7 - باب في اليقين
قال السيد في كتاب «تعريفات العلوم» : اليقين في اللغة: العلم الذي لا شك معه. وفي الاصطلاح: اعتقاد الشيء أنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا، وهو مطابق للواقع غير ممكن الزوال. وعند أهل الحقيقة رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبيان، وقيل: مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار (والتوكل) عرفه الشيخ العارف با أبو مدين بقوله في حكمه: التوكل وثوقك بالمضمون استبدالك الحركة بالسكون. وعرّفه غيره بقوله: اعتمادك على مولاك ورجوعك إليه، وخروجك عن حولك وقوّتك وانطراحك بين يديه. وقيل: اكتفاؤك بعلم الله فيك عن تعلق القلب بسواه، ورجوعك في كل الأمور إلىالله.
عباراتنا شتى وحسنك واحد
وكل إلى ذاك الجمال يشير
كذا في «شرح الحكم» المذكورة لعمي الشيخ العارف با أحمدبن علان الصديقي. وفي «شرح مسلم» للمصنف، اختلفت عبارات السلف والخلف في حقيقة التوكل، فحكى الإمام أبو جعفر الطبري وغيره عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو عدوّ حتى لا يطلب الرزق ثقة بضمان الله رزقه. وقالت طائفة: هو الثقة با والإيقان بأن قضاءه نافذ، واتباع سنة نبيه والسعي فيما لا بد منه من مطعم ومشرب، والتحرّز من العدوّ كما فعله الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
قال القاضي عياض: وهذا المذهب هو اختيار الطبري وعامة الفقهاء، والأول مذهب بعض المتصوفة وأصحاب علم القلوب والإشارات. وذهب المحققون منهم إلى نحو
مذهب الجمهور، ولكن لا يصح عندهم التوكل مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته والثقة بأنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضرّاً والكل منالله، هذا كلام القاضي. وقال القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي توكل القلب بعد ما تحقق العبد أن التقدير من فعل الله عزّ وجلّ، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسر شيء فبتيسيره. وقال سهلبن عبد الله التوكل في الاسترسال مع الله على ما يريد. وقال أبو عثمان الحيري: التوكل الاكتفاء با تعالى مع الاعتماد عليه اهـ.
(قال الله تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب} ) من الكفار ( {قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله} ) من الابتلاء والنصر ( {وصدق الله ورسوله} ) في الوعد ( {وما زادهم} ) ذلك ( {إلا إيماناً} ) تصديقاً بوعد الله ( {وتسليماً} ) لأمره.
(وقال تعالى: {الذين} ) بدل من الذين قبله أو نعت له ( {قال لهم الناس} ) أي: نعيمبن مسعود الأشجعي ( {إن الناس} ) أبا سفيان وأصحابه ( {قد جمعوا لكم} ) الجموع ليستأصلوكم ( {فاخشوهم} ) ولا تأتوهم ( {فزادهم} ) ذلك القول ( {إيماناً} ) تصديقاً با ويقيناً ( {وقالوا: حسبنا ا} ) كافنا أمرهم ( {ونعم الوكيل} ) المفوض إليه الأمر هو، وخرجوا مع النبيّ فوافوا سوق بدر الذي كان واعد النبيّ كفار قريش يوم أحد عليه، وألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وأصحابه فلم يأتوا، وكان مع الصحابة تجارات فباعوا وربحوا، قال تعالى: ( {فانقلبوا} ) رجعوا من بدر ( {بنعمة من الله وفضل} ) بسلامة وربح ( {لم يمسهم سوء} ) من قتل أو جرح ( {واتبعوا رضوان ا} ) بطاعته وطاعة رسوله في الخروج ( {وا ذو فضل عظيم} ) على أهل طاعته، وقد بسطت الكلام في هذه الآية في كتاب الجهاد من «شرح الأذكار» .
(وقال تعالى: {وتوكل} ) فيه إشارة لشرف الموكل، وأوجبه بعضهم مطلقاً، والظاهر وجوبه باعتبار لا مطلقاً. أما التوكل بطرح الأسباب والاكتساب فهو من شأن أهل الكمال وهو المندوب، وفي «المفهم» للقرطبي: المتوكلون على حالين: الحال الأول حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من الأسباب بقلبه ولا يتعاطاها إلا بحكم الأمر. والحال الثاني حال غير المتمكن، وهو الذي يقع له الالتفات إلى الأسباب أحياناً غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأزواق الحالية، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه تعالى بجوده إلى مقام المتمكنين ويلحقه بدرجات العارفين اهـ. ( {على الحيّ الذي لا يموت} ) فيه إشارة إلى أن من توكل على غير الله فقد ضاع لأن الغير يموت؛ والعاقل لا ينبغي له أن يتوكل على من يموت ويفنى. وقال بعضهم: الاعتماد على الغني غايته الفقر، والاعتماد على القوّة آخره الضعف، والاعتماد على الخلق هو طريق الخذلان، ومن اعتمد على سوى الله وتوكل على غيره فقد ضيع وقته وخاب سعيه، لأن الحيّ الذي لا تجري عليه فنون العوارض دعاك إليه بألطف دعواه فقال {وتوكل على الحي الذي لا يموت} . ( {وقال تعالى: وعلى ا} ) لا على غيره ( {فليتوكل المؤمنون} ) إذ هو الحي القيوم. (وقال تعالى) : {فإذا عزمت} ) على إمضاء ما تريد بعد المشاورة ( {فتوكل على ا} ) أي: ثق به لا بالمشاورة (والآيات في الأمر بالتوكل كثيرة معلوماً) .
(وقال تعالى
في فضل التوكل وثمراته ( {ومن يتوكل على ا) فهو حسبه} أي: كافيه
(وقال تعالى) : {إنما المؤمنون} ) أي: الكاملو الإيمان ( {الذين إذ ذكر ا} ) أي وعيده ( {وجلت} ) خافت ( {قلوبهم} ) وقيل: «إذ ذكر الله وجلت قلوبهم» فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله ( {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} ) تصديقاً، وإسناد الزيادة للآيات من الإسناد للسبب ( {وعلى ربهم يتوكلون} ) يفوضون أمرهم إليه ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه (والآيات في فضل التوكل) وثمراته (كثيرة معروفة) .
(وأما الأحاديث) النبوية في فضل التوكل:
741 - (فـ) الحديث (الأول) منها (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: عرضت) بالبناء للمفعول (عليّ) بتشديد التحتية (الأمم) وفيه كمال شرفه وعرض جميع الأمم عليه صلوات الله وسلامه عليه، ولعل من حكمة ذلك ما قيل إنه مبعوث لجميع بني آدم من آدم فمن دونه، والأنبياء إنما هم نوّاب عنه في تبليغ الشرائع لأولئك الأمم، وهذا العرض يحتمل أن يكون مناماً ورؤيا الأنبياء وحي أو في اليقظة ليلة الإسراء أو غيرها، وا يكرم نبيه بما شاء (فرأيت) أبصرت إن كانت يقظة أو رؤىً حلمية إن كانت مناماً (النبي) أل فيه للماهية أي المتصف بالنبوة، ويظهر أن المراد به الرسول (ومعه الرهيط) بضم المهملة وفتح الهاء وسكون التحتية آخره طاء مهملة أيضاً. وفي «مختصر القاموس» الرهط ويحرك قوم الرجل وقبيلته، أو من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، جمعه أرهط وأرهاط وأراهط. قلت: الرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل: إلى الأربعين اهـ والجملة في محل الحال لتصديرها بالواو بناء على أن رأى الحلمية لا تنصب مفعولين وأن المنصوب الثاني بعدها في محل الحال وهو الذي رجحه ابن هشام في بعض كتبه (والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي) حال كونه (ليس معه أحد) . فإن قلت: النبي هو المخبر عن الله للخلق فأين الذين أخبرهم؟
قلت: ربما أخبر ولم يؤمن به أحد ولا يكون معه إلا المؤمن (إذ رفع) بالبناء المفعول (لي سواد) أي: أشخاص وهو كما في «مختصر القاموس» : الشخص، ومن البلدة قراها والعدد الكثير من أهلها، ومن الناس عامتهم اهـ. 5 ولذا قال القرطبي: أي: أشخاص كثيرة ويجمع على أسودة (عظيم) لكثرته (فظننت أنهم) أي: السواد الذي هو الأشخاص وباعتباره جمع الضمير العائد إليه (أمتي فقيل لي هذا) أي: السواد العظيم (موسى وقومه) أي: أمته المؤمنون (ولكن انظر إلى الأفق) بضم الهمزة والفاء وبسكونها كما في «الصحاح» ، وعبارته: الآفاق
النواحي الواحد أفق، وأفق مثل عسر وعسر انتهت، وبالقاف: الناحية.
وجوزّ الحافظ السيوطي أن يكون الأفق واحداً وجمعاً كالفلك ويجمع أيضاً على آفاق (فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم) أي: غير السواد الأول إذ النكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى غالباً (فقيل لي هذه) أي: مجموع السوادين العظيمين (أمتك) أي: المؤمنون كما تقدم نظيره (ومعهم سبعون ألفاً) يحتمل أن يكون معناه ومن أمتك غير هؤلاء سبعون ألفاً، ويحتمل أن يكون معناه وفي جملة هذه الأسودة سبعون ألفاً (يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) ويؤيد الاحتمال الثاني رواية البخاري في «صحيحه» (هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفاً) فالسبعون ألفاً من أمته بلا شك. وعذاب بفتح المهملة وبالذال المعجمة، وفي نسخة عقاب بكسر المهملة وبالقاف، وجملة يدخلون الجنة الخ صفة أو حال من سبعون لتخصيصه بالظرف قبله. فإن قلت: هل يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وإن كانوا أصحاب معاصي ومظالم؟ قلت: الذين كانوا بهذه الأوصاف الأربعة المذكورة في الحديث لا يكونون إلا عدولاً مطهرين من الذنوب أو ببركة هذه الصفات يغفر الله لهم ويعفو عنهم (ثم نهض) قبل بيان السبعين المذكورين (فدخل منزله فخاض) بالحاء والضاد المعجمتين: أي تكلم (الناس) والمراد منهم الصحابة وتناظروا (في) تعيين (أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) وفي البخاري «فأفاض الناس» وهو بمعناه يقال أفاض الناس في
الحديث إذ تباحثوا فيه وناظروا عليه وتناظروا. وفي الحديث إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله) أي: السابقون الذين صحبوه وقاموا بنصرة الدين وهجروا الأهل والأوطان لذلك (وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا) بالبناء للمفعول (في الإسلام) أي: وإن لم يرهم وفضلهم ما أشاروا
إليه بقولهم (فلم يشركوا با) فيه دليل على شرف المسلم أصالة على من كان كافراً ثم أسلم، ويدل له ما ذكره الفقهاء في تقديم من دخل آباؤه في الإسلام على من تأخر آباؤه في الدخول فيه في الإمامة (وذكروا أشياء) من الاحتمالات في التعيين (فخرج عليهم رسول الله) أو عقب خضوهم في ذلك كما تشعر به الفاء إراحة لهم من الخوض فيما لا سبيل لهم لمعرفته إلا من جهته (فقال ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون) أي: يطلبون الراقية لهم من الغير. وقد اختلف العلماء في هذا المقام مع ورود السنة فعلاً وإذناً بجواز الرقية والاسترقاء. والذي رجحه المصنف والقرطبي وغيرهما من ذلك ما قاله الخطابي وغيره أن المراد ترك ذلك توكلاً ورضاً بقضاء الله تعالى وبلائه، قال الخطابي: وهذه من أرفع درجات المتحققين بالإيمان. قال: وإلى هذا ذهب جماعة سماهم.
قال المصنف: وحاصله أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله تعالى فلم يسعو في دفع ما أوقعه بهم، ولا شك في رجحان هذه الحال وفضيلة صاحبها. وأما تطببه فلبيان الجواز اهـ. وقال القرطبي: الرقى والاسترقاء ما كان منه برقيا الجاهلية أو بما لا يعرف فواجب اجتنابه على سائر المسلمين واجتنابه حاصل من أكثرهم، فلا يكون اجتناب ذلك هو المراد هنا ولا اجتناب الرقى بأسماء الله تعالى، وبالمرويّ عن رسول الله، لأن ذلك التجاء إلى الله تعالى، قال: ويظهر لي - والله أعلم - أن المقصود اجتناب رقى خارج عن القسمين كالرقيا بأسماء الملائكة والأنبياء والصالحين كما يفعله كثير ممن يتعاطى الرقيا، فهذا ليس من قسم المحظور الذي يعم اجتنابه، ولا من قبيل الرقيا التي فيها اللجأ إلى الله تعالى، فهذا القسم المتوسط يلحق بما
يجوز فعله، غير أن تركه أولى من حيث إن الرقى بذلك تعظيم وفيه تشبيه للرقي به بالرقى بأسمائه تعالى وكلماته، فينبغي اجتنابه كاجتناب الحلف بغير الله تعالى اهـ. (ولا يتطيرون) أي: يتشاءمون بالطيور ونحوها مما يتشاءم به: أي: لا يرجعون عما عزموا عليه عند وجود ما جرت به عادة الجاهلية من التطير به والوقوف عن الفعل منه من الجوائح والسوانح وسيأتي في هذا بسط (وعلى ربهم) لا على غيره في سائر أحوالهم (يتوكلون) وهؤلاء هما القائمون بأعلى مقام التوكل بترك الأسباب وعدم معاطاتها رضا بتصرف المولى فيهم، واكتفاء بتدبيره تعالى عن تصرّف كلّ وتدبيره (فقام عكاشةبن محصن) بكسر الميم وسكون المهملة الأولى وفتح الثانية، ابن حرثان بضم المهملة وسكون مهملة بعدها مثلثة وبعد الألف نون، ابن قيسبن مرةبن كثيربن غنمبن داودبن أسدبن خزيمة (الأسدي) بفتح أوّليه والمهملتين حليف بني عبد شمس، وكان عكاشة من أفاضل الصحابة وخيارهم وشجعانهم، له ببدر المقام المشهور، وذلك أنه ضرب بالسيف في الكفار حتى انقطع، فأعطاه جزل حطب، فأخذه فهزه في يده فعاد سيفاً صارماً، فقاتل
به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ولم يزل عنده يشهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل عكاشة وهو معه، وقتل في قتال أهل الردة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قتله طليحةبن خويلد الأسدي، هذا قول أهل السير. وقال سليمان التيمي: أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني أسد سرية فقتله طليحة.
قال ابن الأثير: وهو وهم، وإنما قاله لقرب الحادثة من عهد رسول الله، وكان عكاشة يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أربع وأربعين سنة. وكان من أجمل الرجال اهـ. وقال «منا خير فارس في العرب، قالوا: ومن هو يا رسول الله؟ قال: عكاشةبن محصن» رضي الله عنه، ولقوّة يقينه وشدة حرصه على الخير ورغبته فيما عند الله تعالى سبق الصحابة كلهم (فقال: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم) يحتمل كونه منهم لدعائه له بذلك، ويحتمل لكونه كان موصوفاً بتلك الأوصاف الجميلة، ويحتمل أنه أوحى إليه بأنه منهم وفي جملة، والله أعلم بحقيقة الحال، ثم رأيت الكرماني نقل الأول قولاً عن بعضهم (ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال) له لما لم يكن عنده ما عند عكاشة من تلك الأحوال الشريفة (سبقك بها) أي: في الفضل بالدعوة إلى منزلة أصحاب هذه الأوصاف (عكاشة) وكره أن يقول له:
لست من أهل هذه الطبقة لأنه لكمال فضله لا يواجه أحداً بما يكره، فجاء بكلام موف للغرض، وفيه التعريض بالمراد.
قال الكرماني: قيل: يحتمل أن يكون سبقك عكاشة بوحي أنه يجاب فيه ولم يحصل ذلك للآخر، وقال القرطبي: لئلا يطلب كل مثل ما طلب عكاشة، فسدّ الباب بحسن ذلك الجواب. وهذا أولى مما قيل كان ذلك الرجل منافقاً لوجهين:
أحدهما: أن الأصل في الصحابة الإيمان والعدالة فلا يظن بأحد منهم خلاف الأصل ولا يسمع منه ذلك إلا بالنقل الصحيح.
752 - والثاني: أنه قلّ أن يصدر مثل هذا السؤال من منافق، إذ لا يصدر غالباً عن تصديق صحيح ويقين بما عند الله تعالى اهـ. قلت: قد صرح الخطيب بأن ذلك الرجل سعدبن عبادة كما نقله عنه الكرماني وبه يبطل ذلك القول (متفق عليه) ورواه أحمد بنحوه وليس فيه ذكر عكاشة (والرهيط بضم الراء) المهملة أوله وسكون التحتية (تصغير رهط) بفتح فسكون (وهم دون عشرة أنفس) سبق بيان الأقوال فيه والخلاف في ذلك (والأفق: الناحية والجانب) عطف مرادفـ ففي «الصحاح» الجانب الناحية وكذا الجنبة (وعكاشة بضم العين) المهملة (وتشديد الكاف) قال في «القاموس» : بوزن رمانة (وبتخفيفها) قال القرطبي: قال ثعلب: وقد تخف. قلت: ولعله منقول من عكاشة بالتخفيف: اسم لبيت النمل، أو مأخوذ من عكش الشعر يعكش: إذا التوى اهـ. (والتشديد أفصح) .
الحديث الثاني: (عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً) منصوب على المصدرية، وقيل: على الحالية: كلمة تقال للاتفاق بين الشيئين معنى ويمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر، وقد ثبت نطقه بها كما في «صحيح البخاري ومسلم» وغيرهما، وقد بسطت الكلام فيها في باب فضل الذكر من «شرح الأذكار» . والمعنى هنا: أروي الحديث الثاني رجوعاً للرواية، أو حال كوني راجعاً للرواية عن ابن عباس (أن رسول الله) بفتح الهمزة في
تأويل مصدر مبتدأ مخبر عنه بالظرف السابق (كان يقول: اللهم) أي: يا أ (لك) لا لغيرك كما يؤذن به تقديم الظرف (أسلمت) قال ابن عبد البرّ: استسلمت لحكمك وأمرك وسلمت ورضيت آمنت وصدقت وأيقنت اهـ (وبك) أي: بذاتك وما يجب لها من أوصاف الكمال (آمنت) أي: صدقت (وعليك توكلت) ركنت إليك في سائر الأمور وخرجت عن تدبيري لنفسي وحولي وقوّتي، اكتفاء بما سبقت به الإرادة وجرت به الأقدار (وإليك أنبت) من الإنابة: الرجوع، وتختص بالرجوع إلى الخير كما في «التمهيد» لابن عبد البرّ: أي: رجعت إلى عبادتك والإقبال على ما يقرّب منك. وقيل: رجعت بالتوبة واللجأ والذلة والمسكنة، وقيل: رجعت إليك في تدابير الأمور وتصاريفها فيكون بمعنى «وعليك توكلت» (وبك) أي: بما أعطيتني من البرهان والحجج القولية، أو بالنصرة ونحوها من الحجج الفعلية (خاصمت) أعداء الدين فقصمت ظهورهم بالبراهين القوية وقطعت دابرهم بالسيوف والرماح السمهرية (اللهم إني أعوذ) أعتصم وألتجيّ (بعزتك) أي: بقوتك وقدرتك وسلطانك وغلبتك (لا إله إلا أنت) جملة معترضة لتأكيد العزة والاعتصام بحبله تعالى: وقوله: (أن تضلني) أصله من أن تضلني متعلق بأعوذ، وحذف الجار من إن وأن: قياس مطرد، وتضلني بضم الفوقية من الإضلال (أنت الحي) على الدوام (القيوم) بفتح القاف وتشديد التحتية القائم بتدبير الخلق وحفظه (الذي لا يموت) بالتحتية نظراً لكونه صلة للذي، وبالفوقية نظراً لضمير الخطاب قبله وهو كالتأكيد لما
قبله، لأن من شأن القائم بالتدبير والحفظ ألا يموت، لأن من لا يحفظ حياة نفسه كيف يحفظ حياة غيره (والجن) أي: الشامل للملك (والإنس) وأتباعهم من الحيوانات والحشرات (يموتون) فيه تنبيه على سبب التوكل عليه ورد الأمر إليه دون غيره وهو أن غيره يموت: ويضمحلّ شأنه ويفوت، والتوكل إنما هو على الحيّ الذي لا يموت، فمن اعتزّ بغير الله ذلّ، ومن اهتدى بغير هدايته ضلّ، ومن اعتصم با تعالى وتوكل عليه: عزّ وجلّ (متفق عليه) ورواه النسائي أيضاً (وهذا) المذكور (لفظ مسلم) في روايته (واختصره البخاري) . فقال: عن ابن عباس أن النبي كان يقول: «أعوذ بعزتّك
لا إله إلا أنت، أنت الذي لا تموت والجن والإنس يموتون» .
763 - الحديث (الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما) قال القارىء في «شرح الحصن الحصين» : إنه موقوف خلاف ما أورده الشيخ، يعني ابن الجزري. قلت: وكأنه لما رأى أن الحديث في حكم المرفوع سكت عليه اعتماداً على أنه مرفوع في بعض طرقه اهـ (قال: حسبنا الله ونعم الوكيل) تقدم الكلام في معناها أول الكتاب (قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار) في تفسير القرطبي: قال ابن إسحاق بعد ذكر المنجنيق وما هيئوه من الحطب: فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته، فقال تعالى: إذا استعان بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الماء وهو في الهواء فقال: يا إبراهيم إن أردت أخمدت النار بالماء، فقال: لا حاجة لي فيك، فأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار، فقال لا، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: «اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس أحد يعبدك غير حسبي الله ونعم الوكيل» ثم ذكر باقي القصة (وقالها محمد حين قالوا) أي: قال الناس له ( {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} ) قضية هذا أن يكون «الذين» الواقع أول الآية وضمائر الجمع بعده مما أريد به الواحد وهو النبيّ، فيكون نظير قوله تعالى: {أم يحسدون الناس} فإن المراد منه النبي، وكذلك الناس في قوله تعالى: {قال لهم الناس} فإن المراد منه كما تقدم أول الباب نعيمبن مسعود، لكن تقدم أول الباب أن المراد من الذين وما بعده الصحابة وذلك الذي ذكره السيوطي في تكملته لتفسير الجلال المحلي ولا مخالفة، فلعل ابن عباس اقتصر عليه لأنه الأصل المتبوع (رواه
البخاري) والنسائي أيضاً (وفي رواية له) أي: البخاري (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آخر قول
إبراهيم صلى ا) على نبينا و (عليه) وعلى سائر النبيين (وسلم) هكذا ينبغي أن يقال عند ذكر باقي الأنبياء (حين ألقي في النار: حسبي ا) أي: بالإفراد، وقد جاء ذلك عن ابن إسحاق في السيرة كما تقدم: فحسبي أي: كافيّ الله (ونعم الوكيل) فهو من عطف الجملة الخبرية على مثلها، قال السيوطي في «التوشيح» لأبي نعيم في «المستخرج» إنها أول ما قاله، فلعلها أول شيء قاله وآخر شيء قاله. وقد بسطت الكلام في إعرابها وما فيه في أوائل «شرح الأذكار» وذكرت خلاصته أوائل هذا الشرح.
774 - الحديث (الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: يدخل الجنة) ظاهره مع الفائزين كما يدل عليه سياقه في مقام المدح لهم، وإلا فجميع أهل الإيمان يدخلون الجنة بوعد الله الذي لا يخلف (أقوام) جمع واحده قوم. وفي «مفردات الراغب» كما تقدم: القوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء ولذا قال تعالى {لا يسخر قوم من قوم * ولا نساء من نساء} (الحجرات: 11) وفي عامة القرآن أريد به الرجال والنساء اهـ. وظاهر أن ما نحن فيه من قبيل الثاني (أفئدتهم) في «مختصر القاموس» : الفؤاد القلب مذكراً، أو هو ما يتعلق بالمرء من كبد ورئة وقلب وجمعه أفئدة اهـ. وفي كتاب الإيمان من «شرح مسلم» للمصنف: المشهور أن الفؤاد هو القلب، وقيل: الفؤاد داخل القلب: أي: الطبقة القابلة للمعاني من العلوم وغيرها (مثل أفئدة الطير) جمع طائر ويقع على الواحد وجمعه طيور وأطيار (رواه مسلم) ورواه أحمد (قيل: معناه) أقوام (متوكلون) ففي الحديث الآتي «لو اتكلتم على الله حق اتكاله لرزقكم كما يرزق الطير» . وفيه إشارة إلى أنها لما لم تتسبب للأرزاق بتدابيرها يسر الله وصول الرزق إليها مع ضعفها وقلة حيلتها (وقيل: قلوبهم رقيقة) أي: فهي أسرع فهماً وقبولاً للخير وامتثالاً له.