غيره، بل لم يعرفوه أصلًا وذلك بخلاف الرسل صلاة الله وسلامه عليهم فقد بينوا ذلك غاية البيان وفصلوه أحسن تفصيل، وقد جمع الله ذلك في كتابه في آية واحدة فقال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33] فهذه الأنواع الأربعة التي حرمها تحريمًا مطلقًا لم يبح منها شيئًا لأحد،



فالفواحش متعلقة بالشهوة - وتعديل قوة الشهوة باجتنابها - والبغي بغير الحق متعلق بالغضب وتعديل القوة الغربية باجتنابه - أي الغضب - والشرك بالله ظلم عظيم على الإطلاق، وهو مناف للعدل وفساد العلم يرتبط بالقول على الله تعالى بغير علم وهذه المحرمات المحرمة تحريمًا مطلقًا بخلاف غيرها كالميتة والدم ولحم الخنزير فإنها تحرم في حال وتباح في حال[15].



ويدور نقده أيضًا حول ضرورة العلم والعمل معًا للنفس لا الاقتصار على أحدهما دون اليلآخر، فإن مجرد العلم ليس بكمال للنفس ما لم تكن مريدة محبة لمن لا سعادة لها إلا بإرادته ومحبته. وإذا افترضنا أنه بمجرد العلم تكمل النفس فإن ما لهم من العلم لا يعد كمالًا للنفس، لأن ما عندهم من العلوم لا تخرج عن كونها إما رياضية أو طبيعية لا كمال للنفس بأحدهما أو بهما معًا، وحتى العلم اللإلهي عندهم فإنه باطل عندهم كله لم يوفقوا في إصابة الحق فيه ولو في مسألة واحدة.



أما مقصودهم يعني الفلاسفة في - كمال القوة العملية - فغايته عندهم تعديل الشهوة والغضب أي جلب ما ينفع البدن ويبقى النوع فغايتهم المقصودة والحقيقية هو البدن، والبدن هو آلة النفس فلم يذكروا كمال النفس من حيث الإرادة والعمل بالمحبة والخوف والرجاء.



ننتهي من كل ذلك إلى ما اشترطه ابن القيم في القوتين العلمية والعملية للنفس حتى تتحقق سعادتها على أتم وجه فلابد من غاية نهائية وهدف أسى يتخطى المراحل المؤقتة التي تجتازها النفس في أدوار حياتها المختلفة مع تجدد أغراضها، فإن عمل الإنسان الاختياري تابع للإرادة، وكل إرادة لابد لها من مراد لنفسه أو مراد لغيره ينتهي إلى المراد لنفسه.



وهذا المراد في النهاية إما أن يكون مضمحلًا فانيًا كتحقيق أو جلب منفعة مؤقتة فتزول حينئذ الإرادة بزواله وكأن الجهد المبذول انتهى إلى لا شيء، وإما أن يكون باقيًا غير فان فيجب إذًا أن يكون مراد النفس الذي تكمل بإرادته وحبه وإيثاره باقيًا لا يفنى ولا يزول، وليس ذلك إلا لله وحده، أي العمل ابتغاء مرضاته عز وجل[16].



ولكن كيف نستطع اكتساب الأخلاق الحسنة ونبذ الأخلاق الرديئة؟ هذا ما يوضحه ابن القيم أثناء حديثه عن خلق الصبر وبيان مكانته في الجهد الخلقي والكفاح المستمر لتقوية الإرادة الخيرة وإضعاف الإرادة الشريرة.



مكانة الصبر في الجهد الخلقي:

مر بنا أن ابن القيم يرى أنه يمكن اكتساب الخلق، فبالرغم من ظروف البيئة وفساد الطباع وعوامل الوراثة والأخلاق الرديئة، فإن الراغب في الرقي الأخلاقي يستطع تزكية نفسه وتقويم خلقه بالعزيمة الصادقة والمثابرة المصممة على الفوز بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشادتى، كالعلم والشجاعة والزهد والعفو والحلم والمروءة والإحسان والصبر.



