اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 غزوة تبوك (4) دعوة أهل الكتاب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99980
غزوة تبوك (4) دعوة أهل الكتاب Oooo14
غزوة تبوك (4) دعوة أهل الكتاب User_o10

غزوة تبوك (4) دعوة أهل الكتاب Empty
مُساهمةموضوع: غزوة تبوك (4) دعوة أهل الكتاب   غزوة تبوك (4) دعوة أهل الكتاب Emptyالأربعاء 5 يونيو 2013 - 11:29

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونَعُوذ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وأشهـد أن لا إله إلا الله وحـده لا شريك له، وأشهـد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].
أمَّا بعْدُ: فإنَّ أصْدَقَ الحديث كلامُ الله - تعالى - وخير الهدي هدْيُ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار.

أيُّها الناس: أرسل اللهُ - تعالى - محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى المكلفين كافَّة، إنْسهم وجِنّهم، عَرَبهم وعَجَمهم، قريبهم وبعيدهم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وأنزل عليه القرآن مصدر هداية وتذكرة لجميع المكلفين: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [التَّكوير: 27 – 29].
وقد قضى الله - سبحانه - بأن يكون محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - خاتمَ المُرسلين، وشريعته خاتمة الشرائع، وهي باقيةٌ بحفظ الله - تعالى - لها إلى قيام الساعة؛ ولذلك أوجب الله - تعالى - عليه بلاغها للناس، ووجب على مَنْ بَلَغَتْه وآمن بها أن يبلغها من لم تبلغْهُ منَ النَّاس: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

فمن قَبِلَ الدعوة، ودخل في الإسلام صار أخًا للمسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم؛ عملاً بقول الله - تعالى -: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ومَنْ رَفَضَ الدعوة، وأَبَى الدخول في الإسلام فله مـا أراد؛ إذ: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] بشرط أن يخضع لسُلْطَان المسلمين وحكمهم، وذلك بدفع الجزية للمسلمين: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "وهذه الآية الكريمة نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، واستقامت جزيرة العرب، أمر اللهُ رسولَه بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهَّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظْهَرَهُ لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحوٌ من ثلاثين ألفًا"[1].
كان هذا الاستنفار العَظيم سنة تسع للهجرة في شهر رجب، والوجهةُ كانت إلى تبوك؛ لإخضاع أهل الكتاب لحكم الإسلام؛ بإسلامهم، أو دفعهم الجزية، أو قتالهم على ذلك؛ ليكون الدينُ كله لله تعالى.

اجتمعت الجموع التي ما جمع في الإسلام قبلها مثلها، وحثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس على التبرُّع بالدَّوابّ والسلاح والطعام؛ لتجهيز هذا الجيش الكبير وتموينه، وقال - عليه الصلاة والسلام -: "من جهَّز جيش العسرة فله الجنَّة"، فجهزه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -[2]، وجاء بألف دينار في ثوبه فصبها في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقلبها بيده ويقول: "ما ضرَّ ابنَ عفَّان ما عمِلَ بعد اليوم، يُرَدِّدُها مرارًا"[3].
لما تَمَّ تجهيز الجيش سار من المدينة إلى تبوك، وجَهِدَ الصحابة - رضي الله عنهم - جهدًا شديدًا في الطريق؛ لبُعْد المسافة، وشِدَّة الحر، وقِلَّة المؤونة والظهر؛ حتى سميت تلك الغزوة بغزوة العسرة. فلمَّا وصل الجيش إلى تبوك لم يجد جيشًا يواجهه؛ إذ جبن الروم وحلفاؤهم من العرب عن مُلاقاة المسلمين، فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين ليلة[4]، أرسل فيها الرسل إلى مُلوك النصارى يدعوهم إلى الإسلام، ومن أبى فرض عليه الجزية، وأخضع بلاده لحكم المسلمين.

روى الإمام أحمد، وأبو يَعْلى من حديث سعيد بن أبي راشد قال: "لقيتُ التنوخي رسولَ هِرَقلَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحمص، وكان جارًا لي شيخًا كبيرًا قد بلغ الفَنَد أو قرُب، فقلت: "ألا تخبرني عن رسالةِ هِرَقل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هِرَقل؟" فقال: "بلى، قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبوك، فبعث دحية الكلبي إلى هِرَقْل، فلمَّا أن جاءه كتابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا قسيسي الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم بابًا، فقال: قد نزل هذا الرجلُ حيثُ رأيتم، وقد أرسل إليَّ يدعوني إلى ثلاث خصال؛ يدعوني إلى أن أتّبعه على دينه، أو على أن نعطيه ما لنا على أرضنا، والأرض أرضنا، أو نُلقي إليه الحرب. والله لقد عرفتم فيما تقرؤون من الكتب ليأخذن ما تحت قدميّ، فهلم نتَّبعه على دينه، أو نعطيه ما لنا على أرضنا، فنخروا نخرةَ رجلٍ واحد حتى خرجوا من برانسهم، وقالوا: تدعونا إلى أن ندع النصرانية أو نكون عبيدًا لأعرابي جاء من الحجاز!".

فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رفَّأهم ولم يكد - أي هدأهم - وقال: إنما قلت ذلك؛ لأعلم صلابتَكُم على أمركم، ثم دعا رجلاً من عرب تُجيب كان على نصارى العرب، فقال: ادع لي رجلاً حافظًا للحديث، عربي اللسان، أبعثه إلى هذا الرجل بجوابِ كتابه، فجاء بي فدفع إليَّ هرقلُ كتابًا فقال: اذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما ضيَّعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال: انظر هل يذكرُ صحيفته التي كتب إليَّ بشيء، وانظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل، وانظر في ظهره هل به شيء يريبك؟
فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوك، فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه، محتبيًا على الماء، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: ها هو ذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي، فوضعه في حجره، ثم قال: ممن أنت؟ فقلت: أنا أحد تنوخ، قال: هل لك في الإسلام الحنيفية ملة إبراهيم؟ قلت: إني رسول قوم، وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم. فضحِك، وقال: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين. يا أخا تنوخ، إني كتبتُ بكتابٍ إلى كسرى فمزَّقه، واللهُ ممزّقُه وممزّق ملكه، وكتبتُ إلى النَّجاشي بصحيفةٍ فخرَّقها، والله مخرّقه ومخرق ملكه - وهذا النجاشي غير النجاشي الذي أسلم ومات وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكتبتُ إلى صاحبِكَ بصحيفةٍ فَأَمْسَكَها، فلن يزال الناسُ يجدون منه بأسًا ما دام في العيش خير، قلت: هذه إحدى الثلاثة التي أوصاني بها صاحبي، وأخذتُ سهمًا من جعبتي، فكتبتها في جلد سيفي.

ثم إنَّه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره، قلت: من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم؟ قال: معاوية. فإذا في كتاب صاحبي: تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سبحان الله! أين الليل إذا جاء النهار؟)) قال: فأخذت سهمًا من جعبتي فكتبته في جلد سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي قال: إن لك حقًّا، وإنكَ رسول فلو وجدتُ عندنا جائزة جوزناك بها، وإنَّا سَفْرٌ مُرْمِلُون. قال: فناداه رجل من طائفة الناس، قال: أنا أُجوِّزُه، ففتح رحله فإذا هو يأتي بحلةٍ صفوريةٍ، فوضعها في حجْري، قلت: من صاحب الجائزة؟ قيل لي: عثمان.

ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيكم يُنزِل هذا الرجل؟ قال فتى من الأنصار: أنا، فقام الأنصاري وقُمْتُ معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: تعال يا أخا تنوخ، فأقبلت أهوي إليه حتى كنت قائمًا في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحلَّ حَبْوَتَه عن ظهره، وقال: هاهنا أمض لما أمرت له، فجُلتُ في ظهره، فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف مثل الحَجْمة الضخمة))[5]، وذلك هو خاتم النبوة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك عليه وعلى آله، وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعْدُ: فاتقوا الله - عباد الله - كما أَمَرَ، واجتنبوا الفواحش ما بطن منها وما ظَهَرَ، واعلموا أنَّ الله مع المتقين.

أيها الناس: ماثلت غزوةُ تبوك غزوةَ الخندق في شدتها وعسرها، وما حاق بالصحابة - رضي الله عنهم - من ابتلاءاتها، كما كانت نهايةُ الغزوتين واحدة؛ إذ كفى الله - تعالى - المؤمنين القتال، فسلَّط على الأحزاب ريحًا رحلتهم عن المدينة، وقذف في قلوب النصارى رعبًا قعد بهم عن ملاقاة المسلمين في تبوك، وكانت تبوكُ نصرًا عظيمًا للإسلام والمسلمين؛ إذ أَخْضَع النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا من القبائل والبلدان المُتحالِفَة مع الرومان لِسُلْطانِ المسلمين، وضرب عليهم الجزية، فبعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبدالملك صاحبِ دومة الجندل، فأسره خالدٌ وأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبوك، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية[6]، وأهدى أكيدر حلة من حرير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعجب الناس منها، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((أتعجبون من هذا، فوالذي نفسي بيده لمناديلُ سعد بن معاذ في الجنة أحسنُ من هذا))؛ رواه الشيخان[7].

وأرسل ملك أيلة هَدية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصالحه على الجزية[8]. وهكذا فعل أهل جرباء وأذْرح فأعطوه الجزية[9].
وهكذا دانت كثير من البلاد والقبائل المتنصرة لسلطان الإسلام، ودخل كثير من أفرادها في دين الله - تعالى - فوطَّدَت هذه الغزوة سلطان الإسلام في شمالي الجزيرة العربية، ومهدت لفتوح الشام التي استعدَّ لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعداد جيش أسامة قبيل وفاته، فأنفذه أبو بكر - رضي الله عنه - ثم أتبعه أبو بكر بجيوش الفتح الأخرى، ثم عمر - رضي الله عنه - حتى كُسر الرومان في معركة اليرموك، والفرس في القادسية، وعزَّ الإسلام، وانتشر في الأرض، وتحرَّر الناسُ من ظلم الأكاسرة والقياصرة.

إن ما جرى في غزوة تبوك من مبادأة أهل الكتاب بالغزو لَمِمَّا يرد شبهة أولئك الكتَّاب المعاصرين الذين أرادوا تزوير مفهوم الجهاد في سبيل الله - تعالى - وحصره في الدفع فقط. وهدفُهم من هذا الترويج هو: إخضاعُ الإسلام لبنود الحضارة المعاصرة، وتطويعه للقوانين الدولية الجائرة، فما وجدوا سبيلاً لرضى أهل الكتاب عنهم إلا بالتلاعب بأحكام الله - تعالى - من تزوير مفهوم الجهاد، وتضييق نطاقه، وإلغاء أحكام أهل الذمة، حتى كتب أحدهم كتابه: "مواطنون لا ذِمّيون"[10]، بل وصل الحال ببعضهم إلى إلغاء حدِّ الردة، وبالغ بعضهم فرفض كلَّ الحدود بحجة عدم مناسبتها لهذا العصر.

إن هؤلاء المزورين للدين، المتلاعبين بأحكام الشريعة قد ارتضوا أن يُسخطوا الله - تعالى - برضى الناس، فهم حريون بسخط الله - تعالى - عليهم، وأن يسخط عليهم الناس، وما رأينا من حاولوا إرضاءهم قَدْ رَضُوا عنهم ولا عن دينهم، ولا عن أفكارهم التي فيها من بنود الحضارة المعاصرة أكثر مما فيها من الإسلام، بل سخطوا عليهم ورفضوهم ولم يقبلوهم.
أليست القوى الظالمة قد اعتبرت مقاومة المحتل المعتدي إرهابًا؛ لأنهم يريدون من الضحية أن يذبح ولا يعترض، وأن يُعذبَ فلا يتوجع.
ولن يرضيهم شيء حتى يبدلوا ديننا، وصدق الله القائل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].

ألا فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم، واثبتوا عليه مهما كانت التبعات؛ فإن حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَرِدهُ من بدلوا وغيروا، ولسوف يحجبون عنه، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سُحقًا سُحقًا لِمَنْ بَدَّل بعدي))[11].
وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، كما أمركم بذلك ربكم.
[1] "تفسير ابن كثير" (2/542)، عند تفسير الآية (29) من سورة التوبة.
[2] أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا به في الوصايا؛ باب: "إذا وقف أرضًا أو بئرًا..." (2778)، ووصله الدارقطني (4/199)، والإسماعيلي؛ كما ذكر الحافظ في "الفتح" (5/477)، وأخرجه أحمد في "المسند" (1/70)، وفي "فضائل الصحابة" (730)، والطاليسي (2/170)، والبيهقي (6/167) وغيرهم.
[3] أخرجه أحمد (5/63)، والترمذي في "المناقب" باب: "مناقب عثمان بن عفان"، وحسنه (3701)، وأبو نُعَيْم في "الحلية" (1/95)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (3/102).
[4] أخرجه أحمد (3/295)، وأبو داود في الصلاة باب: "إذا أقام بأرض العدو يقصر" (1235)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (4335)، والبيهقي في "الكبرى" (3/152)، وصححه ابن حبان (2738) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[5] أخرجه أحمد (3/441 ـ 442)، وابنه عبدالله في "الزوائد" (4/74 ـ 75)، والبيهقي في "الدلائل" (1/266)، وأخرجه مختصرًا أبو عبيد في "الأموال" (625)، وابن زنجويه في "الأموال" (961)، وعزاه الهيثمي في "الزوائد" لأبي يعلى، وقال: ورجال أبي يعلى ثقات (8/234 ـ 236)، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية": "هذا حديث غريب، وإسناده لا بأس به تفرد به الإمام أحمد (5/15 ـ 16).
[6] "سيرة ابن هشام" (4/232)، و"الإصابة" (1/413).
[7] أخرجه البخاري في بدء الخلق؛ باب: "ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة" (3248)، ومسلم في "فضائل الصحابة" باب: "من فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - (2469)، والترمذي في اللباس باب: "مس الحرير من غير لبس" (1723)، وأحمد (3/111) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - وجاء أيضًا من حديث البراء - رضي الله عنه - عند البخاري في مناقب الأنصار؛ باب: "مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه –" (3802)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: "من فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه –" (2468).
[8] أخرجه البخاري في الجزية والموادعة باب إذا وادع الإمام ملك قرية هل يكون ذلك لبقيتهم (1361)، ونقل الحافظ في "الفتح" عن ابن إسحاق قوله: "لما انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك أتاه بحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية..." (6/308).
[9] "سيرة ابن هشام" (3/230).
[10] هو الكاتب الصحفي فهمي هويدي، هداه الله تعالى.
[11] كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند البخاري في الرقاق باب: "في الحوض" (6584)، ومسلم في الفضائل باب إثبات حوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفاته (2991).


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
غزوة تبوك (4) دعوة أهل الكتاب
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» غزوة تبوك
» غزوة تبوك (2) الآيات والمعجزات
» دروس من غزوة تبوك
»  نظرات في غزوة تبوك
» دور المنافقين في غزوة تبوك

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: