أريد أن أنكر ولكن !
إن كثيرا من النساء يمتنعن عن قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله في أوساط النساء بزعم الحياء والخوف والخجل، فهذه تقول: لا أجرؤ على الدعوة ولا النصيحة، ولا إنكار المنكر، وتلك تقول: أريد أن أدعو ولكن! وأخرى تقول: أنا امرأة خجولة، أو شخصيتي لا تؤهلني لأن أكون داعية.
فتترك كثير من النساء النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بهذه العلل، وربما استأنست بعضهن بما جاء عند ابن ماجه عن نهار العبدي أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك، وفرقت من الناس))[1].
ولنا مع هذا الكلام وهذه الشبهة وقفات:
أولاً: نقول: لا شك أن هذا فهم مغلوط لمعنى الحياء؛ فخير البشر محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أشد الناس حياءً، بل أشد حياءً من العذراء في خِدرها، ولم يمنعه الحياء عن قول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والغضب لله إذا انتهكت محارمه.
كما أنه لم يمنع الحياء نساء السلف من طلب العلم والسؤال عن مسائل الدين، فهذه أم سليم الأنصارية -رضي الله عنها- تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقول: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة غسلٌ إذا احتلمت؟ فيقول لها ولم يمنعه الحياء في بيان العلم: (نعم، إذا رأت الماء)[2] ولذا كانت عائشة تقول: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين"[3].
فإذا كان الحياء لا يمنع المسلمة من السؤال عما جهلته من أمور دينها، وما يجب عليها معرفته، كذاك لا يمنعها الحياء من الدعوة والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس من الحياء أن يسكت الإنسان على الباطل، وليس منه أن تُعَطل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة الحياء من الناس، والخجل منهم، فإن هذا جبن وخور وضعف، وليس من الحياء في شيء.
يقول النووي - رحمه الله -: "وأما كون الحياء خيراً كله، ولا يأتي إلا بخير، فقد يُشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يجلُّه، فيترك أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك مما هو معروف في العادة، وجواب هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة؛ منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - أن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز وخور ومهانة، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء"[4].
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "الحياء خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق" وأضاف: "وقد يكون غريزة، وقد يكون تخلقاً، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية؛ فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثاً على فعل الطاعة، وحاجزاً عن فعل المعصية، فلا يقال: رُب حياء يمنع عن قول الحق، أو فعل الحق؛ لأن ذلك ليس شرعياً"[5]. وقال - رحمه الله -: "وأما ما يقع سبباً لترك أمر شرعي فهو مذموم، وليس هو بحياء شرعي، وإنما هو ضعف ومهانة"[6].
ولذا نجد أن مما تنزه الله عنه الاستحياء من الحق -مع أنه موصوف بالحياء- كما قال - سبحانه -: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)[سورة البقرة، الآية: 26] وسببها: أن المنافقين لما ضرب الله مثلهم (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) [(17) سورة البقرة] وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء) [(19) سورة البقرة] قالوا: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال! فأنزل الله هذه الآية[7].
ويقول القاضي عياض - رحمه الله -: "والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعياً، بل هو عجز ومهانة، وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي"[8].
فالإحجام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب الخجل غير مسوغ لتركه، وهو من الخجل المذموم، وقد ذكر العلماء صوراً للحياء المذموم منها: الخجل عن السؤال مع حاجته وعدم فهمه، فتفوت عليه فرصة التعلم والتفقه، فيبقى جاهلاً، وقد قال مجاهد: "لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر"[9].
ومن صوره: الخجل من إظهار شعائر الإسلام كالصلاة خاصة إذا كان مع المقصرين، أو الخجل من الالتزام ببعض سنن الإسلام خشية الاستهزاء به.
ومن صوره: الخجل من إنكار المنكر حياء من صاحب المنكر، وهذا ليس بحياء شرعي! بل هو ضعف في الإيمان والشخصية، وهنا مفارقة عجيبة؛ إذ لم يستحِ صاحب المنكر، بل تجرأ بإظهار منكره، وصاحب الحق يستحي من الإنكار عليه!.