ويعرف ابن القيم الصبر تعريفًا دقيقًا في مجال الأخلاق يربط فيه بين الرغبات النفسية والإرادة فيقول: "والصبر حبس النفس عن السخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن المصيبة"[17].



وتحقيق ذلك أن الإنسان بين أمر يجب امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، ولكن الصبر لازم له، وهو بمثابة عاصم للنفس من التمادي في الشعور النفسي المقبض كالجزع والحزن والخوف واليأس، أو التمادي في الشعور النفسي المضاد أي الفرح والزهو والبطر، كذلك فإنه ضابط للإرادة، ممسك لها عن إتيان الآثام والفواحش فالصبر كالخطام والزمام للنفس ذلك لأن الصبر لا يخلو من نوعين:

أحدها:

يوافق هوى الإنسان ومراده كالصحة والسلامة والجاه والمال وأنواع الملاذ المباحة، وهو أحوج إلى الصبر فيها حتى لا يركن إليها ويغتر بها فتحمله على البطر المذموم، وحتى لا يبالغ في استقصائها فتنقلب إلى أضدادها، وحتى لا تدفعه نفسه إلى تجاوز الحد فتوقعه في الحرام بعد نيل حظها من الحلال، والمقدرة على الصبر في هذه الأحوال أشد منها في حال المصائب، فصدق القائل "البلاء يصبر عليه المؤمنون والكفار ولا يصبر على العافية إلا الصديقون".



والآخر:

مخالف للهوى وهو بدوره ينقسم إلى قسمين:

أ- أحدهما: يرتبط باختياره كالطاعات والمعاصي، فالصبر يحتاج إليه لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبادات وتؤثر الكسل والراحة، لا سيما إذا اتفق مع ذلك قسوة القلب ورين الذنب والميل إلى الشهوات ومخالطة أهل الغفلة.



ب- الثاني: لا يرتبط باختياره كالمصائب التي لا صنع للعبد فيها كموت عزيز أو مرضه أو سرقة مال ونحو ذلك[18].



أما الجزاء على الصبر فيختلف في الحالتين، إذ أن الصبر على الأمور الخارجة عن إرادة العبد لا يكتب لصاحبها أجر ولكن يكفر بها الخطايا، ولا يؤجر العبد إلا على الأعمال الاختيارية، وما تولد منها، وذلك كان صبر يوسف الصديق عليه السلام عن مطاوعة امرأة العزيز، وصبره على ما ناله من ذلك من الحبس والمكروه أعظم من صبره على ما ناله من أخوته لما ألقوه في الجب وفرقوا بينه وبين أبيه وباعوه بيع العبيد.



بمثل هذا التفسير يفتح ابن القيم أمامنا مجالًا فسيحًا في دائرة محاولاته الهادفة للسمو بأخلاقنا، وبذل الجهود الدائبة لتحسينها والارتقاء بها، ويستحثنا على ذلك بيان أخلاق الله تعالى، إذ أنه سبحانه هو الصبور، بل لا أحد أصبر على أذى منه، وقد قيل: إن الله سبحانه أوحى إلى داود "تخلق بأخلاقي فإن من أخلاقي أني أنا الصبور"، ويعلق ابن القيم على ذلك بقوله: "والرب تعالى يحب أسماءه وصفاته ويحب مقتضى صفاته وظهور آثارها في العبد فإنه جميل يحب الجمال، عفو يحب أهل العفو، كريم يحب أهل الكرم، عليم يحب أهل العلم وتر يحب أهل الوتر قوي والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، صبور يحب الصابرين، شكور يحب الشاكرين، وإذا كان سبحانه يحب المتصفين بآثار صفاته فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الإنصاف، فهذه المعية الخاصة عبر عنها بقوله: "كنت له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيدًا"[19].



ومع وضعه هذه الغاية العظمى والهدف الأسمى، فإنه يرسم الطريق ويخطط معالم الوصول عندما يحلل ويشرح طبيعة الإرادة الإنسانية، إذ لا عذر للمرء في اختيار الرذائل ومكابدة آلام الخطايا حيث الأسف والندم؛ لأن الإرادة صالحة للضدين، فاختيار أحد الطريقين على الآخر من مسئوليته، ويتم بحريته، فالعبد هو المستجيب المريد الفاعل حقيقة إذ لا سلطان لأحد على إرادته الحرة المختارة، وآية ذلك أيضًا حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((بعثت داعيًا ومبلغًا وليس إلي من الهداية شيء، وبعث إبليس مزينًا ومغويًا وليس إليه من الضلالة شيء))[20].



ويظل الإنسان طوال حياته - مع الكفاح في تقوية الإرادة والخير وإضعاف الإرادة الشريرة - مؤملًا في غفران الله تعالى، مستغفرًا من ذنوبه، عائدًا إلى الله تائبًا نادمًا مصممًا على الكف عما يغضبه يحدوه الأمل والرجاء، فقد كان عمر رضي الله عنه مع منزلته في الصحبة والإيمان والعدل ومكارم الأخلاق يقول في دعائه "اللهم إن كنت كتبتني شقيًا فامحني واكتبني سعيدًا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت"[21].



وتظهر العزيمة الصادقة كأظهر ما تكون في خلق الصبر، وهو إن كان شاقًا كريهًا على النفوس فتحصيله ممكن، ويتركب من العلم والعمل فمنهما تركب جميع الأدوية التي تداوى بها القلوب والأبدان.



ويتلخص منهاج ابن القيم في طريق هذا الجهاد الخلقي بتقسيمه إلى قسمين:

أحدهما علمي:

وهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال، وإدراك ما في المحظور من الشر والضر والنقص.



الثاني عملي:

أي العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة والمروءة الإنسانية، وبذلك يكون مصارعة باعث العقل والدين لباعث الهوى والنفس، وككل متصارعين أرادا أن يتغلب أحدهما على الآخر، فالطريق فيه تقوية من أراد أن تكون الغلبة له ويضعف الآخر كالجاه مع القوة والمرض سواء.



وهذه القاعدة العامة لعلاج أمراض النفوس، ولكنه يولي عناية خاصة لطرق علاج داء الشهوات المحرمة الذي يصبح هينًا سهلًا إذا ما اتبع الإنسان طرق العلاج الآتية:

الأول: أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة فيجدها من الأغذية المحركة للشهوة فيقللها أو يمتنع عن تناولها فإذا لم تنحسم فعليه بالصوم فإنه يضعف مجاري الشهوة ويكسر حدتها.



الثاني: أن يجتنب محرك الطلب وهو النظر فالحديث ((النظر سهم من سهام إبليس)) فإن نصبت قلبك غرضًا فيوشك أن يقتله سهم من تلك السهام المسمومة.



الثالث: تسلية النفس بالمباح المعوض عن الحرام.



الرابع: التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر[22].



وبعد:

فقد وضح لنا كيف حل المعضلة الأخلاقية بعد بيان أصل الإنسان ودوره ومصيره ثم ربطه بالطريق إلى الله تعالى بواسطة معرفته وعبادته ومحبته عز وجل.



وإذا شئنا أن نتابعه في تصوره للدورة التي يستغرقها الإنسان في حياته فإنها تبدو هكذا:



عند بدء الخلق، فطر الإنسان على معرفة ربه، ولذا فإن دور الأنبياء عليهم السلام هو تذكرته بالميثاق الذي أخذه الله تعالى عليه حينذاك، وعندما فضله على باقي المخلوقات وخصه بالخلافة، وأمر إبليس بالسجود له فأبى، زين له الأكل من الشجرة المنهي عنها، فأخرج آدم عليه السلام من الجنة وما زالت ((تلك الأكلة تعاوده حتى استولى داؤه على أولاده، فأرسل اللطيف الخبير الدواء على أيدي أطباء الوجود ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123]))[23].



وتظل المعارك دائرة مع إبليس ميدانها النفس، والجيوش الإسلامية كلها تحت لواء الإرادة الإنسانية لو طلبها واستخدمها "أمراء هذا الجيش ومقدموه وعساكره - شعب الإيمان المتعلقة بالجوارح - وهي العبادات وشعبه الباطنة المتعلقة بالقلب"[24].



ويلفت نظرنا أن استخدامه لفظي الجيش والجيوش لم يكن من قبيل الاستعارة أو التشبيه البليغ فحسب، بل إن ابن القيم يعنى اختيار ألفاظه ليدلل على تصوره لهذه المعركة الفعلية الدائرة حقيقة - لا مجازًا - فيقول لخائر العزم المنصرف إلى اللهو، "الحرب قائمة وأنت أعزل؟" ليستحثه على الجهد الأخلاقي والحرص على نجاته في هذه المعركة المصيرية التي يترتب عليها في النهاية إما جنة وإما نار.



إذن هي حرب طاحنة، وهى لا تزال سجالًا ودولًا، إلى أن يستولي أحدهما على الآخر[25].



ولكى ينتصر الإنسان لابد له من علم يقيني وعقيدة راسخة، هي معرفته أن الجنة موطنه الأصلى، وأن أسمى ما فيها هو رؤية الله عز وجل، حيث يعود الإنسان الظافر إلى ربه محافظًا على ما في قلبه من كنوز الإيمان والتوحيد والإخلاص والمحبة والتعظيم والمراقبة[26].



ومما يساعد الإنسان على الاحتفاظ بهذه الكنوز، دوام النظر والاستدلال بالآيات العيانية المتمثلة في خلق العالم والإنسان نفسه، والآيات القولية السمعية المتلقاة بالوحي عن طريق الأنبياء والرسل فقد نوع سبحانه الأدلة الدالة عليه، وتنوع أفعاله ومفعولاته من أعم الأدلة على ربوبيته[27].



ولابد أن يصاحب العلم العمل، أي الحركة اللإرادية الدائبة المتجهة إلى الله تعالى في أنشطة الإنسان كلها معبرة عن الإخلاص وصدق النية.



ولا حجة لأحد بعد أن حقق الأنبياء والرسل النجاح الكامل من قبل، فهم القدوة في سلوك الطريق إلى الله تعالى بما لا قوه في الدنيا من الصعاب والأهوال وقد بلغوا الذروة في ابتلاءاتهم فنجحوا وصاروا قدوة للطائعين، وسيصيرون حجة على العاصين يوم القيامة. ولذلك فلا حجة لأحد أمام الله تعالى، لأن إرسال الرسل وإنزال الكتب نوع من الإلزام للبشرية وهو نوع فريد من اللإلزام الخلقي، وهنا نجد كلمات ابن القيم تكاد تقفز فوق الأسطر معبرة عن سخطه وألمه، ناهيًا على اللاهين اللاعبين ضعف العزيمة وخور الإرادة "أين أنت والطريق؟ طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح - ورمى في النار الخليل، واضطجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد - صلى الله عليه وسلم"[28].



لهذا كله، فابن القيم يؤكد حرية الإرادة - الركن البارز في المشكلة الأخلاقية - على النحو التالي:

حرية الإرادة الإنسانية:

لم يكن ابن القيم فريدًا في إثبات هذه الحرية، فقد أثبت علماء الإسلام حرية الإرادة الإنسانية كدعامة من دعامات الأخلاق ومسئولية الإنسان عن أفعاله، ولعل أفضل ما نستهل به هذا الموضوع، هو إجابة السؤال الذي وجه إلى جعفر الصادق رضى الله عنه حيث سئل عن قول الله تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115] لِمَ خلق الخلق؟

فأجاب: "لأن الله كان محسنًا بما لم يزل فيما لم يزل، فأراد الله أن يفيض إحسانه إلى خلقه وكان غنيًا عنهم، لم يخلقهم لجلب منفعة ولا لدفع مضرة، ولكن خلقهم وأحسن إليهم فأرسل إليهم الرسل ليفصلوا بين الحق والباطل فمن أحسن كافأه بالجنة ومن عصى كافأه بالنار".



ويشرح ابن القيم أنواع الابتلاءات التي يتعرض لها الإنسان أثناء حياته في الدنيا محصيًا الآيات القرآنية الدالة عليها.



