اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  رحيل العظماء.. دروس وعبر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100210
 رحيل العظماء.. دروس وعبر Oooo14
 رحيل العظماء.. دروس وعبر User_o10

 رحيل العظماء.. دروس وعبر Empty
مُساهمةموضوع: رحيل العظماء.. دروس وعبر    رحيل العظماء.. دروس وعبر Emptyالسبت 18 مايو 2013 - 21:23

عبادَ الله:
كمْ في أقدار الناس مِن لَحظات تختصر أعمارًا، وأسطرٍ تختزل أسفارًا! كم في عِبَر الأيَّام من مواعظَ! وكم في تقلُّبات الدُّهور من بصائر! أفراح وأتراح، انتصارات وهزائم، حياة وموت، فقر وغِنًى، حرْب وسِلم، إيمان وكفران، والله فوق عبادِه يُدبِّر أمورهم لا تَخفى عليه خافية؛ قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "الشقيُّ مَن شقي في بطن أمِّه، والسعيدُ مَن وُعِظ بغيره"؛ {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف: 109].

عباد الله:
إنَّ ترابُط أفراد المجتمع المسلم علامةُ خير ورشْد، فالمسلم يَفْرح لفَرَح أخيه، ويَسْعد لسُروره، ويتمنَّى الخير له، كما يُشاركه في حُزنه إنْ ألَمَّت به مصيبة، أو حلَّت به نازلة، فالمسلمون كالجسد الواحد، والجسدُ يتألَّم كلُّه لألَمِ أحد أعضائه، فضلاً عن فقدانه؛ ((المؤمنون كرجلٍ واحد؛ إن اشتكى رأسُه تَداعَى له سائرُ الجسد بالحُمَّى والسَّهر))؛ رواه مسلم، ألاَ وإنَّ ممَّا يُحمد لمجتمعنا حُبَّه للعلماء الراسخين والدعاة الصادقين، والأخْذ بأقوالهم والاستنارة برأيهم، وإذا حلَّ بأحد العلماء أو الدعاة أجلُه المقدَّر، وانطوت صحيفتُه، وانتقل عن هذه الدنيا، فإنَّ الجموع تحزن، والعيون تَدمع، وكأنَّها فَقدت أبًا أو أمًّا، أو قريبًا لصيقًا، وقد قال أيُّوب - رحمه الله -: "إنِّي أُخبر بموت الرَّجل من أهل السُّنة، فكأنِّي أفقد بعضَ أعضائي"، فإذا كان هذا شعورَهم عند موت الرجل العاديِّ من أهل السُّنة، فكيف تكون حالُهم عند موت أحد علماء السُّنة أو الدعاة إليها؟!
لَعَمْرُكَ مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مَالٍ وَلاَ شَاةٌ تَمُوتُ وَلاَ بَعِيرُ
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ فَذٍّ يَمُوتُ لِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُ


أيُّها المسلمون:
إنَّ رحيل العلماء والدُّعاة والمصلحين مصيبةٌ شديدةُ الوقْع على الأمَّة؛ لأنَّ في ذَهاب هؤلاء ذَهابًا للعِلم الذي يحملونه، وتوقُّفًا للدعوة التي ينشرونها، وانحسارًا لعمل الخير الذي يقومون به، ولَمَّا كان للحوادث المؤلمة آثارٌ بليغة في النُّفوس، كان لا بدَّ من وقفات وتأمُّلات، نخفِّف من خلالها الحَدَث، وننشر البُشرى، ونحثُّ أنفسنا أولاً، والناس جميعًا إلى ضرورة الاستفادة من حياة أولئك العُظماء، والاقتداء بهم.

إذَا أَعْجَبَتْكَ خِصَالُ امْرِئٍ فَكُنْهُ تَكُنْ مِثْلَ مَا يُعْجِبُكْ
فَلَيْسَ عَلَى الْجُودِ وَالْمَكْرُمَاتِ إِذَا جِئْتَهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُكْ


عباد الله:
إنَّكم في دارٍ ليستْ للبقاء، أيَّامُها مراحل، وساعاتُها قلائل، والمرءُ لا شكَّ عنها راحِل، والموت قد يَسبقه إلى العبد نُذُرٌ وعلامات من مرض مهلِك، أو حَرْب مبيدة، وقد ينزل الموتُ بالعبد بغتةً وهو على أتمِّ حالٍ وأحسنها، وإنَّ من موت البغتة والفُجأة ما يقع لفرْد أو أسرة على إِثْر هدم، أو غرق، أو حريق أو نحوه، وحوادث السيَّارات في هذا العصر مِن أوسعِ الصُّور لموت الفجأة، حيث يخرج الرَّجل أو الأسرة مِن منزلهم بسيارتهم فيؤتى بهم إلى ثلاَّجة الموتى، لا تسمع لهم حسًّا ولا همسًا.

أيُّها المسلمون:
إنَّ موت الفجأة لا يُذمُّ ولا يُمدح، فقد يكون رحمةً للمؤمن الطائع، كما يكون عقوبةً على الكافر والفاجر، فمَن كان مستعدًّا للموت كلَّ حين بالإيمان والعمل الصالح، فإنَّ موت الفجأة رحمةٌ في حقِّه، وتخفيفٌ عليه، ومَن كان متثاقلاً عن الطاعات، مسارعًا إلى المحرَّمات، فإنَّ موت الفجأة نِقمةٌ عليه، وعذاب في حقِّه؛ والميِّت يُبعث يوم القيامة على ما مات عليه، وإنَّ مِن عاجل البُشرى لِمَن ابتُلي بفقد حبيب أو قريب في حوادث الطائرات أو السيَّارات: أن يُبشَّر ذَووه بأنَّ فقيدهم يُرجى له أن يكون شهيدًا، ولا يُجزم له بالشهادة؛ لعدم ثبوت نصٍّ بضابط مَن يموت شهيدًا، وإنَّما عدَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصنافًا ممَّن يموتون ميتةً فيها شدَّة وألم؛ كالغريق، والحريق، والمطعون، والمبطون، والنُّفساء تموت بسبب ولدها، وكذا صاحب الهدم، وإنَّما تُرجى للمصاب في حوادث الطائرات أو السيارات الشهادة؛ لأنَّ موتَه فيه شدَّة وألم تُشابه أو تفوق ما ورد في النُّصوص؛ ولذا أَلْحقه بعضُ العلماء بصاحب الهدم؛ أي: الذي يتهدَّم عليه منزل فيموت، واللهَ نسأل أن يَقيَنا وإيَّاكم الحوادثَ والمِحن، وأن يُحسن لنا ولكم العاقبةَ والخِتام.

أيُّها المسلمون:
إنَّ مِن إكرام الله - تعالى - وتوفيقِه إلهامَه العبدَ من عباده التَّزُّودَ من الطاعات وأعمالِ الخير قبلَ موته ووفاته، وممَّا يدلُّ على هذا المعنى ما صحَّ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا أراد اللهُ بعبدِه خيرًا استعمله))، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: ((يُوفِّقه لعمل صالح قبلَ موته))؛ رواه الإمام أحمد، وصحَّحه الألباني، وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا أراد الله - عزَّ وجلَّ - بعبدٍ خيرًا عَسَله))، قيل: وما عَسَله؟ قال: ((يفتح اللهُ - عزَّ وجلَّ - له عملاً صالحًا قبلََ موته، ثم يقبضه عليه))؛ رواه أحمد، وصحَّحه الألباني.

قال العلماء: ومن معاني الحديث أن يَفتحَ الله للعبد عملاً صالحًا بين يدي موته، حتى يرضى عنه مَن حوله، فالعسل: طيب الثَّناء، وهو مأخوذ من العسل، فشبَّه ما رزقه الله - تعالى - من العمل الصالح الذي طاب به ذِكْرُه بين قومه بالعسل الذي يُجعل في الطعام فيَحلوا به ويَطيب، ومنه الحديث: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عسله في الناس))؛ أي: طيَّب ثناءَه فيهم.
قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمُهُمْ وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْوَاتُ


عبادَ الله:
إنَّ محبَّة الناس لا تُشترى بالمال، ولا بالتديُّن الأجوف الذي لا يَنطلق من مبادئَ راسخة وقِيم ثابتة، وإنَّ الأضواء والشاشات والشُّهرة لن تُجبِر الناس على الوقوف تحتَ أشعة الشمس الحارقة للصلاة واتِّباع الجنازة، ما لم يُسخِّرها فاطرُ الأرض والسموات لذلك، فهي إذًا منحةٌ إلهيَّة، ومنَّة ربَّانية تذكرنا بالحديث المتفق على صِحته: ((إذا أحبَّ الله - تعالى - العبدَ نادَى جبريلَ: إنَّ الله يحبُّ فلانًا فأحبِبْه، فيحبُّه جبريل، فيُنادِي في أهل السماء: إنَّ الله يحبُّ فلانًا فأحبُّوه، فيحبُّه أهلُ السَّماء، ثم يُوضع له القَبول في الأرض))، وبالحديث الآخَر في الصحيح المروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: مرُّوا بجنازة، فأثنَوْا عليها خيرًا، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وَجَبَتْ))، ثم مرُّوا بأخرى، فأثنوا عليها شرًّا، فقال: ((وَجَبَتْ))، فقال عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -: ما وجبت؟ قال: ((هذا أثنيتُم عليه خيرًا، فوجبتْ له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبتْ له النار، أنتم شهداءُ الله في الأرض)).

وإنَّ ممَّا شهد له التاريخ أنَّ علماء أهل السُّنَّة والدعاة إليها تكون جنائزُهم عجبًا من العجب، ويكون ذلك اليوم يومًا مشهودًا، فكم حفظتْ لنا كتب التاريخ من قصص، نعجب لها حين نقرؤها عن بعض جنائزِ علماء هذه الأمَّة، ورَحِم الله الإمام أحمد عندما قال: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز".
لَعَمْرُكَ مَا وَارَى التُّرَابُ فِعَالَهُ وَلَكِنَّهُ وَارَى ثيابًا وَأَعْظُمًا


فلله دَرُّه، ما أجملَ صنائعَه! وما أجلَّ مكارمَه!
رَدَّتْ صَنَائِعُهُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ فَكَأَنَّهُ مِنْ نَشْرِهَا مَنْشُورُ


أيُّها المسلمون:
إذا رأيتُم العالِم والداعيةَ مع ما يبذله من وقت وجهد ومال؛ لنَشْر الدِّين والدِّفاع عنه - يُكرمه الله تعالى بصلاح أُسرتِه وأولاده، فاعلموا أنَّ هذا من عاجل النَّعيم، ومن التوفيق الذي يَهبُه الله لِمَن يشاء من عباده، فصلاحُ الزوجة والأولاد نعمةٌ عظيمة، ومِنَّة من الله جزيلة، تسابق إلى طَلِبها وسؤالِ المولى إيَّاها الأنبياءُ والصالحون، فعن صلاح الزَّوجة يقول - سبحانه - في معرض الثناء على عِباد الله الصالحين أنَّ من دُعائهم: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

وأمَّا سؤال الله الذُّريَّة الصالحة، فقد أوضحَ القرآن وأفصح، عن طلب أنبياء الله المكرمِين أن يرزقهم الأبناءَ الصالحين الذين يكونون القدوةَ والأُسوة لِمَن بعدهم، فهذا إبراهيم - عليه السلام - يسأل ربَّه الذريَّةَ الصالحة قائلاً: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينِ} [الصافات: 100].

