أشكل عليّ ما قرأته في مذهب الحنفية والشافعية في كلام الشيخ الددو والشيخ المنجد حفظهما الله . فالشيخ الددو يرى مذهب الشافعي المنع , والحنفية الجواز !
وموقع الشيخ المنجد : اثبت النووي أن مذهب الشافعي الجواز ! . ومتقدمي الحنفية المنع .
قال الشيخ العلامة الددو -حفظه الله- :
إن هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى منع أخذ الأجرة على القرب مطلقاً، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، رأى أن القُرب جميعاً لا يجوز أخذ الأجرة عليها، وذهب مالك إلى التوسط، فيرى كراهة أخذ الأجرة على القرب، كالصلاة دون أذان ولا خطبة، يكون الإنسان إماماً لمسجد لا يخطب فيه ولا يعلم ولا يؤذن فيكره له أخذ الأجرة على مجرد الصلاة، ولذلك قال خليل رحمه الله في الجائزات في الأذان قال: "وأجرة عليه أو مع صلاة وكره عليها"، وكره عليها معناه وكره أخذ الأجرة عليها فقط على الصلاة وحدها. وهذا بناء على قاعدة مالك رحمه الله من مراعاة الخلاف.
فالمسألة فيها خلاف: فالحنفية أجازوا أخذ الأجرة مطلقاً، والشافعية منعوا مطلقاً، فتوسط مالك فرأى الكراهة، لأن من قواعده الأخذ بمراعاة الخلاف.
وأصل المسألة من ناحية الدليل، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث وإخوانه: "واتخذوا مؤذناً لا يأخذ على ذلك أجراً"، لكن قوله: "لا يأخذ على ذلك أجراً" لا يقتضي حرمة، فهذا اللفظ لا يقتضي حرمة أخذ الأجرة على ذلك.
وكذلك حديث عبادة بن الصامت، وقد رتبه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الصفة يعلمهم القرآن، فأهدى إليه أحدهم قوساً أو عصا، فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فنهاه عن أخذها وبيّن له الوعيد في أخذ ذلك.
والذين يرون الإباحة يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله"، فيرون جواز أخذ الأجرة على ذلك، ويستدلون بجواز أخذ الأجرة على قراءته في الرقى، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا في سرية فنزلوا على حي من العرب فتضيفوهم فلم يضيفوهم، فهش سيدهم أي نهش، فقالوا: هل عندكم شيء مما جاء به صاحبكم؟ فقام إليهم شاب منا والله ما كنا نأمنه بذلك، فقال: أما إنه لمعنا ولكننا تضيفناكم فلم تضيفونا، فوالله لا نرقيه إلا بأجر فجعلوا له قطيعاً من الغنم، فقام إليه فجعل يقرأ بسورة الحمد، ويجمع بصاقه وينفث عليه، فقام الرجل كأنما نشط من عقال، فأعطوه قطيع الغنم فاستاقوه وهم في حاجة إليه، فقال: دعوه حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتوه سألوه، فقال: "اقتسموه واجعلوا لي سهما"، وكذلك الحديث الآخر الذي فيه: "وما يدريك أنها رقية؟ لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق"، فهذا أخذ أجرة على كتاب الله فدل هذا على الجواز، وقد حصلت قصة لأحد القضاة من الشافعية أتاه معلم قرآن يأخذ على ذلك أجراً، فلما أتاه رد شهادته، فقال: علام ترد شهادتي أيها القاضي؟ قال: لأنك تأخذ أجراً على كتاب الله، قال: وأنت أيها القاضي تأخذ أجراً على كتاب الله، الراتب الذي تأخذه على كتاب الله على تطبيقه وهو القضاء، قال: أنا مكره، قال: أكرهوك على القضاء، فهل أكرهوك على أخذ الدراهم؟!! قال: هات شهادتك، وقبل شهادته.
وجاء في موقع - الإسلام سؤال وجواب - نفع الله بهم :
أولاً : الأصل في العبادات أن لا يأخذ المسلم أجراً في مقابل القيام بها ؛ ومن أراد بطاعته الدنيا : فليس له أجر عند الله ، كما قال تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) هود/ 15 ، 16 .
ثانياً : إذا كانت العبادة متعدية النفع ، بحيث ينتفع بها غير القائم بها ، كالرقية بالقرآن أو تعليمه ، أو تعليم الحديث ، فإنه يجوز له أخذ الأجرة عليها عند جمهور العلماء ، خلافاً لمتقدمي الحنفية ، مقابل ما حصل للغير من منفعة ، بالرقية أو التعلم .
وقد جاء في السنَّة النبوية ما يؤيد قول الجمهور :
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ ، فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ : هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ إنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلاً لَدِيغًا ؟ فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ [أي : مجموعة من الغنم]، فَبَرَأَ ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ ، وَقَالُوا : أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْراً ؟ حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْراً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ) رواه البخاري ( 5405 ) .
وأخرجه البخاري ( 2156 ) ومسلم ( 2201 ) من حديث أبي سعيد الخدري .
وقد بوب عليه النووي رحمه الله في شرحه لمسلم بقوله : " باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار " .
وقال النووي رحمه الله في شرحه للحديث :
هذا تصريح بجواز أخذ الأجرة على الرقية ، بالفاتحة ، والذِّكر , وأنها حلال لا كراهة فيها , وكذا الأجرة على تعليم القرآن , وهذا مذهب الشافعي ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وآخرين من السلف , ومَن بعدهم .
" شرح النووي " ( 14 / 188 ) .
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
"يجوز لك أن تأخذ أجراً على تعليم القرآن ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلا امرأة بتعليمه إياها ما معه من القرآن ، وكان ذلك صداقها ، وأخذ الصحابي أجرة على شفاء مريض كافر بسبب رقيته إياه بفاتحة الكتاب ، وقال في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ) أخرجه البخاري ومسلم ، وإنما المحظور : أخذ الأجرة على نفس تلاوة القرآن ، وسؤال الناس بقراءته" انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 15 / 96 ) .
وانظر فتاوى أخرى في جوابي السؤالين ( 20100 ) و ( 95781 ) .
ثالثاً : أما ما استدل به صاحبك من الآيات : فلا يسلم له ؛ لأن معنى الآيات يختلف عما استدل به من منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، والحديث ، وغيرهما من العلوم الشرعية ، ونحن لا ننكر أنه قد قال بعض أهل العلم بالمنع من أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلوم الشرعية استدلالاً بهذه الآيات ومثيلاتها ، لكننا لا نسلم لهم بذلك الاستدلال ، وبيان ذلك :
1. أما قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) البقرة/ 41 : فإن الثمن هنا هو إرضاء العامة ، وليس أخذ الأجرة على تعليمها .
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله :
"وقوله : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) البقرة/79 : هو كقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) البقرة/41 ، والثمن المقصود هنا هو : إرضاء العامة ، بأن غيّروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم ، أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون ، فوضعوا كتباً تافهة من القصص ، والمعلومات البسيطة ليتفيهقوا بها في المجامع ؛ لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح ، وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة : لفقوا نتفاً سطحية ، وجمعوا موضوعات ، وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ، ثم أشاعوها ، ونسبوها إلى الله ، ودينه ، وهذه شنشنة الجهلة ، المتطلعين إلى الرئاسة عن غير أهلية ، ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ، ومن لا يميز بين الشحم والورَم" انتهى .
" التحرير والتنوير " ( 1 / 577 ) .
وقال القرطبي رحمه الله :
"وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، والعلم ؛ لهذه الآية ، وما كان في معناها ، فمنع ذلك الزهري ، وأصحاب الرأي [الأحناف] ، وقالوا : لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ؛ لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص ، فلا يؤخذ عليها أجرة ، كالصلاة ، والصيام ، وقد قال تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) . وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وأكثر العلماء ؛ لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس حديث الرقية : (إِنَّ أحقَّ مَا أَخَذْتُم عَلَيْهِ أَجْراً كِتَابُ الله) أخرجه البخاري ، وهو نص يرفع الخلاف ، فينبغي أن يعوَّل عليه .
وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة ، والصيام : ففاسد ؛ لأنه في مقابلة النص ، ثم إن بينهما فرقاناً ، وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل ، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلِّم ، فتجوز الأجرة على محاولته النقل ، كتعليم كتابة القرآن .
وأما الجواب عن الآية : فالمراد بها : بنو إسرائيل ، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا ؟ ، فيه خلاف ، وهو لا يقول به [يعني : أبا حنيفة رحمه الله] .
جواب ثان : وهو أن تكون الآية فيمن تعين عليه التعليم ، فأبى حتى يأخذ عليه أجراً ، فأما إذا لم يتعين : فيجوز له أخذ الأجرة ، بدليل السنَّة في ذلك ، وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ، ولا على عياله ، فلا يجب عليه التعليم ، وله أن يُقبل على صنعته ، وحرفته ، ويجب على الإمام أن يعيِّن لإقامة الدين إعانته ، وإلا فعلى المسلمين ؛ لأن الصدِّيق رضي الله عنه لمَّا ولي الخلافة وعُيِّن لها : لم يكن عنده ما يقيم به أهله ، فأخذ ثياباً وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك ، فقال : ومن أين أنفق على عيالي ؟ فردوه ، وفرضوا له كفايته .
وأما الأحاديث [يعني التي تمنع ذلك] : فليس شيء منها يقوم على ساق ، ولا يصح منها شيء عند أهل العلم بالنقل ، - وشرع في نقدها - .
وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل" انتهى باختصار .
" تفسير القرطبي " ( 1 / 335 ، 336 ) .
2. وأما قوله تعالى : ( اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ) يس/ 21 ومثيلاتها من الآيات : فقد استدل بها بعض العلماء على المنع من أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، والعلم الشرعي ، وأن هذا هو صفة المرسلين ، وأتباعهم ، والمنازعة في هذا الاستدلال حاصلة لا تُنكر ، وذلك بحمل الآية على من تعيَّن عليه تبليغ الدعوة ، وتعليم العلم ، دون من لم يتعين عليه ذلك ، كما يمكن حمل الآية وأخواتها على كراهة أخذ الأجرة على ذلك التعليم لمن كان غير محتاج ، وهو ما ذهب إليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله ، فإنه ساق عدداً من الآيات التي تحمل معنى هذه الآية ، ثم قال :
"ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة : أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء ، وغيرهم : أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجاناً ، من غير أخذ عوَض على ذلك ، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى ، ولا على تعليم العقائد ، والحلال والحرام" انتهى .
" أضواء البيان " ( 2 / 179 ) .
ثم قال :
"الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - : أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية : فالأولى له ألا يأخذ عوضاً على تعليم القرآن ، والعقائد ، والحلال والحرام ؛ للأدلة الماضية ، وإن دعته الحاجة : أخذ بقدر الضرورة ، من بيت مال المسلمين ؛ لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم ، لا من قبيل الأجرة .
والأولى لمن أغناه الله : أن يتعفف عن أخذ شيءٍ في مقابل التعليم للقرآن ، والعقائد ، والحلال والحرام" انتهى .
" أضواء البيان " ( 2 / 182 ) .
وهذا الذي اختاره الشيخ الشنقيطي رحمه الله ، قد اختاره من قبله شيخ الإسلام ابن تيمية .
فقد سئل رحمه الله عن رجل امتنع من تعليم العلم الشرعي إلا بأجرة ، فهل يجوز له ذلك ؟
فأجاب : "الحمد لله ، أما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، ليس هذا مما يخفى على أحد ممن نشأ بديار الإسلام ، والصحابة والتابعون وتابعو التابعين وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأمة بالقرآن والحديث والفقه إنما كانوا يعلمون بغير أجرة ، ولم يكن فيهم من يعلم بأجرة أصلا .
(فإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر) والأنبياء صلوات الله عليهم إنما كانوا يعلمون العلم بغير أجرة ، كما قال نوح عليه السلام : (وما أسألكم عليه من أجر أن أجرى إلا على رب العالمين) وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم ، وكذلك قال خاتم الرسل : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ) وقال : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) .
وتعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك بغير أجرة لم يتنازع العلماء في أنه عمل صالح ، بل هو من فروض الكفاية ، كما قال النبي في الحديث الصحيح : (بلغوا عنى ولو آية) وقال : (ليبلغ الشاهد الغائب) .
وإنما تنازع العلماء في جواز الاستئجار على تعليم القرآن والحديث والفقه على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد .
إحداهما : وهو مذهب أبى حنيفة وغيره ، أنه لا يجوز الاستئجار على ذلك .
والثانية : وهو قول الشافعي أنه يجوز الاستئجار .
وفيها قول ثالث في مذهب أحمد : أنه يجوز مع الحاجة دون الغنى ، كما قال تعالى في ولي اليتيم : (وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) .
ويجوز أن يعطى هؤلاء من مال المسلمين على التعليم ، كما يعطى الأئمة والمؤذنون والقضاة ، وذلك جائز مع الحاجة .
وهل يجوز الارتزاق مع الغنى؟ على قولين للعلماء ...
ومأخذ العلماء في عدم جواز الاستئجار على هذا النفع : أن هذه الأعمال يختص أن يكون فاعلها من أهل القُرَب بتعليم القرآن والحديث والفقه والإمامة والأذان لا يجوز أن يفعله كافر ، ولا يفعله إلا مسلم بخلاف النفع الذي يفعله المسلم والكافر كالبناء والخياط والنسج ونحو ذلك ، وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادة لله ، فإنه يبقى مستحقا بالعوض ، معمولاً لأجله ، والعمل إذا عمل للعوض لم يبق عبادة كالصناعات التي تعمل بالأجرة ، فمن قال : لا يجوز الاستئجار على هذه الأعمال قال : إنه لا يجوز إيقاعها على غير وجه العبادة لله ، كما لا يجوز إيقاع الصلاة والصوم والقراءة على غير وجه العبادة لله ، والاستئجار يخرجها عن ذلك.
ومن جوز ذلك قال : إنه نفع يصل إلى المستأجر فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر المنافع .
ومن فَرّق بين المحتاج وغيرهِ وهو أقرب قال : المحتاج إذا اكتسب بها أمكنه أن ينوي عملها لله ، ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة ، فإن الكسب على العيال واجب أيضا ، فيؤدي الواجبات بهذا ، بخلاف الغني لأنه لا يحتاج إلى الكسب ، فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله ، بل إذا كان الله قد أغناه ، وهذا فرض على الكفاية ، كان هو مخاطبا به ، وإذا لم يقم إلا به كان ذلك واجبا عليه عينا ، والله أعلم" انتهى باختصار .
"مجموع الفتاوى" (30/204) .
وعلى هذا ، فيمكن القول : إنه ليس هناك دليل من الكتاب والسنَّة ينص على تحريم أخذ الأجرة على العبادة متعدية النفع لغير فاعلها ، فأما الآيات : فكما رأينا فإنها ليست نصّاً في الحكم ، وفي الاستدلال بها نزاع ، وأما الأحاديث : فهي ضعيفة السند ، ويمكن التحقق من ذلك بالنظر فيما أحلنا عليه من تفسير القرطبي .
مع التنبيه على أن الأفضل لمن أغناه الله تعالى أن يتنزه عن أخذ شيء من متاع الدنيا مقابل بذل ما أنعم الله تعالى به عليه من العلم الشرعي . اهــ .