الحدود الشرعية في الإسلام
مقدمة:
كادت عقوبات الحدود الشرعية تلتهم مفهوم "تطبيق الشريعة"، لكثرة ما ألح الكثيرون-من مؤيدين ومعارضين- على الحدود، وحجم النقاشات التي دارت حولها، ومدى صلاحيتها والفوارق بينها وبين القوانين الوضعية إلى غير ذلك(1)، بحجة أن هذه الحدود مخالفة لحقوق الإنسان التي ابتدعوها، لاسيما وأن احترام حقوق الإنسان مقررة قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، فهي مقررة بتقرير الله سبحانه وتعالى لها، ليست وليدة ثورة أو انقلابات سياسية فقد قال الله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلا﴾ [الإسراء: 70], وقال رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»(2), وقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا (3)؟, كما أن مبادئ حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية السمحة، ووفق المفهوم الإلهي لهذه الحقوق وهو ذلك المفهوم الذي يقوم على أسس الدين والأخلاق لا الفردية المطلقة غير المنضبطة. (4)
تعريف الحد:
الحد في اللغة: المنع, يقال حدني عن كذا أي منعني، ومنه سمي السجان حدادًا، وسميت العقوبات حدودًا، لأنها تمنع من ارتكاب أسبابها كالزنى والسكر وغير ذلك، وأيضًا تسمى حدودًا؛ لأنها أحكام الله التي وضعها وحدها وقدرها(5).
والحد في الشرع: عقوبة بدنية واستيفاء حق الله تعالى(6)، أو هو العقوبة المقدرة شرعًا، سواء أكانت حقا لله أم للعبد فلا يسمى القصاص حدًا لأنه حق العبد، ولا التعزير لعدم التقدير.
وركنه: إقامة الإمام أو نائبه في الإقامة .
وشرطه: كون من يقام عليه صحيح العقل سليم البدن من أهل الاعتبار والانتذار حتى لا يقام على المجنون والسكران والمريض وضعيف الخلقة إلا بعد الصحة والإفاقة(7).
حكم إقامة الحدود الشرعية:
قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [النساء: 14], وقد حذر الله تعالى من اقتراف الحدود، فقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق:1], وقال -جل شأنه-: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ [البقرة: 187](
.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحًا »(9), وقد أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإقامة الحدود، فقال: «أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم»(10).
قال شيخ الإسلام: خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابًا مطلقًا كقوله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللّهِ ﴾[المائدة: 38] وقوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾[النور: 2] وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾[النور: 4]؛ لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرًا عليه والعاجزون لا يجب عليهم، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد؛ بل هو نوع من الجهاد, فقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: 216] وقوله: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾[البقرة: 190] وقوله: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ ﴾[التوبة: 39] ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين و " القدرة " هي السلطان ؛ فلهذا: وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه(11).
لقد شرع الله تعالى الحدود للانزجار عما يتضرر به العباد، وصيانة دار الإسلام عن الفساد والطهر من الذنب؛ ليست بحكمٍ أصلي لإقامة الحد؛ لأنها تحصل بالتوبة لا بإقامة الحد، ولهذا يقام الحد على الكافر ولا طهرة له(12).
إن حق الإمام في إسقاط الحد إذا وجد المسقط خاص بما هو حق لله تعالى، أو ما يغلب فيه حق الله، كحد الزنا والسرقة والشرب والحرابة, أما ما هو حق للعبد، أو يغلب فيه حق العبد فليس للإمام إسقاطه، وإنما يكون الإسقاط من صاحب الحق, ووجه ذلك كما يقول الفقهاء: أن حقوق الله تعالى مبنية على التسامح والعفو، فإذا وجد ما يسقطها، فالإمام نائب في الاستيفاء لحق الله تعالى فله إسقاطها. أما حقوق العباد، فإن مبناها على الشح والضيق، والعبد بحاجة إلى استيفاء حقه، فيتوقف الاستيفاء على طلبه(13).
كما إن الحدود الشرعية كما وجبت بنص شرعي، لا تسقط بعد وجوبها وثبوتها عند الإمام إلا بنص شرعي، أو إجماع، فلا بد فيها من التوقيف أو الاتفاق، فلا مجال فيها للأهواء الشخصية، والأغراض الدنيوية، وليس لذلك سبيل في إسقاط حد أو وجوبه. ومن هنا: شرع التثبت في الحكم على من فعل ما يوجب الحد؛ فشرع الإقرار الصريح، وتعدد الشهود والإمام مندوب إلى الاستفسار عن كل الملابسات الممكنة قبل إصدار الحكم, وفي ذلك تعظيم لأحكام الله، ووقوف عند حدوده، واحترام لحقوق الإنسان؛ لئلا يؤخذ البريء بذنب غيره، ولئلا يعاقب من لا يستحق العقوبة(14).
إن العقوبات الشرعية المقدرة تتفاوت من حيث الحق الغالب فيها: فقد يكون الاعتداء فيها على حق الجماعة، وأمر الله وشرعه غالبًا، ففي هذه الحالة يكون الغالب فيها حق الله تعالى، فيجب استيفاؤه ولا يحل لأحد إسقاطه, وقد يكون الاعتداء فيها –غالبًا- يخص الأفراد، وحقوق العباد، فيكون حق العبد هو الغالب، وفيها حق لله، وهو: مخالفة أمره، وتعدي حدوده، فمصلحة العقوبة فيها تعود إلى الأفراد، وفي هذه الحالة يصح للعبد إسقاط الحد، كما في حد القذف.
إن ورود النصوص الشرعية في وجوب تنفيذ الحدود معناه أن الإمام ملزم باستيفاء الحد، إذا توفرت الشروط وانتفت موانعه. وورود النص القطعي في وجوب استيفاء الحد، لا يمنع ورود الإسقاط على تلك الحدود، فإذا طرأ على الحد ما يسقطه، وترجح لدى الإمام إسقاطه، فله ذلك سواء قبل الحكم أم بعده.
الحدود رحمة:
الإسلام ينظر لحقوق الإنسان على أنها منحة إلهية، ليست منحة من مخلوق لمخلوق مثله، يمن بها عليه إن شاء أو يسلبها منه متى شاء، بل هي حقوق قررها الله له بمقتضى فطرته الإنسانية، فهي تتمتع بقدر كاف من الهيبة والاحترام والقدسية فلا يتجرأ شخص على انتهاكها أو الاعتداء عليها, أما ما يثيره المبطلون من أن إقامة الحدود الشرعية اعتداء على حقوق الإنسان فهذه شبهة باطلة عقلًا وشرعًا، والمتأمل لحال المجتمعات التي تطبق فيها الحدود والأخرى التي لا تطبق فيها ليجد البون الشاسع في استقرار تلك المجتمعات، وانتشار الأمن فيها، فيشعر الإنسان بطمأنينة نفسية، وسكينة قلبية، وأمن مستتب، بل إن تطبيق الحدود الشرعية على المجرمين خير وسيلة للقضاء على الجريمة، وخير وسيلة لحفظ الدماء أن تسفك، والحياة من أن تهدر، والأعراض من أن تنتهك، والأنساب من أن تختلط، والأموال من أن تضيع أو تؤكل بالباطل، والعقول من أن تختل، والدين من أن يتخذ سخرية وهزوًا(15)، ولقد أخرج المجتمع الإسلامي الأول أناسًا ارتكبوا حدودًا، وكان لهم أن يستروا على أنفسهم، لكنهم كانوا هم الذين يذهبون بأنفسهم لإقامة الحد عليهم، أفبعد ذلك كله، يأتي من يجهلون الإسلام ويقولون: إن الحدود تعذيب وقسوة! بل إن الحدود حفاظ ورحمة(16).
والإسلام حين وضع الحدود لم يكن يهدف من ورائها إشباع شهوة تعذيب الناس، بل يطبق الحدود في حدود ضيقة، فيدرأ الحد بأدنى شبهة، ولا يقام إلا إذا وصل إلى الحاكم المسلم، فإن لم يصل، فللذي ارتكب الحد أن يتوب إلى الله تعالى, ثم إن الناظر إلى تطبيق الحدود يعلم أن هذا التطبيق يمنع ارتكابه وتكرره مرة أخرى، وإن إقامة الحدود في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعهد الخلفاء الراشدين لم يتعد حدود أصابع اليدين، ثم إن اللِّين لا يجدي في كل موقف من المواقف، بل القسوة والشدة لهما أثرهما في الإصلاح أحيانًا كثيرة. وما تفعله دول العالم المتحضر أدعياء الديمقراطية وحقوق الإنسان لهو أشد مما يمكن أن يوصف بأنه قسوة، وخذ سجن أبو غريب وغوانتنامو مثالاً على عدم القسوة في أعرافهم، كما يحاول البعض من أعداء الإسلام أن يصوروا تطبيق الحدود على أنه تعذيب وقسوة وتنكيل، وهم حين يفكرون في ذلك الأمر، يفكرون في منظر تقطيع اليد، أو الجلد أو الرجم لمن أتى حدًا من حدود الله، ويتناسون تمامًا الأضرار التي نجمت عن ارتكابهم الحدود، من أموال الناس التي انتهبت، والتي ربما تسببت في فقر أصحابها، أو هتك الأعراض واختلاط الأنساب وفساد المجتمع، أليس من الأنفع للمجتمع أن تقطع يد كل عام، ويشيع الأمن بين الناس، ويطمئن الناس على أموالهم وأعراضهم، بدلاً من إشاعة الخوف في نفوسهم وقلوبهم من أولئك الذين يرتكبون جرمًا في حق أنفسهم قبل أن يرتكبوا جرمًا أعظم في حق الناس(17).
إن إقامة حدود الله في الأرض رحمة للعباد، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنى الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته، ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه الله مالكه وخالقه، فلا يطمع في أخذ حق الآخرين, ومتى قضي على الجريمة أو ضاق نطاقها فإن الأمن يستقر، ويتوفر الرخاء، وتتسع الأرزاق ويصبح المجتمع هادئًا مستقرًا لا يعاني من قلاقل أو اضطرابات، فضلاً عن كون ذلك كله وقبل كل شيء هو امتثال لأمر الله عز وجل واحتكام إلى شرعه القويم.
إذا لم تطبق الحدود الشرعية تحولت إلى عقوبات كونية:
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾[طه: 124] إن الله تعالى أمرنا نحن المسلمين أن نقيم الحدود على أصحاب المعاصي، فإذا تخلينا عن إقامة الحدود فإن هذه العقوبة الشرعية التي كان من المفروض أن نقوم بها نحن، تتحول بإذن الله تعالى إلى عقوبة كونية عامة، وإذا كان الحد الشرعي إنما يتناول العاصي فقط، فإن العقوبة الكونية العامة قد تشمل المباشر للجريمة وغير المباشر، ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كُلِّم في المخزومية التي كانت تسرق، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أسامة بن زيد حبَّه وابن حِبّه، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها»(18), وحاشاها رضي الله عنها من ذلك، لكن هذا مثال في العدالة، حتى على بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس في المجتمع الإسلامي من يجري في عروقه دم مقدس، فهو فوق النظام والعدالة أو -كما يقال- فوق القانون، إنما يخضع الجميع لشريعة الله عز وجل، الكبير والصغير أمام شريعة الله تعالى سواء، وقد جاء عمر رضي الله عنه بـابن عمرو بن العاص، وطلب من القبطي الأجنبي البعيد بل والكافر أن يأخذ الدرة ويضعها على رأسه ويضربه ويقول: اضرب ابن الأكرمين، خذ حقك، انتصر من ابن الأكرمين، وفي بلاط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، الذي اشتهر عنه قوله: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا(19).
إذن: عقوبة الحد -مثلاً- على السارق بالقطع، أو عقوبة رجم الزاني المحصن، أو عقوبة جلد غير المحصن، أو أي حد شرعي أمر الله تعالى به، إذا فعله الناس أمنوا واطمأنوا على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأرغد عليهم الله تعالى بالعيش، فإذا قصروا ولم يقوموا بالحدود، فإن هذه العقوبة الشرعية تتحول إلى عقوبة كونية، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إنما أهلك الذين من قبلكم...» أهلكوا لماذا؟ لأنهم عطلوا الحدود؛ لم يقيموا الحدود الشرعية، فنـزلت عليهم العقوبات الكونية القدرية التي لا يد لهم في دفعها، وهي عقوبات عامة تشمل الجميع، ثم يبعثون على نياتهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم(20). وهذا مصداق قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 25]ولا شك أن تعطيل حدود الله من أشد الظلم.
مميزات الحدود في الشريعة الإسلامية:
إن الشريعة الإسلامية شريعة متكاملة، صالحة لكل زمان ومكان، عادلة في تشريعاتها وأحكامها، وهذا يتجلى في موازنة التشريع لأنواع العقوبات الشرعية بأنواع موجباتها، فجعل شدة العقاب مقابل شدة أثر الجريمة، وخطرها على المجتمع الإسلامي أفرادًا وجماعات, وهذا يتجلى لنا واضحًا في عقوبة الزاني المحصن، وعقوبة المحارب، فشدة العقوبة فيهما نظرًا لشدة الجريمة البشعة، وفي مقابل ذلك: عقوبة القذف، فهي أخف الحدود ضربًا، لأن جريمة القذف أقل أثرًا من الزنا والحرابة. ومن مميزات هذا التشريع: المساواة بين مستحقي العقوبة الشرعية المقدرة، فلا تسقط عن الشريف لمنـزلته بين الناس أو جاهه أو سلطانه، ولا تسقط عن الغني لكثرة أمواله، وهذا يتجلى لنا واضحًا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث:«لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(21).
كما إن ورود الإسقاط على الحدود الشرعية لا يضعف من قطعيتها في الوجوب، ولا يؤدي إلى تعطيلها –كما يقوله بعض المتأخرين- وإنما الإسقاط الشرعي يعني: استثناء حالة الإسقاط من حكم النص الدال على وجوب الحد، وهذا أمر له شواهد كثيرة في الأحكام الشرعية؛ كما في الصلاة، والصيام والحج والكفارات، فمثلاً: الصلاة واجبة على كل مسلم ومسلمة، وتسقط عن المرأة في أيام حيضها فتركها للصلاة في هذه الفترة ليس تعطيلًا للنص الدال على الوجوب المطلق، وإنما تمشيًا مع النصوص الأخرى الدالة على استثناء هذه الحالة من الحكم العام. وهذا هو الشأن في الحدود إذا ورد ما يسقطها بنص أو إجماع(22), بالإضافة إلى أن الأخذ بقاعدة درء الحدود بالشبهات يؤدي غالبًا إلى تبرئة المتهم من الجريمة المنسوبة إليه، ودرء العقوبة الحدية عنه كأن تكون الشبهة قائمة في ركن من أركان الجريمة، أو في طرق إثباتها، وقد تستدعي الحال أحيانًا بعد درء الحد إلى استبدال ذلك بعقوبة تعزيرية بدلاً من الحد المشتبه فيه، كمن أقر بحد من الحدود الشرعية، ثم عدل عن إقراره لشبهة قوية، فإن الإمام يدرأ عنه الحد، وله أن يعاقبه عقوبة تعزيزية ليكون أبلغ في ردعه وزجره.
الحدود في جميع الشرائع:
ثم إن هذه الحدود التي نتحدث عنها لم تكن بدعًا من الأمر ولا هي فقط في شريعتنا نحن المسلمين ليتصدى لها أعداء الإسلام؛ بل قد أمر الله تعالى بها في جميع الشرائع السماوية، فقد أمر الله بإقامة الحدود في التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، فعن نافعٍ عن ابن عمر أنه قال: «إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلاً منهم وامرأةً زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟" قالوا: نفضحهم ويجلدن, قال عبد الله بن سلامٍ: إن فيها لآية الرجم, فأتوا التوراة فنشروها, فوضع أحدهم يده على آية الرجم, فقرأ ما بعدها وما قبلها, فقال له عبد الله بن سلامٍ: ارفع يدك, فرفع يده, فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما, قال عبد الله بن عمر: فرأيته رجلاً يجنأ على المرأة يقيها الحجارة»(23) .
قال القاضي أبو بكر بن العربي جاءوا محكمين له في الظاهر ومختبرين في الباطن هل هو نبي حق أو مسامح في الحق فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إفتاءهم وتأمل سؤالهم وهذا يدل على أن التحكيم جائز في الشرع انتهى, كما أن فيه وجوب حد الزنا على الكافر, وبه قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والجمهور ؛ قال ابن عبد البر: قال مالك وإنما رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين ؛ لأنه لم تكن لليهود يومئذ ذمة وتحاكموا إليه ، وقال الطحاوي -لما ذكر كلام مالك- هذا: لو لم يكن واجبًا عليهم لما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم قال وإذا كان من لا ذمة له قد حده النبي صلى الله عليه وسلم في الزنا فمن له ذمة أحرى بذلك(24).
شبهات وردود:
أما ما يثار بين الفينة والأخرى من أن العقوبة غير منضبطة وأنها ترجع لهوى القضاة وشهواتهم؛ فهذا غير صحيح؛ ذلك أن العقوبة على جرائم الحدود (وهي الزنا، والقذف، وشرب المسكر، والسرقة، والحرابة، والردة، والبغي) مقننة ومحددة لا يزاد فيها ولا ينقص، وليس للقاضي أي سلطة تقديرية في ابتداع عقوبات جديدة لم ينص عليها الشارع الحكيم، وكذلك عقوبات جرائم القصاص والديات، أما ما عداها من الجرائم التي لم ينص على عقوبتها في الشريعة الإسلامية وهي جرائم التعازير، فللقضاة حق الاجتهاد فيها وأن يختار القاضي العقوبة الملائمة للمتهم، وهذا يختلف باختلاف أحوال الناس، فلا يشترط أن يتساوى المتهمون في نوع العقوبة وقدرها، وإنما المطلوب أن يتساووا في أثر العقوبة عليهم، والأثر المرجو من العقوبة هو الزجر والتأديب، فبعض المتهمين ينزجر بالتوبيخ، وبعضهم لا ينزجر إلا بالجلد والسجن، وهكذا(25).
كما زعم بعضهم أن إقامة الحدود الشرعية بصفة عامة (من قتل وقطع ورجم ) على المجرمين فيه من القسوة البالغة والوحشية التي لا تتناسب مع عصرنا الحاضر.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
1-إن هذه الحدود ثابتة في الشريعة الإسلامية لحكم عظيمة قد تظهر لقوم وتخفى على آخرين, فلا يضرنا نحن المسلمين أن عرفنا الحكمة أو جهلناها, فلله الحكمة البالغة في كل تشريع.
2-إنه مما هو مسلم به بين العقلاء أن كل عقاب لابد فيه من شدة وقسوة, حتى لو ضرب الرجل ولده مؤدبًا له لكان في ذلك نوع من القسوة, فالزعم بوجود عقاب من دون شيء من القسوة مكابرة ظاهرة, فليسموها ما شاؤا, وإذا لم تشتمل العقوبات على شيء من القسوة والشدة فكيف ستكون رادعة وزاجرة للمجرمين وضعاف النفوس ؟! .
3-إننا لو تركنا إقامة الحدود الشرعية لما تزعمونه من القسوة لأوقعنا أنفسنا والمجتمع في قسوة أشد منها, فمن الرحمة بالمجتمع وبالمحدود أن نقيم الحد عليه, ولنضرب مثالاً يقرب المراد: ما قولكم في الطبيب الذي يجري عملية جراحية فيستأصل بمشرطه المرهف بضعة من جسم المريض ليعالجه, أليس في هذا مظهر من مظاهر القسوة؟ بلى, ولكنها قسوة في الجزء المستأصل, رحمة وشفقة في باقي أجزاء الإنسان؛ وكذلك نقول في قسوة الحدود, فحرصًا على سلامة جسم المجتمع من الفساد والمرض كان من الحزم والعقل القسوة على الجزء الفاسد منه, ليسلم باقي أعضاء المجتمع .
4-إن الإسلام قبل أن يحكم عليه بالحد قدم له من وسائل الوقاية ما كان يكفي لإبعاده عن الجريمة التي اقترفها لو كان له قلب حي وضمير, لكنه لما أغلق قلبه وألغى عقله ونزع من ضميره الرحمة استحق أن يعاقب من جنس صنيعه.
قسوة حد السرقة:
كما زعم بعضهم أن تطبيق حد السرقة امتهان لكرامة الإنسان وتشويه لخلقته وسمعته, بل فيه تعطيل لجزء من المجتمع وتمثيل له . والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
1- حد السرقة حكم ثابت في الشريعة الإسلامية لا يحل لأحد تعطيله علمنا الحكمة منه أم لم نعلم, قال الله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ»(26).
2-إنه من الرحمة بالمحدود وبالمجتمع استئصال اليد الفاسدة منه؛ منعًا لانتشار الفساد والفوضى واختلال الأمن في المجتمع .
3-إطلاق السارق من دون عقاب رادع له؛ يجعل الناس في شغل شاغل لحماية ممتلكاتهم بأنفسهم أو بواسطة شركات الأمن, وفي هذا من الهدر للأموال والأوقات الشيء الكثير.
4-ولنتحاكم إلى الواقع: فمن المسلمات عند من عنده أدنى حد من الاطلاع أن إهمال هذا الحد أو استبداله بغيره يصّير المجتمعات غابة لا أمن فيها ولا أمان, ولننظر إلى المجتمعات الغربية, فبالرغم مما وصلوا إليه من الحضارة المدنية إلا أن جرائم السرقة عندهم في ازدياد كبير, بخلاف المجتمعات التي تقيم الحدود, فإن الأمن فيها واضح, ولا يمكن مقارنة ما فيها من السرقات بغيرها من المجتمعات.
5-إننا نشاهد ما جعلوه عقابًا للسرقة من السجن لمدة معينة فلا نرى له أثرًا على السرَّاق, بل هو بمثابة المدرسة والجامعة التي يتبادل فيها المجرمون الخبرات الإجرامية.
قال معترض على قطع يد السارق:
يد بخمسين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
فأجابه آخر:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
6- على أنه لا يتم تنفيذ حد السرقة في الإسلام إلا بعد تحقق شروط وضوابط معينة كبلوغ النصاب في المال المسروق, وانتفاء الشبهة التي تمنع إقامة الحد كسرقة من أشرف على الهلاك ولم يجد ما يبقيه على قيد الحياة .
قسوة حد الزنا:
وزعم بعضهم أن في جلد أو رجم الزاني قسوة بالغة, واعتداء على الحرية الشخصية للناس, كما أن استخدام الرجم وسيلة للقتل وحشية لا تتناسب والقرن العشرين.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
1- حد الزنا حكم ثابت في الشريعة الإسلامية لا يحل لأحد تعطيله علمنا الحكمة منه أم لم نعلم. قال الله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[النور: 2].
2- إن الله تعالى حرم الزنا وغلظ عقوبته لما له من الآثار الوخيمة على الفرد والمجتمع فمن ذلك: تفشي الجرائم الخلقية والانحلال، وتفشي الأوبئة والأمراض الفتاكة كمرض نقص المناعة (الإيدز)، وتفكك أهم رابطة اجتماعية وهي الأسرة، فإنها تهدم النسيج الاجتماعي والرابط التكافلي بين مجموعاته، وفيه تقويض لدعائم الأمم وهدم لمجدها لما فيه من تعطيل النسل الصالح, وقتل النخوة, والشهامة, وقطع الروابط الإنسانية من أبوة وأخوة وبنوة وأمومة، ولما يفرزه الزنا من ضياع أنفس ومهج في المجتمع دون ذنب منها, فابن الزنا ضائع منبوذ في المجتمع, يقاسي صنوف الحرمان والمهانة, مما يولد أشخاصًا يكرهون مجتمعاتهم ويحقدون على أهلها, ولما فيه من الخلط في الأنساب, وإلحاق الأبناء بغير آبائهم, وأخذهم حقوقًا لا يستحقونها.
3- الغريزة الجنسية مركبة في الإنسان, فإذا لم يجعل العقاب الرادع للزنا تحولت المجتمعات إلى بؤرة فساد وانحلال، وعُزِف عن الزواج الذي أحله الله وأراده لعباده.
4- كما شدد الشارع في عقوبة الزنا إلا أنه جعل له من الاحتياطات والشروط ما يضيق معه إقامة الحد, فلم يجعل الشارع السبيل إلى إثبات الحد إلا في حالتين:
الأولى: اعترافهما اعترافًا صريحًا لا رجعة فيه ولا إكراه.
والثانية: شهادة أربعة عدول بأنهما رأياهما حال الزنا رؤية صريحة (أي رؤية الإيلاج) مع اتفاق رؤيا الجميع, وهذا العدد من الشهود يصعب توافره, إلا إذا كانا مجاهرين أمام الناس بفعلتهما, ولذلك قل ثبوت الزنا بهذه الطريقة جدًا عبر التاريخ.
5- ثم إن الشارع الحكيم فرق بين المحصن وغير المحصن في العقوبة, فجعل على غير المحصن مائة جلدة وتغريب عام, وحكم على المحصن بالرجم حتى الموت, ولا يخفى ما بين الاثنين من فرق.
6- أما عن العقوبة بالرجم حتى الموت فليس المراد منها مجرد القتل- والله أعلم - بل المراد من ذلك الزجر والردع عن الإقدام على هذه الجريمة الشنعاء في حقه وحق مجتمعه, وكذلك فيها من العبرة لمن تسول له نفسه الزنا, لذا أمر الشارع بأن يحضر حال تنفيذ الحد جماعة من المؤمنين, قال الله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 2].
7- ثم إن الإسلام لم يوجب هذه العقوبة على الزاني إلا بعد أن سد الطرق والوسائل المفضية إلى الزنا, ومن ذلك: تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية, وتحريم الخلوة بها, وغيرها من العوامل المؤدية إلى إثارة الغرائز وتأجيج الشهوات. وعمل على علاج ذلك بالحث على التبكير بالزواج, وتيسير أموره ومتطلباته, حتى يتم تفريغ هذه الغريزة بالشكل المناسب(27).
شدة حد القذف:
زعم بعضهم أن حد القذف وهو الجلد ثمانين جلدة شديد قاسي لا يصلح لزماننا هذا.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
1- حد القذف حكم ثابت في الشريعة الإسلامية لا يحل لأحد تعطيله علمنا الحكمة منه أم لم نعلم. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ^ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور4-5] .
2-حد القذف يرد للمجني عليه اعتباره, ويعيد عليه كرامته .
3-ما في هذا الحد من وقاية أعراض الناس بمنع إلصاق التهم بهم وتشويه سمعتهم .
4-ترك إقامة الحد يجرئ السفهاء على اتهام الشرفاء, مما يزرع في المجتمع بذور الحقد والبغضاء والكراهية بين الناس, وربما أفضى بالمجني عليه إلى الانتقام بالقتل أو غيره حتى يسترد كرامته.
5-إن القاذف حين يقذف أخاه فإنه يؤلمه إيلامًا نفسيًا, فكان من المناسب إيلام القاذف بدنيًا, ونفسيًا جزاء صنيعه.
6-ولما كان القاذف يريد بقذفه تحقير المقذوف كان جزاؤه أن يحقر من الجماعة كلها, وذلك بإسقاط عدالته؛ فلا تقبل له شهادة, ويوصف بالفسق حتى يتوب توبة نصوحًا.
7-أن الإسلام يسد جميع الأبواب المفضية إلى الزنا ويعالجها بشتى الطرق, فالرمي بالزنا وكثرة سماعه قد يهونه في النفوس مما قد يغري بهذه الجريمة, فإذا كانت نادرة الذكر في المجتمع فإنها تبقى مرهوبة لدى الناس, مستبشع الوقوع فيها, وبذلك نحافظ على نزاهة المجتمع وطهارته.
إقامة حد السكر معارض لحرية الإنسان:
زعم بعضهم أن تنفيذ حد السكر فيه انتهاك صارخ لحرية الإنسان الشخصية, وتدخّل في خصوصياته, فضلاً عن ما فيه من الغلظة والقسوة التي يأباها عالمنا المتحضر اليوم.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
1-حد السكر حكم ثابت في الشريعة الإسلامية لا يحل لأحد تعطيله علمنا الحكمة منه أم لم نعلم. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ^إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة90-91]. وعن أنس بن مالك قال: «إن نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال, ثم جلد أبو بكر أربعين, فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود, قال: فجلد عمر ثمانين»(28).
1-إن الإنسان في الشريعة الإسلامية ليس له الحرية المطلقة في مأكله ومشربه, بل هنالك ما هو ممنوع من تناوله لسبب من الأسباب كالضرر والقذارة ونحوهما.
2- اهتم الشارع بالحفاظ على سلامة العقل البشري, فقطع كل الوسائل المؤدية إلى تغييبه أو إتلافه والخمر من أخطر هذه الوسائل.
3-إن الخمر تضع متعاطيها في وضع مزرٍ مهين غير لائق بالحيوان, فضلاً عن الإنسان, فتخرجه عن احتشامه ووقاره بل وعن بشريته في بعض الأحيان, فالخمر تحدث تغييرًا ضارًا في نفسية الإنسان, فتولد فيه الشعور بالنقص والاحتقار والقلق والاضطراب النفسي .
4-إنها إسراف للمال فيما يضر ولا ينفع, يكلف الفرد والدول الخسائر الفادحة .فقد ذكرت بعض التقارير التي نشرت عام 1980م أن فرنسا تخسر على الخمور في العام الواحد ما يربو على (سبعة آلاف مليون دولار), وأن الولايات المتحدة الأمريكية تخسر ما يربو على (ثلاثين ألف مليون دولار) سنويًا، كما إنها تلهي الإنسان عن عمله وتشغله عما ينفعه ويعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع والفائدة.
6-إنها تحول الإنسان إلى شخص أناني ينفق ماله على ملذاته وشهواته ويترك زوجته وأولاده دون رعاية واهتمام، فمن ذلك كله يعلم لماذا جاء الشرع بتحريم الخمر وترتيب العقوبة الرادعة على من شربها(29).
نتائج حول البحث:
ولعل من الضروري أن نعرّج على بعض النتائج التي يمكن أن تستفاد من هذا البحث وكذلك من خلال اطلاعنا على كلام الفقهاء حول الحدود الشرعية وتفاصيلها ونجعلها بشكل نقاط موجزة لئلا يطول بنا البحث، وليلم القارئ ببعض أهم المعلومات حول هذا الموضوع لما فيه من الأهمية، لاسيما ونحن نتصدى للرد على المخالفين وأصحاب الأهواء:
1- إن العفو من العبد لا مدخل له في الحدود الشرعية، الواجبة لحق الله تعالى، كالزنا والسرقة والشرب وهو خاص بما هو حق للعبد، أو يغلب فيه حق العبد كحد القذف.
2- التوبة لا تعفي صاحبها من حد القذف.
3- التوبة تعفي صاحبها من الحد في الزنا، والسرقة والشرب إذا كانت قبل الرفع إلى الإمام، بشرط الإصلاح معها، فلا يجب على الإمام إقامة الحد في هذه الحالة، إلا أن يصر صاحب الحد على إقامته، فيقيمه عليه تطهيرًا له من الذنب, أما التوبة بعد الرفع إلى الإمام فلا تعفي صاحبها من الحد بل تجب.
4- التداخل يسقط الحد إذا تكررت الحدود من جنس واحد قبل الحد فيجزئ عن الجميع حد واحد، وتسقط عقوبة ما سواه, أو بعبارة أخرى إذا تعددت العقوبة الشرعية في محل واحد، فإن استيفاء أحدها مسقط لما سواه ضرورة لفوات المحل.
5- التقادم الزمني لا أثر له على استيفاء الحدود الشرعية، سواء تقادمت الجريمة قبل ثبوتها أم تقادمت العقوبة قبل استيفائها.
6- الرجوع عن الإقرار بعد الحكم مسقط للحد عن المقر، إذا دل دليل على صحة رجوعه، وأمكن تصديقه فيه لشبهة راجحة.
7- رجوع الشهود عن شهادتهم بعد الحكم وقبل الاستيفاء مسقط للحد عن المشهود عليه.
8-إن من أصاب حدًا في دار الحرب لا يستوفى منه فيها، وإنما يؤخر إلى رجوعه إلى دار الإسلام، فيستوفى منه فيها، ولا أثر لدار الحرب على سقوط الحد عنه.
9- الحدود الشرعية تجب حيث وجدت مسبباتها، ولا أثر لتعدد الجناة، واختلاف أحوالهم؛ فمن استحق العقوبة منهم لتوفر الشرط، وزوال المانع، يستوفى الحد منه, ومن وجد به مانع من الحد، أو شبهة فيختص به، ولا يتعداه إلى غيره ممن شاركه في فعل الجناية الموجهة للحد.
10- الشبهة القوية تسقط الحد سواء وجدت في الفعل أو الفاعل، أو الطريق المثبت للجناية فالحدود لا تقام مع الشبهات، وعلى الإمام أن يحتاط في الإثبات فدرء الحد بالشبهة خير من إقامته معها.
11- إذا ثبت حد الزنا على الزاني المحصن بشهادة الشهود، وحكم على المشهود عليه بالرجم، فإن بداءة الشهود بالرجم ليست شرطًا في الاستيفاء وامتناعهم عن الرجم لا يسقط الحد عن المشهود عليه(30) .
صور من انعدام الحدود الشرعية:
لنرى واقع الحال في بعض الدول التي تركت العمل بشرع الخالق، وعاقبت على الجريمة بالقوانين الوضعية، لنرى حالهم بصورة إحصائيات لأعداد أطفال الزنا وجرائم السرقة وغيرها من الجرائم، هذه الجرائم أرقامها تتحدث بالتالي، في عام 1970م كانت إحصائية عدد الجرائم أكثر من مليون جريمة، وفي عام 1971م أي بعد عام واحد أصبحت عدد الجرائم إحدى عشر ونصف مليون جريمة، وعندما نأتي إلى التحديدات الأكثر في إحصائيات متأخرة؛ فإننا نجد - على سبيل المثال - في إحصائية 1988م عدد الذين قتلوا في جرائم القتل في مدينة نيويورك وحدها 1849 شخص، وفي عام 1970م كان هناك 16800 جريمة قتل، بينما تضاعفت في عام1974م إلى 21500 جريمة قتل, وهكذا نجد أن الجرائم تتضاعف؛ حتى كانت بعض الإحصائيات تدل على أنه في أمريكا تحصل جريمة قتل كل دقيقتين، وجريمة اغتصاب كل عشرين دقيقة ثم يدخل المجرم إلى السجن ليأكل ويشرب، ويكون هذا أقصر طريق للبطالين والعاطلين عن العمل؛ لا يجدون قوتًا ولا مأوى فيقتل له أي إنسان حتى يدخل إلى السجن ويعيش مرفّهًا ومنعمًا، وفي ألمانيا القتل بالرصاص تضاعف عشرة أضعاف أي في عام 1969م كان هناك ألفي جريمة بينما في عام 1970م ألفي وخمسمائة جريمة بينما في عام 1971م ثلاثة آلاف جريمة - والزيادة مضطردة حتى وصلت إلى عشرة أضعاف العدد الأول, وفي بريطانيا عدد جرائم القتل 15759 جريمة عام 1969م، وفي عام 1970م قفز الرقم إلى 41088 جريمة قتل، ثم وصل بعد ذلك إلى 50000, والزيادة أيضًا باستمرار.
ولقد وجدت في ألمانيا طفلة مشوهة ومعتدى عليها، وفي حالة يرثى لها ونقلت إلى المستشفى، ورغم الإسعاف والنقل إلى المستشفى ماتت ولما كانت مجهولة الهوية أعلنت المستشفى عن أوصاف الطفلة التي وجدت في حالة سيئة وقتلت، وعلى من فُقدِت له ابنة أن يتصل، فاتصل بهذه المستشفى أكثر من 500 أسرة في نفس هذه المدينة فقط، تقول إنها فقدت بنات لها في مثل في هذا السن، في مثل هذا الوصف ولا يعرفون عنهم شيئًا، وهذا تقرير يلخص جرائم يوم واحد في أمريكا، يقول هذا التقرير إن الجرائم التي قبض فيها على مرتكبيها بالأعداد في يوم واحد على مستوى أمريكا 2253 من متعاطي الحشيش، الاغتصاب 180 امرأة، القتل 53 شخص، السرقة 2618 سيارة، شرب الخمور 90بليون زجاجة بيرة، الهروب بالأطفال 2740 طفل، حمل النساء المراهقات -من غير زواج طبعًا- 2740 ، الإجهاض 3231 ، الإصابات بالأمراض الناتجة عن مثل هذا 68493 شخص، هكذا تجد أن الجريمة صارت هي الأساس في مثل هذه المجتمعات من القتل إلى الاغتصاب إلى السرقة ، وهذه الأعداد هي التي تضبط أما التي لا تضبط فهي أكثر من ذلك بكثير, أما لجنة تابعة للأمم المتحدة فقد كتبت في تقاريرها أن هناك عصابات كثيرة متخصصة في اختطاف الأطفال وممارسة الجنس، واستغلالهم في الدعارة بالصور، ولبيعهم أيضًا إلى عصابات أخرى تتولى مثل هذه الأمور، وفي إحدى المجلات في أغسطس 1983م، تقول هذه المجلة أن هناك أطفال يستخدمون في هذه الجرائم ويستخدمون في البيع، وأن هذه تجارة أصبحت رائجة ورابحة، وفي بحث أعده أحد دكاترة علم النفس- وهو أمريكي- على عينة من الأطفال الذين ينشأون في هذه المؤسسات، هؤلاء الأطفال الذين يولدون بطريقة غير شرعية وعندما أجري بحث على 22 من هؤلاء وجد أن نفسياتهم تتشكل بصورة عجيبة، فعندهم عدوان وأنانية، وسلبية وصعوبات في الأكل والكلام؛ لأنهم ينشأون في غير المحضن الأسري.
وفي عالم العلاقة بين الجنسين، تقول الإحصائيات أن واحد من كل أربعة أطفال يولدون لأم مراهقة غير متزوجة، يعني ولادة غير شرعية، ربع السكان طبعًا، هذا الذي يتجاوز وسائل منع الحمل وتجاوز عمليات الإجهاض؛ وإلا فإن النسبة تبلغ إلى أكثر من النصف، ولكن هؤلاء هم الذين يصلون إلى مرحلة الاكتمال والولادة، وفي مجلة التايم نشرت في غلاف عددها بعنوان [الأطفال يولدون الأطفال] نشرت فيه تحقيقًا عن فتيات في سن التاسعة والعاشرة والحادية عشرة، وهن قد أنجبن أطفالاً، طبعًا هؤلاء لا يعرفن أساليب منع الحمل والإجهاض، ولذلك هذه الطفولة مع الجريمة بين الجنسين تجتمعان معًا، ومن عام 1972م إلى عام 1974م ذكرت الإحصائيات في أمريكا 643 حالة إجهاض قانونية في السنة الواحدة في كل سنة من هذه السنوات، أما في عام 1976م فقد شهدت أكثر من مليون حالة إجهاض، وتضيف الإحصائية أن 70% من عمليات الإجهاض تتم من قبل نساء غير متزوجات .
وفي مجلة واشنطن بوست ذكرت أن أعداداً كبيرة من النساء الأمريكيات يقبلن على قتل البنات بالإجهاض وهذا هو الوأد الجاهلي الذي يمارس في القرن العشرين بأبشع مما كان يمارس في الجاهلية(31) .
إن القوانين الوضعية الحديثة التي يعتبرها أهلها أكثر القوانين إحكامًا في مجال مكافحة الجريمة لم تنجح بعد فيما وضعت من أجله وهو مكافحة الجريمة بعد مرور أكثر من قرنين على تاريخ وضعها، وهذا باعتراف أهلها الأصليين ومنهم قاض في محكمة النقض الفرنسية الذي تعتبر بلاده قبلة العالم اليوم في مجال التشريع خصوصاً مستعمراتها السابقة ومنها الجزائر .
قال السيد موريس باتان رئيس محكمة النقض الجزائية الفرنسية في افتتاح مؤتمر الوقاية من الإجرام المنعقد في باريس سنة 1959م: أنا لست إلا قاضٍ في جهاز العدالة لم يخطر على بالي في أي وقت من الأوقات الاهتمام بأسس الوقاية من الإجرام لأن وظيفتي لم تكن هناك بل على العكس فقد كانت ولا تزال في العقاب لا في الحماية، كرست حياتي تبعاً لمهنتي القضائية الطويلة في محاربة المنحرفين حرباً سجالاً لا هوادة فيها، سلاحي الوحيد الذي وضعه القانون تحت تصرفي سلاح العقاب التقليدي، أوزع الأحكام القاسية والشديدة أحياناً على جيوش المجرمين والمتمردين ضد المجتمع، ساعياً ما أمكن إلى التوفيق بين نوعية العقاب وماهية الجريمة، وكنت أسأل نفسي دوماً كما كان الكثيرون من زملائي يتساءلون أيضاً عما إذا كان هذا السلاح قد أصبح في يدنا غير ذي شأن، وقد شعرت ولا أزال أشعر بكثير من الألم والمرارة بما كان يشعر به أولئك الذين تحدثنا الأساطير عنهم، أنهم كانوا يحاربون المسخ فكانوا كلما قطعوا رأساً من رؤوس هذا المسخ تنبت محله رؤوس ورؤوس، وقد تعاقبت السنوات وأنا ألاحظ بدهشة أن عدد المجرمين لا يزال مستقراً إن لم يصبح متزايداً، وأنه كلما كنا نرسل الكبار منهم إلى السجن أو إلى المنفى أو إلى المقصلة كان غيرهم يخلفهم في نفس الطريق بأعداد أكثر منهم(32).
وجه الإعجاز:
إن حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل هي مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وبالتالي بعدم الإضرار بمصالح الجماعة، والتي يعتبر الإنسان فردًا من أفرادها ومن ذلك أن الإسلام كفل للإنسان حرية الرأي والتعبير عن رأيه، فله الجهر بالحق وإسداء النصيحة للعامة والخاصة فيما يحقق نفع المسلمين ويصون مصالح الفرد والمجتمع ويحفظ النظام العام، لكن هناك قيود وضوابط لا ينبغي تجاوزها في هذا الأمر ومنها:
أن تمارس حرية الرأي بأسلوب سلمي قائم على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا يجوز التعبير عن الرأي إذا كان في ذلك ضرر على الآخرين، أو اعتداء على حرماتهم وأعراضهم، أو اجتراء على الدين وأهله، أو تهييج للعامة على ولاة الأمور، وإيغار صدورهم عليهم(33).. .
إن الشريعة الإسلامية اعتبرت بعض الأفعال جرائم وعاقبت عليها لحفظ مصالح الجماعة ولصيانة النظام الذي تقوم عليه الجماعة، ولضمان بقاء الجماعة قوية متضامنة متخلقة بالأخلاق الفاضلة، والله الذي شرع هذه الأحكام وأمر بها، لا تضره معصية عاص، ولو عصاه أهل الأرض جميعًا، ولا تنفعه طاعة مطيع ولو أطاعه أهل الأرض جميعًا، ولكنه كتب على نفسه الرحمة لعباده، ولم يرسل الرسل إلا رحمة للعالمين لاستنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة، ولكفهم عن المعاصي وبعثهم على الطاعة(34), كما أن العقوبة في الشريعة الإسلامية منضبطة بضوابط عدة من أهمها:
أن الشريعة الإسلامية تأخذ بقاعدة « لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص » منذ بزوغ فجر الإسلام, أما الأنظمة الوضعية فلم تعرف هذا المبدأ إلا في أعقاب القرن الثامن عشر الميلادي؛ إذ أدخلت في قانون العقوبات الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية، وتقررت لأول مرة في إعلان حقوق الإنسان الصادر سنة 1789م، ثم انتقلت إلى التشريعات الوضعية الأخرى (35).
ويروي التاريخ أن هشام بن عبد الملك من خلفاء بني أمية عطل حد السرقة والحرابة سنة، فتضاعفت حوادثها وصار الناس غير آمنين على أنفسهم ولا على أموالهم من النهب والسلب، واستشرى خطر اللصوص في البوادي والحواضر، فلما تفاقم الأمر واضطربت الأحوال أعاد هشام بن عبد الملك العقوبة كما شرعها الله تعالى، فكان الإعلام بالإعادة وحده كافيًا لردع المجرمين وصيانة الحقوق وحفظ الأموال والنفوس(36).
ونجد أنه في الأربعين سنة الأولى من الدولة الإسلامية قطعت ستة أيادي فقط، وفي الجانب الآخر: الآلاف في السجون الأميريكية والأوروبية والملايين من الأحرار يخشون التجول بعد الثامنة مساءًا بسبب اللصوص والمجرمين, فأي الحكمين أصوب في مكافحة الجريمة؟
منذ مدة قررت حكومة أوكلاهوما الإفراج عن أعداد كبيرة من السجون لأنهم ارتكبوا أعمال بسيطة وذلك لإفساح المجال أمام المجرمين الأكثر خطورة حيث إن السجون قد أضحت مكتظة بالمجرمين!فالمجرم يكلف الدولة سنويًّا 30000 دولار أميريكي فأي الحكمين هو الأصوب ؟
هل هو القانون الوضعي أم الشريعة الإسلامية؟
إن المتأمل لنظامنا الجنائي في شرعنا الإسلامي ليعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن تستقيم حياة الناس إلا بنظام يضعه خالقهم سبحانه وتعالى.
فلله الحمد أولاً وآخرًا أن هدانا للإسلام ولتحكيم شريعة الله تعالى في البلاد وبين العباد.