وهذا الخجل السلبي ما هو إلا انعكاس لضعف شخصية صاحبه، وعجزه وتفريطه بحق نفسه، وحق غيره؛ لأن آثار تغيير المنكر تعم الجميع، كما أن عدم الإنكار يعم بآثاره الجميع، ويعالج هذا العجز بزيادة الثقة بالله، وعظيم التوكل عليه، والإيمان بواجب بيان الحق، وإعزاز دين الله، والرغبة الصادقة في حماية المجتمع من شرور الفساد والإفساد.
وقد يكون هذا الخجل غير الشرعي قد تكوَّن نتيجة تراكمات، ربما أدت بعد ذلك إلى عجز تام تجاه الخطأ وتقويمه، وعندها تكون المشكلة أشد تعقيداً، والخجل لا يزول إلا بالممارسة الفعلية، فابدئي من الآن، جربي -أيتها المسلمة- الأمر والنهي والدعوة والنصيحة، وستجدين أن الخجل يزول تدريجياً وتلقائياً.
ولتعلم المسلمة أنه لا يعفيها من الإنكار كونها خجولة أو خائفة؛ لأن الإنكار واجب، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره))[10].
فلاحظي -أختي في الله- أنه لم يقل: الخجول لا ينكر! لأن الدعوة على الجميع، ومسؤولية الجميع، فلا تجعلي الإنكار سبباً في إضعاف إيمانك ودرجتك عند الله - عز وجل - وأنتِ -كما نحسبك- من أهل الخير والصلاح، فنصيحتي لك أن تتغلبي على الخجل بقول الحق، وكسر رهبة مواجهة الغير في قول الحق، أنكري المنكر ولو بكلمة، ألا تستطيعين أن تقولي لصاحبة المنكر: (اتق الله يا أختي)؟!
وينبغي أن نعلم بأن كل عمل يعمله الإنسان فإنه يكون صعباً في البداية ومخجلاً أحياناً، ولكن إذا ما استمر فيه الإنسان فإنه يكون سجيةً له، وأمراً طبيعياً بالنسبة له، بل قد يصل إلى درجةٍ لا يستغني فيها عن هذا العمل.
ولتعلم المسلمة أن الحياء فضيلة، وخلق وحلية تتحلى بها، فلا ينبغي أن يكون مانعاً لها من قول الحق وعمل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا صار مرضاً يمنع الإنسان من الإقدام في الخير، وإظهار الحق، ويؤدي إلى فقد الكثير من الحقوق تحت مسمى الخجل، فحياء المسلمة لا يمنعها أبداً من المطالبة بحقوقها، وقول الحق ونصرته.
ثانياً: لا بد أن تعلم المرأة المسلمة أن طريق الدعوة إلى الله ليس طريقاً مفروشاً بالورود والرياحين، بل بالأشواك والمتاعب، والداعية إلى الله ستقابل من النساء الجاهلة المستكبرة والمعاندة وغيرهن؛ ولذلك لا بد لها من زاد تستعين به على دعوتها، وأعظم زاد هو الصبر، فلربما لحقها أذى قولي أو فعلي، وربما جُمع لها بينهما، وقدوتنا في ذلك إمام الدعاة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد ناله من الأذى القولي ما قيل له بأنه: ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وكذاب، وأما الأذى الفعلي الذي لحقه فقد شُج وجهه، وكُسرت رباعيته، ووُضِع على ظهره سلا الجزور، ورُمي بالحجارة.
فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يلقى الأذى حتماً؛ ولذا أوصى لقمان ابنه بقوله: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [سورة لقمان: 17].
فنقول لكِ أختاه: ما أسوأ ما يمكن أن يحدث لك إذا أمرت بالمعروف أو نهيت عن المنكر؟.
هل ستشتمين؟ فقد شتموا رسول الله قبلك في سبيل هذا الأمر، وقالوا عليه: ساحر وكذاب، هل سيبصق عليك؟ فقد وضعوا سلا الجزور (وهو شر من البصاق) عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، بأبي هو وأمي، هل ستضربين؟ قد أوذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر حتى كسرت رباعيته، ودخلت حلقة المعفر في وجنته الشريفة، هل ستقولين: لا تسمح لي كرامتي بتعريض نفسي للإهانة؟ قد تحمل رسول الله كل ذلك وهو سيد ولد آدم، فمن أنتِ يا أمة الله حتى تأنفين أن تهاني في سبيل الله؟!
هذا مع التسليم بأنه سيحصل لك شيء من المكروه عند إنكارك على امرأة وإلا فهو احتمال، ولا نعتقد بأن هذا الاحتمال النادر حصوله فيه من الرعب ما يجعلك تحجمين عن خوض هذا المجال الشريف، وإن كنت تجدين خوفاً فعلاً فالشيطان وحده هو الذي ضخم أمام عينك أسوأ الاحتمالات ليصرفك عن هذا الطريق، فهي حيلة شيطانية خبيثة، فلا تضعفي أمامه، ولا تبالي بكيده، وتذكري أن نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكبار الأئمة والدعاة قد واجهوا ابتلاءات عظيمة في هذا الطريق، وصلت إلى حد الطرد، كما حصل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - حين طرد من أرضه ووطنه وبيته إلى المدينة، وكما جلد ابن تيمية، وأحمد بن حنبل بالسياط، وعذبوا شهوراً، وسجنوا من أجل كلمة الحق، فما زادهم ذلك إلا ثباتاً على الحق واستمراراً[11].
فأعظم وسيلة لتصبير نفسك على الإنكار: أن تتذكري أن سيد الخلق قد قيل له: مجنون وساحر وكاهن، وهذه الألفاظ والسباب في حقيقتها أشد وأنكى على النفوس الزكية من العذاب الجسدي المباشر، فتوقعي أي أذى في سبيل الله؛ لأن من شأن الربانيين أن يبتلوا بشيء متعلق بجنس أعمالهم، فالمجاهد يبتلى بالخوف والدماء والأذى الجسدي والقتل..الخ، والداعية يبتلى بمعاداة المبطلين له، وتسفيههم إياه، أو بالسجن للحق الذي يصدع به، فعليه أن يكون صابراً على الأذى، فمن البديهي تعرضه لأصناف الأذى وحماقة الجاهلين، واستهزاء الساخرين، وهذا لا شك سنة الله في الأنبياء والدعاة والمصلحين في كل زمان ومكان..
فعليكِ بالمجاهدة والصبر؛ لأن الدعوة إلى الله ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحتاج إلى صبر؛ لقوله - تعالى -: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر1- 3].
فالصبر على الدعوة من أخلاق المؤمنين؛ بل هو من أسباب النجاة من الخسران المبين، والذي لا ينجو منه إلا من استثناهم الله في هذه السورة، وهم من جمع الأوصاف الأربعة المذكورة (الإيمان بالله ورسوله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر على الأذى في سبيل الله).
فعلى المرأة المسلمة إذا رأت منكراً في مدرستها أو جامعتها، أو أسرتها إنكاره، وأن لا يمنعها الحياء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن في ذلك إخلال بالواجبات والحقوق، ويجب أن تمتلك الجرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع توفر العلم فيما تأمر وتنهى، والمحافظة على اللين والقول الحسن والصبر؛ حتى تصل النصيحة بشكلها الأمثل، وتحقق الهدف منها.
ولتعلمي -أختي في الله- أن كثيراً من النساء فيهن خير كثير، يستجبن للنصيحة الصادقة اللينة، ويحضرني هنا قصة لإحدى النساء، تقول صاحبة القصة: "كنتُ في مجمع من المجمعات مع مجموعة من صويحباتي تقول: سبحان الله ابتليت أنا بالعباءة التي على الأكتاف لم يبق نوع ولا صنف ولا جديد من هذه العباءات إلا ولبستها، سبحان الله مرة من المرات كنتُ في سوق من الأسواق، وأنا في كامل زينتي، ليست في عباءتي ولا في حجابي، أنا بكامل زينتي، ورائحة الطيب تفوح مني، تملأ المكان، إذ جاءتني امرأة محتشمة متزينة بزينة الإيمان، قالت لي: أمة الله اتقي الله، اتقي الله، لا تفتني نفسك، وتفتني الآخرين، اتركي هذه العباءة، وتحجبي بحجاب الإسلام، فأخذتني العزة بالإثم، فقلتُ لها: إذا تريدينني ألبس الحجاب الشرعي، والعباءة التي على الرأس، عندي شرط واحد، تقول: كنتُ أريد إضحاك صويحباتي، وأنا أدري أن كلامها صح، لكن أخذتني العزة بالإثم، قلتُ لها: لا أتحجب إلا إذا قبلتي يدي، إذا قبلتي يدي سوف أتحجب، فقالت العفيفة الطاهرة: أُقبل يدكِ وأُقبل رأسكِ، إذا كنت تتحجبين وتلبسين الحجاب الذي يرضي الله أُقبل يدكِ وأُقبل رأسكِ، فتقول: قبلتْ يدي وقبلت رأسي، ثم انصرفت وهي تدعو لي، أما أنا فجلستُ مع نفسي جلسة ثم أخذتُ أبكي على حالي، سبحان الله، ومن حينها قررتُ أن أترك هذا كله، وأن ألتزم بالحجاب الشرعي، حاربوني صويحباتي، متخلفة، رجعية.. إلى آخر كلامهم، لكني -والله العظيم- تقول: والله وجدتُ في نفسي راحة وطمأنينة واستقرار، سبحان الله رأيتُ الأثر يوم كنتُ في الأسواق بتلك الزينة كم كان يتجرأ عليّ الباعة، كم كان يتجرأ عليّ الشباب، أما الآن فما أحد يستطيع أن يتطاول عليّ بكلمة واحدة"[12] والسبب أنها تزينت بزينة الإيمان.
ثالثاً: لا بد أن تعرف المرأة المسلمة فضل الدعوة إلى الله، ومنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فإنه كما قيل: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان، ودعائم الإسلام، وأركانه العظام، بل القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، قال ابن رجب - رحمه الله -: "واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يحمل عليه رجاء ثوابه، وتارة خوف العقاب في تركه، وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه، وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم، ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة، وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته، وأنه أهل أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وأنه يفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال، ومن حفظ هذا المقام هان عليه كل ما يلقى من الأذى في الله - عز وجل -، وربما دعا لمن آذاه كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ضربه قومه، فجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)[13].
وقد حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التساهل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: ((والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعوه فلا يستجاب لكم))[14].
ومن الأعمال التي يُسأَل عنها العباد يوم القيامة موقفهم من المنكرات، وهل أدوا حقَّ الله - تعالى - في إنكارها أو لم يؤدُّوه؟ كما روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيتَ المنكر أن تُنكره؟))[15] [رواه ابن ماجه].
فالذي يتساهل في إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أنه يستحي من الإنكار على الناس، أو يجامل في سماع الغيبة، أو سماع أي من المنكرات أو رؤيتها ونحوها، فهذا وصاحبه شريك في الإثم إن لم ينكر، أو يفارقه.
والله -عز وجل- قد جعل هذه الأمة خير أمة، بسبب قيامها بهذه الفريضة العظيمة: (كُنتُم خَير اُمةٍ أخرِجت لِلنّاسِ تَأمرونَ بالمَعروف وَتَنهُونَ عَنِ المُنكرِ وَتُؤمِنُونَ باللّه) [آل عمران: 110] فهل يمكن لمن عرف مكانة هذه الشعيرة أن يمنعه منها مجرد خوف أو خجل من الناس؟!
أفلا نتساءل أخية: ماذا قدمنا للإسلام؟ كم فتاه تابت على أيدينا؟ كم ننفق لهداية الفتيات إلى الله، هل يصح أن نقول: لا نجرؤ على الدعوة، ولا إنكار المنكرات؟! كلا!.
ولعل من المناسب هنا أن نسوق لكِ هذه القصة، يقول أحدهم: "كنت في ألمانيا فطرق علي الباب، وإذا صوت امرأة، شابة ينادي من ورائه، فقلت لها: ما تريدين؟ قالت: افتح الباب، قلت: أنا رجل مسلم، وليس عندي أحد، ولا يجوز أن تدخلي علي، فأصرت علي، فأبيت أن أفتح الباب، فقالت: أنا من جماعة شهود يهوه الدينية، افتح الباب، وخذ هذه الكتب والنشرات، قلت: لا أريد شيئاً، فأخذت تترجى، فوليت الباب ظهري، ومضيت إلى غرفتي، فما كان منها إلا أن وضعت فمها على ثقب في الباب، ثم أخذت تتكلم عن دينها، وتشرح مبادئ عقيدتها لمدة عشر دقائق، فلما انتهت، توجهت إلى الباب وسألتها: لم تتعبين نفسكِ هكذا؟ فقالت: أنا أشعر الآن بالراحة؛ لأني بذلت ما أستطيع في سبيل خدمة ديني، فصدق الله حيث يقول: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) [(104) سورة النساء]"[16].
فإلى التي تخاف وتستحي من مخاطبة الناس مباشرة، أقول: إن بعض وسائل الدعوة لا تحتاج إلى مخاطبة الناس، فلا داعي لخوفك أو حيائك، كالكتابة في الصحف والمجلات، وتأليف الكتب والمنشورات، وإعداد الفلاشات الدعوية، وإعداد المجلات العائلية، وتوزيع الكتيبات والأشرطة، والكثير غيرها من الأفكار التي تستطيعين من خلالها خدمة دينك، ودعوة بني جنسك.
رابعاً: لتعلم المرأة المسلمة أن هذا من تخذيل وتثبيط الشيطان لها، وسعيه لهدم همتها، وحرمانها من هذا الفضل العظيم: فالشيطان يجعل المسلمة تتعلل بعلل واهية كـ(أنا) لا أملك علماً شرعياً، أو لا أملك ما يؤهلني لأكون داعية، وغيرها من الأعذار والموانع التي تعيقها وتحرمها من هذه الأمنية التي يتمناها كل صادق مع ربه، والحقيقة أنها مجرد كذبات شيطانية، وحيل خبيثة من عدوها اللدود، صدقتها فتقاعست، وإلا لماذا لا نغير؟ ما الأسباب التي تمنعنا من إنكار المنكر؟ لا أسباب حقيقية مانعة، وإنما هي علل وحيل الشيطان (نخجل، نستحي، ما تعودنا) وقد يكون من الأسباب أيضاً حصول خبرات سيئة رأتها المرأة المسلمة، أو سمعت عنها عند نصح بعض النساء هداهن الله، فصار عندها وهم الخوف من الناس والهيبة.
بل من الناس من تسأله: لماذا لا تحضر الصلاة في المسجد؟ فيقول: أستحي من نظر الناس! وهذا النوع من الخجل المذموم قد يجر صاحبه إلى فعل المحرمات، والوقوع في الكذب، وترك الواجبات والفرائض، فهو في الحقيقة تلبيس من الشيطان وليس بحياء، وإلا لماذا نخجل من قول الحق؟! أو ليس أحق بالخجل من يفعل الحرام؟
كيف تستحين -أختاه- أن تقدمي للناس كتاب ربك وسنة حبيبه - عليه السلام -؟! أفيهما ما يخجل؟! أم فيهما ما يجعلك أكثر فخراً وسعادة؟! ألم تري إلى تلك المغنية، وتلك الراقصة والممثلة والعلمانية التي تدعو إلى التحلل من الدين والحياء، وكلهن يعرضن بضاعتهن التي تستحي منها الجمادات، بكل جرأة ووقاحة، وأنت التي تملكين كنز الحياة الحقيقي، ومشعل النور الرباني تخجلين؟ أين عقلك؟!
عجباً كيف تجرؤ مغنية فاجرة أن تغني أمام عشرة آلاف، ولم تقل: إني خائفة أو أخجل؟! وكيف تجرؤ راقصة داعرة أن تعرض جسدها، ولا تفزع وتوجل؟! وإذا طلب من بعض الصالحات نصيحة، أو دعوة قالت: أخجل، خذلها الشيطان، فيا سبحان الله!.
صدقيني أنه وهم غرسه الشيطان في نفسك، وآن الأوان أن تمسحي هذا الوهم من قائمة أوهامك، وتحطمي هذا الحاجز الذي بناه اللعين في نفسك بصدق عزيمتك، ومحبتك لله ورسوله، واعلمي بأنك ستجدين بعض الرهبة والحياء في أول محاولة، ولكن لا تلتفتي لذلك، فإنه ستزول بتأشيرة خروج بلا عودة متى ما استمريتِ في هذا الطريق المبارك.
لأن الحياء والرهبة أمر طبيعي عند كل الناس، وقد مر على كل البشر الذين يواجهون الناس في بداية أمرهم، وما من عالم ولا داعية إلا ومرت عليه هذه المشاعر في أول طريقهم، فهل تقاعسوا؟ وكثير من الداعيات اللاتي يشار لهن بالبنان في مجتمعنا الآن كلهن واجهن صعوبة في بداية مشوارهن الدعوي؛ لعدم تعودهن على مواجهة الناس، فصرن بعد ذلك من الداعيات الناجحات، فتأملي كيف أصبح حالهن الآن، وأي نفع عظيم نفع الله بهن؟! إني على يقين بأننا سنجدك قريباً علماً بارزاً في هذا الميدان، وإحدى المجاهدات في ساحته، متى ما قررت الآن تخطي هذا الحاجز[17].
ولتعلم المسلمة أن الخوف الحقيقي هو من الشرك ومن المعصية، والذي يستحق الخوف هو العاصي والمشرك لا أنتِ؛ فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يبين من هو أولى بالخوف في رسالة منه إلى طلابه، وهو في مكان الخوف، وبين فكي السلطة الجائرة، ومن بين أقفاص السجون المحكمة، مصدر الخوف الحقيقي، إذ يقول: "والخوف الذي يحصل في قلوب الناس هو الشرك الذي في قلوبهم، قال - تعالى -: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) [(151) سورة آل عمران] ولما خوفوا الخليل - عليه السلام - بما يعبدونه ويشركون به، قال الخليل: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [(81) سورة الأنعام]"[18] ولهذا قال الإمام أحمد لبعض الناس: "لو صححت لم تخف أحداً"[19] أي: خوفك من المخلوق هو من مرض فيك، كمرض الشرك والذنوب، فكل من وافق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمره، فله نصيب من قوله: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) [(40) سورة التوبة].
خامساً: وأما الاستدلال بحديث أبي سعيد الخدري أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك، وفرقت من الناس))[20].
فقد قال الإمام البيهقي - رحمه الله -: "هذا فيمن يخاف سطوتهم، ولا يستطيع دفعها عن نفسه، وإلا فلا يقبل الله معذرته بذلك"[21].
وأيضاً قد جاء عند الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبة: ((ألا لا يمنعن رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه)) فبكي أبو سعيد، وقال: "قد والله رأينا أشياء فهبنا"[22] وخرجه الإمام أحمد وزاد فيه: ((فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقال بحق، أو يذكر بعظيم))[23].
فهذان الحديثان محمولان على أن يكون المانع له من الإنكار مجرد الهيبة دون الخوف المسقط للإنكار، بمعنى أن الإنسان يلام على ترك الأمر بالمعروف والنهي على المنكر خشيه للناس، ومجاملة لهم؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - أحق بالخشية والخوف منه، إلا إذا خاف على نفسه من ضرر متيقن لا متوهم، وهو ما يحمل عليه حديث أبي سعيد هذا (فإذا لقن الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك، وفرقت من الناس)[24].
سادساً: ولتعلم المسلمة أن من أعظم ما يعين في هذا الباب الاستعانة بالله - تعالى -، وسؤاله العون على تحقيق مرضاته، والعمل بموجب محبوباته، ومن الاستعانة به أن يذكره العبد قبيل ذلك، ويدعوه أن يثبته، وأن يضع له قبولاً وصبراً.
إذا فلتنطلقي بالدعوة والأمر والنهي، واحتسبي الأجر، وجددي النية لله - سبحانه وتعالى -، وإياك والعُجب بالعمل أو بالنفس، فإنه محبط للعمل، وتأكدي أنكِ إذا دعوتِ الله بصدق وخضوع أن يجعلكِ ممن ينشر دينه، ويعلي كلمته، فستستجيب لكِ القلوب المنصرفة بحول الله، وحينما تستلذين الأذى في سبيل الله سينفع الله بكِ الأمة بقدرة الله، وحينما تنظرين إلى تلك المقصرة بعين الرحمة والعطف بحالها فستقبل نصيحتك بإذن الله، وما عليك إلا العمل والاجتهاد، وهداية البيان والدلالة، أما هداية التوفيق فعلى الهادي - سبحانه -.
ورددي دوماً: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن"[25].
___________________
[1] - أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) [(105) سورة المائدة] (2/1332- 4017) وأحمد (17 /345- 11245) وصحح الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (9/17) والصحيحة (929).
[2] - أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحياء في العلم (1/60- 130) وغيرها من الأبواب. ومسلم في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المنى منها (1/172- 738).
[3] - أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحياء في العلم (1/135).
[4] - شرح النووي على صحيح مسلم (2/5).
[5] - فتح الباري (1-52).
[6] - فتح الباري (1-229).
[7] - تفسير الطبري (1/177).
[8] - فتح الباري لابن حجر (17/300).
[9] - أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحياء في العلم (1/135).
[10] - أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (ج1/ص50- 186).
[11] - المصدر: موقع أنا المسلم بتصرف شديد:
[12] - مرجع القصة: صيد الفوائد بتصرف:
[13] - أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إذا عرض الذمي بسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصرح نحو قوله: "السام عليكم" (6/2539- 6530) ومسلم في الجهاد والسير، باب غزوة أحد (5/179- 4747).
[14] - أخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4/468- 2169) وأحمد (38/332- 23301) وحسنه الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم: (7070).
[15] - أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) [(105) سورة المائدة] (2/1332- 4017) وأحمد (17 /345- 11245) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (9/17) والصحيحة (929).
[16] - مصدر القصة: موقع عالم حواء بتصرف يسير:
[17] - المصدر: موقع صيد الفوائد بتصرف:
[18] - مجموع الفتاوى (/ 6).
[19] - موسوعة الرد على الصوفية (184/95).
[20] - أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) [(105) سورة المائدة] (2/1332- 4017) وأحمد (17 /345- 11245) وصحح الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (9/17) والصحيحة (929).
[21] - فيض القدير (2/262).
[22] - أخرجه الترمذي كتاب الفتن، باب ما جاء أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة (4/483- 2191) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (9/7) والروض النضير (1001) والصحيحة (168).
[23] - أخرجه أحمد (3/50- 11492) وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/
(1/167): " أخرجه أحمد (3/50 - 87) وأبو يعلى (88/1- 2) وصرح الحسن بالتحديث عنده، فهو صحيح الإسناد".
[24] - أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) [(105) سورة المائدة] (2/1332- 4017) وأحمد (17 /345- 11245) وصحح الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (9/17) والصحيحة (929).
[25] - أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من الجبن والكسل (5/2342- 6008) وغيره من الأبواب.