وتتناول هذه الدراسة، موضوع تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، في مجتمع تتعدد فيه الملل والثقافات.
وبعابرة أخرى، تجيب عن أسئلةٍ، كثيراً ما تثار حول:
(أ) الأسس التي وضعها الإسلام، في مجال التعامل مع غير المسلمين، لتكون هادية للفرد، والمجتمع، والدولة، ولتكون ديانة يدين بها المسلمون، ويلتزمون أحكامها، طاعة لله، وعبادة، وتكون مع ذلك قضاءً، وقوانين حاكمة، للدولة والمجتمع.
(ب) التعامل مع المواطنين، من غير المسلمين، ممن يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة في الدولة، التي تحمي قوانينها حرمات المواطنين، وحقوقهم في الحياة، والتكريم، والحرية الاعتقادية، والفكرية.. وعن المساواة، والعدل، والتعليم، والعمل، والتملك، والتصرف فيه.
(جـ) التكامل في المجتمع، والوطن، حتى يسود المجتمع كله، خلق البر، والقسط، والتراحم، والمعاملة الحسنة.
ومن ثم فإن هذه الدراسة، تهدف إلى تحقيق مزيدٍ من التعاون بين جميع المواطنين، على اختلاف مللهم، وثقافاتهم في مجتمع الشريعة الإسلامية، حيث تتكافل جهودهم جميعاً، وتتفجر الطاقات من أجل نهضة البلاد وتقدمها، وسيادتها، على ضوء تلكم القواعد والأسس العادلة، التي تحقق التسامح الديني، والتآلف، والتواصل الاجتماعي، والفكري، بين جميع المواطنين.
وها هنا نذكر نذكر بشيء من البيان والتفصيل، ما أُجمل فيما سبق، فنتحدث وبشكل عام عن:وحدانية البشرية، والدين، وأصل الاختلاف، وأسس التعامل مع غير المسلمين.
منشأ البشرية
يرجع البشر كلهم إلى أصل واحد، تفرعوا عنه، ونفس واحدة، خلقوا منها
يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفسٍ وحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذى تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) (النساء :1).. والقرآن يذكرنا بهذا الأصل، الذي تفرعت عنه الشعوب والقبائل، ليتعارف الناس فيما بينهم، ويتواصلوا
يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات :13) .. وتقريراً لهذا الأصل، قال عليه الصلاة والسلام، في خطبة الوداع
يا أيها الناس إن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ) (1).
وأصل الدين واحد، من عند الله جل جلاله، أنزل الكتب على رسله الكرام، الذين تعاقبوا مبشرين ومنذرين، يدعون إلى توحيد الله.. والإيمان بهم جميعاً، واجب، دون تفرقة بينهم، لقوله تعالى
ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحدٍ من رسله ) (البقرة :285)، ولقوله أيضاً
قولو ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ) (البقرة :136).
اختلاف الناس:
وقد قدر الله تعالى، أن يكون بين البشر، اختلاف في الدين
ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هو :118-119). وهذا ما يخبرنا به الخلاق العليم جل جلاله
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك :14).
وتبعاً لذلك، فللناس حرية الرأي، والفكر، والاختيار للعقيدة، التي يعتقدونها
فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر ) (الكهف :29)، وليس لأحد، ولا قوة، أن تكره فرداً، أو جماعة، على دين، يقول تعالى: (لا إكراه في الدين ) (البقرة :256).
وهي مشيئة الله القاضية، أن يترك الناس واختيارهم الحر، وما يدينون: (ولو شآء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس :99).
الإسلام والحرية الفكرية
والإسلام هو دين الحرية الفكرية، الذي تواترت فيه آيات الكتاب، الداعية إلى التفكر والنظر، ولا حجر على أحد في حرية الفكر، والتعبير عن آرائه، إلا إذا صار الأمر افتراءً محضاً، أو إثارة للفتنة. وما جاء في القرآن الكريم، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، من ذكر أقوال المخالفين من غير المسلمين، على اختلاف مللهم، ومناقشة هذه الأقوال بالحجة، والبرهان، دليل واضح على هذه الحرية، كما هو دليل على امتداد بقاء غير المسلمين، وسماحة التعامل معهم.. وقد كانت هذه الحقيقة، واضحة في المواقف، التي وقفها كل داعية إلى الإسلام، وسيظل معلماً بارزاً لكل الأجيال، موقف الصحابي الجليل ربعي بن عامر، رضي الله عنه، حين أجاب على القائد الفارسي رستم
إن الله ابتعثنا، لنخرج من شاء الله، من عبادة العباد، إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن الأديان إلى عدل الإسلام) (2).
والواقع التاريخي، يثبت أنه على توالي القرون، في تاريخ الدعوة الإسلامية، لم يحدث أن أكره المسلمون غيرهم على الدين، وهذا ما شهد به كل منصف، ولو كان غير مسلم، مثل (السير توماس آرنولد) في كتابه
الدعوة إلى الإسلام) الذي كتب فيه عن تاريخ نشر الدعوة الإسلامية، في أرجاء العالم، وكيف أن دعاة الإسلام، نشروا دعوتهم بين أقوام، عرفوا بالشدة، والخروج على كل نظام، أو قانون، حتى أسلموا، وصار دعاة يهدون غيرهم) (3).
ويمضي آرنولد في هذه الشهادة، ليقول
لم نسمع عن آية محاولة مدبرة، لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين) (4)، ويزيد آرنولد في بيان تسامح المسلمين فيقول: (لا يسعنا إلا الاعتراف، بأن تاريخ الإسلام، في ظل الحكم الإسلامي، يمتاز ببعده بعداً تاماً، عن الاضطهاد الديني) (5).
وهذه شهادة منصفة أخرى، يؤديها (ول ديورنت)، في كتابه
قصة الحضارة)، حيث يقول
لقد كان أهل الذمة، المسيحيون، والزردشتيون، واليهود، والصابئون، يتمتعون في عهد الخلافة الأموية، بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية، في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم، ومعابدهم، ولم بفرض عليهم أكثر من أداء ضريبة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله) (6).
وهذه الحرية لغير المسلمين، تشمل التعبير عن معتقداتهم، بالتعليم والممارسة، وأداء شعائر دينهم، فردياً، وجماعياً.
أدب الدعوة والحوار مع غير المسلمين
وإذا كان ثم حوار، أو مجادلة، أو مناقشة، فالأدب القرآني يقضي أنه
ولا تجدلوا أهل الكتاب إلا بالتى هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهانا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) ( العنكبوت :46).
فهي دعوة إذاً تعتمد الأدب، والحجة، والبيان، لمن أراد من غير المسلمين الاستبصار في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، لتكون أنجح فيه كما قال تعالى
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل :125)، ولا تكون مواجهة بالقوة، إلا حين يختار الطرف الآخر ذلك، ويكون من أهل الحرب (7).
التطبيق العملي في عهد النبوة والخلافة الراشدة
والوثائق، والعهود، والأمثلة التالية، دليل قاطع على هذه الحرية الفكرية، والتسامح الديني:
1- وثيقة المدينة:
أول وثيقة تفصيلية، بين المسلمين وأهل الكتاب، ضمنت حرية الاعتقاد، والفكر، وحقوق المواطنة الكاملة، هي الوثيقة المعروفة بوثيقة المدنية (
وهي تبدأ هكذا:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمد النبي، رسول الله بين المؤمنين، والمسلمين من قريش، وأهل يثرب، ومن تبعهم، ولحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة، من دون الناس (9).
2- عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران:
وهو عهد ضمن لنصارى نجران، الأمان على أنفسهم، وأموالهم، وعشيرتهم، وأماكن عبادتهم، وألا يغير أسقف، ولا راهب، ولا كاهن (10).
3- عهد أبي بكر لأهل نجران:
ولما آلت الخلافة إلى أبي بكر رضي الله عنه، فإنه أكد في عهدٍ منه لأهل نجران، أنه أجارهم بجوار الله، وذمة النبي محمد رسول صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، وأرضهم، وملتهم، وعبادتهم، وأساقفتهم، ورهبانهم، وفاءً لهم بكل ما ورد في العهد النبوي لنصارى نجران (11).
4- عهد عمر لأهل إيلياء:
وعلى ذات النهج، سار عمر رضي الله عنه، فأعطى لأهل إيلياء عهداً، وأماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمهم، وبريئهم، وسائر ملتها، ألا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، وألا يضار أحد، ولا يكره على الدين (12).
وقد التزمت مشروعات القوانين، المستمدة من نفس الشريعة الإسلامية، وخاصة في مسائل التعامل مع غير المسلمين، أعدل الأقوال، والآراء، وأوثقها، وأدومها، وأنسبها لتحقيق العدل والإحسان، مع رعاية لظروف المكان، والزمان..
وغير المسلمين، أشبه بأهل العهد، الذين حررت بشأنهم وثيقة المدينة، والعهد النبوي مع أهل نجران، ومما ينبغي أن يعلم بهذه المناسبة، أن اصطلاح أهل الذمة، في الفقه الإسلامي، ليس كما لم يحسن فهمه كثير من الناس. فالذمة في اللغة، بمعنى :الأمان، والعهد، والضمان، والكفالة (13).. وأهل الذمة هم المعاهدون من النصارى، واليهود، من أهل الكتاب، وغيرهم، ممن بقي في دار الإسلام (14).
وعليه، فالذمة هي العهد، أي العهد الذي يعهده الإمام، أو من ينوب عنه، مع غير المسلمين على السلم، ووضع الحرب.. وعقد الذمة، كما عبر عنه بعض الفقهاء المعاصرين، يشبه التجنس في الوقت الحاضر (15).
ويلحق بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، غيرهم من جميع الملل، غير الإسلامية، كالمجوس، حيث ورد في الهدي النبوي، أنه أخذ الجزية من مجوس هجر (16). ويؤيده ما ورد في صحيح البخاري، عن عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه سلم أخذ الجزية من مجوس هجر(17).
وأيضاً، فقد روي مرسلاً عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال
سنوا بهم سنة أخل الكتاب ) (18).
ويقول في ذلك، الإمام علي رضي الله عنه
من كان له ذمتنا، فدمه كدمنا، ودَيْنُه كَدَيْنِنَا)، وأنهم (إنما بذلوا الجزية، لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا) (19).. وفي مصنف الإمام عبدالرزاق (20) أن رجلاً مسلماً، قتل آخر من أهل الذمة، في عهد عمر بن عبدالعزيز، فاقتص من المسلم بالذمي.
العدل والحقوق المتساوية لغير المسلمين
المساواة أمام القانون
ويتمتع كل مواطن بهذه المساواة أمام القانون، وهو أمر رباني لا يحتمل مساومة، يقول تعالى
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء :58).. وهذه الآية الكريمة، تأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، مسلمين أو غير مسلمين، كما تقضي بأن يلتزم العدل في الحكم بين الناس كلهم، دون تمييز، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو الثقافة، أو الجنس، أو اللون. والمؤمنون مأمورون ديناً، أن يكونوا قوامين بالقسط في كل موقف، لقوله تعالى
يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة :
.
وبموجب هذا العقد، يصير غير المسلمين كالمسلمين، في حرمة الدماء، والأموال، يقول صلى الله عليه وسلم
من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنة، وأن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما ً) (21)، ويقول في حديث غيره
ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة ) (22).
واستقر هذا الفقه يسود في العهد النبوي، وعهد الخلافة الراشدة، واستمر إلى زمن المماليك، والدولة الإسلامية. واتساقاً مع موقف المسلمين الثابت، في حماية غير المسلمين، من أهل ذمتهم، في دمائهم، وأموالهم، أنه لما أراد أحد سلاطين التتار أن يطلق سراح أسرى المسلمين، دون النصارى، اعترضه الإمام ابن تيمية، لأنه سرى في حقهم ما يسري في حق المسلمين، وأنه إن لم يطلق سراحهم، جاهد المسلمون، واستأنفوا القتال، لافتكاكهم .. ولابن تيمية رسالة مشهورة بهذا الخصوص، اسمها
الرسالة القبرصية)(23).
الجزية وحق الدفاع:
وحكمة مشروعية عقد الذمة، هي أن يترك الحربي القتال، مع احتمال دخوله في الإسلام، عن طريق مخالطته للمسلمين، واطلاعه على شرائع الإسلام.
وليس المقصود من عقد الذمة، تحصيل المال (24)، وقد كان دفع الجزية واجباً على كل رجل بالغ، قادر، حسب طاقته، نظير الحماية والدفاع، حتى إن القادة المسلمين، كانوا يردون على غير المسلمين، ما دفعوا من جزية، إذا لم يقدروا على القيام بواجب الحماية والدفاع، بل كان بعض الخلفاء الراشدين- وهو عمر رضي الله عنه- يسقط دفع الجزية عن غير المسلمين الذين يشتركون مع الجيش، ويؤدون خدمات عسكرية، وهو ما نأخذ به في عصرنا هذا.
والتفسير الصحيح لكلمة الصغار في قوله تعالى
حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صغرون ) (التوبة :29)، هو جريان أحكام الشريعة عليهم، وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار (25)، وفي ذلك يقول الشافعي: وسمعت عدداً من أهل العلم، يقولون :إن الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام (26)، وفي ذلك رد، على من زعم أن الصغار هو الإذلال.. وتأسيساً على ما تقدم، فليس يصح ما نسب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من شروط سميت بالشروط العمرية (27)، وإسنادها ضعيف اتفاقاً، حتى إن ابن القيم، لم يجد سبيلاً لتأكيدها، إلا بأن قال :إن شهرة هذه الشروط، تغني عن إسنادها.
وقد أنكر محقق الكتاب، د. صبحي الصالح، هذه العلة، لأن الاستفاضة لم تكن دليلاً على الصحة في موضوع تاريخي، تشريعي كهذا، ثم وصف هذه الشروط بأنها متضاربة، ومتناقضة (28) والواقع أن هذه الشروط، تخالف ما صح من جملة العهود، والمواثيق النبوية، كوثيقة المدينة، وعهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران، وعهد أبي بكر ضري الله عنه أيضاً لأهل نجران، وكانوا نصارى، كما أنها تخالف العهود العمرية، كعهد عمر رضي الله عنه لأهل إيليا، الذي نص على إعطاء الأمان للنصارى، على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وأنهم لا يكرهون، ولا يضار أحد منهم (29).
حق التعليم:
ويدل على مكانة العلم في الإسلام، أن أول كلمة نزلت منه هي
اقرأ باسم ربك الذى خلق ) (العلق :1)، وتوفير العلم بمختلف تخصصاته، وفنونه، واجب المجتمع، والدولة، وقد شهد الواقع العملي للمسلمين، ما كان يتمتع به غير المسلمين من امتلاك ناصية العلم، في كثير من التخصصات، التي لا غنى عنها في مجتمع، كالطب والهندسة. ويشمل هذا الحق، الرجل، والمرأة، على السواء.. ومن واجب الدولة، تنمية شخصية الإنسان، وتوسيع ثقافته.. وقد ذهب ابن حزم، إلى إلزامية التعليم، وأن الإمام يجبر النساء على التعليم (30) .. وفي الجانب التطبيقي، كان التعليم تاريخياً متاحاً للجميع، من أدنى المراحل التعليمية، إلى أعلى المراحل، والتخصصات.. وتوزيع الفرص الدراسية، محكوم بأسس عادلة، هي التميز العلمي.
عقوبة المرتد على الخيانة العظمى:
وقتل المرتد، ليس عقوبة على الفكر ذاته، لأن غير المسلمين، قد كفل لهم الإسلام، حرية العقيدة، وحمايتها، من غير إكراه، ولا تضييق، لكن هذه العقوبة على الجناية الكبرى، والمكيدة، التي ادعى بها المرتد اعتناق الإسلام، ثم أعلن الخروج منه، للطعن فيه، والإساءة إليه، وإلى ذلك يشير قوله تعالى
وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذى أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون ) (آل عمران :72).
ولقد تحدث ابن قيم الجوزية في كتابه، زاد المعاد (31) عن الردة، وأثرها على الأمن الداخلي لدولة الإسلام، وأنها ليست مسألة فردية.
الشريعة الإسلامية وحقوق الشعوب والأقاليم
وفي ظل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، تتحقق للشعوب حقوقها الجامعة .. وقد حكم القاضي المسلم لأهل سمرقند، بحق تقرير مصيرهم، لأنهم كانوا أُدخلوا في سلطان الدولة، بالقوة، دون اختيارهم، ودون مراعاة أحكام الشريعة، القاضية بالتخيير، والإعلام، والإنذار، لأن استخدام القوة الجهادية، ليس في الواقع، إلا لرفع الإكراه، على اعتناق دين، أو على المنع منه.
كما يكفل نظام الحكم الإسلامي، حق الحكم الذاتي، مع حق التمييز الثقافي للأقاليم، التي يكون فيها غير المسلمين متحيزين في مكان يخصهم، ويباشرون بأنفسهم إدارة شؤونهم، مع الاحتكام إلى محاكمهم، بما كان يجعلهم في حكم الأقاليم الآن، وهكذا كان الشأن مع نصارى نجران، الذين كانوا على عهد دولة المدينة، خارج حدودها، وجاءت اتفاقية المدينة تؤكد هذا المعنى (32).. وهذا الاستثناء، ليس استثناءً من الجريمة، بحيث يعد الفعل مباحاً، بل وضعت عقوبات تعزيرية لهذه الجرائم، عدا الخمر والردة.. ولم يقفل الطريق أمام المسلم القوي، المتثبت في دينه، أن يطلب تطبيق الحدود عليه، بل إن هذا الحق، من المطالبة بالطوع، والاختيار، ثابت لغير المسلم.
والتأصيل الفكري لمبدأ استثناء غير المسلمين، من تطبيق أحكام الحدود، يعتمد على نص الآية الكريمة
فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) (المائدة :42).. وقد اختار الإمام الطبري هذا القول بالاستثناء، وأن الآية الكريمة محكمة (33).
الحقوق المدنية والسياسية:
في ظل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فإن الحقوق المدنية، والسياسية مكفولة لكل مواطن، فيحق لكل فرد أن يملك، ويرث، ويبيع، ويشتري، ويرهن، ويكفل، ويهب، ويوصي، ويقف، ويتصرف، وفقاً لمصلحته الشخصية.
حق العمل:
يضمن الإسلام لكل أفراد المجتمع، العدالة في ممارسة العمل الشريف، والأجر المناسب، لأن ذلك كله من أداء الأمانات، والوفاء بالحقوق، والقيام بالعدل والإحسان، كما في قوله تعالى
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) (النساء :58)، وقوله عزوجل
إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل :90)، ثم إن العمل في الفقه الإسلامي، ضروري، لسد حاجة المجتمع، وعمران الكون.. وفي حماية الشريعة الإسلامية للعاملين، وضمان الأجر العادل لهم، ورد قوله :صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) (34).
وتطبيقاً لذلك، فلغير المسلمين فرصة للعمل، وحرية التوظيف للوظائف العليا القيادية، في مناطقهم، والوسيطة، وغيرها، وقد بلغ بعض المؤرخين الغربيين، حد الإعجاب، في بيان ما لاحظه من كثرة العمال غير المسلمين في الدولة الإسلامية، حيث يقول
من الأمور التي نعجب لها، كثرة العمال والمصرفين غير المسلمين، في الدولة الإسلامية) (35).
الضمان الاجتماعي:
يقوم المجتمع الإسلامي، على التكافل، والتراحم، بين الناس جميعاً، على مستوى الأسرة، والجيران، والحي، والمجتمع، يقول الله تعالى
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاءِ ذى القربى ) (النحل :90).. وفي التوجيهات النبوية في التراحم بين الناس كلهم
الراحمون يرحمهم الرحمن، تبارك وتعالى، إرحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء) (36).
وفي حق الجيران، يقول صلى الله عليه وسلم
ليس المؤمن، الذي يشبع، وجاره جائع ) (37).
وفي مسؤولية الجيران، وأهل الحي، نحو المحتاجين، يقول
أيّما أهل عرصة، بات فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله ) (38) .. وقد كان بيت المال، في عهد الخلافة الراشدة، يفرض للمواليد القوت، ثم توسع الأمر، حتى شمل الكسوة (كما يذكر البلاذري) (39).
وتقوم الأوقاف الإسلامية، والمبرات الخيرية، والجمعيات الطوعية، بدور عظيم، يحقق التكافل، والترابط، والتراحم.
وأما الدولة، فلها الصناديق القومية للضمان الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي لأرباب المعاشات، إلى جانب ديوان الزكاة، الذي يسع بمصارفه المتعددة، الأفراد، والمجتمع.
التعامل مع غير المسلمين: نماذج قرآنية
وهنا نقدم نماذج، من آيات القرآن الكريم، محكمة وحاكمة، في المعاملة، الحسنة، العادلة:
1- يقول تعالى
لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة :
.
فهذه الآية، تقرر أسس التعامل مع غير المسلمين، أنها البر، والقسط إليهم، بكل ما يقتضيه معنى البر من الخير، والقسط من عدل، وفاصلة الآية
إن الله يحب المقسطين )، تدعو كل مسلم، أن يسارع في تنفيذ ما يحبه الله.
ولاشك في أن هذا التعامل، يقود إلى السلام الحقيقي، وقد أحسن صاحب الظلال، في تعليقه على هذه الآية، حيث يقول: إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله، إخوة متعارفين، متحابين، وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا، إلا عدوان أعدائه عليه، وعلى أهله, فأما إذا سالموهم، فليس الإسلام براغب في الخصومة، ولا متطوع بها كذلك، وحتى هو في حالة الخصومة، يستبقي أسباب الولوج في النفوس، بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه، بأن الخير أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم، الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.
ويمضي التعليق في الظلال، يبين أن الأصل في العلاقات، هو العدل، والسلام، فيقول :وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين، هي أعدل القواعد، التي تتفق مع طبيعة هذا الدين، ووجهته، ونظره إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد المتعاون في تصميمه اللدني، وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف، وتنويع.. وهو أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً، هو الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي، وضرورة رده، أو خون الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء، أو الوقوف بالقوة، في وجه حرية الدعوة، وحرية الاعتقاد، وهو كذلك اعتداء، وفيما عدا هذا، فهي السلم، والمودة، والبر، والعدل للناس أجمعين (40).
2- يقول تعالى
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ً) (النساء :105)، فقد جاءت هذه الآية تأكيداً عملياً لما يأمر به القرآن، من الحكم بين الناس بالعدل، دون تفرقة بينهم، بأي سبب من الأسباب.
وهنا تبين الآية، أن الله تعالى قد أنزل كتابه القرآن الكريم، بالحق، على رسوله صلى الله عليه وسلم، ليحكم بين الناس، بما هداه إليه الله تعالى.. والآية تدعوه صلى الله عليه وسلم ألا يكون محامياً، ولا مدافعاً، عن الخائنين للأمانات، ممن يلوون ألسنتهم بالكذب، حتى يقضي لهم بظاهر شهاداتهم. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما في الحديث التالي: روى الإمام أحمد في مسنده، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت
جاء رجلان من الأنصار، يختصمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موارث بينهما، قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها انتظاماً في عنقه يوم القيامة ).. فبكى الرجلان، وقال كل منهما :حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما إذا قلتما، فاذهبا، فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه ) (41).
وفي أسباب النزول، إشارة إلى أن بعض الأنصار، رمى أحد اليهود بغير حق، بتهمة ظالمه، فجاءت هذه الآية وما بعدها، في براءته.. آيات تتلى أبد الدهر، تؤصل للعدالة، وتؤكدها بين الناس كلهم، دون تفرقة، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو القبائل، أو الشعوب. يقول تعالى
وطعام الذين أوتوا الكتاب حلُُّ لكم وطعامكم حلُُّلهم والمحصنات من المؤمانت والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسفاحين ولا متخذى أخدانٍ ) (المائدة :5).
يقول صاحب الظلال، في بيان معاني هذه الآية (42)
وهنا نطلع على صفحات السماحة الإسلامية، في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي (في دار الإسلام)، وتربطهم به روابط الذمة، والعهد، من أهل الكتاب، أن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية، ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع مجفوين، معزولين، أو منبوذين، إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة، والمجاملة، والخلطة، فيجعل طعامهم حلاً للمسلمين، وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك، ليتم التزاور، والتضايف، والمؤاكلة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة، والسماحة.. وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم- وهنا المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر- طيبات للمسلمين.. ويقرن ذكرهن، بذكر الحرائر العفيفات، من المسلمات، وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام، من بين سائر أتباع الديانات والنحل).
وواضح أن الإسلام، لم يبح زواج المسلمات بغير المسلمين، والسبب الظاهر في ذلك، هو أن القوامة في الزواج للرجال، والمسلم مؤتمن على رعاية حقوق زوجته الكتابية، لا يكرهها في الدين، ولا يمنعها من الكنيسة، بل يوصلها، ولا يمنعها ما هو مباح لها في دينها.
وفوق كل هذا، فهو مؤمن بأنبياء الله جميعاً، لا يفرق بين أحد من رسله، بينما غير المسلم، يكفر بالرسالة الخاتمة، ويخشى من فتنه المسلمة عن دينها.
وهذه المعاملة الحسنة، وخلق البر، والقسط، أصل ثابت مستقر، في توجيهات القرآن، والسنة، والتطبيق العملي في العهد النبوي، والخلافة الراشدة، وما اتصل بها من معاملات في العصور الإسلامية، وليست سياسة عارضة، أو مؤقتة.
ومثالاً على هذه المعاملة الحسنة، وخلق البر والقسط، مع غير المسلمين، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود غلاماً يهودياً مريضاً، حتى إن والده لم يملك تقديراً لهذا الجميل، والصنيع الحسن، من الزيارة النبوية، إلا أن يشجع ولده على قبول الدعوة النبوية، واعتناق الإسلام (43).
وقد انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ودرعه مرهونة عند يهودي، وفي ذلك أعظم الدلالة على حسن التعامل .. وفعل ذلك مع وجود مسلمين أثرياء، في صحابته، الذين يفدونه بأرواحهم، وأموالهم (44).
وقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود من القبائل، والأمصار، ويحسن وفادتهم، وهكذا صنع حين زاره وفد نصارى نجران، وكان بمسجده في المدينة المنورة، مما هو معروف خبره في السيرة النبوية، وتاريخ الدعوة الإسلامية(45)، وسيظل هذا الهدي النبوي العظيم، هو نبراسنا في معاملاتنا المعاصرة، بإذن الله.