اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  غزوة أحد (2) الابتلاءات والمصائب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100140
 غزوة أحد (2) الابتلاءات والمصائب Oooo14
 غزوة أحد (2) الابتلاءات والمصائب User_o10

 غزوة أحد (2) الابتلاءات والمصائب Empty
مُساهمةموضوع: غزوة أحد (2) الابتلاءات والمصائب    غزوة أحد (2) الابتلاءات والمصائب Emptyالأربعاء 5 يونيو 2013 - 11:36

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].

أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: لم يجعل الله - تعالى - الدنيا دار نعيم لأوليائه، ولا مستقرًّا دائمًا لعباده؛ ولكنه أرادها بحكمته دار ابتلاء واختبار وتمحيص، يمحصُ عباده بالبلايا، ويختبرهم بالمحن، ويبتليهم بالضراء؛ ليظهر الصادقُ من الكاذب، ويتمايز الخبيث من الطيب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 10 – 11].
إنها ابتلاءات ومِحَن ذاق مصيبتها وألمها خير الناس، وأفاضل الخلق من النبيين والمرسلين، وأتباعهم المؤمنين المستضعفين، ولم يسلم من البلاء والمحنة خيارُ هذه الأمة الخاتمة: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام - رضي الله عنهم - وأرضاهم، وكان من عظيم ما مرَّ بهم من بلاء، وما أصابهم من مصيبة: ما وقع عليهم في شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة[1]، حينما تسلط كفارُ مكة وحلفاؤهم عليهم، وغزوهم في ديارهم؛ فكانت وقعة أُحُد التي كانت مصيبتها شديدة، ومحنتها أليمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام - رضي الله عنهم - وأرضاهم.
سمى الله - تعالى - ما أصابهم في هذه الغزوة من قتل وجراحات مصيبة، ونسب سبب هذه المصيبة إلى أنفسهم؛ لأنَّ الرُّمَاة عَصَوْا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ما كان من قدر الله - تعالى - الذي قدَّره على عباده المؤمنين، وكان في هذا الابتلاء من الخير العظيم ما كشف نفاق كثير من المنافقين، قال الله - تعالى - في شأن هذه المصيبة التي نزلت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام - رضي الله عنهم -: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 165 – 166].

كانت بوادر المصيبة قبل وقوعها في رؤيا رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الغزوة، روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((رأيت في سيفي ذِي الْفَقَارِ فَلًّا، فَأَوَّلْتُهُ فَلًّا يكون فيكم - أي انهزامًا - ورأيت أني مُرْدِفٌ كبشًا فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، ورأيت بقرًا تذبح، فبقر والله خير، فبقر والله خير، فكان الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم"؛ رواه أحمد والترمذي[2].
وفي حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رأيت في رؤياي أني هَزَزْتُ سيفًا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء به الله من الفتح، واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقرًا والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أحد))؛ رواه الشيخان[3].

لقد كان من بِدَايات ابتلاءات غزوة أحد ومصيبتها ما فعله المنافقون من التخذيل والإرجاف، وانخذالهم من الجيش، ورجوعهم عن الغزو في ساعة حرجة عصيبة، يقودهم في إرجافهم وانخذالهم من الجيش عبدالله بن أبي ابن سلول، الذي كان يقول وهو يخذل: "ما ندري علام نقتلُ أنفسنا ههنا أيها الناس"، فرجع بِمَنْ تَبِعَهُ من قومه من أهل الريب والنفاق، فأتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام يناصحهم وينشدهم الرجوع ويقول: "يا قوم، أذكركم الله ألا تخذلوا قَوْمَكُم ونبِيَّكم عند من حضر من عدوهم"، فقالوا: "لو نعلم أنَّكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنه يكون قتال"، قال: "فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نَبِيَّه"[4].
وعلى إثر انسحاب المنافقين كادَتْ أن تنسحب قبيلتان من الأنصار عن القتال؛ ولكن الله - تعالى - ثبتهم فبَقُوا. قال جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما -: "نزلت هذه الآية فينا: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل والله يقول: {وَاللهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]"؛ رواه الشيخان[5].

مضى الجيش بعد انسحاب المُنَافِقِين إلى أرض المعركة، ورصَّ النبي – صلى الله عليه وسلم - الصُّفُوف، وقَسَّمَ المُهِمَّات، ووضع الرماة على الجبل وقال لهم: ((إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم))[6].
وبدأت المعركة، والتحم الجيشان، وانتصر المسلمون، ولكن الرماة بارحوا أماكنهم، واشتغلوا بجمع الغنائم، فالتفت خيَّالة المشركين عليهم من ورائهم، قال الزبير بن العوم - رضي الله عنه -: "والله إني لأنظر يومئذ إلى خَدَم النساء مشمّرات يسعين حين انهزم القوم، وما أرى دون أخذِهِنَّ شيئًا، وإنا لنحسبهم قتلى ما يرجع إلينا منهم أحد.. فوالله إنا لكذلك قد علوناهم، وظهرنا عليهم؛ إذ خالفت الرماة عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذون الأمتعة، فأتتنا الخيلُ فحطمتنا، وكرَّ الناس منهزمين، فصرخ صارخ يَرَوْنَ أنّه الشيطان: ألا إنَّ محمَّدًا قد قتل، فأعظم الناس، وركب بعضهم بعضًا، فصاروا أثلاثًا: ثلثًا جريحًا، وثلثًا مقتولاً، وثلثًا منهزمًا"[7].

ونال النبي - صلى الله عليه وسلم - نصيبه من ابتلاءاتها ومصيبتها؛ فجرح - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: ((كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله))، فأنزل الله - تعالى -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]"؛ رواه الشيخان[8].
لقد أصاب المسلمين شدةٌ شديدة، وكربٌ عظيم لما سمعوا بإشاعة مَقْتَل النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأى منهم من رأى وجهه يدمى، واضطربت صفوفهم، وركبهم المشركون يقتلون ويجرحون، وصار المسلمون يضارب بعضهم بعضًا خطأ من شدة ما نزل بهم من ألم المصيبة، وعظيم البلاء.
روى البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لما كان يوم أحد هُزم المسلمون فصرخ إبليس - لعنة الله عليه -: "أي عباد الله، أُخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله، أبي، أبي. قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه"، فقال حذيفة: "يغفر الله لكم"[9].

فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَدِيَه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرًا[10].
وبلغ من شدة مصيبة هذه الغَزْوة، وما لحق المسلمين فيها من ألم أن عليًّا - رضي الله عنه - ظَنَّ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رفع إلى السماء، قال - رضي الله عنه -: "لما انجلى الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد نظرت إلى القتلى فلم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فقلتُ: واللهِ ما كان ليفِرَّ، وما أراه في القتلى، ولكن أرى اللهَ غضب علينا بما صنعنا فرفع نبيه - صلى الله عليه وسلم - فما فيَّ خير من أن أقاتل حتى أُقتل، فكسرت جفن سيفي، ثم حملته على القوم فأفرجوا إلي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ رواه أبو يَعْلَى بإسناد حسن[11].

ومع إصابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجِرَاحات، ومقتل جمع من أصحابه - رضي الله عنهم - فإنه أصيب أيضًا بمقتل عمه حمزة بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - روى كعب بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أُحُد: "من رأى مقتل حمزة؟ فقال رجل أعزل: أنا رأيت مقتله، فقال: فانطلق وأرِنَاه، فخرج حتى وقف على حمزة، فرآه قد شُق بطنه، وقد مُثِّل به، فقال: يا رسول الله، مُثِّل به والله، فكَرِهَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينظر إليه، ووقف بين ظهرانَيِ القتلى فقال: ((أنا شهيد على هؤلاء، كفنوهم في دمائهم، فإنه ليس جرح يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة يدمَى، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، قدموا أكثرهم قرآنًا فاجعلوه في اللحد))[12].
اللهم ارْضَ عن شُهداء أحد، وعن الصحابة أجمعين، وعن شهداء المسلمين في كل زمان ومكان، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم..

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعْدُ: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واثبتوا - عباد الله - على دينكم، واشكروا في النعماء، واصبروا في البلاء.
أيها الإخوة المؤمنون: لقد كان من ابتلاءاتِ غزوة أحد كثرة القتلى وقلة الثياب، قال أنس - رضي الله عنه -: "أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة يوم أحد فوقف عليه فرآه قد مُثِّل به"، فقال: ((لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية حتى يحشر من بطونها))، قال: ثم دعا بنَمِرَة فكفَّنه فيها فكانت إذا مُدَّت على رأسه بدت رجلاه، وإذا مُدَّتْ على رجليه بدا رأسه، قال: فكثر القتلى، وقلَّت الثياب، قال: "فكُفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد"[13].

وعن عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: "أنه أُتي بطعام، وكان صائمًا، فقال: قُتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة، إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقُتل حمزة وهو خير مني، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام"؛ رواه البخاري[14].
وعن خَبَّاب بن الأَرَت - رضي الله عنه - قال: "هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نُريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمِنَّا مَنْ مَضَى لم يأخذ من أجره شيئًا، منهم: مصعب بن عمير قتل يوم أحد، وترك نَمِرة، فكنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئًا من الإذخر، ومنا من أيْنَعَتْ له ثمرته فهو يهدبها"؛ رواه الشيخان[15].
وبعد انتهاء المعركة، ورغم ما أصابهم فيها من ألم المصيبة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: ((استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفًا، ووقف طويلاً يثني على الله - تعالى - بما هو أهل له))[16].

إن ألم المصيبة، والجراحات التي نالته، وشدة الفاجعة بعمه حمزة وبأصحابه - رضي الله عنهم - ما أنساه نعم الله - تعالى - عليه، وعلى البقية الباقية من المؤمنين، وهي نعم كثيرة ليست هذه المصيبة أو غيرها من المصائب توازيها أو تدانيها. ثُمَّ إنَّ ما أصابهم كان بمعصية منهم؛ كما قال – سبحانه -: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
وهكذا يجب أن يكون حال المؤمن إذا أحاطت به الابتلاءات، وعظمت في حقه المصائب والنكبات أن ينظر إلى نِعَم الله - تعالى - عليه، ويقارنها بما أصابه؛ حتى يشكر الله - تعالى - على نعمه، ويصبر على مُصابه، ثم ليبحث عن أسباب هذه المصائب والابتلاءات فإنه سيجد أنها من عند نفسه بسبب ذنوب أصابها، أو حقوق ضيعها؛ فتكون تلك المصائب والابتلاءات تمحيصًا لذنوبه، وتكفيرًا لسيئاته؛ كما قال الله - تعالى - في سياق الحديث عن ابتلاء المؤمنين ومصيبتهم في غزوة أحد: {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 141].

ألا فاتقوا الله ربكم، واشكروه على نعمه، واصبروا على ابتلاءاته، واعبدوه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون والمنافقون.
وصلوا وسلموا على نبيكم، كما أمركم بذلك ربكم...
[1] كانت غزوة أحد يوم السبت النصف من الشوال في السنة الثالثة من الهجرة، انظر: "مغازي الواقدي" (1/199)، و"طبقات ابن سعد" (2/36)، و"تاريخ خليفة" (97)، و"سيرة ابن إسحاق" (324)، و"تفسير الطبري" (4/70)، و"المعجم الكبير" للطبراني (3/141)، برقم: (2929)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/124)، ورجاله ثقات.
[2] أخرجه أحمد (1/271)، واللفظ له، والترمذي في السير باب النفل (1561) وحسنه، وابن ماجه في الجهاد باب السلاح (2808)، والبيهقي (7/41)، والطبري في تفسيره (4/165)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/128)، وحسنه ابن كثير في "البداية والنهاية" (4/11)، وصححه الساعاتي في "الفتح الرباني" (7/221)، والشيخ أحمد شاكر في "شرحه على المسند" (2445)، وكبش الكتيبة المذكور في الحديث هو: عثمان بن أبي طلحة حامل لواء المشركين؛ كما جاء مُصرّحًابه في رواية الطبري.
وفي "الطبقات" (2/40)، أنه طلحة بن أبي طلحة، وقد بارزه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[3] أخرجه البخاري في المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد (4081)، ومسلم في الرؤيا باب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - (2272).
[4] "سيرة ابن هشام" (4/10)، و"الاكتفاء" للكلاعي (2/67)، و"تفسير الطبري" (4/168)، و"تاريخه" (2/60)، و"البداية والنهاية" (4/13)، و"السيرة الحلبية" (2/494).
[5] أخرجه البخاري في المغازي باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] (4051)، ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل الأنصار (2505).
[6] أخرجه من حديث البراء بـن عـازب - رضـي الله عنه - البخـاري في المـغازي بـاب غـزوة أحـد (4043)، وأبـو داود في الجـهاد باب في الكمناء (2662) واللفظ له، وأحمـد (4/293 ـ 294).
[7] أخرجه إسحاق بن راهويه من حديث وهب بن جرير بن حازم حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق، يقول: حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عن عبدالله بن الزبير - رضي الله عنه - فذكره كما في "المطالب العالية" لابن حجر، وقال: هذا إسناد صحيح له شاهد في الصحيح من حديث البراء (4257)، وصححه البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (4562)، والمقصود بخدم النساء: خلاخيلهن التي في أرجلهن، وهو جمع (خَدَمَة) ويجمع على (خِدَام) كما في "النهاية" (2/15)، و"القاموس" (1421) مادة (خدم).
[8] أخرجه من حديث أنس - رضي الله عنه - البخاري معلقًا في المغازي باب: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]، من حديث حميد الطويل وثابت "الفتح" (7/422)، وحديث حميد وصله أحمد (3/99) والترمذي في تفسير القرآن؛ باب من سورة "آل عمران" (3002 ـ 3003)، وابن ماجَهْ في الفتن باب: "الصبر على البلاء" (4027)، وأما حديث ثابت فوصله مسلم في الجهاد والسير؛ باب غزوة أحد (1791).
[9] أخرجه البخاري في "المغازي" باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} (4065)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (36743)، والبيهقي (8/131).
[10] هذه الزيادة لابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" (2/87 ـ 88)، وأخرجها دون الجملة الأخيرة: "فزاده ذلك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم – خيرًا" أحمد في "المسند" (5/429)، والحاكم (3/380).
[11] أخرجه أبو يعلى (546)، وحسنه البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (4571).
[12] أخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" (502)، وفي "مصنفه" (7/372)، برقم: (36787)، وأحمد (5/431)، والبيهقي (4/11)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/13)، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (4576): "رواته ثقات".
[13] أخرجه أحمد (3/128)، وأبو داود في الجنائز باب في الشهيد يغسل (3136)، والترمذي في الجنائز باب ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة وحسنه (1016)، واللفظ له، وابن أبي شيبة (7/367)، برقم (36752)، وابن سعد في "الطبقات" (3/14)، والدارقطني (4/116)، والبيهقي (4/10)، والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي (3/196)، والطبراني في "الكبير" (3/144)، برقم: (2939).
[14] أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة أحد (4045)، وابن المبارك في الجهاد (1/83) برقم: (96).
[15] أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة (3897)، ومسلم في الجنائز باب كفن الميت (940).
[16] أخرجه أحمد (3/424)، والبخاري في "الأدب المفرد" (699)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (609)، والطبراني في "الكبير" (5/47) برقم: (4549)، وأبو نُعَيْم في "الحلية" (10/127)، وصححه الألباني في صحيح "الأدب المفرد" (538).


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
غزوة أحد (2) الابتلاءات والمصائب
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: