حقائق الإسلام الدامغة وشبهات خصومه الفارغة
الرد على ضلالات زكريا بطرس
بين السيد المسيح والنبي محمد في القرآن والإنجيل (2)
في النص التالي - وهو عبارة عن الإصحاح الأول كله من إنجيل متى - نقرأ:
"1كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم، 2إبراهيم ولَدَ إسحاق، وإسحاق ولَدَ يعقوب، ويعقوب ولد يهوذا وإخوته، 3ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار، وفارص ولد حصرون، وحصرون ولد أرام، 4وأرام ولد عَمِّيناداب، وعَمِّيناداب ولد نحشون، ونحشون ولد سلمون، 5وسَلْمُون ولد بوعز من راحاب، وبوعز ولد عوبيد من راعوث، وعوبيد ولد يسَّى، 6ويسى ولد داود الملك، وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا، 7وسليمان ولد رحبعام، ورحبعام ولد أبيا، وأبيا ولد آسا، 8وآسا ولد يهوشافاط، ويهوشافاط ولد يورام، ويورام ولد عزيا، 9وعزيا ولد يوثام، ويوثام ولد أحاز، وأحاز ولد حِزقيَّا، 10وحزقيا ولد منسى، ومنسى ولد آمون، وآمون ولد يوشيا، 11ويوشيا ولد يكنيا وإخوته عند سبي بابل، 12وبعد سبي بابل يكنيا ولد شألتئيل، وشألتئيل ولد زربابل، 13وزرُبَّابل ولد أبيهود، وأبيهود ولد ألياقيم، وألياقيم ولد عازور، 14وعازور ولد صادوق، وصادوق ولد أَخِيم، وأخيم ولد أليود، 15وأليود ولد أليعازر، وأليعازر ولد متان، ومتان ولد يعقوب، 16ويعقوب ولَد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدْعى المسيح، 17فجميع الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلاً، ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً، 18أما ولادة يسوع المسيح، فكانت هكذا: لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف، قبل أن يجتمِعا، وُجِدت حُبلى من الرُّوح القدس، 19فيوسف رجلها؛ إذ كان بارًّا، ولم يشأ أن يُشهِرها، أراد تَخلِيتها سرًّا، 20ولكن فيما هو متفكِّر في هذه الأمور، إذا ملاك الرب قد ظهَر له في حُلم قائلاً: "يا يوسف بن داود، لا تخفْ أن تأخذ مريم امرأتك؛ لأن الذي حُبِل به فيها هو من الروح القدس، 21فستلِد ابنًا، وتدعو اسمه يسوع؛ لأنه يُخلِّص شعبه من خطاياهم"، 22وهذا كله كان؛ لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: 23"هوذا العذراء تَحبَل، وتلِد ابنًا، ويدعون اسمه عمانوئيل" الذي تفسيره: الله معنا، 24فلما استيقَظ يوسف من النوم، فعَل كما أمره ملاك الرب، وأخذ امرأته، 25ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، ودعا اسمه يسوع.
ولاحِظ كيف أن سلسلة نسَب المسيح تمرُّ قبله مباشرة بيوسف النجار، لماذا؟
أترُك الجواب لزكريا بطرس يفكِّر فيه على مَهَل! إذًا فآدم (وليس المسيح) هو ابن الله، أما المسيح فابن يوسف النجار، وبالمناسبة فلم يحدُث قط أن سمِّي المسيح - عليه السلام -: "عمَّانوئيل" من أي إنسان، رُغم أن هذا الاسم يُطلَق على كثير من الناس الذين ليسوا بأبناء لله! كما أنَّ النص يقول: إنها ستُسمِّيه: "يسوع"؛ لكي تتحقَّق النبوءة القديمة التي تقول: إنه سيُسمَّى: "عمانوئيل"! وهو كلام مضطرِب جدًّا.
وكان الناس جميعًا يقولون: إن أبا عيسى هو يوسف النجار، كتَب يوحنا في إنجيله (1/ 5): "إن الناس كانت تسمِّيه: "ابن يوسف"؛ وهو نفس ما قاله متى (1/ 55)، ولوقا (3/ 23، و4/ 22)، وكان عيسى - عليه السلام - يسمع ذلك منهم، فلا ينكِره عليهم، بل إن لوقا نفسه قال عن مريم ويوسف مرارًا: إنهما "(أبواه) أو (أبوه وأمه)"؛ (2/ 27، 33، 41، 42)، كذلك قالت مريم لابنها عن يوسف هذا: "إنه أبوه"؛ (لوقا: 2/ 48)، وقد رأينا كيف أن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصْل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبَرة عندهم، وهو إنجيل متى - تَسرد سلسلة نَسَب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار "رجل مريم"؛ (كما سمَّاه مؤلِّف هذا الإنجيل)، ثم تتوقَّف عنده، فما معنى هذا للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟
أما إذا أصرَّ زكريا بطرس على القول: بأن عيسى هو ابن الله، فليكن صادقًا، ويذكُر أن كلمة "ابن الله"، أو "أبناء الله"، قد أُطلِقت في كتابه المقدَّس على بشرٍ كثيرين منذ أول الخليقة، حين سمِّي آدم كما رأينا: "ابن الله"، وهذه شواهِد على ما نقول: 1وحدَث لما ابتدأ الناس يكثُرون على الأرض، ووُلِد لهم بنات، 2أن أبناء الله رأوا بناتِ الناس أنهن حسنات، فاتَّخذوا لأنفسهم نساءً من كل ما اختاروا، 3فقال الرب: "لا يَدِين رُوحي في الإنسان إلى الأبد لزَيَغانه، هو بشر، وتكون أيامه مائة وعشرين سنة"، 4كان في الأرض طُغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك أيضًا؛ إذ دخل بنو الله على بناتِ الناس ووَلَدن لهم أولادًا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم"؛ (تكوين: 6)، "قدِّموا للرب يا أبناء الله، قدِّموا للرب مجدًا وعزًّا"؛ (مزمور: 1/ 29)، "مَن في السماء يُعادِل الرب؟ من يُشبِه الرب بين أبناء الله"؛ (مزمور: 6/ 89)، "إسرائيل ابني البكر"؛ (خروج: 1/ 22، و 4/ 22، 23).
كما يصِف الله داود قائلاً: "أنت ابني، أنا اليوم ولدتُك"؛ (مزمور: 2/ 7)، ويبتَهل إشعيا له بقوله: "أنت أبونا"؛ (إشعيا: 63/ 15 - 16)، كما يقول المسيح ذاته: "طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم أبناء الله يدعون"؛ (مَتَّى: 9/ 5)، "احترِزوا من أن تصنَعوا صدَقتكم قدَّام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجرٌ عند أبيكم الذي في السموات"؛ (متى: 6/ 1)، ويقول النصارى في صلواتهم: "أبانا الذي في السموات"، فضلاً عن أن المسيح قد أخذه الشيطان ليُجربه فوق الجبل، ويدفعه إلى السجود له، وليس من المعقول أن يجرب الشيطان الله ليرى أيمكِن أن يسجُد له الله أم لا، مِثلما ليس من المعقول أن يكون ردُّ الله على الشيطان هنا هو: "اذهب يا شيطان، لأنَّه مكتوب: للرب إلهك تسجُد، وإياه وحدَه تعبُد"، وهو ما يعني بكل جلاء أن عيسى كان ينظُر لله على أنه "ربه" لا على أنه "هو نفسه" ولا على أنه "أبوه"، وعلى أن من الواجب عليه أن يسجُد له، كما أنه - عليه السلام - قد سمَّى نفسه أيضًا "ابن الإنسان"؛ (متى: 11/ 19)، وهي ذات الكلمة التي استخدَمها للإنسان كجنس؛ (متى: 12/
، وفوق ذلك فإن له - عليه السلام - كلمة ذات مغزًى خطير؛ إذ يُفْهَم منها أن "البنوة" التي يعبر بها أحيانًا عن علاقته بالله ليست شيئًا آخر سوى الطاعة المخلِصة له - سبحانه -والانصياع لإرادته انصياعًا تامًّا، ومن هنا نراه يقول - عن كل من يفعلون مِثلما يفعل -: إنهم إخوته وأمه، كما هو الحال عندما أخبَروه ذات مرة، وكان بداخل أحد البيوت، بأن أمه وإخوته بالخارج يُريدونه، فأجابهم قائلاً: "من هي أمي؟ ومن هم إخوتي؟ ثم مدَّ يده نحو تلاميذه وقال: ها أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي"؛ (متى: 12/ 47 - 49)، وهي إجابة يُفهم منها أن أمه لم تكن تستحقُّ بنوَّته لها، ولا أن إِخْوَته يستحقون أخوَّته لهم، وذلك لما يراه من تفريطها وتفريطهم في الإيمان بدعوته.
بعد ذلك كله، فإن الجواب على السؤال التالي الذي طرَحه القمص: "هل قيل في القرآن كله: إن محمدًا هو روح من الله؟" هو: "لم يُقَل ذلك في القرآن عن محمد وحدَه، بل قيل عن آدم أبي البشر، ومن ثَم عن البشر كلِّهم بما فيهم محمد - عليه السلام - كما رأينا، والسبب هو أن آدم لم يُخلَق بالطريق الذي أصبح هو الطريق المُعتاد بعد خلْق آدم وحواء؛ أي: من خلال رجل وامرأة، فلذلك نفَخ الله فيه مباشرة من روحه، وهو ما تكرَّر في حالة السيد المسيح - عليه السلام - وإن كان على نحوٍ أضيق؛ إذ كانت له أم بخلاف آدم، الذي لم يكن له أب ولا أم.
بل إنَّنا لنذهب في تحدِّي زكريا بطرس مدًى أبعدَ، فنقول له: إنه إذا كان يتخِذ من خَلْق المسيح دون أب دليلاً على أنه ابن الله، فليَمضِ مع منطقه إلى آخر المدى، ويجعل آدم هو الله نفسه (أستغفِر الله!)، لا ابنه فقط؛ لأنه لم يكن له أب ولا أم، فهو إذًا يتفوَّق على المسيح من هذه الناحية كما هو واضِح، إن كان في هذا تفوُّق على الإطلاق، وهو ما لا نُسلِّم به، لكننا نتبنَّى منطقه لقطْع الطريق عليه! ثم إن المسكين يستمرُّ في سياسته البهلوانية؛ فيؤكِّد أن قوله تعالى على لسان مريم تُخاطب الروح حين تمثَّل لها بشرًا؛ كي يَهَب لها غلامًا: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ [آل عمران: 47]، معناها: إنه - عليه السلام -: "ليس من بشر"، وهذا غير صحيح البتة، فقد جاء - عليه السلام - من بشر، وهي مريم، التي حَمَلت به وحفِظته في رحِمها، وتغذَّى من دمها الذي يجري في عروقها تسعة أشهر، ثم وضعتْه وأرضعتْه من لبنها الذي في صدرها، إلا أنه لم يكن له أب، وهذا كل ما هنالك! فإذا قلتَ: "النفخة"، كان جوابنا: لكن آدم تمَّ النفخ فيه دون أن يكون هناك رَحِمٌ يحمِله ولا صدرٌ يُرضعه ولا أم تربِّيه، وهذا أَوغَلُ في الخروج عن السُّنن المعتادة في الخَلق!
بعد ذلك ينتقِل زكريا بطرس إلى نقطة أخرى، هي تأييد المسيح برُوح القدس، الذي يجعله دليلاً على أن عيسى يتفوَّق على محمد - عليه السلام - وهذا نصُّ كلامه: "التأييد بالروح القدس: ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ [البقرة:2، 87، 253] وللرد على ذلك نورِد الأدلة والبراهين القاطعة التي تثبِت بُطلان هذا الادِّعاء.
من هذه الأدلَّة:
1- ﴿ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ﴾ [المائدة: 110].
2- فإنَّ هذه الآية غاية في الأهمية في دَلالتها؛ إذ توضِّح أن تأييد المسيح بروح القدس هو منذ أن كان في المهد صبيًّا؛ ولذلك كلَّم الناس في هذه السن، فكيف يكون الروح القدس هو جبريل، وهو الذي نطَق على لسان مَن في المهد؟
3- كيف يتفِق هذا مع ما جاء في سورة [يوسف: 12- 87]: ﴿ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، فهل معنى روح الله هنا هو جبريل؟
4- وقد جاء تفسير روح الله في ["تفسير ابن كثير، ج (2)، ص (260)]: "لا تيئَسُوا؛ أي: لا تقطَعوا رجاءكم وأملَكم (من رَوْحِ الله)؛ أي: مِن الله".
5- وأيضًا ["تفسير ابن كثير"، ج (1)، ص (87)]: رُوح منه؛ أي: اسم الله الأعظم.
6- وهناك آيات تَشهد أن القدوس هو الله: [سورة الحشر 59: 23] ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ﴾ [الحشر: 23]، وأيضًا في ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ﴾ [الجمعة: 1].
وكما يرى القارئ بنفسه، فالرجل يُدلِّس كثيرًا دون أي احتياط، إنه يتصرَّف كقاتل ضُبِط وهو يطعَن ضحيته، وقد تضرَّجت يداه بالدماء، فهو يتخبَّط ويكذب، ويحلِف زورًا بُغية التفلُّت من قبضة الشرطة والعدالة، ولكن الأسداد تأخذه من كل ناحية، إنه يزعُم أن المسيح - بنص القرآن - كان مؤيَّدًا بالرُّوح القدس، أما محمد، فلا! يريد أن يقول: إنَّ عيسى - عليه السلام - كان إلهًا أو ابن إله، أما محمد، فمجرَّد بشر عادي، لكن - ما دام يستشهد بالقرآن - ألم يقرأ إذًا قوله -تعالى-: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 98 - 102]، ﴿وَإِنَّهُ﴾ - أي القرآن - ﴿لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 192 - 195]، ﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ﴾ [غافر: 15]، ﴿ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ﴾ - أي عَادَى - ﴿اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]؟
أولَم يقرأ ما قاله لوقا في الفصل الأول من إنجيله عن يحيى - عليه السلام - وأبيه زكريا: وأن الأول كان مُمتلِئًا، منذ أن كان جنينًا في بطن أمه، بالروح القدس: (ممتلئًا منه لا مُؤيَّدًا به فحسْب)، والثاني امتلأ به هو أيضًا، لكن ليس من صِغره: "11فظهر له (أي لزكريا - عليه السلام -) ملاك الرب واقفًا عن يمين مذبح البخور، 12فلما رآه زكريا، اضطرَب ووقَع عليه خوفٌ، 13فقال له الملاك: لا تخفْ يا زكريا؛ لأن طلبتك قد سمِعت، وامرأتك أَلِيصابات ستلِد لك ابنًا وتسمِّيه يوحنا، 14ويكون لك فرَح وابتهاج، وكثيرون سيفرحون بولادته؛ 15لأنه يكون عظيمًا أمام الرب، وخمرًا ومسكرًا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ ومن الروح القدُس"، "67وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس"؟
فكما يرى القارئ العزيز، فإنَّ روح القدس لا يؤيِّد الرسول الكريم فقط، بل ينزِل على قلبه بالقرآن مثلما ينزِل على كل الرُّسل والأنبياء، كما أنه يُؤيِّد المؤمنين الذين لا يُوادُّون من حادَّ الله ورسوله، ويمتلئ به يحيى منذ أن كان جنينًا لا يزال، وليكن معنى "الروح القدس" بعد هذا ما يكون، فالمهم أنه لا يختصُّ بعيسى - عليه السلام - وعلى هذا لا يمكن اتخاذه ذريعة للقول بتميُّز عيسى تميُّز الإله أو ابن الإله عن سائر البشر، أما خلْط صاحبنا في قوله -تعالى-: ﴿ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، الذي يحرِّفه، فيكتُبه هكذا: ﴿ ولا تيئَسوا من رُوح الله، ولا ييئَس من رُوح الله إِلا القوم الكافرين ﴾، متعمِّدًا عدم ضبط "الرُّوح" لغرضٍ في نفسه سيتَّضح للتو، ومُبدِّلاً عبارة "إنه لا ييأس" إلى "ولا ييأس"، ومُخطئًا بجلافة لا تَليق إلا بواحد مِثله، فيكتُب "الكافرين" مكان "الكافرون"، أقول: أما خلْطُه بين "الرُّوح" (بضم الراء المشدَّدة) كما في الآيات الآنفة، و"الرَّوْح" - بفتْح الراء، وهو الراحة والرحمة - رُغم أنه سبَق أنْ فرَّق بينهما قبل قليل، فهو مصيبة المصائب، إنه - كما قلتُ - بهلوان، ومن ثم لا يَثبُت على حلٍّ ولا على حال، بل كلما رأى ما يظنُّ أنه يمكن أن يخدُم قضيته، سارَع باتِّخاذه دون أن يَعي أنه قد سبَق له اتخاذ عكس ذلك تمامًا.
وعلى أي حال، فكيف يا تُرى يكون رُوح الله وروح القدُس هو الله؟ كيف يكون روح الله هو الله نفسه، أو يكون "رُوح القدس" هو "القدوس"؟ لكن إذا تذكَّرنا ما قلناه عن "كلمة الله" التي كانت "عند" الله، ثم أصبحت بعد قليل هي "الله" ذاته، لتَعود مرة أخرى فتكون "وحيد الله"، ثم "عقل الله" - عرَفنا أن صلاح حال هذا الرجل مَيئُوس منه! إن وصْف الروح هنا بالقَداسة لا يُرتِّب للمسيح أية ألوهية أو بنوُّة لله، وإلا فقد وُصِف الوادي الذي رأى فيه موسى النار بـ: "الوادي المقدَّس"، مثلما وُصِفت أرض فلسطين بـ: "الأرض المقدَّسة" و"المُبارَكة"، أفنجعل منهما أيضًا إلهين أو وَلَدين من أولاد الإله؟
قال - عزَّ شأنه - على لسان موسى - عليه السلام -: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 21]، وقال - جل جلاله - مُخاطبًا موسى: ﴿ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾ [طه: 11 - 12].
وعلى أية حال، فلم يُوصَف عيسى - عليه السلام - في القرآن بالقَداسة، فهل نقول: إنه أقل مَرتبة وشأنًا من وادي الطور وأرض فلسطين؟
كذلك يُشير صُويحِبنا إلى وصْف القرآن لعيسى - عليه السلام - بأنه "آية"، مُتسائلاً: هل في القرآن أيضًا أن محمدًا آية كالمسيح؟ ولنقرأ ما قال نصًّا: "آية من الله:
1- ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [المؤمنون: 50].
2- ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91].
3- ﴿ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾ [مريم: 21].
4- [المعجم ج (1)، ص (35)]، آية: تعني: العلامة والإمارة، العِبرة، المعجزة"، وماذا عن محمد؟ هل قيل في القرآن كله: إنَّ محمدًا كان آية من الله؟
وهو بهذا يظنُّ أنه قد فتَح عكا، مع أن الكلام الذي يقوله هنا لا يخرج عن التُّرَّهات التي يحسِب أصحابها الجهلاء أنها هي العِلم الأدنى، لقد وصَفتْ بعضُ الآيات القرآنية السيدة مريم مع المسيح معًا بـ: "الآية"، أفنَفْهم من هذا أنها تُساوي المسيح، فهي أيضًا إله؟ فهذه واحدة، أما الثانية: فالآية في القرآن قد تكون ناقة، أو جرادًا وضفادعَ، ودمًا وقُمَّلاً، أو طينًا وطيرًا، أو مائدة طعام، أو جثة فارقتْها الروح قد لفظها البحر، أو عصًا تحوَّلت إلى ثعبان، أو عَجْزًا عن النطق...إلخ؟ فهل نجعل الناقة والعصا، والقملة والضفدعة، والطين والطير - آلهةً مِثلما تريد أن تجعل من وصْف القرآن لعيسى - عليه السلام - بـ: "الآية" دليلاً على أنه إله، وأنه يتميَّز من ثَمَّ على محمد - عليه السلام؟
وهذا إن حصرْنا معنى الآية في المعجزة، وإلا فكل شيء في العالم من حولنا هو آية على وجود الله وقدرته وحِكمته، وقد تكرَّرت الكلمة كثيرًا في القرآن بهذا المعنى - كما هو معروف - ومن ذلك قوله -تعالى-: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164]، ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [النحل:10 - 13]، ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ [الروم:21 - 25]... إلخ.
إذًا فأين الميزة التي تظن أيها القمص الذكي أن عيسى - عليه السلام - يتفوَّق بها هنا على سيد الأنبياء والمرسلين؟