وهذا زكريا - عليه السلام - يُناجي ربَّه، ويسأله الولدَ؛ ليكونَ وارثًا للنبوَّة مِن بعده قائلاً: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5 - 6]، وقبل ذلك ذكر - سبحانه - عن الأبوين - عليهما السلام - أنَّهما قالا: {لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189]، فدلَّ ذلك كلُّه على أنَّ هبة الولد الصالح من أجلِّ النِّعم، وأسبغِ ألوان الكرم، كيف لا، وابن آدم إذا مات: ((انقطعَ عملُه إلاَّ من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو عِلمٍٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالِح يدعو له))؟!

عباد الله:
لَمَّا كان صلاح الزوجة والأولاد - مع ما يبذله العبدُ في سبيل الحصول عليها - منَّةً إلهيَّة، ومنحةً ربانية، يوفِّق الله لها مَن يشاء لحكمةٍ، كان الموفَّق واللهِ مَن يُكرمه الله ويُنعم عليه بصلاح زوجه وولده، وإذا رأينا مِن عباد الله مع كثرة الصوارف والملهِيات مَن أكرمه الله وأسرتَه بحفظ كتابه، وتناوبت أسرتُه الخيرَ ما بين حافظ لكتاب الله وسنَّة رسوله، وما بين مُشْرفٍ ومربٍّ لحَفَظة كتاب الله، وما بين مُبلِّغ وشارح لسُنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم يجمع اللهُ لتلك الأسرة فِعالَ الخير التي اعتادوها، فيؤدُّونها قبلَ رحيلهم من الدنيا، إذا رأيْنا ذلك عَلمْنا مقدارَ التوفيق الربَّاني، والمنحة الإلهيَّة التي استحقَّها ذلك العبدُ وأسرته، وما ذاك إلاَّ بخبيئةٍ من عمل صالح قدَّموه، وبِصدق وإخلاص لله - تعالى - الْتزموه.

هكذا نحسبُهم والله حسيبهم ولا نُزكِّي على الله أحدًا، فالمعوَّل عليه في صلاح الأسرة والأولاد بعدَ عمل الأسباب هو الله - جلَّ جلالُه - فلا صلاحَ لهم إلاَّ بالله، ولا يَهدي قلوبَهم أحدٌ سواه، وإلاَّ فكم وكم نَعرف من المربِّين النُّجباء، ومن الصالحين الفُضلاء ممَّن بذلوا، وقدَّموا لصلاح أُسرِهم وأبنائهم الغالي والنفيس؛ لكنَّهم لم يُكتب لهم ذلك، وعزاؤهم في ذلك نوح - عليه السلام - الذي مَكَث في دعوة أهله وقومه ألفَ سَنَة إلاَّ خمسين عامًا، ثم ماذا؟

قال تعالى عن زوجه {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ} [التَّحريم: 10]، وقال - تعالى - عن ابنه {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، ولَمَّا كان الأمر كذلك أيُّها المسلمون، كان دأبُ الأنبياء والصالحين الابتهالَ والتضرُّعَ إلى الله بأن يُصلحَ أولادَهم، ويَهدي ذُريَّاتِهم، والدعاءُ أثرُه لا يخفى، وأهميَّته لا تُنسى، ودُعاءُ الوالدين للأبناءِ مُستجابٌ، فادعوا الله معاشرَ الأولياء، وانطرحوا بين يدي الله - تعالى - وسَلوه بصدقٍ وإخلاص، كما دَعَا الأنبياء والمرسَلون مِن قبلكم.

