ملخص الخطبة
تقلب أحوال الإنسان في مراحل عمره وحاجته إلى الوصايا والتوجيه , والتوبة النصوح - مشروعية الوصية عند الموت – وتأكدها لمن عليه حقوق وديون – التحذير من وصية الإثم والمضارة بالوصية , وصور ذلك – آداب الوصية , ونموذج لوصية أوصى بها بعض السلف
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وعظموا أمره واجتنبوا مساخطه، وخذوا من أيامكم عبراً، واستوصوا بأنفسكم وأهليكم خيراً.
أيها المسلمون، ابنُ آدم يتقلب في هذه الحياة ـ ما أمد الله له من العمر ـ يتقلب مراحل وأطواراً من الطفولة والشباب، والكهولة والهرم، يمر خلالها بأحوال من العسر واليسر، والفقر والغنى، والحزن والسرور، والصحة والمرض، والقوة والضعف، وهو في جميع هذه الأطوار، وفي كل تلك الأحوال بحاجة إلى التذكر والتذكير، والوصايا والتوجيه. بحاجةٍ إلى التوبة النصوح، والثبات على الحق، وتحري العدل، واحتساب الثواب، وإحسان الظن بربه، متقلباً بين الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلاْلِيمُ [الحجر:49،50]، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ٱلاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ [الزمر:9].
كل ابن آدم بحاجة إلى هذا.. غير أن هناك فئاتٍ من الغافلين والمرضى والعجزة والمسنين ذوي حقوقٍ وأموالٍ. قد ينسيهم حرصهم على حقوقهم، وتنميتهم أموالهم ـ ينسيهم ذلك ـ حقوق الآخرين من أصحاب الديون والودائع، أو ذوي الفقر والحاجة من الأقربين وغير الأقربين، فإذا ما أصابته مصيبةٌ أو أحسَّ بدنوِّ أجله؛ راجع نفسه، وندم على ما أسلف، ولقد علم الله اللطيف المنان ضعف هذا المخلوق، فهيأ له برحمته فسحة، وفتح له باب أمل من أجل أن يعمل صالحاً، وكما شرع له ميدان حسنات حال الحياة؛ فقد شرع له فرصاً بعد الممات، وفي مثل هذا جاء قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[1] رواه مسلم وغيره واللفظ له.
وفي حديث آخر: ((إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم))[2] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة.
ولمثل هذا شرعت الوصية، وتكاثرت النصوص في الحث عليها. إذا وُجد مقتضيها: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106].
وفي الحديث الصحيح: عن ابن عمر - رضي الله عنهما – عن النبي أنه قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين))[3] وفي رواية: ((ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة)). قال عبد الله بن عمر: ((ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك، إلا وعندي وصيتي))[4] متفق عليه، واللفظ لمسلم، وفي حديث آخر حسن الإسناد: ((المحروم من حرم وصيته))[5]، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من صواب الأمر للمرء أن لا تفارقه وصيته. ((ومن مات وقد أوصى مات على سبيلٍ وسنة)) حديث عند ابن ماجه[6].
معاشر الأحبة، من لزمته حقوق شرعية لله أو لعباد الله، من زكواتٍ وكفاراتٍ وديونٍ وودائع، فليسارع في أدائها، وليبادر إلى قضائها، ما دام قادراً على الأداء، متمكناً من القضاء. وإلا فليوصِ بذلك وصيةً واضحةً في لفظها ومعناها، مجودة في كتابتها، عادلةً في شهودها، من أجل أن تُحمد سيرتُه، وتُحفظ حقوقُه، ولا يبقى أهله من بعده في منازعات، ويلقى ربه وقد أدى ما عليه، وأبرأ ذمته، وابيضت صحيفته، وحسنت بإذن الله خاتمته، وخف في الآخرة حسابه، ومن قصَّر فقد تعرض لحرمان الثواب، وأهمل في براءة الذمة.
ومن لم تكن عليه حقوق، ولا تلزمه واجبات وله ورثة محتاجون وذرية ضعفاء، فليبدأ بهم، ولا يقدِّم عليهم وصيته؛ لأنهم أحق بماله وأولى بمعروفه، وأعظم في ثوابه وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـٰفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]. وقد قال عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس)) متفق عليه[7]، واللفظ للبخاري. وفي الخبر الآخر: ((ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)) أصل ذلك في الصحيحين[8]. وأراد رجل أن يوصي فقال له علي – رضي الله عنه -: (إنك لم تترك مالاً طائلاً، إنما تركت شيئاً يسيراً فدعه لورثتك). وسأل رجل عائشة رضي الله عنها فقال: إن لي ثلاثة آلاف، وعندي أربعة أولاد أفأوصي؟ قالت: اجعل الثلاثة للأربعة. أما إذا فاض مال الله عندك، وبسط الله لك في الرزق، فلتدخر لنفسك عملاً صالحاً، وصدقة جارية، يمتد لك ثوابها، ولتبدأ بالأقربين من غير الوارثين، فهم أحق ببرك وأولى بفائض مالك، حتى لا يتعرضوا لمهانة الفقر، وذل الحاجة، وإنه لك في ذلك صدقة وصلةٌ، وليحزم المسلم أمره، ولا يؤخر إلى شهود أمارات الموت. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: ((أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان..)) متفق عليه واللفظ للبخاري[9].
وليُعلم ـ وفقكم الله ـ أن وجوه البر كثيرة، من فقراء الأقارب غير الوارثين، وعمارة المساجد وخدمتها، وبناء الأربطة والمساكن للمحتاجين من أهل العلم والفضل والصلاح، وقضاء ديون المعسرين، والصدقة على المحاويج، والإنفاق على طلبة العلم، وتعليم القرآن، وسقي الماء، وتعبيد طرق المسلمين، وطبع الكتب المفيدة ونشرها، والوصية بالحج والأضاحي عن نفسه وغيره، وهذا الباب بفضل الله واسع ووجوه البر فيه لا تنحصر.
ثم احذروا وصية الإثم والجَنف، وإياكم والمضارة بالوصية، وقد قال نبيكم محمد : ((إن الرجل ليعمل- والمرأة- بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار)) ثم قرأ أبو هريرة راوي الحديث: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ [النساء:12، 13]. روى الحديث أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وهو عند ابن ماجة بلفظ مقارب[10].
سبحان الله ـ يا عباد الله ـ كيف يتجرأ هذا المخذول ليضار في وصاياه، وهو في حالة إدبار الدنيا وإقبال الآخرة. في حال يصْدق فيها الكذوب، ويتوب فيها الفاجر، وأي قسوة أشد من هذه القسوة. فنعوذ بالله من الخذلان.
في الأوصية الجنف يغلب الجشعُ، ويحل الطمع، ويضيع الحلال، وإن ربك لبالمرصاد. ألا وإن من جار في وصيته وظلم؛ مات على جهالة، وسلك مسالك الضلالة.
إن من صور الإضرار بالوصية ـ عياذاً بالله ـ أن يقرَّ بكلِّ ماله أو بعضه لغير مستحقٍّ، أو يُقِرَّ على نفسه بدين لا حقيقة له من أجل أن يمنع الوارث من حقِّه، أو يبيع شيئاً بثمنٍ بخسٍ، أو يبيع بيعاً صورياً، أو يشتري بثمنٍ فاحشٍ من أجل أن يضر بالورثة ويمنعهم حقوقهم أو يبخسها، وتحرم الوصية للوارث، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم.
والوصية لا تصح في الأمور المبتدعة، والمسائل المحرمة كالنياحة، والتبذير، والبناء على القبور، والتكفين بالحرير والديباج والدفن في المسجد أو في بيت خاصٍ، إلا أن يجعل ذلك مقبرةً عامةً للمسلمين. ذكر ذلك فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم رحمة الله على الجميع.
ألا فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واتق الله يا عبد الله، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، رواه البخاري[11]. ولقد قال الله في أقوام: مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:49، 50]، أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ٱلنَّذِيرُ [فاطر:37].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب ما يلحق الإنسان من الثواب... حديث (1631).
[2] حسن، سنن ابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الوصية بالثلث، حديث (2709)، وأخرجه أيضاً أحمد (6/400)، والطبراني في الكبير (4129). قال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن. مجمع الزوائد (4/212). وحسنه الألباني إرواء الغليل (1641).
[3] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الوصايا – باب الوصايا، حديث (2738)، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب حدثنا أبو خثيمة زهير بن حرب ... حديث (1627).
[4] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب حدثنا هارون بن معروف... حديث (1627).
[5] ضعيف، أخرجه ابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الحث على الوصية، حديث (2700)، وفي إسناده دُرُسْت بن زياد ويزيد بن أبان الرقاشي وهما ضعيفان، كما في التقريب (1825، 7683). وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (5916).
[6] ضعيف، أخرجه ابن ماجه، كتاب الوصايا – باب الحث على الوصية، حديث (2701). قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف لتدليس بقية، وشيخه يزيد بن عوف لم أرَ من تكلم فيه (3/140)، وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (5848).
[7] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الوصايا – باب أن يترك ورثته أغنياء ... (2742)، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب الوصية بالثلث، حديث (1628).
[8] صحيح، أخرجه مسلم بنحوه: كتاب الزكاة – باب الابتداع في النفقة بالنفس... حديث (997). وانظر صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى... حديث (1426)، وصحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى... حديث (1034).
[9] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب فضل صدقة الشحيح الصحيح... حديث (1419)، وصحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، حديث (614).
[10] ضعيف، أخرجه أبو داود: كتاب الوصايا – باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية، حديث (2867)، والترمذي: كتاب الوصايا – باب ما جاء في الضرار في الوصية، حديث (2117)، وابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الحيف في الوصية، حديث (2704)، وأخرجه بلفظ ابن ماجه أحمد في مسنده (2/278)، ومدار إسناده على شهر بن حوشب، وهو ضعيف. وانظر: نيل الأوطار للشوكاني (6/147)، وضعيف الجامع (1457، 1458). وضعيف أبي داود للألباني (614).
[11] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الرقاق – باب قول النبي : ((كن في الدنيا كأنك غريب...)) حديث (6416).
الخطبة الثانية
الحمد لله إقراراً بوحدانيته، والشكر له على سوابغ نعمته، اختصَّ بها أهل الصدق والإيمان بصدق معاملته، ومنَّ على العاصي بقبول توبته، ومدَّ للمسلم عملاً صالحاً بوصيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المفضَّل على جميع بريته. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن من أدب الوصية أن يوصيَ المسلم بنيه وأهله وأقاربه، ومن حضره واطَّلع على وصيته – يوصيهم بتقوى الله وطيب العمل، وإن لكم في إبراهيم وبنيه عليهم السلام أسوةً، وفي نبيكم محمد أعظم قدوة وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرٰهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـٰبَنِىَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، وأوصى محمدٌ بكتاب الله، وقال: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم))[1]، وحذَر من الفتن، وأمر بالطاعة ولزوم الجماعة، وأوصى بأصحابه السابقين وبالمهاجرين وأبنائهم، كما أوصى ابنته فاطمة رضي الله عنها إذا هو مات أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها الأخوة، وهذه صيغة مأخوذة من جملة ما أوصى به بعض أئمة الإسلام من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم. حيث رأوا أن يقول الموصي مخاطباً أهله، ومن حضره واطَّلع على وصيته: أوصى فلانٌ، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إلهاً واحداً. فرداً صمداً. لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً. ولم يشرك في حكمه أحداً. ويشهد أن محمداً عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة حق وما أعده الله لأوليائه حقٌ، والنار حقٌ، وما أعده الله لأعدائه حقٌ، وهو قد رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، على ذلك يحيا، وعليه يموت إن شاء الله، ويشهد أن الملائكة حق، والنبيين حقٌ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
ثم يقول: اعلموا أني مفارقكم وإن طال المدى، فهذه أدوات السفر تُجمع، ومنادي الرحيل يُسمع، والمرء لو عُمِّر ألف سنة لا بدَّ له من هذا المصير كما ترون.
إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه وأعملهم ليوم معاده. وهذه وصية مودع ونصيحة مشفق، حسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملاً، ولكن ليبلوكم أيكم أحسن عملاً يَـٰبَنِىَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]. يٰبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. يٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلاْمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:17، 18]. أعظم فرائض الله بعد التوحيد: الصلاة، الله الله في الصلاة، فإنها خاصة الملة، وأم العبادة، والزكاة أختها الملازمة، والصوم عبادة السر لمن يعلم السر وأخفى، والحج مع الاستطاعة ركنٌ واجبٌ، هذه عُمُد الإسلام وفروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناوئكم ظاهرين. وتلقوا ربكم غير مبدلين ولا مغيرين. واسلكوا في الاعتقاد مسلك السلف الصالح وأئمة الدين، ولا تخوضوا فيما كره السلف الخوض فيه، وعليكم بالعلم النافع، فالعلم وسيلة النفوس الشريفة، وشرطه الإخلاص والخشية لله مع الخيفة. وخير العلوم علوم الشريعة، وانبذوا العلوم المذمومة فإنها لا تزيد إلا تشكيكاً. وأطيعوا أمر من ولاه الله عليكم، واجتنبوا الفتن وأسبابها، ولا تدخلوا في الخلاف، والزموا الصدق فإنه شعار المؤمنين، والكذب عورة لا تُوارى، وحافظوا على الحشمة والصيانة، وأوفوا بالعهد، وابذلوا النصح، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تطغوا في النعم، ولا تنسوا الفضل بينكم، ولا تنافسوا في الحظوظ السخيفة، وإذا أسديتم معروفاً فلا تذكروه، وإذا برز قبيحٌ فاستروه، وأصلحوا ذات بينكم، واحذروا الظلم، وصلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، واعرفوا حقَّ الأكابر، وارحموا الأصاغر، واحذروا التباغض والتحاسد، واعلموا أن جماع الأمر تقوى الله، كان الله خليفتي عليكم في كل حال، وموعد الالتقاء دار البقاء، والسلام عليكم من حبيبٍ مودع، والله يجمع إذا شاء هذا الشمل المتصدع... ألا فاتعظوا أيها المسلمون.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/117)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في حق المملوك، حديث (5156)، وابن ماجه: كتاب الوصايا – باب هل أوصى رسول الله ؟ حديث (2698). وذكره الضياء في الأحاديث المختارة (6/158)، (7/35-37)، وقال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين (2/55)، وصححه الحافظ في الفتح (5/361).