ويذكر أن الله سبحانه وتعالى ابتلى العباد بالنعم كما ابتلاهم بالمصائب، وأن ذلك كله ابتلاء فقال ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35].



وقال: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ [الفجر: 15، 16][29].



وقال: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]. وقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2] وقال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7].



فأخبر سبحانه أنه خلق العالم العلوي والسفلي وقدر أجل الخلق، وخلق ما على الأرض للابتلاء والاختبار، وهذا الابتلاء إنما هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في الخير والشر والسراء والضراء..[30].



كذلك وردت الأحاديث الكثيرة في بيان ما يقابله المؤمن في حياته من ابتلاءات طوال عمره، ومنها:

عن صهيب الرومي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن أن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)) رواه مسلم.



عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ (أي محنًا وشدائد). قال: ((الأنبياء والأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشى على الأرض وما عليه خطيئة)) رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا والترمذي وقال حديث حسن صحيح.



والعبد المؤمن يداوم ممكره على النعم وصبره على البلاء حتى يجتاز طريق الدنيا ويعود إلى الجنة - موطنه الأصلي كوعد الله تعالى إياه "فإنه ما حرمه - عز وجل - إلا ليعطيه، ولا أمرضه إلا ليشفيه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا أماته إلا ليحييه، وما أخرج أبويه من الجنة إلا ليعيدهما إليها على أكمل وجه. كما قيل: يا آدم لا تجزع من قولي لك اخرج منها، فلك خلقتها وسأعيدك إليها".



موقف الإنسان:

الإنسان إذن أمام هذه الحقيقة لا يملك فرارًا، فهو بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، والصبر مع هذين الطرفين لازم ولا يخلو من نوعين:

أحدهما: يوافق هواه ومراده كالصحة والسلامة والجاه والمال.



والآخر: المخالف للهوى وهو على شكلين، كما شرحنا عند تناول خلق الصبر.

أ- يرتبط باختياره كالطاعات والمعاصي، وعليه يترتب الأجر.



ب- لا يرتبط باختياره كالمصائب، وبها تمحى السيئات أو ترفع الدرجات ولكن الثابت أن الإنسان لا يملك منح نفسه القدرات والمزايا الجبلية كالذكاء والصحة والأنوثة أو الذكورة، ولا يملك اختيار أبويه فيرث عنهما مواهب وسمات معينة دون الأخرى، ولا انتخاب الزمان الصالح ليعيش فيه ولا البيئة الصالحة ليمضي فيها طفولته. هذه كلها أمور لا يملكها الإنسان وخارجة عن نطاق اختياره وليس مسئولًا عنها[31].



ولكن المتعللين بالقدرة على أفعاطم الإنسانية يحتجون بآيات قرآنية يختارونها وفق أهوائهم، كقول الله تعالى: ﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [فاطر: 8].



وهذا الاحتجاج سرعان ما يدحض أمام النظرة القرآنية لآيات أخرى تخير الإنسان بين فعلين، كقوله عز وجل: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3] وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 7، 8].



والقرآن يفسر بعضه بعضًا، وهذا التفسير هو أدق التفاسير الذي يلجأ إليه العلماء لأن القرآن الكريم ميسر لكل ذي بصر وبصيرة. ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17].



وبهذا الفهم يصبح تفسير الآية الأولى واضحًا لا لبس فيه؛ إذ معناها أن إضلال الله لشخص لأنه آثر الغي على الرشاد فأقره الله على مراده وتمم له ما يبغي لنفسه قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].



إذن، فمعنى قوله تعالى: ﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [فاطر: 8] لا يعارض، وقوله ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ [البقرة: 26، 27] كذلك الحال في قوله تعالى: ﴿ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 142]، وعلينا النظر إلى قيمة الإرادة الإنسانية في ضوء قول الله تعالى وهو يتكلم عن إرادته ﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 27، 28].



ثم يأتي دور مناقشة المحتجين بالأحاديث النبوية، وربما يقع أكثرهم على الحديث الآتي ويفسرونه خطأ بأنه يدل على الجبر ونفي حرية الإرادة الإنسانية.



والحديث: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة، قالوا يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له فأما من كان من أهل السعادة فيصير لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فيصير إلى عمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 10][32].



أما العلم السابق لله تعالى فيفسره بالآيات الآتية:

قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة: 143].



وقال: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].



وقوله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31].



وفيما يتصل بالعلم الإلهي السابق، نعود للآية الأولى التي وردفى فيها ﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ ﴾ [البقرة: 143] فروى عن ابن عباس في قوله ﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ ﴾ [البقرة: 143] أي: (لنرى) وروى لنميز.



وكذلك قال عامة المفسرين: (إلا لنرى ونميز)، وكذلك قال جماعة من أهل العلم، قالوا: لنعلمه موجودًا واقعًا بعد أن كان قد علم أنه سيكون ولفظ بعضهم، قال: العلم على منزلتين - علم بالشيء قبل وجوده وعلم به بعد وجوده - والحكم للعلم به بعد وجوده لأنه يوجب الثواب والعقاب.



قال: فمعنى قوله "لنعلم" أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب، ولا ريب أنه كان عالمًا سبحانه بأنه سيكون، لكن لم يكن المعلوم قد وجد[33].



ولا يشكل علم الله تعالى السابق ضغطًا أو إجبارًا على إرادة الإنسان.

[1] مدارج السالكين- ج1 ص 7- تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي.

[2] التبيان في أقسام القرآن: ابن القيم ص 263 تصحيح وتعليق طه يوسف شاهين - مكتبة أنصار السنة المحمدية- عابدين مصر 1388هـ- 1968م.

[3] التبيان في أقسام القرآن: ص 264.

[4] الروح: ابن القيم ص 12 ط صبيح 1386هـ- 1967م.

[5] الفوائد ص 111. الناشر زكريا علي يوسف.

[6] التبيان في أقسام القرآن ص 204 ط المديرية تحقيق طه يوسف شاهين.

[7] الفوائد ص 58 الناشر زكريا علي يوسف.

[8] الروح ص 155.

[9] التبيان في أقسام القرآن ط أنصار السنة المحمدية ص 135.

[10] تفسير المعوذتين ص 18 المطبعة السلفية.

[11] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 12- 13- مطبعة الإمام.

[12] المرجع السابق ص 92.

[13] الروح ص 253.

[14] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ج 2 ص 116 ط صبيح 1341هـ.

[15] المصدر السابق ص 121.

[16] مفتاح دار السعادة ج 2 ص 121- 122.

[17] الوابل الصيب من الكلم الطيب ص 2 المنيرية 1378هـ.

[18] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 50- 53.

[19] عدة الصابرين ص 36- 37.

[20] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ط الخانجي سنة 1323 هـ.

[21] شفاء العليل ص 90.

[22] عدة الصابرين ص 42- 43.

[23] الفوائد ص 60.

[24] الروح ص 227.

[25] الفوائد ص 54.

[26] الوابل الصيب من الكلم الطيب ص 18.

[27] طريق الهجرتين وباب السعادتين ص 152 المنيرة سنة 1357 هـ.

[28] الفوائد: ص 37.

[29] في تفسير ابن القيم الآية قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا ﴾.

كلا: أي ليلى الأمر كما يقول الإنسان بل قد ابتلي بنعمتي وأنعم ببلائي.

[30] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين: ابن القيم ص 125 (مطبعة الإمام).

[31] تعريف عام بدين الإسلام، للشيخ علي الطنطاوي ص 131، 132 دار الرائد 1395هـ.

[32] ويقول ابن القيم (فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال: ما كنت أشد اجتهادًا مني الآن، وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة علومهم) شفاء العليل ص 25. ويقول الشيخ محمد الغزالي: وهذا الحديث - للبصر النافذ - لا لبس فيه (عقيدة المسلم ص 140).

[33] الرد على المنطقيين: ابن تيمية ص 426 س ط لاهور 1396هـ- 1976م دار ومكتبة الشركة الجزائرية 1968.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المشكلة الأخلاقية وكيفية التغلب عليها عند ابن قيم الجوزية (751 هـ)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: