التَّوْحيد أولاً (لو كانوا يعلمون)
ملخَّص الخطبة:
1- إبراهيم يبني البيت العتيق لحماية جناب التَّوْحيد.
2- بعثة الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم - لتطهير البيت من الشِّرك والوثنيَّة.
3- عبادةُ الحجِّ مدرسةٌ في غَرْس التَّوْحيد.
4- التَّوْحيد دعوةُ جميع الأنبياء.
5- معنى كلمة التَّوْحيد.
6- ضعف التَّوْحيد ضعفٌ لأمَّة الإسلام.
7- من صور الشِّرك: سؤال الموتى وعبادتهم وتعليقاتهم، ومعرفة الغَيْب عن طريق الأبراج.
8- النصوص تدعو إلى التحرُّر من الشِّرْك.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيُّها النَّاس ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فتقوى الله تعالى هي وصيته للأوَّلين والآخِرين: {وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].
أيُّها النَّاس:
من أجل التَّوْحيد بني بيت الله العتيق، الذي رفع قواعده إبراهيم خليل الرَّحمن وابنه إسماعيل - عليهما السَّلام - وما برح هذا البيت العتيق يطاول الزَّمان وهو شامخ البنيان، في مَنَعَةٍ من الله وأمان، تتعاقب الأجيال على حجَّه، ويتنافس المسلمون في بلوغ رحابه، ففي جواره التَّوْحيد، وفي رحابه الأمن والخير والبركة: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، {وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 35-36].
لقد أُرْسِلَ المصطفى بنورٍ ساطعٍ وضياءٍ لامعٍ، أضاء به الطَّريق وأوضح به السَّبيل، طهَّر الله به جزيرةَ العرب من رجس الوثنيَّة، وهَيْمَنَة الأصنام، وكان كبير الأصنام هُبَل بأعلى مكة، وحوله ثلاثمائة وستون صنمًا، كلُّها من الحجارة، فطعن فيها المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - بيده الشَّريفة حين دخوله الكعبة يوم الفتح، وهو يردِّد قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81][1]. وبعض المسلمين كان يردِّد: يا عُزَّى كفرانكِ لا غفرانكِ، إني رأيتُ الله قد أهانَكِ!!
وفي الحج - أيُّها المسلمون - معانٍ كبيرة من معاني التَّوْحيد، تمثَّلت في منع المشركين من دخول المسجد الحرام: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].
وبَعَثَ المصطفى سنةَ تسعٍ مَنْ ينادي: ((ألاَّ يطوف بالبيت عريانٌ، وألاَّ يحجَّ بعد العام مشركٌ))؛ متَّفقٌ عليه[2].
وتمثَّل التَّوْحيد في الحجِّ في رفع الأصوات بالتَّلبية ونفي الشَّريك عن الله: ((لبَّيْكَ اللَّهمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شريك لكَ لبَّيْكَ، إنَّ الحمد والنِّعمة لكَ والمُلْك، لا شريكَ لكَ)). وبهذه التَّلبية قضى المصطفى على تلبية أهل الشِّرك التي كانوا يردِّدونها إبَّان حجِّهم، ويقولون: ((لبَّيْكَ لا شريك لك، إلاَّ شريكًا هو لك، تملكه وما ملك)). تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
لقد تمثَّل التَّوْحيد في الحجِّ في ركعَتَي الطَّواف،حين يقرأ المسلم في أولاهما بـ: {قُلْ يا أيُّها الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]. وفي الأخرى بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1][3].
كما تمثَّل التَّوْحيد في الحجِّ – أيضًا - في خير الدعاء، وهو دعاء يوم عرفة، حينما قال عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((خير الدُّعاء دعاءُ يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير))؛ رواه التِّرمذيُّ[4].
وتمثل التَّوْحيد في الحجِّ فيما شرعه الله من ذِكْرِه وحده يوم العيد وأيام التَّشريق: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ} [البقرة: 203]، {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].
أيُّها النَّاس:
إنَّ التَّوْحيد الخالص هو لباب الرِّسالات السَّماوية كلِّها، وهو عمود الإسلام وشعاره الذي لا ينفكُّ عنه، وهو الحقيقة التي ينبغي أن نَغارَ عليها ونصونها من كلِّ شائبةٍ، وهي الدعوة التي دعا إليها جميع الأنبياء والمرسلين من نوحٍ إلى محمَّد – عليهم صلوات الله وسلامه -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
والطَّاغوت هو: كلُّ ما تجاوز به العبد حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاعٍ؛ فطاغوت كلِّ قومٍ مَنْ يتحاكمون إليه من دون الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه ليس من طاعة الله، أو يتبعونه على غير بصيرةٍ من الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60]، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51].
عباد الله:
على كلمة التَّوْحيد الجليلة بنى المصطفى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أمَّته، وأقام دعوته وشيَّد صرحها، وأنشأ جيلاً يوحِّد الواحد الأحد، ويبرأ من كلِّ الشُركاء المزعومين، فكلمة التَّوْحيد (لا إله إلا الله) هي الحادي الذي لا يُمَلُّ نداؤه، ولا يتلاشى صداه، وعندما يردِّدها الموحِّد فهو يقصد أمرَيْن عظيمَيْن:
أوَّلهما: إحقاق الحقِّ وإبطال الباطل؛ لأنَّ معنى الكلمة: لا معبود بحقٍّ إلا الله؛ فكلُّ ما خلا الله فهو باطلٌ، وما هو إلا وهمُ عقولٍ مختلَّةٍ، أو خداع حواسٍّ معتلَّةٍ.
وثانيهما: ضبط السُّلوك البشريُّ داخل نطاق هذا التَّوْحيد الخالص المنبثِق من كلمة التَّوْحيد، المشروطة بسبعة شروط متمثِّلة في العلم بمعناها، وهو أنه: لا معبود بحقٍّ إلاَّ الله، ومتمثِّلة كذلك في اليقين المنافي للشكِّ، والإخلاص المنافي للشِّرْك، والصِّدق المنافي للكذب، والقبول المنافي للرَّدّ، والانقياد المنافي للتَّرْك، والمحبَّة المنافية للبغض، وباجتماع ذلك تتوحَّد العبادة بكلِّ صورها؛ بحيث لا تكون إلا لله، فلا استنصارَ إلا بالله، ولا توكُّلَ إلا على الله، و لا رغبةَ ولا رهبةَ ولا خوفَ ولا رجاء إلاَّ بالله ومِنَ الله، ومن ثَمَّ يشعر الموحِّد من أعماق قلبه أنَّ ما دون الله هباءٌ، فلا تروعه سطوةُ ساطٍ، ولا تخدعه ثروة غنيٍّ، ويستحيل عنده أن يُغْلَبَ اللهُ على أمره، أو أن يُقْطَعَ شيءٌ دونه، فالتعلُّق بغير الله عجزٌ، والتطلُّع إلى سواه ضلالٌ لاحقٌ: {وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123].
ومن هنا يظهر الفرق شاسعًا بين الموحِّد وبين المشرك، فالموحِّد عَرَفَ خالقه فعبده حقَّ عبادته، والمشرك مكفوف البصيرة، تائهٌ عن وليِّ نعمته، نعوذ بالله من الضَّلال بعد الهدى.
أيُّها النَّاس:
التَّوْحيد في القديم وفي الحديث أوَّلَه النَّاس بتعدُّد الآلهة - وهي المعبودات - وتعدُّد الآلهة خرافةٌ هزيلةٌ لفظها الإسلام بقوَّة، ونبذها نبذ المسافر فضلةَ الأَكْل، وتتبَّع أوهام النَّاس فيها وَهْمًا وَهْمًا، فكشف الظُّلمة ودحض الشبهة، ولا عجب؛ فالتَّوْحيد الخالص شعار الإسلام الأوَّل في ميدان الاعتقاد والعمل، به عُرِفَ، ومن أجله حُورِبَ، وعليه دار جدلٌ طويلٌ بين أهل الحقِّ وأهل الباطل: {إِنَّ إلهكُمْ لَوَاحِدٌ * رَّبُّ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 4-5]، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
إنَّ التَّوْحيد الخالص هو أفضل طلبة، وأعظم رغبة، وأشرف نِسبة، وأسمى رُتبة، هو وسيلة كلِّ نجاحٍ، وشفيع كلِّ فلاحٍ، يُصيِّر الحقير شريفًا، والوضيع غِطْرِيفًا، يطوِّل القصير، ويقدِّم الأخير، ويعلِّي النَّازل، ويُشْهِر الخامل، ما شيَّد مُلْكٌ عتيدٌ إلا على دعائمه، ولا زال إلا على طواسمه، ما عزَّتْ دولةٌ إلاَّ بانتشاره، ولا زالت إلاَّ باندثاره.
وإنَّ معظم الشُّرور والنَّكبات التي أصابت أمَّة الإسلام، وأشد البلايا التي حلَّت بها - كانت بسبب ضعف التَّوْحيد في النفوس، وما تسلَّط مَنْ تسلَّط من الأعداء، وتَعَجْرَفَ مَنْ تَعَجْرَفَ، وغار مَنْ غار على حياض المسلمين، واستأصل شأفتهم، واستباح حرماتهم، وأيَّم نساءهم، ويتَّم أطفالهم - إلاَّ بسبب ضعف التَّوْحيد، وما هجم التَّتار على ديار الإسلام وفعلوا بهم ما فعلوا، إلا بفقد التَّوْحيد؛ بل لقد بلغ ضعف التَّوْحيد في النفوس مبلغًا عظيمًا إبَّان الهجوم التَّتَريِّ لبلاد الإسلام، حتى لقد قال بعض المسلمين من الهَلَع والجزع:
يَا خَائِفِينَ مِنَ التَّتَر
لُوذُوا بِقَبْرِ أَبِي عُمَرْ!
عُوذُوا بِقَبْرِ أَبِي عُمَرْ
يُنْجِيكُمُ مِنَ الضَّرَرْ!
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5].
أيُّها النَّاس:
يعيش المسلمون في زمان هرمٌ خيرُه، شباب شرُّه، نائمٌ رشاده، صاحٍ فساده، قليلٌ مُنْصِفُه، كثيرٌ مُتَعَسِّفُه، أَفَلَتْ فيه شمس التَّوْحيد ونجمه، ودجا فيه ظلام الشِّرك وظُلَمُه؛ فتقدَّم متأخِّرُه، وتأخَّر متقدِّمُه، تلاعبت بأهله الأهواء، ومزَّقَت جماعتهم النِّحل والآراء، ركب كلٌّ منهم هواه وكافح، فصادموا المنقول، وخالفوا المعقول، فاخر ضُلاَّلُهم بما يبرزون من الضَّلاَل، ويبدعون من الزّيغ، وصار الشُّجاع العاقل هو المُجاهِر بالغرائب والمصائب، والأديب الملهَم هو الدَّاعي إلى البدع المضلَّة، فعَظُمَ الوَيْل، واتَّسَعَ الخَرْق، واغْتَلَمَ الدَّاء، وأَعْوَزَ الدَّواء.
هم قومٌ أزياؤهم أزياء الأُناسي، وصورهم صور العقلاء، ونفوسهم نفوس العجماوات، وأخلاقهم أخلاق الطَّيْر، يتهافتون على الغفلة، تهافُت الفَرَاش على النِّبراس، ويَأْرِزُونَ إلى النَّقيصة أُرُوزَ الدُّود إلى المَيْتَة، مع قَرْمٍ وجَعْمٍ، واحتدامٍ وضرْمٍ، بهؤلاء وأمثالهم، ولدت أمُّ الغباء، وعقمت أمُّ الذَّكاء: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
لقد ابتُلِيَ كثيرٌ من النَّاس بالجهل بالتَّوْحيد؛ فانحازوا إلى أصحاب القبور، والتجؤوا إليهم، وتضرعوا أمام أعتابهم، فقبَّلوها وتمسَّحوا بها، واستغاثوا بأهلها في الشَّدائد والكروب؛ بل لقد كثر مروِّجوها والدَّاعون إليها من قبوريِّين ومخرِّفين، الذين يخترعون حكايات سَمِجَة عن القبور وأصحابها، وكرامات مختلَقَة لا تمتُّ إلى الصحَّة بنصيب، والذين ينشدون القصائدَ الطَّافحة بالاستغاثات والنداءات، التي لا تصلح إلا لفاطر الأرض والسماوات؛ بل لقد طاف بعض النَّاس بالقبور كما يُطاف بالكعبة المعظَّمة، وأوقفوا الأموال الطَّائلة على تلك الأضرحة، حتى إنَّه لتجتمع في خزائن بعض المقبورين أموالٌ تُعَدُّ بالملايين، ولقد أحسن القائل:
أَحْيَاؤُنَا لا يُكْرَمُونَ بِدِرْهَمٍ وَبِأَلْفِ أَلْفٍ يُكْرَمُ الأَمْوَاتُ
لقد قصَّر أناسٌ مع التَّوْحيد؛ فتقاذفتهم الأهواء، واستولت عليهم الفِتَن والأدواء، فمن مفتونٍ بالتَّمائم والحُرُوز، يعلِّقها عليه وعلى عياله، بدعوى أنها تدفع الشرَّ، وتذهب بالعَيْن، وتجلب الخير، والله تعالى يقول: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} [الأنعام: 17].
وقد رأى النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً في يده حَلْقَةٌ من صفر، فقال: ((ما هذا؟)). قال: من الواهنة. فقال: ((انْزعها؛ فإنها لا تزيدُكَ إلا وهنًا؛ فإنَّكَ لو متَّ وهي عليكَ ما أفلحتَ أبدًا)). رواه أحمد بسندٍ لا بأس به[5].
ولأحمد – أيضًا - عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((مَنْ تعلَّق تميمةً؛ فلا أتمَّ الله له))[6]، وفي روايةٍ: ((من تعلَّق تميمةً فقد أشركَ))[7].
وإنَّ من المسلمين من قد افتتن بالمشعوِذين والدَّجاجلة الأفَّاكين، الذين يأكلون أموال النَّاس بالباطل بدعوى أنَّهم يكاشفونهم بأمور الغَيْب، فيما يسمَّى مجالس تحضير الأرواح أو قراءة الكف والفنجان، ليكاشفوا النَّاس - على حدِّ زعمهم - عمَّا سيحدث في العالم خلال يومٍ جديد، أو أسبوع سيُطِلّ، أو شهرٍ أوشك حلوله، أو عام مرتقبٍ: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]. قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصَدَّقَه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم -))؛ رواه الأربعة والحاكم[8].
وإنَّ من النَّاس - يا عباد الله - مَنْ هو مفتونٌ بمستقبل الأبراج، فيمضي عاصِبَ العينَيْن فاقدَ البصيرة خلف قرَّاء الأبراج، الذين يدَّعون أنَّ السَّعادة كامنةٌ في أصحاب برج الجَدْي، والغنى مستقرٌّ في أصحاب برج العقرب، أما أصحاب برج الجوزاء فيا لتعاسة الحظِّ وخيبةَ الأمل ... إلى غير ذلك من سيل الأوهام الجارف، والخزعبلات المقيتة: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [الطور: 38]، أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 41-43].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله معشر المسلمين، واعلموا أنَّ التَّوْحيد هو حقُّ الله على العبيد، وهو إفراد الله بالعبادة، والعبادة: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظَّاهرة والباطنة.
والتَّوْحيد هو دين الرُّسل، من أوَّلهم - وهو نوحٌ عليه السلام - إلى آخِرهم وخاتمهم - وهو محمد صلَّى الله عليه وسلَّم - فمَنْ أنكره أو قصَّر في معرفته فهو مزوِّرٌ كبير، ومبطِلٌ جريءٌ.
فيا وَيْحَ مَنْ تعلَّق بغير الله أو عبد معه غيره ورضيَ به ممَّا هو ترابٌ فوق ترابٍ، يا وَيْحَهُ ... ماذا دهاه؟!
إنَّ أسلافه الأماجد لم يقنعوا بهذا العالم كلِّه مطلبًا وغايةً، حتى عقدوا من أسيافهم وصالح أعمالهم درجاتٍ يمتطون بها ثَبَجَ الهواء، ويشقُّون بها حواجز المادة الجافَّة؛ ليتَّصلوا بخالقهم ورازقهم. فما هذا التعلُّق والرِّضا بالتُّراب؟!
لقد كان المشرك الدَّنِس يتلقى لا إله إلا الله فتتمشَّى فيه، فتعقِّم جسمه ونفسه، وتطهِّرها من معاني الشهوة والفسوق، فيروح ويغدو كأنَّه مَلَكٌ في أثواب إنسان، فما للمتعلِّق بغير الله ومساءلة الأطلال الفانية؟ {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
لقد كان الموحِّد يتلو قول الله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} [الزمر: 36]؛ فيحمل سيفه المُثْلَّم، ورمحه المحطَّم، فيُسايف الأبطال المغاوير، فيُقذف في غمرات الجهاد، يُطعَن ويُضرَب، وصدره يعي هذه الآية، فما للمتعلِّق بغير الله وخشية التُّراب؟!
لقد كان الموحِّد يقرأ قول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]؛ فتَحُول هذه الآية بينه وبين الخَلْق جميعًا، وتسدُّ عليه طريق أَلَمِه، ولا يكشف لغير الله عن موضع علَّته، ولا تُسمَع منه أذنٌ مخلوقةٌ قَوْلَةَ: (آه)، حتى بايعهم المصطفى على ألاَّ يسألوا النَّاس شيئًا كما في "صحيح مسلم"، فما لهذا المتعلِّق بغير الله ودعوة الأموات والشكوى إلى الرَّميم والعظام النَّخِرَة؟!
وَيْحَ مَنْ تعلَّق بغير الله أو رجا غيره! شرب المؤمنون صفوًا، وشرب هو كدرًا، ودعوا هم ربًّا واحدًا، ودعا هو ألف ربٍّ: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].
رفع المؤمنون أبصارهم إلى ربِّ السَّماء، ونكس هو طرفه إلى الثَّرى، وأين الثَّرى من السَّماء؟! وأين عابد الأموات من عابد الحيِّ الذي لا يموت: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]؟!
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البريَّة وأفضل البشريَّة.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري ح (2478)، ومسلم ح (1780).
[2] أخرجه البخاري ح (369)، ومسلم ح (1347).
[3] صحيحٌ، أخرجه الترمذي ح (431)، وقال: حديث غريب. وابن ماجه ح (1166) عن ابن مسعود أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهاتين السورتين في السنَّة التي بعد المغرب.
[4] حسنٌ، سنن الترمذي ح (3585).
[5] مسند أحمد (4/445).
[6] مسند أحمد (4/154) وفي إسناده: خالد بن عبيد المعافري. ذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/342) أنه لم يرو عنه سوى حَيْوَةَ بن شُرَيْح؛ فهو مجهول. انظر: السلسلة الضعيفة (1266).
[7] صحيح، مسند أحمد (4/156).
[8] صحيحٌ، سنن أبي داود (3904)، سنن الترمذي ح (135)، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى ح (9017)، وابن ماجه ح (639) والحاكم (1/
وقال: صحيح على شرطهما. ووافقه الذهبي.