قال اللّه تعالى:
((… وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ)).(البقرة/216)
((… فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)).(النساء/19)
اللذة والألم، من الامور الواجدانية المحسوسة، لدى كل انسان، فكلّ انسان يعايشها، ويحسها، وهو بطبيعته يحبّ اللذة، ويقبل عليها، ويبحث عنها… ويكره الألم، ويبتعد عنه، ويحذر منه…
واللذة بأنواعها النفسية، كالحبّ والفرح، أو المادية، كلذة الطعام والجنس والشراب، أو العقلية، كلذة العلم… وكذلك الآلام النفسية، كالحزن والهم والغم، أو المادية، كألم المرض والجراح، وغيرها، لها تأثير كبير على وضع الانسان النفسي وعلى سلوكه، وعلاقته بنفسه، وبالناس وبخالقه…
ولكلّ من اللذائذ والآلام، ومنافعها، وآثارها النفسية الايجابية، كما أنّ لها مضارّها، وآثارها السلبية أيضا.
ومادام حديثنا يتعلق بموضوع: (الألم والعوض الالهي) فمن المفيد تناولهما، بشيء من الايضاح والتفصيل. انّنا جميعا ندرك أنّ بعض من يصيبه الألم، قد يجزع ويسيء فهم المصائب والآلام، والحكمة الكامنة في الابتلاء بها، في هذه الحياة… فالانسان يصيبه المرض، وفقد الاهل والأحبّة، والهمّ، والحزن، والغمّ، وأنواع المصائب، فتؤثر في نفسه، وربّما في سلوكه الخارجي في الحياة… ولايدرك الكثير من الناس فائدة الآلام ونفعها.
انّ كلّ ألم يصيب الانسان بقضاء وقدر من اللّه سبحانه وتعالى، انّما هو لحكمة ومصلحة، تعود على الانسان نفسه، ولكن لايدرك الانسان حقيقة تلك المنفعة والمصلحة… وقد أثبتت التجارب والدراسات النفسية والاجتماعية، أنّ الأحزان والآلام لها دورها التكاملي، وأثرها الايجابي البنّاء في تكوين الشخصية الانسانية وتصحيحها… فللألم والحزن فلسفته وآثاره على شخصية الانسان وحياته، ولايتّسع بحثنا هذا لمناقشة مثل هذا الموضوع وتعميق أبحاثه، والذي نريد ايضاحه هنا هو علاقة (الآلام) بالعدل الالهي، وبالحكمة الالهية، لنكوّن لأنفسنا درجة من الفهم والوضوح لحكمة الألم وفلسفته…
وتوضيح ذلك: هو أنّ اللّه سبحانه خلق قانون الألم، مقابل قانون اللذة لحكمة ومصلحة للناس، وأنّه اذا ما ابتلى عبداً بألم، وبأي نوع من أنواع الألم، النفسي، أو الحسّي، فانّه يعوّضه في الدنيا، أو في الآخرة تفضّلاً منه ورحمة.
وقد قرأنا في بداية الموضوع الآيتين الكريمتين، اللتين قرّرنا عدم وضوح الخير والمنفعة للانسان، في كثير من الأشياء التي تقع عليه، وهو كاره لها… انّ هناك سبيلين يوضّحان لنا الفائدة والمنفعة في الآلام التي تقع على الانسان:
أحدهما عقائدي، والآخر واقعي تجريبي…
فالطريق العقائدي، هو الايمان بأنّ اللّه عادل حكيم… وهذا الايمان يوضّح لنا عدم امكانية صدور شيء عن اللّه، خلافاً للعدل والحكمة…
أمّا الطريق الواقعي التجريبي، فهو ما أثبتته التجارب الاجتماعية، والابحاث النفسية، المتعلقة بفلفسة الألم، وأثره في تهذيب وتكامل الشخصية الفردية والاجتماعية، بل وتكامل الحضارة، والمجتمع البشري
وقد وردت روايات، وأحاديث وايضاحات كثيرة توضّح فائدة الألم ومنفعته للانسان، في الدنيا والآخرة، فالألم يكافح نزعة الغرور والطغيان والبطر، ويهذب الشخصية، ويصلح الاحساس العاطفي والوجداني عند الانسان ويفهمه بالوجه الآخر للحياة…
فللحياة وجهان: وجه اللّذة والمسرّة، و وجه الألم والحزن. قال تعالى موضّحا بعض مصاديق هذا الاختلال في الاتّجاه والرؤية بقوله: ((فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)).(التوبة/82)
ومتى غاب أحد الوجهين عن عين الانسان، اختل توازنه السلوكي والعاطفي، وممارسته الاخلاقية، وقد صّور القرآن تلك الحقيقة بقوله: ((وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا)).(النجم/43-44)
وورد في الحديث المروي عن الامام جعفر بن محمد الصادق عن جدّه رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم ): (قال رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم ) قال اللّه تبارك وتعالى: انّي جعلت الدنيا بين يدي عبادي قرضا، فمن أقرضني منها قرضا، أعطيته بكل واحدة منهنّ عشرا، الى سبع مائة ضعف، وما شئت من ذلك، ومن لم يقرضني منها قرضا، وأخذت شيئاً منه قسرا، أعطيته ثلاث خصال، لواعطيت واحدة منهنّ لملائكتي، لرضوا بها منّي، ثم قال أبو عبد اللّه: انّ اللّه عزّ وجلّ يقول: ((الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للَّه وإِنَّا إِليْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ))، فهذه واحدة من ثلاث خصال ((ورحمة)) اثنتان، ((واولئك هم المهتدون)) ثلاث… قال أبوعبد اللّه(ع): هذه
لمن أخذ اللّه شيئا منه قسرا.
وروي عن الامام الباقر(ع): (الجسم اذا لم يمرض أشر، ولاخير في جسم يأشر).
وكتب رجل الى الامام محمد الباقربن علي بن الحسين(ع) يشكو اليه مصابه بولده، وشدّة ما دخله، فكتب اليه:
(أما علمت أنّ اللّه يختار من مال المؤمن، ومن ولده أنفسه ، ليؤجره على ذلك).
وروي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قوله: (اذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له من العمل ما يكفّرها، ابتلاه اللّه بالحزن، ليكفّرها).
وروي الامام الصادق(ع) عن جدّه رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) قوله: (أعظم البلاء، يكافى به عظيم الجزاء، فاذا أحبّ اللّه عبدا ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله عند اللّه الرضى ومن سخط البلاء فله السخط).
وروي الامام الباقر(ع) عن جدّه رسول اللّهصلى الله عليه وسلم) قوله: ( عجبا للمؤمن: انّ اللّه لايقضي عليه قضاء، الاّ كان خيرا له، سرّه ذلك، أم أساءه، وان ابتلاه، كان كفّارة لذنبه، وان أعطاه، وأكرمه، فقد حباه).
وهكذا توضّح هذه الروايات: لماذا الألم …؟ وما هي الفائدة الناتجة عنه…؟
وفي الختام نوضّح المبادئ الاساسية للقضايا المرتبطة بعلاقة الألم بالعدل الالهي، لكي لانجزع ونسخط القضاء الالهي العادل، ولكي نفهم أنّ الألم ضرورة نفسية، وأخلاقية، و روحية، لتربية الانسان، واصلاح حياته، وتصحيح علاقته مع خالقه ونفسه وبني جنسه، وهذه المبادئ هي:
أ_ انّ اللّه سبحانه، يعوّض الانسان في الدنيا، أو في الآخرة، عن كلّ بلاء أو ألم وقع عليه، بتقدير من اللّه سبحانه، حسّيّاً كان، أو نفسياً، كالعمى وفقد الاعضاء والتشوية وفقد المال والمرض، والهمّ والغمّ والحزن…الخ.
ب_ انّ فائدة العوض العائدة على الانسان النفسية والتربوية والاجتماعية أو الاخروية، هي أعظم من الألم الواقع عليه.
ج_ كلّ ألم يقع على الانسان من اللّه سبحانه، فانّه لطف بالانسان، لأنه يستهدف اصلاحه وتقريبه من الطاعة، وابعاده عن المعصية، أو تجنيبه الاضرار والمساوى.
د_ انّ اللّه ينتصف للذي يقع عليه الألم، ممن يؤلمه ظلماً، صغر ذلك أم كبر، فيعوّضه عوضاً حسناً للألم الذي يقع عليه.
ه_ اذا فاتت الانسان منفعة، أو مصلحة في الدنيا بتقدير من اللّه سبحانه، ولحكمة ثابتة في علمه، فانّ اللّه يعوّضه على ما فوّت عليه من تلك المنفعة المادية أو المعنوية.
و_ الألم الذي يحدث للانسان، بسبب تنفيذ الأوامر الالهية… كأداء الواجبات، أو ترك المحرّمات، أو فعل المباحات، فانّ اللّه سبحانه، يعوّضه على ما لاقاه من ألم حسّي أو نفسي أو عقلي… وكذلك الآلام التي تقع على الانسان من الحيوانات، فانّ اللّه سبحانه يعوّض الانسان عنها…
وهكذا يتّضح لنا أنّ عدل اللّه، وسع كلّ شيء، وما من شيء يقع من اللّه، أو من الانسان، الاّ وهو في ميزان العدل يقابله العوض والجزاء.