اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100190
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة Oooo14
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة User_o10

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة Empty
مُساهمةموضوع: دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة   دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة Emptyالأربعاء 20 نوفمبر 2013 - 14:34

شرح العلامة محمد علي بن محمد بن علان رحمه الله
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة


11 - باب في المجاهدة
مفاعلة من الجهد: أي الطاقة فإن الإنسان يجاهد نفسه باستعمالها فيما ينفعها حالاً ومآلاً، وهي تجاهده بما تركن إليه بحسب طبعها وجبلتها من ضد ذلك، ولكون المجاهدة مع النفس التي بين جنبي الإنسان وهي لا تخرج ولا تنفك عنه كان هذا الجهاد الأكبر وجهاد العدو الخارج الجهاد الأصغر.
(قال تعالى) : {والذين جاهدوا فينا} ) قال بعض العارفين: هذه الآية صفوة هذه السورة. ومن جملة المجاهدات مجاهدة النفس بالصبر عند الابتلاء ليعقب ذلك أنس الصفاء وينزع عنه لباس الجفاء. وفي الحديث: «إن ابتلاء المؤمن يذهب عنه درنه» ( {لنهدينهم سبلنا} ) أتى بلام الابتداء أو لام جواب القسم المقدر المسند إلى الحق سبحانه إشارة إلى أنه تعالى يتولى الهداية بنفسه للمجاهدين فيه، وأنه ينعم عليهم بكمال النعمة والجزاء، ولم يقل سبيلي إشارة إلى الإمناح بكثرة المعارف، ولطائف الشهود ودوامه، وانهلال سحب الأفضال ( {وإن الله لمع المحسنين} ) المحسن من يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه سبحانه يراه، فإن كان هكذا كان له من شريف المعية ما أشار إليه بقوله: {وإن الله لمع المحسنين} وقد ورد من حديث أبي هريرة عن النبي: «أنا جليس من ذكرني، وأما مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه» قال الزركشي في «الدرر» : رواه البيهقي.

(وقال تعالى) : {واذكر اسم ربك} ) بالتوحيد والتعظيم: أي دم على ذلك ( {وتبتل إليه} ) في العبادة ( {تبتيلاً} ) مصدر بتل، جيء به رعاية للفواصل وهو ملزوم التبتل، وأيضاً فهو أبلغ منه في المعنى لزيادة المبنى، وقيل إن تبتل في الآية بمعنى بتل (أي انقطع إليه) عما سواه انقطاعاً، وقيل أخلص إخلاصاً، وقيل توكل توكلاً. قال بعضهم التبتل: رفض الدنيا بما فيها والتماس ما عندالله.
(وقال تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} ) أي الموت. (وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} ) أي ير ثوابه، ففيه تشويق لتقديم العمل الصالح بين يديه ليجد جزاءه عند قدومه عليه (وقال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير} ) بيان لما ( {تجدوه عند اهو خيراً} ) مما خلفتم ( {وأعظم أجراً} ) وهو فصل وما بعده وإن لم يكن معرفة يشبهها لامتناعه من التعريف لاقترانه بمن، ولا يجوز الجمع بينه وبين أل. والمعنى ما أخرجتم خير لكم وأعظم أجراً عند الله مما ادخرتم، قال: «أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله، قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسولالله، قال: ما منكم من أحد إلا مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟ قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر» .

(وقال تعالى: {وما تفعلوا من خير} ) إنفاق أو غيره ( {فإن الله به عليم} ) فمجاز عليه، (والآيات) القرآنية (في الباب) أي باب المجاهدة (كثيرة معلومة. وأما الأحاديثSmile النبوية.

951 - (فـ) الحديث (الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى قال: من عادى) من المعاداة: ضد الموالاة (لي) حال من قوله (ولياً) قدر من تأخير وكان قبل صفة أو ظرف لغو متعلق بالوصف قدم اهتماماً به، وهو من تولى الله بالطاعة والتقوى فتولاه الله بالحفظ والنصرة، من الولي: وهو القرب والدنوّ، فالوليّ هو القريب من الله تعالى لتقرّبه إليه باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والإكثار من نوافل العبادات مع كونه لا يفتر عن ذكره، ولا يرى غيره بقلبه لاستغراقه في نور معرفته، فلا يرى إلا دلائل قدرته ولا يسمع إلا آياته ولا ينطق إلا بالثناء عليه ولا يتحرّك إلا في طاعته، وهذا هو المتقي قال تعالى: {إن أولياؤه إلا المتقون} (الأنفال: 34) (فقد آذنته) بالمد (بالحرب) أي: أعلمته بأني محارب له، أي: أعامله معاملة المحارب من التجلي عليه بمظاهر الجلال والعدل والانتقام. ومن عامله الحق بذلك فإنه لا يفلح، فهو من التهديد في الغاية القصوى، إذ غاية تلك المحاربة الإهلال، فهي من المجاز البليغ، وكأن المعنى فيه ما اشتملت عليه تلك المعاداة من المعاندة تعالى بكراهة محبوبه، والوعيد لمن عادى ولياً من أجل ولايته وقربه من الله تعالى، وذلك كإيذاء من ظهرت أمارات ولايته باتباع الكتاب والسنة، إما بإنكارها عناداً أو حسداً، أو بعدم الجري على ما ينبغي له من التأدب معه، أو بنحو سبه وشتمه من سائر أنواع الإيذاء التي لا مسوغّ لها شرعاً مع علم متعاطيها بذلك.
أما منازعة الوليّ في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض فلا يدخل في هذا الوعيد، فقد جرى نوع ما من الخصومة بين أبي بكر وعمر وبين عليّ والعباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مع أن الكل أولياء الله تعالى. وإذا علم ما في معاداة الوليّ من الوعيد والتهديد علم ما في موالاته من جسيم الثواب وباهر التوفيق والهداية والقرب والتأييد (وما تقرّب إليّ عبدي) إضافته للتشريف المؤذن بمزيد الرفعة والتأهل لعليّ المقامات (بشيء أحبّ إليّ من) أداء (ما افترضت) به (عليه) عيناً كان أو كفاية كالصلاة وأداء الحقوق إلى أربابها وبرّ الوالدين ونحو ذلك من

الأمور الواجبات، لأن الأمر بها جازم فيتضمن أمرين: الثواب على فعلها، والعقاب على تركها، بخلاف النفل، فلذا كان الفرض أكمل وأحب إلى الله وأشدّ تقرّباً.
وروي أن ثواب الفرض يفضل ثواب النفل بسبعين درجة؛ وبالجملة فالفرض كالأس والنفل كالبناء على ذلك الأس، (وما يزال عبدي) إضافته لما تقدم (يتقرّب) وفي رواية: «يتحبب» (إليّ بالنوافل) أي: بالتطوعات من جميع أصناف العبادات ظاهرها كقراءة القرآن إذ هو من أعظم ما يتقرب به، وكالذكر وكفى في شرفه قوله تعالى: ( {فاذكروني أذكركم} ) (البقرة: 152) وباطنها كالزهد والورع والتوكل والرضا وغير ذلك من سائر أحوال العارفين سيما محبة أولياء الله تعالى وأحبائه فيه ومعاداة أعدائه فيه (حتى أحبه) بضم أوله والفعل منصوب. ومحبة الله تعالى للعبد كما تقدم توفيقه لما يرضيه عنه، وإثابته ومعاملته بالإحسان، فعلم أن إدامة النوافل بعد أداء الفرائض، إذ من غير أدائها لا يعتد بالنوافل كما يشير إليه تأخير هذه وتقديم تلك، تفضي إلى محبة الله تعالى للعبد وصيرورته من جملة أوليائه الذين يحبهم ويحبونه. ويؤخذ من سياق الحديث أن الوليّ إما أن يتقرّب بالفرائض بأن لا يترك واجباً ولا يفعل محرماً أو بها مع النوافل وهذا أكمل وأفضل. ولذا خص بالمحبة السابقة والصيرورة الآتية، وأنه لا سبيل إلى ولاية الله تعالى ومحبته سوى طاعته التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سواها باطل (فإذا أحببته كنت) أي صرت حينئذٍ (سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر) بضم أوله وكسر ثالثه (به، ويده التي يبطش) بفتح أوله وكسر ثالثه أو ضمه (بها ورجله التي يمشي بها) .
قال بعض المحققين: التحقيق أن هذه الصيرورة مجاز أو كناية عن نصرة الله تعالى لعبده المتقرّب إليه بما ذكر، وتأييده وإعانته له وتوليه في جميع أموره، حتى كأنه تعالى نزّل نفسه من عبده منزلة الآلات والجوارح التي بها يدرك ويستعين، ولذا جاء في رواية أخرى «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي» أي أنا الذي أقدرته على هذه الأفعال وخلقتها فيه فأنا الفاعل لذلك لا أنه يخلق أفعال نفسه: أي سواء الجزئيات والكليات، وهذا يردّ على المعتزلة في زعمهم أن العبد يخلق أفعاله الجزئيات.
وزعم الحلولية والاتحادية بقاء هذا الكلام على حقيقته وأنه تعالى عين عبده أو حالّ فيه ضلال وكفر إجماعاً، وما وقع في عبارات بعض العارفين مما يوهم ذلك فليس مراداً لهم،