عبادَ الله:
إنَّ حثَّ الإسلامِ على طلب الأولاد وتكثيرِهم ليس مقصورًا على الذُّكور منهم، بل ذلك عام يشمل الذُّكورَ والإناث، وإنَّ النُّفور والتضايق من الإناث صِفةٌ من صفات الجاهليَّة، واعتراض على حُكم الله - تعالى - وقضائه، فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أدرَى بخلقه وأعلمُ بما يُصلح أو يُفسد أحوالَهم، والمرءُ لا يَدري في أيِّ حالٍ تكون السَّعادة أو الشَّقاء، ولربما فَتَح الله له مِن أبواب الرِّزق، وسُبُل الخير ما لا يَخطر بباله حين تُولَد له بنت، ولعلَّ مغفرة الله ورضوانه لا ينالُها المرء إلاَّ بسبب البنات؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن ابتُلي مِن هذه البناتِ بشيء، فأَحسنَ إليهنَّ، كنَّ له سِترًا من النَّار))؛ رواه البخاري ومسلم، قال القرطبي - رحمه الله -: "قوله: ((بشيءٍ من البنات)) يُفيد بعمومه أنَّ السِّتر من النار يحصل بالإحسان إلى واحدةٍ من البنات، فأمَّا إذا عال زيادةً على الواحدة، فيحصلُ له زيادة على السِّتر من النار، وهو السَّبق مع رسول الله إلى الجنَّة؛ كما في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن عَالَ جاريتَينِ - أي: بنتين - حتَّى تَبلغَا، جاء يومَ القيامة أنا وهو))، وضمَّ أصابَعه - عليه الصلاة والسلام"؛ رواه مسلم.

فهنيئًا لك أبا البناتِ بهذا الشَّرف مِن رسول الله، كيف لا وأنتَ بإحسانِ تربيَتِهنَّ تُعِدُّ شَعبًا وتبني مجدًا؟! فعن عقبةَ بنِ عامر قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كان لَه ثلاثُ بناتٍ فصَبَر عليهنَّ، وأطعَمَهنَّ، وسقاهنَّ، وكساهنَّ من جِدتِه - كُنَّ له حِجابًا من النار يومَ القِيامة))؛ رواه أحمد، وعن جابر بن عبدالله- رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كُنَّ له ثلاثُ بناتٍ يُؤوِيهن ويرحمهنَّ ويَكفُلهنَّ، وجبتْ له الجنَّة البتةَ))، قال: قيل: يا رسول الله، فإنْ كانتَا اثنتَين؟ قال: ((وإنْ كانتا اثنتَين))، قال: فرأى بعضُ القومِ أنْ لو قال له: واحدة، لقال: واحدة، وكفى بذلك فضلاً وفخرًا وأجرًا.
فَإِنْ يَكُ أَفْنَتْهُ اللَّيَالِي فَأَوْشَكَتْ فَإِنَّ لَهُ ذِكْرًا سَيُفْنِي اللَّيَالِيَ


الخطبة الثانية

عباد الله:
إنَّ السؤال الذي يطرح نفسَه، والذي يَجول في خواطرنا حينما يُرينا الله من فضلِه وتوفيقه لبعض عبادِه ما يُثير الدهشةَ والاستغراب هو: كيف حَازَ هؤلاءِ الصالحون هذا القَبولَ والتعاطُفَ؟ وما العملُ الذي به يَكسب المرءُ رِضا ربِّه أولاً، ويَحوزُ به عزَّ الدنيا، وشَرفَ الآخرة ثانيًا؟

والجواب - عباد الله - الذي تواطأ عليه السَّابقون واللاَّحقون، وأدركه الأوَّلون والآخِرون: أنَّ طريق الخلاص في هذه الحياة، ونيلَ السعادة فيها وفي الآخرة - هو الإخلاصُ لله – تعالى - فمَا فاقَ أبو بكر - رضي الله عنه - أصحابَ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قَلْبه، وقال الفُضيل بن عياض: "ما أدرك عندنا مَن أدركَ بكثرة الصلاة والصيام"، وقال نُعيم بن حماد: "سمعتُ ابن المبارك يقول: ما رأيتُ أحدًا ارتفعَ مثلَ مالك، ليس له كثيرُ صلاة ولا صيام إلاَّ أن تكونَ له سريرة"، وها هو الإمام أحمد يُعيد الكلمة ذاتَها التي قالها ابنُ المبارك في مالك، فيقول: "ما رَفَع الله ابنَ المبارك إلاَّ بخبيئةٍ كانتْ له".

أيُّها المسلمون:
وإنَّ ممَّا يُعين على الإخلاص التَّقرُّبَ لله - تعالى - بالعبادة والطاعة في السِّرِّ والخفاء، كالصلاة في آخِر اللَّيل، وكصدقة السِّر، وكالدعاء بظهر الغَيب، وكمَن ذَكَر الله خاليًا ففاضتْ عيناه، وقد نَصحَنَا النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالخبيئة الصالحة؛ وهي العمل الصالح الخفي الذي لا يَعلم به إلاَّ الله - تعالى - فقال: ((مَن استطاع منكم أنْ يكونَ له خَبْءٌ مِن عملٍ صالحٍ فَلْيفعلْ))؛ رواه أحمد في الزهد، وصحَّحه الألباني.

وجاء عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثةٌ يحبُّهم الله - عزَّ وجل - ويَضحك إليهم، ويَستبشر بهم: الذي إذا انكشفتْ فِئة قاتَلَ وراءَها بنفسه لله - عزَّ وجلَّ - فإمَّا أن يُقتل، وإمَّا أن يَنصره الله ويَكفيه، فيقول الله: انظروا إلى عبدي؛ كيفَ صَبَر لي نفسَه؟! والذي له امرأةٌ حَسناءُ، وفِراش ليِّن حَسن، فيقوم من اللَّيل، فيقول: يَذَر شهوتَه، فيذكُرني ويُناجيني، ولو شاءَ رقد، والذي يكون في سَفَر، وكان معه ركْب، فَسهِروا ونصبوا، ثم هجعوا، فقام مِن السَّحَرِ في سرَّاء أو ضرَّاء))؛ رواه الطبراني بإسناد حسن.

عباد الله:
لقد كان مِن هَدي سَلفِكم الصالح عملُ الخير في الخفاء، والحث عليه؛ فعن الزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه - قال: "اجعلوا لكم خبيئةً من العمل الصالِح، كما أنَّ لكم خبيئةً من العمل السيِّئ"، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يذهب إلى بيت امرأةٍ عجوزٍ كفيفةِ البصر، فيَكنس بيتَها، ويحلب شاتَها، فَلَحِقه ذاتَ يوم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلمَّا خرج سأل العجوز عنه، فقالت: يأتيني كلَّ يوم فيعمل كذا وكذا، فبكى عمر - رضي الله عنه - وقال: ويحكَ يا عمر، أعثرات أبي بكر تتبِّع يا عمر؟! وحَصَل مثلُ ذلك بين عمر بن الخطَّاب وطلحة - رضي الله عنهما - حيث كان عمر يذهب لبيوت الأَراملِ، فيقضي حوائجَهم، فَلَحِقه طلحةُ بن عُبيد الله، فدخل بعدَه تلك البيوتَ، فوجدهم أراملَ لا يعلمون أنَّه عمر، فقال طلحة: أعثرات عمر تتبِّع يا طلحة؟!

وكان عليُّ بن الحسين يحمل الخبزَ باللَّيل على ظهره يتبع به المساكينَ في الظُّلمة، ويقول: "الصدقة في سواد اللَّيل تطفئ غضب الرَّب"، وذُكر أيضًا أنَّ ناسًا من أهل المدينة يَعيشون لا يَدرون مِن أين كان معاشُهم، فلمَّا مات عليُّ بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يُؤتَوْن باللَّيل.

لقد كانوا - أي: السَّلف، رحمهم الله تعالى - يستحبُّون أن يكون للرَّجل خبيئةٌ من عمل صالح، لا تعلم به زوجتُه ولا غيرها، ألاَ فاتقوا الله عباد الله، واختصوا لأنفسكم شيئًا من العبادات الخفيَّة، مهما قلَّت وصغُرت في أعينكم وأعين الناس، فرُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمه النيَّةُ، وربَّ عملٍ كبيرٍ تُصَغِّره النيَّة، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

ثم صلُّوا - رحمكم الله - على الهادي البشير...


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رحيل العظماء.. دروس وعبر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  غزوة أحد دروس وعبر ..
»  غزوة أحد: دروس وعبر (2)
»  سيول جدة دروس وعبر
» أسير فى قيد ... دروس وعبر
»  الهجرة: دروس وعبر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: