الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد تحدثنا في مقال سابق عن ثلاث صفات من صفات المنافقين، وفي مقالنا هذا نكمل الحديث عن بعض الصفات الأخرى فيهم وفقا لما ورد في سورة البقرة.
الصفة الرابعة: يفسدون ويزعمون الإصلاح!
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} قال أبو العالية: أي لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية لله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. وعن مجاهد قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون. ( ابن كثير (1/52).
قال ابن جرير الطبري: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به، والإيقان بحقيقته، وكذبهم على المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، ومظاهرتهم – أي معاونتهم- أهل التكذيب بالله وملائكته وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك إفساد المنافقين في الأرض وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها...
قال ابن كثير بعد ما نقل كلام ابن جرير: وهذا الذي قاله حسن؛ فإن من الفساد في الأرض: اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما في الآية: { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض...} ثم قال في تفسير الآية أيضاً: نريد أن نداري – نداهن- الفريقين من المؤمنين والكافرين ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء كما ذكر ذلك ابن عباس.
ثم قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} أي: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً.
الصفة الخامسة: الاستهزاء بالمؤمنين الصادقين:
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} أي إذا قيل للمنافقين: آمنوا كما آمن الناس، وذلك بأن يصدقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وشرعه، كما آمن الناس الصادقون من الصحابة والتابعين ومن تبعهم في الهداية، كان الرد منهم على هذا الجواب رداً قبيحاً يدل على تعالي نفوسهم التي هي دنيئة أصلاً، فما كان منهم إلا أن قالوا مباشرة (أنؤمن كما آمن السفهاء) ويقصدون بالسفهاء: كل من آمن بالله ورسوله وصدق وعلم بما شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.. والمنافقون كانوا يأنفون ويترفعون من هذا الاستسلام للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويرونه خاصاً بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام! ومن ثم قالوا قولتهم هذه.. ومن ثم جاءهم الرد الحاسم، والتقرير الجازم: (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون). ومتى علم السفيه أنه سفيه؟ ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم؟!.
فالمنافق يرى أنه بفعله ذلك ذكيٌ عالمٌ، والكافر يظن أنه بكفره على الحق والجادة، والشيطان يزين ويزخرف الأهواء والباطل على أنها حقائق محضة، فيصدقه الطغام، ويتبعه الجهلاء وهم لا يعلمون أنهم بفعلهم ذلك قد انحرفوا عن جادة الحق وطريق الإيمان..
وهذا المعنى يتكرر في كل زمان ومكان.. وهذه الصفة الخبيثة من المنافقين لا يخلو منها عصر ولا مصر، وهي صفتهم في الاستهزاء بالمؤمنين.. فكلما أراد رجل أن يهتدي ويستقيم، وكلما أراد شاب أن يحافظ على دينه في زمن الفتن، كان أولئك له بالمرصاد: أتصدق هؤلاء... تعال معنا حتى نلعب ونلهو.. احذر أولئك فإنهم فارغون وليس لهم هم إلا مساجدهم أو مصالحهم.. ومنهم من يكرر تلك المقولة بألفاظ أخرى: هؤلاء المتدينون الذين يطلق عليهم اليوم – مطاوعة- ما دخلوا المساجد إلا لأنهم فارغون ليس لديهم أعمال وهم من رعاع الناس، ويزعمون أن من يستقيم على شرع الله تعالى مصاب بعقد نفسية...إلخ.
الصفة السادسة: موالاة الكافرين ومعاونتهم على المؤمنين:
قال تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
وهذه صفة من أخبث الصفات؛ لأنها تخالف الفطرة جملة وتفصيلاً، وهي إلى جانب كونها تخالف الفطرة التي فطر الإنسان عليها لا تليق بالرجال، أما وجه مخالفتها للفطرة فالإنسان فطر على الحق والصدق والصراحة وعدم المراوغة أو الخداع أو الظهور بأكثر من وجه أمام الناس.
وأما كونها لا تليق بالرجال: فلأن لفظ الرجل يدل على العزة والقوة وليس كل ذكر رجلاً...ولهذا مدح الله المؤمنين بأنهم رجال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ }.
والمقصود أن هذه الصفة صفة ذميمة وهي أن يكون الرجل ذا لسانين أو ذا وجهين.. فإذا ما لقي المؤمنين قال: نحن معكم وآمنا كما آمنتم بل وصلى معهم وصام وربما شاركهم في كثير من الأعمال.. وإذا ذهب إلى شياطينه – شياطين الإنس- وهم سادته وكبراؤه وأصحابه الذين هم في الأصل كفار ولا يقرون لله بالطاعة قالوا لهم
إنا معكم) أي نحن على مثل ما أنتم عليه، ولا يمكن أن نفارقكم أو نفارق ما أنتم عليه (إنما نحن مستهزؤون) أي: إنما كان موافقتنا للمؤمنين وقولنا لهم (آمنا) إنما كان ذلك منا استهزاءً وسخرية بهم؛ لأنهم أدنى منكم منزلة – بزعمهم-.
( إن بعض الناس يحسب اللؤم قوة، والمكر السيء براعة.. وهو في حقيقته ضعف وخسة.. فالقوي ليس لئيماً ولا خبيثاً.. ولا خادعاً ولا متآمراً.. ولا غمازاً في الخفاء لمازاً.. وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم، حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الجبال الرواسي: ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) وما أبأس من يستهزئ به جبار السماوات والأرض وما أشقاه!! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب، وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب، وهو يقرأ ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) فيدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته،وهذا هو الاستهزاء الرهيب، لا كاستهزائهم الهزيل الصغير).
قال قتادة رحمه الله في قول الله: (( وإذا خلوا إلى شياطينهم)) أي: إلى رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر، وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس. قال ابن جرير رحمه الله: وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (112) سورة الأنعام. وفي المسند عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن). فقلت: يا رسول الله وللإنس شياطين؟! قال: (نعم).
وقال ابن عباس في قوله تعالى: (( الله يستهزئ بهم)) أي: يسخر بهم للنقمة منهم... وقوله تعالى: ((ويمدهم في طغيانهم يعمهون)). أي يملي لهم ويزيدهم في ما هم عليه من الطغيان ثم يأخذهم كما قال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ } (55/ 56) سورة المؤمنون وقال: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} (182) سورة الأعراف. قال بعضهم: كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة، وهي في الحقيقة نقمة. والطغيان: هو المجاوزة في الشيء كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } (11) سورة الحاقة.
وقوله (يعمهون): أي في كفرهم وضلالهم الذي غمرهم دنسُه وعلاهم رجسُه يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى، وأغشاهم فلا يُبصرون رشداً، ولا يهتدون سبيلاً. قاله ابن جرير.
ثم بيَّن الله -تعالى- عاقبتهم وخِسة فعلهم ونتيجة مساوئهم السابقة، وأنهم قد خسروا بصنيعهم هذا خسراناً كبيراً، فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} أولئك: إشارة إلى من تقدمت صفاتهم الدنيئة.. (الذين اشتروا الضلالة بالهدى): أي عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة،( لقد كان الهدى مبذولاً لهم، وكان في أيديهم، ولكنهم اشتروا الضلالة بالهدى، كأغفل ما يكون المتجرون، (( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)). أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا مهتدين في صنيعهم ذلك، قال قتادة: قد – والله – رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة.
هذه بعض صفات المنافقين التي ذُكرت في أول سورة البقرة، وهناك صفات أخرى ذكرت في كثير من سور القرآن، ومنها سورة التوبة التي فضحت خبايا نفوسهم ولهذا سميت بـ( الفاضحة)، وكذا سورة (المنافقون)، لعلنا نتعرض لها في مقالات أخرى قادمة إن شاء الله تعالى.
نسأل الله تعالى أن يجنبنا مساوئ الأخلاق والأفعال والأقوال، وأن يطهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.