وفهم ذلك منه من قصور فهم الناظر، وإلا فهم مطهرون من ذلك الاعتقاد الفاسد كما طهرهم الله تعالى بكمال محبته من سائر المفاسد (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) مما يخاف، وهذه عادة الحبيب مع محبوبه، ولا يحصى عدد من حصل له ذلك فوقع له مطلوبه وذهبت عنه كروبه من صالحي الأمة، فلا نطيل بذكره خصوصاً وسيأتي في أثناء الكتاب بعضه.
وفي هذا الوعد المحقق المؤكد بالقسم إيذان بأن من تقرب إليه بما مرّ لا يردّ دعاؤه، وقد لا يجاب الوليّ إلى سؤاله لعلمه تعالى أن الخير له في غيره مع تعويضه له خيراً منه إما في الدنيا أو في الآخرة (رواه البخاري) وزاد بعد قوله «لأعيذنه» «وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» والتكلم في بعض رواته غير مقبول، وانفرد به البخاري عن باقي الكتب الستة، ورواه ابن حبان في «صحيحه» وأبو داود خارج السنن فيما رواه عنه ابن الأعرابي، ورواه أبو نعيم في «الحلية» والبيهقي في «الزهد» وابن عدي في «الكامل» وآخرون. وقد روي الحديث من طريق عائشة وميمونة وعليّ وأنس وحذيفة ومعاذبن جبل وابن عباس وغيرهم، وطريق كل لا تخلو عن مقال، إلا الطريق إلى حذيفة فإن إسناده حسن لكن حديثه غريب جداً (آذنته) بالمد (أعلنته) هذا معنى آذنته، وقوله: (بأني محارب له) هذا معني بالحرب، وقوله: (استعاذني روي بالنون) أي: طلبني أعيذه فيكون متعدياً (وبالباء) الموحدة: أي اعتصم وتحصن بي.
96 - (الثاني: عن أنس رضي الله عنه عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل) أي: فهو من الأحاديث القدسية وقد تقدم في باب الإخلاص فيها بعض البيان، والفرق بينها وبين القرآن أنه معجز ويتعلق الثواب بتلاوته ولا تجوز روايته بالمعنى ولا مسّ ما كتب فيه، ولا حمله مع الحدث ولا كذلك هذه الأحاديث (قال) أي: الربّ سبحانه أو النبيّ راوياً له عن ربه (إذا تقرّب العبد إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه) وفي

نسخة منه (باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) كذا في النسخ بحذف الواو من إذا الأولى. والظاهر إثباتها ليدل على أن المذكور بعض حديث أوله: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإذا تقرّب إليّ الخ» ثم هذا من باب التمثيل في الجانبين.w
قال الكرماني: قامت البراهين القطعية على استحالة هذه الإطلاقات على الله تعالى، فهي إذن على سبيل التجوّز. والمعنى من أتى شيئاً من الطاعات ولو قليلاً قابلته عليه بأضعاف من الإثابة والإكرام، وكلما زاد في الطاعة زدته في الثواب، وإن كان إتيانه بالطاعة على التأني تكون كيفية إتياني بالثواب على السرعة، فالغرض أن الثواب راجع على العمل مضاعف عليه وإطلاق النفس والتقرّب والهرولة وهي من الإسراع ونوع من العدو عليه تعالى، إنما هو مجاز على سبيل المشاكلة أو على طريق الاستعارة أو على قصد إرادة لوازمها، وهو من الأحاديث الدالة على كرم أكرم الأكرمين. اللهم ارزقنا حظاً وافراً منه آمين (رواه البخاري) .
قال ابن الجزري في «الحصن» بعد أن أورد صدر الحديث إلى قوله: «خير منه» تم الحديث، ورمز إليه أنه رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه، وفي «مختصر جامع الأصول» للديبع أخرجه الشيخان والترمذي وسكت عن الباقي، ولعلهما روياه بالمعنى والبخاري بخصوص هذا المبنى.
97 - (الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله) وفي نسخة النبي (: نعمتان) أي: عظيمتان.
قال ابن الخازن: أي ما يتنعم به الإنسان.
وقال الطيبي: الحالة الحسنة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة، وقيل: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على وجه الإحسان إلى الغير. ونعمتان مبتدأ وخبره (مغبون فيهما) من الغبن وهو الشراء بأضعاف الثمن، أو البيع بدون ثمن المثل وهو وصف، و (كثير من الناس) نائب فاعله أو مبتدأ وخبره مغبون وفيهما ظرف لغو، والجملة الخبر، والرابط ضمير الوصف وأفرد باعتبار لفظ كثير (الصحة والفراغ) بدلان من نعمتان بدل مفصل من مجمل شبه المكلف بالتاجر

والصحة: أي في البدن، والفراغ: أي من العوائق عن الطاعة برأس المال لأنهما من أسباب الأرباح ومقدمات نيل النجاح، فمن عامل الله تعالى بامتثال أوامره وابتدر الصحة والفراغ يربح، ومن لا ضاع رأس ماله ولا ينفعه الندم (رواه البخاري) ورواه الترمذي وابن ماجه.
98 - (الرابع: عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ كان يقوم) أي: بالتهجد (من الليل) أي: بعضه وهو السدس الرابع والخامس غالباً (حتى تفطر) بفتح المثناة والفاء وتشديد المهملة وأصله تتفطر، وهو كذلك في رواية الأصيلي كما في «فتح الباري» : أي تتشقق (قدماه) وعند النسائي: «حتى تزلع قدماه» بزاي وعين مهملة. وللبخاري في رواية: «حتى تورّمت قدماه» . ولا مخالفة بين هذه الروايات، فإنه إذا حصل النفخ والورم حصل الزلع والتشقق (فقلت له: لم تصنع هذا) الأمر الشاق (يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟) .
قال العارف با ابن أبي جمرة في أثناء كلام له على حديث: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» ما لفظه: لا يخطر بخاطر أحد أن الذنوب التي خبر الله تعالى أنه بفضله غفرها للنبي من قبيل ما نقع نحن فيها، معاذالله، لأن الأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع، ومن الصغائر التي فيها رذائل. أما الصغائر التي ليس فيها رذائل ففيها خلاف بين العلماء الأكثر على أنهم معصومون منها كما عصموا من الكبائر، وهو الحق لأن رتبتهم جليلة، إنما ذلك من قبيل توفية ما يجب للربوبية من الإعظام والإكبار والشكر، ووضع البشرية وإن رفع قدرها حيث رفع فإنها تعجز عن ذلك بوضعها لأنها من جملة المحدثات، وكثرة النعم على الذي رفع قدره أكثر من غيره فتضاعفت الحقوق عليه فحصل العجز، فالغفران لذلك اهـ وهو من النفاسة بمكان، وسيأتي في باب أداء الأمانة إن شاء الله تعالى كلام نفيس للقاضي عياض في عصمة الأنبياء وتفصيل الخلاف في ذلك (قال أفلا) الفاء للسببية عن محذوف التقدير: أترك التهجد فلا (أحبّ أن أكون عبداً شكوراً) والمعنى: أن المغفرة سبب لكون

التهجد شكراً فكيف أتركه.

قال القرطبي: ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه إنما يعبد الله خوفاً من الذنب وطلباً للمغفرة والرحمة، فمن تحقق غفران الله تعالى له لا يحتاج لذلك، فأفادهم أن لذلك سبباً آخر هو الشكر على المغفرة وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه منها شيئاً.
والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر منه سمي شكوراً، ومن ثم قال سبحانه: {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: 13) اهـ. ثم الأخذ بهذا الحال من مشاقّ الأعمال إنما يطلب ممن لا يفضي به ذلك إلى الملال كما هو شأنه، فإنه كان لا يملّ من عبادة ربه وإن أضرّ بدنه، وقد جاء عنه «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» . أما من يفضي به لذلك فلا، ففي الحديث: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» (متفق عليه) أي على أصل المعنى لا على خصوص الراوي والمبنى بدليل قوله: (هذا) أي: المذكور عن عائشة بهذا اللفظ (لفظ البخاري ونحوه) أي: بمعناه (في الصحيحين) الذي يعبر عنه بالمتفق عليه (من رواية المغيرةبن شعبة) وكذا رواه من رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .
99 - (الخامس: عن عائشة) الأخصر عنها (رضي الله عنها) وكأنه عدل إليه لئلا يتوهم أن المغيرة اسم امرأة والضمير لأقرب مذكور (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر) أي: الأخير من رمضان كما يأتي في كلامه، وأوله الحادي والعشرون وآخره آخر رمضان (أحيا الليل) بأنواع الطاعات ومحل النهي عن قيام الليل كله الوارد في حديث عبد ابن عمر فيمن داوم على ذلك جميع ليالي السنة لأنه مضرّ بالبدن والعقل (وأيقظ أهله) للصلاة تنبيهاً لهم على فضل تلك الأوقات واغتنام صالح العمل فيها.
وروى الترمذي من حديث زينب بنت أم سلمة: «لم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهل بيته يطيق القيام إلا أقامه» (وجدّ) أي اجتهد في العبادة زيادة على العادة، وذلك لأن فيه ليلة القدر التي هي خير من

ألف شهر (وشدّ المئزر. متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» أيضاً. (والمراد العشر الأواخر من شهر رمضان) وقد صرح بهذا في حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق عاصمبن ضمرة عنه، وتقدم مبتداه ومنتهاه (والمئزر) بكسر الميم وفتح الزاي وسكون التحتية (الإزار: وهو) أي: شد المئزر لا الإزار كما قد يتبادر (كناية عن اعتزال النساء) هذا ما جزم به عبد الرزاق عن الثوري. واستشهد عليه بقول الشاعر:

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
عن النساء ولو باتت بأطهار
وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكربن عياش نحوه: (وقيل) هو قول الخطابي كما في «فتح الباري» (المراد) منه (تشميره للعبادة) على سبيل المجاز المرسل لعلاقة الإطلاق والتقييد (يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت وتفرّغت له) قال في «فتح الباري» : يحتمل أن يريد به الجد في العبادة كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت له، ويحتمل أن يراد التشمير للعبادة والاعتزال معاً. ويحتمل أن يراد حقيقته والمجاز كمن يقول طويل النجاد لطويل القامة وهو طويل النجاد حقيقة، فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة. قال: وقد وقع في رواية عن عاصمبن ضمرة المذكور «شدّ مئزره واعتزل النساء» فعطفه بالواو فيتقوّى الاحتمال الأول اهـ.
100 - (السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: المؤمن القويّ) هو من لا يلتفت إلى الأسباب لقوّة باطنه بل يثق بمسبب الأسباب.
وقال المصنف: هو من له صدق رغبة في أمور الآخرة فيكون أكثر إقداماً على العبادات. وقيل: المؤمن

القويّ من صبر على مجالسة الناس وتحمل أذاهم وعلمهم الخير والإرشاد.
وقال القرطبي: القويّ البدن والنفس الماضي العزيمة الذي يصلح للقيام بوظائف العبادات من الحجّ والصوم والأمر بالمعروف وغير ذلك مما يقوم به الدين (خير) أفعل تفضيل، حذفت ألفه تخفيفاً (وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف) يعلم المراد به من المراد بضده (وفي كل) بالتنوين: أي من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف (خير) لاشتراكهما في أصل الإيمان وخير هنا مصدر: وهو خلاف الشر (احرص) أي: استعمل الحرص والاحتياط (على) تحصيل (ما ينفعك) من أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك وعيالك ومكارم الأخلاق ولا تفرط في ذلك (واستعن با) أي: اطلب المعونة منه وتوكل عليه ولا تعتمد على حركاتك ولا على أسبابك بل الجأ في كل الأمور إليه وتوكل عليه، فمن أعانه أعين، وما أحسن قول بعض العارفين:
إذا لم يعنك الله فيما تريده
فليس لمخلوق إليه سبيل
وإن هو لم يرشدك في كل مسلك
ضللت ولو أن السماك دليل
(ولا تعجز) بكسر الجيم على الأفصح: أي لا تفرط في طلب ذلك وتتعاجز عنه تاركاً للحكمة الإلهية متكلاً على القدرة فتنسب للتقصير وتلام على التفريط شرعاً وعادة (وإن أصابك شيء) من المقدورات (فلا تقل لو أني فعلت) كذا (كان كذا وكذا) كناية عن مبهم، والجملة جواب لو، فيكون فيه ركون إلى العادات وربط للمسببات بأسبابها العادية وغفلة عن حقائق الأمور هو أن كل شيء بقدر مقدور فلذا قال (ولكن) بسكون النون (قل قدر ا) .
قال البرهان العلوي: ومن خطه نقلت هو بفتح أوليه المخفقين ورفع الراء، هكذا رأيت في نسخة الرزندي وسماعي «قدر» يعني بصيغة الماضي المعلوم (وما شاء) أي: ما شاءه الله (فعل) لا رادّ لمراده وهو على كل شيء قدير. ففيه التنبيه على الدواء عند وقوع المقدور وذلك بالتسليم لأمر الله والرضا بقدرالله، والإعراض عن الالتفات لما مضى وفات بألا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، لأن ذلك يئول به إلى الخسران، من توهم أن التدبير يعارض سوابق المقادير، وهذا عمل الشيطان كما قال (فإن لو) بسكون الواو على الحكاية: أي إذا ذكرت على سبيل معارضة القدر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو

ارتفع لوقع خلاف المقدور (تفتح عمل الشيطان) أي وساوسه المفضية بصاحبها للخسران، أما إذا أتى بلو على وجه التأسف على ما فات من الخير وعلم أنه لن يصيبه إلا ما قدر الله تعالى فليس بمكروه، وفيه حديث «لو استقبلت من أمري ما استدبرت» الحديث: (رواه مسلم) ورواه أحمد وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل


avatar


نقــاط : 100190
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة Oooo14
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة User_o10

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة   دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة Emptyالأربعاء 20 نوفمبر 2013 - 14:34

- (السابع: عنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حجبت) بالمهملة فالجيم مبني للمفعول والتاء في آخره للتأنيث (النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) .
قال القرطبي: هو من الكلام البليغ الذي انتهى في البلاغة نهايته، وذلك أنه مثل المكاره بالحفاف: أي في رواية مسلم الآتية، وبمعناها الحجاب وهو الدائر بالشيء المحيط به الذي لا يتوصل إلى ذلك الشيء إلا بعد أن يتخطى، وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها، وأن النار لا ينجي منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها.
وقال المصنف: معناه لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره من الجهد في الطاعات والصبر عن الشهوات، كما لا يصل المحجوب عن الشيء إلا بهتك حجابه والتجاوز عنه، ويوصل إلى النار باتباع الشهوات. والمراد ما كان محرماً منها لا المباح منها، فلا يدخل في ذلك لكن الإكثار منه مكروه مخافة أن يقسي القلب ويكسل عن الطاعة (متفق عليه) في المعنى ومعظم المبنى بدليل قوله (وفي رواية مسلم: حفت) بضم المهملة وتشديد الفاء (بدل حجبت) وبه يندفع اعتراض الصاغاني في «المشارق» على القضاعي حيث قال: بعد أن رواه بلفظ حجبت وقال: متفق عليه. رواية القضاعي حفت.

قال ابن مالك في شرحها: قال النووي: المذكور في «الصحيحين» حجبت لاحفت اهـ. وهو نقل عجيب عن المصنف ولعله سهو من قلم الناسخ، وإلا فهذا اللفظ رواية مسلم (وهو) أي: حفت و (بمعناه) أي: حجبت: أي معناهما واحد (أي بينه وبينها) أي النار في الأول والجنة في الثاني (هذا الحجاب فإذا فعله) وخرق الحجاب (دخلها) .

102 - (الثامن: عن أبي عبد الله حذيفة) بضم المهملة وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية بعدها فاء (ابن) حسيل بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية، ويقال له: حسيلي بالتصغير، ولقبه (اليمان) لقب به لحلفه الأنصار وهم من اليمن، وإلا فهو عبسي بفتح المهملة فسكون الموحدة نسبة إلى عبسبن يعيصبن بنت غطفان ثم ابن قيس عيلان بالمهملة ابن مضر (رضي الله عنهما) أسلم حذيفة وأبوه وشهدا أحداً وقتل اليمان يومئذٍ بأيدي المسلمين غلطاً، ونادى حذيفة حينئذٍ أبي عباد الله أبي أبي، فما احتجزوا عنه حتى قتلوه.
فقال حذيفة: يغفر الله لكم؛ ووهب دمه للمسلمين. وكان حذيفة أحد الرقباء النجباء وأحد الفقهاء أهل الفتوى وصاحب سرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين، والمختص بأخبار الفتن المستقبلة ما ظهر منها وما بطن، وله مقامات محمودة في الجهاد من أعظمها ليلة الأحزاب وخبره فيها مشهور، وأبلى في الفتوح، وحمدت مشاهده، وكان فتح همدان والدينور على يديه، وشهد فتح الجزائر، ولاه عمر المدائن، وقال عمر لأصحابه يوماً تمنوا فتمنوا، فقال عمر: لكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة ومعاذبن جبل وحذيفةبن اليمان أستعملهم في طاعة الله تعالى.
روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث ونيفاً، اتفقا منها على اثني عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر. توفي بالمدينة سنة ستّ وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة (قال: صليت مع النبي) أي في صلاة التهجد، ففيه وفي حديث ابن مسعود الآتي الاقتداء في النافلة وتطويل صلاة الليل (ذات ليلة، فافتتح سورة البقرة) فيه إطلاق ذلك بلا كراهة، وقيل: إنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة (فقلت يركع عند المائة) منها، وكان القياس في رسم مائة أن تكتب الهمزة بصورة التحتية لانكسار ما قبلها لكنها رسمت بهذه الصورة لئلا تلتبس بصورة منه إذا لم تنقط، وأصلها حتى حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث (ثم مضى) في قراءتها بعد تمام المائة (فقلت: يصلي بها في ركعة

فمضى فقلت: يركع بها) فأكملها (ثم افتتح النساء فقرأها) إلى آخرها (ثم افتتح آل عمران فقرأها) .
قال القاضي عياض: فيه دليل لمن يقول إن ترتيب السور اجتهادي وليس بتوقيفي: بل وكله إلى أمته وهو قول مالك وجمهور العلماء، واختاره ابن الباقلاني وقال: إنه أصح القولين مع احتمالها. قال: والذي يقول إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين، وإنه لم يكن من النبيّ في ذلك نص ولا حد تحرم مخالفته، ولذا اختلف في ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان. قال: وأما على قول من يقول: إنه بتوقيف من النبي حدده لهم كما استقرّ في مصحف عثمان، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير فتؤول النساء ثم آل عمران هنا على أنه كان قبل التوقيف في الترتيب وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أبيّ. قلت قال بعض المتأخرين: أو إنه فعله لبيان الجواز.
قال الباقلاني: ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية بسورة قبل التي قرأها في الأولى، إنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في غير صلاة، وقد أباحه بعضهم وتأوّل نهي السلف عن قراءة القرآن منكوساً على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله سبحانه وتعالى على ما هي الآن في المصحف، وهكذا نقلته الأمة عن نبيها اهـ باختصار يسير (يقرأ مترسلاً) أي: مرتلاً بتبيين الحروف وأداء حقها (إذا مرّ بآية فيها تسبيح) نحو: {سبح اسم ربك} (الأعلى: 1) (سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ) فيه دليل لاستحباب هذه للقارىء وهي سنة له مطلقاً (ثم ركع فجعل) من أفعال الشروع (يقول) في ركوعه (سبحان ربي العظيم) وكرّر ذلك التسبيح فيه وبه قال بعض الأئمة، ولم يأخذ أئمتنا بقضية التكرير فيه وفيما يأتي بل قالوا: أقل التسبيح مرّة وأقل الكمال ثلاث وأكثره إحدى عشرة، واقتضى صريح كلامهم عدم سن الزيادة على ذلك، فإن الذي ذكروه وهو ما واظب عليه، وما في هذا الحديث وقع نادراً فلم يغيروا به ما علم واستقرّ من أحواله (فكان ركوعه) في الطول (نحواً) أي: قريباً (من قيامه) في القراءة قبله (ثم) رفع

رأسه و (قال) عند رفعه (سمع الله لمن حمده) أي تقبله منه (ربنا لك الحمد ثم قام) أي: دام في القيام بعد الرفع من الركوع (قياماً طويلاً مما ركع) أي: من ركوعه، أخذ منه ما اختاره المصنف أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين ركنان طويلان، لكن المذهب أنهما قصيران لأنهما مقصودان لغيرهما لا لذاتهما. وقد يجاب بأن القرب من الركوع أمر نسبيّ؛ فليس فيه نص على أنه طوّل أكثر من التطويل المشروع عندنا وهو ما يسع أذكاره الواردة فيه وقدر قراءة الفاتحة (ثم سجد فقال) في سجوده (سبحان ربي الأعلى) وكرره، والحكمة في جعل العظيم في الركوع والأعلى في السجود أن الأعلى لكونه أفعل تفضيل أبلغ من العظيم، والسجود أبلغ في
التواضع من الركوع، فجعل الأبلغ للأبلغ (فكان سجوده قريباً من قيامه. رواه مسلم) .
103 - (التاسع: عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي ليلة) أي: التهجد في ليلة فهي منصوبة على الظرفية (فأطال) أي: القيام طولاً كثيراً زائداً على العادة كما سيأتي مستنده (حتى هممت) بفتح الميم الأولى (بأمر سوء) بإضافة أمر إلى سوء كذا في «فتح الباري» .

وقال بعض شراح «الشمائل» بالإضافة وعدمها وفتح السين وضمها، ولعل اقتصار الحافظ على ما هو الرواية. وفي «الصحاح» : المفتوح مصدر نقيض المسرة والمضموم اسم، وساغت الإضافة إلى المفتوح كرجل سوء، ولا يقال سوء بالضم اهـ. وقوله ولا يقال الخ ردّ بالقراءة المتواترةـ دائرة السوءـ بالضم، ويردّ بأن ما فيه في إضافة الاسم الجامد وما فيها بإضافة المصدر وبينهما فرق ظاهر (قيل: وما هممت به؟ قال: أن أجلس وأدعه) .
قال المصنف: فيه أنه ينبغي الأدب مع الأئمة والكبار بألا يخالفوا بقول ولا فعل ما لم يكن

حراماً. واتفق العلماء على أنه إذا شق على المقتدي في فريضة أو نافلة القيام وعجز عنه جاز له القعود، وإنما لم يقعد ابن مسعود تأدباً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ. 5
وفي «فتح الباري» : في الحديث دليل على اختيار النبيّ تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قوياً محافظاً على الاقتداء بالنبي، وما همّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده. قال: وفي الحديث أن مخالفة الإمام في أفعاله معدودة في العمل السيء، وفيه تنبيه على جواز استفادة معرفة ما أبهم من الأقوال وغيرها، لأن أصحاب ابن مسعود ما عرفوا مراده من قوله هممت بأمر سوء حتى استفهموه عنه فلم ينكر عليهم استفهامهم عنه اهـ (متفق عليه) ورواه الترمذي في «الشمائل» .
104 - (العاشر: عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتبع الميت) أي: يصحبه إلى قبره (ثلاثة أهله وماله وعمله) بالرفع بدل من الفاعل (فيرجع اثنان ويبقى واحد) أجمله ثم فصله بقوله على سبيل الاستئناف البياني (يرجع أهله وماله ويبقى عمله) ليكون أقرّ في النفس وأمكن لأنها يجيئها التفصيل وقد تطلبته واشتاقت إليه. وفي الحديث: الحثّ على تحسين العمل ليكون أنيسه في قبره (متفق عليه) والسياق للبخاري.
105 - (الحادي عشر: عن) عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) الشراك بكسر الشين المعجمة وبالراء وآخره كاف: أحد سيور

النعل التي تكون في وجهه ويختلّ المشي بفقده كفقد الشسع بمعجمة ثم مهملتين: السير الذي يدخل فيه أصبع الرجل.
قال ابن مالك: ووجه الأقربية أن يسيراً من الطاعة قد يكون سبباً لدخول الجنة ومثله من المعصية في النار كما قال: (والنار مثل ذلك) .

قال في «فتح الباري» : قال ابن بطال: في الحديث أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقرّبة إلى النار، وأنهما قد يكونان في أيسر الأشياء، وفي هذا المعنى «إن الرجل ليتكلم بالكلمة» الحديث، فينبغي للمرء ألا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشرّ أن يجتنبه: فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها.
وقال ابن الجوزي: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية اهـ.
وقال السعد الكازروني في «شرح المشارق» : أراد قرب الجنة لمن كان كافراً فأسلم، وقرب النار لمن عكس، وكذا لمن أتى بالكبائر (رواه البخاري) ورواه أحمد.
106 - (الثاني عشر: عن أبي فراس) بكسر الفاء وبالمهملتين بينهما ألف (ربيعة) بوزن قبيلة (ابن كعب) ابن مالك (الأسلمي) الحجازي (خادم رسول الله) حضراً وسفراً (ومن أهل الصفة) بضم المهملة وتشديد الفاء: محل سقف آخر المسجد يأوي إليه الفقراء الذين ليس لهم عريف (رضي الله عنه) .
قال أبو نعيم: كان من أحلاس المسجد ومن الملازمين لخدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله بأهل الصفة اتصال، ثم روي عنه قال: كنت أبيت على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطيه الوضوء فأسمعه من الهويّ بالليل يقول: «سمع الله لمن حمده» وللهويّ من الليل يقول: «الحمد رب العالمين» ذكره ابن الجوزي في «المستخرج» المليح من التنقيح في باب من روى عن النبي اثني عشر حديثاً. وقال: قال البرقي: له أربعة أحاديث. قلت: وقد انفرد مسلم عن البخاري فأخرج له هذا الحديث، وروى عنه أصحاب السنن الأربعة: توفي بعد الحرّة سنة ثلاثة وستين (قال: كنت أبيت مع رسول الله) على باب بيته لأداء خدمته كما قال (فآتيه) بالمد (بوضوئه) بفتح الواو: الماء المعدّ للوضوء

بضمها (وحاجته) أي: ما يحتاج إليه من لباس وغيره (فقال: سلني) حاجة أتحفك بها في مقابلة خدمتك لأن هذا شأن الكرام ولا أكرم منه. ويؤخذ من إطلاقه السؤال أن الله تعالى مكنه من إعطاء كل ما أراد من خزائن الحق، ومن ثم أعدّ أئمتنا من خصائصه أن يخص من شاء بما شاء: كجعله شهادة خزيمة بشاهدين رواه البخاري، وإباحة النياحة لأم عطية في آل فلان خاصة رواه مسلم. (فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة) أي: أن أكون معك فيها قريباً منك متمتعاً بنظرك وقربك حتى لا أفارقك، فلا يشكل حينئذٍ بأن منزله: الوسيلة وهي خاصة به عن سائر الأنبياء فلا يساويه في مكانه منها نبيّ مرسل فضلاً عن غيرهم لأن المراد أن تحصل له مرتبة من مراتب القرب التام إليه فكنى عن ذلك بالمرافقة (فقال أو) تسأل (غير ذلك) لأنه أهون فأو عاطفة ويصح فتح الواو فالهمزة
للاستفهام داخلة على فعل دل عليه السياق: أي أترجع عن سؤالك هذا لأنه مشتق لا تطيقه ولا تسأل غيره مما هو أهون منه (قلت: هو) أي مسئولي (ذاك) الذي ذكرته لا غيره فلا أرجع عنه وإن كان مشقاً، وعبر عنه بذلك الموضوع للبعيد ليدله على بعد هذه المرتبة وعزتها وأنها لا تحصل بالهويني، فعدل عنها السائل إلى «ذاك» الدالة على القرب بالنسبة لذلك ليعلم بأنه مصمم على أن مسئوله غير مستبعد له على امتثال كل ما يؤمر به لأجله، فلما علم صدقه وقوة عزمه (قال) له (أعني) حينئذٍ (على نفسك) المتخلفة بطبعها عن السعي في نيل المعالي لميلها إلى الدعة والرفاهية والشهوات والبطالات، وفي قوله: «أعني» إشارة إلى أنه كان مجتهداً أي اجتهاده في اصلاحه كغيره وأنه الطبيب الساعي في شفائه، والطبيب يحتاج لمساعدة المريض بتعاطيه ما يصفه له (بكثرة السجود) المحصل لنيل مرتبة القرب المطهر للنفس عن خبائثها المخرج لها عن شهواتها وعاداتها، وببعدك عن هذه النقائص المؤدي إلى دوام المراقبة يحصل الرقي إلى المرافقة والمجاورة. وفي «شرح المشكاة» لابن حجر: فمن كثرة سجوده حصلت له تلك الدرجة العلية التي لا مطمع في الوصول إليها بمزيد الزلفى عند الله في الدنيا بكثرة السجود المومأ إليه

بقوله تعالى:
{واسجد واقترب} (العلق: 19) فكل سجدة فيها قرب مخصوص لتكفلها بالرقى إلى درجة من درجات القرب وهكذا حتى ينتهي إلى درجة المرافقة لحبيبه، فنتج من هذا الذي هو على منوال قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم ا} (آل عمران: 31) أن القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحصل إلا بالقرب من الله تعالى، وأن القرب من الله تعالى لا ينال إلا بالقرب من رسوله. فالقربان متلازمان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر البتة: ومن ثم أوقع تعالى متابعة رسوله بي تلك المحبتين ليعلمنا أن محبة العبد ومحبته للعبد متوقفتان على متابعة رسوله اهـ (رواه مسلم) وأحمد ابن حنبل.
107 - (الثالث عشر: عن أبي عبد الله، ويقال) في كنيته (أبو عبد الرحمن ثوبان) بفتح المثلثة وسكون الواو بعدها موحدة وبعد الألف نون ابن بحدد، وقيل: ابن جحدد (مولى رسول الله) .
قال الكازروني في «شرح المشارق» : كان (رضي الله عنه) من اليمن، قيل: إنه حكمي من حكمبن سعد العشيرة، وقيل: من النمر، وقيل: من السرة: موضع بين مكة واليمن أصيب سبياً فمرّ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وقيل: اشتراه فأعتقه، فلم يزل مع النبي حتى قبض وتحول إلى حمص، له بها دار ضيافة: مات بها سنة أربع وخمسين في زمن معاوية، وجميع مروياته ثمانية وعشرون حديثاً اهـ. انفرد مسلم بالإخراج عنه عن البخاري فأخرج له عشرة أحاديث ذكره ابن الجوزي وغيره (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: عليك) اسم فعل بمعنى خذ، والباء في (بكثرة السجود) زائدة لازمة (فإنك لن تسجد) مخلصاً (سجدة) أي: في ضمن ركعة أو لنحو تلاوة أو شكر، وإلا فالتعبد بالسجدة المنفردة غير مشروع (إلا رفعك الله بها درجة) أيّ درجة (وحط عنك بها خطيئة) أيّ: خطيئة. وسبب رواية ثوبان لهذا الحديث أن معدانبن طلحة قال: «أتيت ثوبان فقلت: أخبرني بعمل أعمل به يدخلني الله به الجنة، أو قال: بأحبّ الأعمال إلىالله، فسكت، ثم سأله فسكت، ثم سأله الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عليك فذكره، وفي آخره: فلقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال ثوبان» (رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» : ورواه

أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ثوبان وأبي الدرداء. وهذان الحديثان ظاهران في أن تكثير السجود أفضل من طول القيام، وهو أحد مذاهب ثلاثة في ذلك، أصحها أن تطويل القيام أفضل، وقد بسطت الكلام في ذلك في كتاب الصلاة من شرح الأذكار.
108 - (الرابع عشر: عن أبي صفوان) بفتح المهملة وسكون الفاء، وقيل: أبو بسر (عبد ابن بسر الأسلمي) قال الكازروني في «شرح المشارق» «المازني» وجرى عليه العامري في «الرياض» لكن في «أسد الغابة» بعد أن نقل ذلك عن ابن منده قال: وهذا لا يستقيم: فإن سليمان أخو مازن وليس لعبد الله حلف في سليم حتى ينسب إليهم بالحلف. كان (رضي الله عنه) ممن صلى للقبلتين، ووضع يده على رأسه ودعا له وقال: يعيش هذا الغلام قرناً فعاش مائة سنة، وقال: لا يموت حتى يذهب هذا الثؤلول من وجهه فلم يمت حتى ذهب الثؤلول من وجهه» قال ابن الأثير: صحب النبي هو وأبوه وأمه وأخوه عطية وأخته الشماء، وحينئذٍ فكان حق المصنف أن يقول رضي الله عنهما.
وفي «التقريب» للحافظ ابن حجر: صحابي صغير له ولأبيه صحبة، توفي سنة ثمان وثمانين عن أربع وتسعين سنة، وقيل: مات بحمص، وهو آخر من مات بها بل بالشام من الصحابة سنة ست وتسعين عن مائة سنة، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين حديثاً، أخرج له البخاري حديثاً، ومسلم آخر (قال: قال رسول الله: خير الناس) أي: أفضلهم (من طال عمره وحسن عمله) فاكتسب في طول الأيام ما يقرّبه إلى مولاه ويوصله إلى رضاه، وحسن العمل الإتيان به مستوفياً للشروط والأركان والمكملات (رواه الترمذي وقال حديث حسن) وكذا رواه أحمد.
وفي بعض النسخ: رواه مسلم والترمذي، وهو من غلط النساخ (بسر بضم الباء) أي: الموحدة، وكان الإتيان بذلك أولى لبعده عن الاحتمال في الصورة الخطية أهي الموحدة أم المثناة الفوقية أم التحتية (وبالسين المهملة) وراء.

109 - (الخامس عشر: عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي) أي: أخو والدي؛ إذ هو أنسبن مالكبن النضر وعمه (أنسبن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر) الإضافة لأدنى ملابسة: أي الكائن فيها، وبدل المحل المعروف، قيل سمي باسم بئر ثم، وقيل: لغير ذلك (فقال) متحسراً (يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتل المشركين) صفة قتال والعائد محذوف أي فيه (لئن) اللام موطئة للقسم المحذوف أي وا لئن، و (ا) فاعل لفعل محذوف هو فعل الشرط وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه (أشهدني) أحضرني (قتال المشركين) يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، وأن يكون مضافاً لمفعوله، وحذف الضمير الدال عليه تنزيهاً له أن يذكر في مقابلتهم (ليرين الله ما أصنع) جواب القسم والنون للتوكيد.

قال القرطبي في «المفهم» : هذا الكلام يتضمن أنه ألزم نفسه إلزاماً مؤكداً هو الإبلاغ في الجهاد والانتهاض فيه والإبلاغ في بذل ما يقدر عليه، ولم يصرح بذلك مخافة ما يتوقع من التقصير في ذلك وتبرياً من حوله وقوته، ولذا قال في رواية: «فهاب أن يقول غيرها» ومع ذلك نوى بقلبه وصمم على ذلك بصحيح قصده ولذا سماه الله عهداً فقال: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (الأحزاب: 23) اهـ (فلما كان يوم أحد) برفع يوم على أن «كان» تامة وبنصبه على الظرفية والمعنى: يوم قتال أحد، أو أراد باليوم الوقعة (انكشف المسلمون) بما وقع لهم من ترك منازلهم التي أنزلهم النبي فيها حال النصافّ للحرب ونهاهم عن التحول عنها فلما انكسر المشركون وانهزموا نزل بعض أولئك الأقوام عن تلك المنازل فكان في المخالفة سبب انهزامهم.
(فقال) أنس: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء: يعني أصحابه) المسلمين من الفرار (وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء: يعني المشركين) من قتال النبي ومن معه من المؤمنين (ثم تقدم) إلى القتال (فاستقبله سعدبن معاذ) منهزماً (فقال يا سعد) يجوز ضمه وفتحه، لأنه وصف بقوله: (ابن معاذ) ويتعين

نصب ابن لأنه مضاف (الجنة) بالنصب: أي أريد، والرفع: أي مطلوبي (ورب النضر) بفتح النون وإسكان المعجمة: يعني أباه، وكل ما كان على هذه الصورة معرفاً فبالضاد المعجمة، ومنكراً فبالمهملة (إني أجد ريحها) أي: الجنة (من دون أحد) أي من مكان أقرب منه، يحتمل أن يكون على الحقيقة وأنه وجد ريحها، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه، فيكون المعنى: إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فاشتاق لها (قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع) أي: أن أصنع ما صنع، ورواية مسلم: «فقاتلهم حتى قتل» وهي ظاهرة كما قال القرطبي في أنه قاتلهم وحده، فيكون فيه دليل على جواز ذلك بل على ندبه اهـ.
(قال أنس: فوجدنا به بضعاً) بكسر الباء وسكون الضاد المعجمة ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: ما بين الواحد إلى العشر. وسيأتي بسط الكلام فيه في باب بيان كثرة طرق الخير (وثمانين ضربة بالسيف، أو) هي: للتنويع (طعنة برمح، أو رمية) بفتح الراء المهملة: واحدة الرمي (بسهم، ووجدناه قد قتل) بالبناء للمجهول لعدم العلم بعين قاتليه (ومثل) بتشديد المثلثة (به المشركون) حتى خفي على أهله (فما عرفه أحد) منهم (إلا أخته) أي: أخت أنسبن النضر، وهي الربيع بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد التحتية (ببنانه) أي بأصابعه ومنه قوله تعالى: {أن نسوّي بنانه} (القيامة: 4) وفي رواية بشامته: (قال أنس: كنا نرى) بضم النون بمعنى نظن (أو نظن) شك من الراوي في لفظ أنس وإن كان معناهما واحداً، ففيه مزيد الاحتياط في الرواية.
وعند مسلم: فكانوا يرون الخ: يعني به أن الصحابة كانوا يظنون (أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه) وقيل: أنزلت في السبعين. وهم أهل العقبة الثانية الذين بايعوه أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فوفوا بذلك، قاله الكلبي، وقيل غير ذلك، والآية: ( {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} ) أو إلى قوله: {وما بدلوا تبديلا} (الأحزاب: 23) أي استمروا على ما التزموا ولم يقع منهم نقض فيما أبرموا

(متفق عليه) ورواه الترمذي (ليرين الله روي بضم الياء) التحتية (وكسر الراء) المهملة (أي ليظهرن الله ذلك) الذي أصنعه من الجهاد في سبيله (للناس، وروي بفتحهما ومعناه ظاهر) وفي نسخة من البخاري «ليراني ا» إبقاء ألف الفعل على أصلها وحذف نون التوكيد وإبقاء نون الوقاية عكس الرواية الأولى ومعناه كمعنى الرواية الثانية والله أعلم.
110 - (السادس عشر: عن أبي مسعود عقبةبن عمرو الأنصاري البدري) سكن بدراً ولم يشهد وقعتها على الصحيح عند جماعة من أصحاب «المغازي» والمحدثين، لكن الذي جرى. عليه البخاري في «صحيحه» أنه شهدها، ورجحه الحافظ في «فتحه» ، وشهد العقبة الثانية. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وحديثين، اتفقا على سبعة منها، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بتسعة، توفي بعد عليّ (رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة) قال في «فتح الباري» كأنه يشير إلى قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (التوبة: 103) الآية (كنا نحامل على ظهورنا) سيأتي معناه. وقال الخطابي: يريد نكلف الحمل بالأجرة لنكتسب ما نتصدق به، وفي رواية أخرى للبخاري «انطلق أحدنا إلى السوق يتحامل» (فجاء رجل) هو عبد الرحمنبن عوف (فتصدق بشيء كثير) كان ثمانية آلاف درهم أو أربعة آلاف درهم، وقيل: أربعون أوقية من الذهب (فقالوا مراء) اسم فاعل، من المراءاة: وهي العمل ليراه الناس فيكتسب منهم غرضاً دنيوياً (وجاء رجل) هو أبو عقيل، وقيل: غيره (فتصدق بصاع) هو أربعة أمداد نبوية فيكون خمسة أرطال وثلثا بغدادية، وكان تحصيله له بأن أجر نفسه على النزع من البئر بالحبل بصاعين من تمر، فذهب بصاع لأهله وتصدق بالآخر (فقالوا: إن الله لغنيّ عن صاع هذا) . سمي من اللامزين في «مغازي الواقدي» : معتببن قشير وعبد الرحمنبن نبتل بنون

ومثناة فوقية مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة ثم لام كذا في «فتح الباري» . فنزل: الذين مبتدأ وخبره سخر الله منهم ( {يلمزون} ) أي: يعيبون ( {المطوّعين} ) بتشديد الطاء المهملة وأصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء: أي: المتنفلين ( {من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم} ) (التوبة: 79) طاقتهم فيأتون به (الآية) إلى قوله: {ولهم عذاب أليم} (البقرة: 10) (متفق عليه) ورواه النسائي وابن مردويه وغيرهم (ونحامل بضم النون وبالحاء المهملة) وكسر الميم (أي: يحمل أحدنا على
ظهره بالأجرة) طلباً لتحصيل ما يتوصل به إلى الصدقة (ويتصدق بها) طلباً لمرضاة الله تعالى. فالصيغة للمبالغة، ففيه أن العبد يطيع مولاه جهده وطاقته وحسب قدرته واستطاعته.

111 - (السابع عشر: عن سعيدبن عبد العزيز) التنوخي، مفتي دمشق وعالمها، قرأ على ابن عامر وسمع مكحولاً وسأل عطاء لما حج. قال أحمد هو والأوزاعي عندي سواء. كان بكاءً خوافاً، سئل فقال: ما قمت إلى صلاة إلا مثلت لي جهنم. وقال أبو مسهر: سمعته يقول: مالي كتاب. وقال سفيان: ثقة ثبت، مات سنة سبع وستين ومائة من أبناء الثمانين، روى له مسلم وأصحاب السنن الأربعة (عن ربيعة) بوزن قبيلة (ابن يزيد) القصير، يكنى ربيعة بأبي شعيب. وهو فقيه أهل دمشق مع مكحول. قال فرجبن فضالة: كان يفضل على مكحول. استشهد بأفريقية سنة اثنتي عشرة ومائة، روى له الستة (عن أبي إدريس الخولاني) بفتح

الخاء المعجمة وسكون الواو نسبة لخولان قبيلة نزلت بالشام واسمه عائذ الله قال سعيدبن عبد العزيز: كان عالم أهل الشام بعد أبي الدرداء، ولد يوم حنين. ومات سنة ثمانين، روى له الستة ذكر هذا الذهبي في «الكاشف» (عن أبي ذرّ جندب) بضم الجيم وفتح الدال (ابن جنادة) وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) أبو باب المراقبة (عن النبيّ فيما يروى) عن جبريل كما في الأذكار وغيرها وهو كذلك في بعض طرقه كما نبه عليه الحافظ العلائي (عن الله تبارك) قال في «الصحاح» : أي بارك مثل قاتل وتقاتل، إلا أن فاعل يتعدى وتفاعل لا يتعدى (وتعالى) وهذا من الأحاديث القدسية وسبق الفرق بينها وبين القرآن في باب الصبر (أنه قال: يا عبادي) بكسر أوله وتخفيف ثانيه وهو أحد جموع لفظ: عبد، وله عشرون جمعاً ذكرتها نظماً في أول «شرح الأذكار» . وهو هنا وفيما يأتي وفي نظائره يتناول الأحرار والأرقاء من الذكور، وكذا من النساء إجماعاً لكن لا وضعاً بل بقرينة التكليف ( {إنّي حرّمت الظلم على نفسي} ) .
قال ابن القيم: تحريم الله الفعل على نفسه يستلزم عدم وقوعه، ثم قال: وإذا كان معقولاً من الإنسان أن يأمر نفسه وينهاها كما قال تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف: 53) وكما قال: {ونهى النفس عن الهوى} (النازعات: 40) مع كونه تحت أمر غيره، فالآمر الناهي الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يستحيل في حقه أن يحرم على نفسه أو يكتب عليها فيحرم على نفسه بنفسه ويكتب على نفسه ولا يلتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة، اهـ ملخصاً. وقد نقلت كلامه برمته في أواخر «شرح الأذكار» ، وهو يقتضي أن الظلم متصورّ منه تعالى إلا أنه منع منه نفسه، فلا يفعله عدلاً منه وتنزّهاً عنه. قال جمع: واعترض بأنه إن أراد جوازه بناء على تفسيره بما هو ظلم عند العقل لو خلي نفسه من حيث عدم مطابقته لقضيته فله نوع احتمال، والجمهور على استحالة تصوّر الظلم في حقه تعالى، إذ هو لغة: وضع الشيء في غير محله. وعرفاً: التصرف في حق الغير بغير حق، أو مجاوزه الحد، وهو بمعنييه محال في حقه تعالى، إذ ليس فوقه من يطيعه تعالى حتى يحدّ له حداً فيقال إنه جاوزه، ولا حق لأحد معه سبحانه، بل هو الذي خلق المالكين وأملاكهم وتفضل عليهم بها وحدّ لهمّ حدوداً وحرم وأحل، فلا حاكم يتعقبه ولا حق بترتب عليه، تعالى عن ذلك، ولاستحالته في حقه تعالى. قال بعضهم: سمى تقدسه عن

الظلم تحريماً لمشابهته. الممنوع في تحقق العدم. قيل: قضية هذا الحديث جواز إطلاق لفظ النفس عليه تعالى. قال بعضهم: وهو ظاهر حيث كان من باب المقابلة كما هنا، إذ المعنى: حرمته على نفسي فنفوسكم بالأولى كما أفاده قوله: (وجعلته بينكم محرماً) أما إطلاقه في محل لا مقابلة فيه فلا يظهر جوازه لإبهامه حقيقة النفس وهي محال عليه تعالى. وقيل: يجوز إطلاقه عليه بناء على أنه مأخوذ من النفاسة، ولا يشكل على الأول إطلاق الذات عليه تعالى في قول حبيب رضي الله عنه عند إرادة قتله: وذلك
في ذات الإله، لأن ذات الشيء حقيقته فلا إشعار فيها بحدوث، بخلاف لفظ النفس فإن يشعر بالتنفس والحدوث، فامتنع إطلاقه عليه إلا في مقام المقابلة، إذ هو قرينة ظاهرة على أن المراد به في حقه تعالى غير حقيقته وما يتبادر منه. وأيضاً ففي إطلاقه عليه تعالى من غير مقابلة إبهام شمول قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} (

آل عمران: 185) له، تعالى الله عن ذلك (وجعلته بينكم محرّماً) أي: حكمت بتحريمه عليكم وهذا مجمع عليه في كل ملة لاتفاق سائر الملل على مراعاة حفظ الأنفس فالأنساب فالأعراض فالعقول فالأموال. والظلم قد يقع في هذه أو بعضها، وأعلاه الشرك. قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: 13) وهو المراد بالظلم في أكثر الآيات، ثم يليه المعاصي على اختلاف أنواعها (فلا تظالموا) بفتح التاء وتخفيف الظاء على الأشهر، وروي بتشديدها ففيه حذف إحدى التاءين وإدغامها في الظاء: أي: لا يظلم بعضكم بعضاً، وهذا توكيد لقوله: ( {وجعلته بينكم محرّماً} ) وزيادة في تغليظ تحريمه (يا عبادي) كرّر النداء زيادة في تشريفهم ولذا أضافهم إليه وتنبيهاً على فخامة ما بعده، وجمعه لإفادة الاستغراق (كلكم ضالّ) أي: غافل عن الشرائع قبل إرسال الرسل، أو ضال عن الحق لو ترك ونفسه (إلا من هديته) من الضلال بالتوفيق للإيمان بما جاءت به الرسل على المعنى الأول أو للوصول إلى الحق بالنظر الموصل إلى معرفة الله تعالى وامتثال ما جاء من عنده على المعنى الثاني وعلى كل من المعنيين فلا ينافي حديث «كل مولود يولد على الفطرة» لأن ذلك ضلال ضارىء على الفطرة الأولى كما يرشد إليه حديث «خلق الله الخلق على معرفته فاغتالهم الشيطان» والأصح أن المراد من معنى خبر «كل مولود الخ» : أن كل مولود يخلق متهيئاً للإسلام، فمن كان أبواه أو أحدهما مسلماً استمرّ عليه في أحكام الدارين. وإن كانا كافرين جرى عليه حكمهما فيتبعهما في أحكام الدنيا وهذا معنى
«فيهوّدانه

ونصرانه» أي: يحكم له بحكمهما في الدنيا فإذا بلغ مستمراً على الكفر حكم له به فيهما. واختلف أيضاً فيمن مات صغيراً، والأصح أنه في الجنة.
والحاصل أن الإنسان مفطور على قبول الإسلام والتهيؤ له بالقوّة، لكن لا بد أن يتعلمه بالفعل فإنه قبل التعليم جاهل، قال تعالى: {وا أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} (النحل: 78) فمن هداه سبب له من يعلمه الهدى فصار مهدياً بالفعل بعد أن كان مهدياً بالقوة، ومن خذله والعياذ با قيض له من يعلمه ما يغير فطرته بأمر بتهوّد أو تنصر أو تمجس.
قال المصنف: وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا. وسائر أهل السنة أن المهتدي هو من هداه الله وبهدي الله اهتدى وبإرادة الله تعالى ذلك، وأنه سبحانه أراد هداية بعض عباده وهم المهتدون، ولم يرد هداية الآخر ولو أرادها لاهتدى، قال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} (يونس: 99) (فاستهدوني) اطلبوا مني الهداية بمعنى الدلالة على طريق الحق والإيصال إليها معتقدين أنها لا تكون إلا من فضلي (أهدكم) أنصب لكم أدلة ذلك الواضحة وأوصل من شئت إيصاله في سابق العلم القديم الأزلي. وحكمة طلبه تعالى منا السؤال للهداية إظهار الافتقار منا والإذعان والإعلام بأنه لو هداه قبل أن يسأله لربما قال: إني أوتيته على علم عندي فيضلّ بذلك، فإذا سأل ربه فقد اعترف على نفسه بالعبودية ولمولاه بالربوبية، وهذا مقام شريف لا يتفطن له إلا الموفقون. وهذا البيان طريق حصول النفع الديني ودفع الضرر من ذلك، وقدمه اهتماماً واحتفالاً بشأنه (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته) لأن الناس كلهم عبيد لا ملك لهم في الحقيقة، وخزائن الرزق بيده، فمن لم يطعمه بفضله بقي جائعاً بعدله، إذ ليس عليه إطعام أحد، فقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود: 6) التزام منه تفضلاً، لا أنه عليه واجب بالأصالة، ولا يمنع نسبة الإطعام إليه ما يشاهد من ترتب الأرزاق على أسبابها الظاهرة من أنواع الكسب لأنه تعالى المقدر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة، فالجاهل محجوب بالظاهر عن الباطن، والعارف الكامل لا يحجبه ظاهر عن باطن ولا عكسه بل يعطي كل مقام حقه (فاستطعموني) أي: سلوني واطلبوا مني الطعام (أطعمكم) أي: أيسر لكم أسباب تحصيله إذ العالم جماده وحيوانه مطيع تعالى

طاعة العبد لسيده، فتصرّفاته تعالى في العالم عجيبة لمن تدبرها، فيسخر السحاب لبعض الأماكن، ويحرّك قلب فلان لإعطاء فلان، ويحوج فلان لفلان، وفيه تأديب للفقراء كأنه قال: لا تطلبوا
النعمة من غيري فإن من تستطعمونهم أنا الذي أطعمهم فاستطعموني أطعكم (يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم) وفي هذا جميعه أوفي تنبيه وأظهر على افتقار سائر خلقه تعالى إليه وعجزهم عن جلب منافعهم ودفع مضارّهم إلا أن ييسر لهم ما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرّهم، فلا حول ولا قوة إلا با ولا تمسك إلا بسببه، وهذان مثالان لدفع الضرر الدنيوي وجلب النفع في ذلك، واقتصر عليهما لكمال حاجة الإنسان إليهما. (يا عبادي إنكم تخطئون) .
قال المصنف بضم التاء، وروي بفتحها وفتح الطاء، يقال خطىء يخطأ: إذا فعل ما يأثم به فهو خاطىء، ومنه قوله تعالى: {واستغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} (يوسف: 97) ويقال في الإثم أيضاً أخطأ فهما صحيحان اهـ. والمخاطب بهذا هنا غير معصوم (بالليل والنهار) هو من باب المقابلة لاستحالة وقوع الخطأ من كل منهم ليلاً ونهاراً (وأنا أغفر الذنوب جميعاً) ما عدا الشرك والذي لا يشاء مغفرته، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) وفي اعتراض هذه الجملة مع التأكيد فيها بشيئين: أل الاستغراقية، وجميعاً المفيد كل منهما العموم غاية الرجاء للمذنبين حتى لا يقنط منهم أحد من رحمة الله تعالى لعظم ذنبه (فاستغفروني أغفر لكم) أصل الغفر: الستر فغفر الذنب: ستره ومحو أثره وأمن عاقبته، وحكمة التوطئة لما بعد الفاء بما قبلها بيان أن غير المعصوم والمحفوظ لا ينفك غالباً عن المعصية، فحينئذٍ يلزمه أن يجدد لكل ذنب ولو صغيرة توبة وهي المرادة هنا من الاستغفار، إذ ليس فيه مع عدمها كبير فائدة، وشتان بين ما يمحوه بالكلية وهو التوبة النصوح وبين ما يخفف عقوبته أو يؤخرها إلى أجل، وهو مجرد الاستغفار (يا عبادي إنكم

لن تبلغوا ضري فتضرونيّ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) لما قام من الإجماع والبرهان على أنه تعالى منزّه مقدس غنيّ بذاته لا يمكن أن يلحقه ضرّ ولا نفع، فهو تعالى إن أحسن إلى عباده بغاية وجوه الإحسان غير محتاج إلى مكافأتهم بجلب نفع أو دفع ضرّ، ومن ثم قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56) ونفع عباداتهم إنما يعود عليهم كما قال تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه) ومحبته تعالى لها وفرحة بها لكمال رحمته بهم ورأفته عليهم. وما اقتضاه ظاهر الحديث من أن لضره ونفعه غاية لكن لا يبلغها العباد متروك بما دل عليه الإجماع والبرهان من غناه المطلق، أو أنه من باب على لا حب لا يهتدي بمناره أي: لا
منار له فيتهدي به. والمعنى: لا يتعلق بي ضرّ ولا نفع فتضروني أو تنفعوني، لأنه تعالى غنيّ مطلق والعبد فقير مطلق (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم) سموا بذلك لظهورهم أو أنهم يؤنسون (وجنكم) سموا به لاجتنانهم أي اختفائهم (كانوا على) تقوى (قلب اتقى رجل واحد منكم) وفي نسخة «على أتقى قلب رجل» وكذا قرينة الآتي، قيل: أراد به هنا محمداً (ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) أي: لا يعود نفع ذلك إلى الله بأن يزيد في ملكه، بل نفعه قاصر على فاعله (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على) فجور (أفجر قلب رجل واحد) أي: على صورته، لما قيل إن المراد إبليس لعنهالله، وفي ترك الخطاب هنا تنبيه على أن الأدب فيه أن لا يضاف المكروه للمخاطب (ما نقص ذلك) العصيان (من) كمال (ملكي شيئاً) ففي ذلك إشارة إلى أن ملكه تعالى على غاية الكمال، لا يزيد بطاعة جميع الخلق وكونهم على أكمل صفات البر والتقوى، ولا ينقص بمعصيتهم، لأنه تعالى الغنيّ المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، الكامل فلا نقص يلحقه بوجه (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) أي: أرض واحدة ومقام واحد (فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك)

أي: إعطاء كل سائل مسئوله (مما عندي) من الخزائن الإلهية (إلا كما ينقص المخيط) هو بكسر فسكون ففتح: الإبرة (إذا أدخل البحر) وهو في رأي العين لا ينقص شيئاً من البحر، فكذا الإعطاء من الخزائن الإلهية لا ينقصها شيئاً البتة، لأنها من رحمته وكرمه وهما صفتان قديمتان ولا نهاية لهما، والنقص مما لا يتناهى محال بخلافه مما يتناهى، كالبحر وإن جلّ وعظم وكان أكبر المرئيات في الأرض، بل قد يؤخذ العطاء الكثير من المتناهي ولا ينقص، كالنار والعلم تقتبس منهما ما شاء الله ولا ينقص منهما شيء، بل قد يزيد العلم على الإعطاء، فعلم أن قوله: «إلا كما ينقص المخيط» الخ، ليس المراد منه حقيقته وإنما هو تمثيل يقرب إلى الفهم
ليعلم منه أنه لا ينقص في تلك الخزائن البتة، لا لعدم نقص ماء البحر من غرز المخيط، فالجامع بين المشبه والمشبه به عدم النقص من حيث المشاهدة الصورية، فهما وإن افترقا في أنا إذا نظرنا إليهما بعين الحقيقة وجدنا البحر ينقص بهذا الشيء الحقير المأخوذ منه الذي لا يدرك لنا، وتلك الخزائن لا ينقصها شيء مما أفاضه الله تعالى منها من حين خلق السموات والأرضين إلى انقضاء هذا العالم، ثم من حين بعثه إلا ما لا نهاية له، لما تقرّر من استحالة نقص ما لا يتناهى، وفي هذا تنبيه وأيّ للخلق على إدامتهم لسؤاله تعالى مع إعظام الرغبة وتوسيع المسألة فلا يختصر سائل بل يسأل ما أحب، لما تقرّر أن خزائن النعم سحاء الليل والنهار لا ينقصها الإعطاء وإن جلّ وعظم.
وقيل: إن ذلك إشارة إلى النعمة المخلوقة وهي يتصوّر فيها النقص كالبحر. ونقص استعمل لازماً كنقص المال ومتعدياً كما هنا، إذ مفعول الماضي والمضارع محذوف بدليل السياق. (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها) أي: أضبطها (لكم) بعلمي وملائكتي الحفظة واحتيج إليهم معه لا لنقصه عن الإحصاء بل ليكونوا شهداء بينه وبين خلقه، وقد يضم إليهم شهادة الأعضاء زيادة في العدل، والحصر المستفاد من إنما هو بالنسبة لجزاء العمل، أي: لا جزاء ينقسم إلى خير وغيره إلا عن عمل يكون سبباً له فلا ينافي المزيد عليه الثابت بالنص في قوله تعالى: {ولدينا مزيد} (ق: 35) وبالإجماع لأنه ليس في حديث الباب تعرض لذلك بنفي ولا إثبات، وقد صحت فيه نصوص أخرى لا تعارض لها فوجب الأخذ بها (ثم أوفيكم إياها) أي: جزاءها في الآخرة على حد {وإنما توفون أجوركم يوم

القيامة} (آل عمران: 185) فلما حذف المضاف انقلب المجرور منفصلاً منصوباً، أو في الدنيا أيضاً لما روي أن النبيّ فسر ذلك بأن المؤمنين يجازون بسيئاتهم في الدنيا ويدخلون الجنة بحسناتهم (فمن وجد خيراً) أي: ثواباً ونعيماً بأن وفق لأسبابهما أو حياة طيبة هنيئة مريئة (فليحمد ا) على توفيقه للطاعات التي ترتب عليها ذلك الخير والثواب فضلاً منه ورحمة، وعلى إسدائه ما وصل إليه من عظيم المبرّات، فإن أريد بذلك الآخرة فقط كان الأمر والنهي في ذلك بمعنى الإخبار: أي: من وجد خيراً حمد الله عليه، ومن وجد غيره لام نفسه حيث لا ينفع الملام. وجاء في آيات الإخبار عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله وعن أهل النار بأنهم يلومون أنفسهم (ومن وجد غير ذلك) أي: شراً ولم يذكره بلفظه تعليماً لنا كيفية الأدب في النطق بالكتابة عما يؤذي، ومثله ما يستقبح ويستحي من ذكره، وإشارة إلى أنه إذا اجتنب لفظه فكيف الوقوع فيه، وإلى أنه تعالى حيّ كريم يحبّ الستر ويغفر الذنب فلا يعاجل بالعقوبة ولا يهتك الستر (فلا يلومن إلا نفسه) فإنها آثرت
شهواتها ومستلذاتها على رضا مولاها: فاستحقت أن يعاملها بمظهر عدله، وأن يحرمها مزايا جوده وفضله، نسأل الله العافية من ذلك، وأن يمن علينا بالسلامة من خوض غمرة هذه المهالك، إلى أن نلقاه آمنين، مبشرين بقربه ورضاه آمين. ووجه ختم الحديث بهذه الجملة التنبيه على أن عدم الاستقلال بالإطعام والستر لا يناقض التكليف بالفعل تارة وبالترك أخرى، لأنا وإن علمنا أن لا نستقل لكننا نحس بالوجدان للفرق بين الحركة الاضطرارية كحركة المرتعش والاختيارية كحركة التسليم، فهذه التفرقة راجعة إلى ممكن محسوس مشاهد وأمر معتاد يوجد مع الاختيار دون الاضطرار، وهذا هو مورد التكليف المعبر عنه بالكسب فلا تناقض ولا تعسف.

والحاصل أن المعاصي التي ترتب عليها العقاب وإن كانت بقدر الله وخذلانه فهي بكسب العبد فليلم نفسه لتفريطه بالكسب القبيح (قال سعيد) بن عبد العزيز (كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا) بالمثلثة بعد الجيم، أي: جلس (على ركبتيه) تعظيماً له وإجلالاً (رواه مسلم) وهو حديث عظيم رباني مشتمل على قواعد عظيمة في أصول الدين وفروعه وآدابه ولطيف الغيوب وغيرها، وقد ختم به المصنف أذكاره وبينت في «شرحه» حكمة ذلك، وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي، وقد بسطت الكلام ثمة على بيان

مخرّجيه واختلافهم في رواياتهم بما فيه بسط وطول (وروينا عن الإمام أحمد ابن حنبل قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث) .
قال السخاوي في «تخريج الأربعين» الحديث التي جمعها المصنف، وكذا قال أبو مسهر نفسه فيما حدث أبو الحسن على ابن إسحاق البحري المادراني عن أبي بكر محمدبن إسحاق الصغاني: شيخ مسلم فيه عنه.





* * *
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في المجاهدة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب الشفاعة
» دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في الاقتصاد
» دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في النصيحة
» دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في اليقين
» دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين باب في الاستقامة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: السيره النبويه والحديث :: شرح الحديث المقروء-
انتقل الى: