اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  الإسراء والمعراج "وقفاتٌ للذكرى"

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100240
 الإسراء والمعراج "وقفاتٌ للذكرى" Oooo14
 الإسراء والمعراج "وقفاتٌ للذكرى" User_o10

 الإسراء والمعراج "وقفاتٌ للذكرى" Empty
مُساهمةموضوع: الإسراء والمعراج "وقفاتٌ للذكرى"    الإسراء والمعراج "وقفاتٌ للذكرى" Emptyالسبت 18 مايو 2013 - 18:21

الإسراء والمعراج
"وقفاتٌ للذكرى"



الحمدُ لله الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأعرجه إلى السماوات العُلاَ، وأراه من آيات ربِّه الكبرى، وجعل أمَّتَه خيرَ الأمم في الآخرة والأولى.

وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريك له، أجرى مِن صُنوف المشاهدات والعِبر في ليلة المعراج ما يُذهل عقولَ البشر، فسبحان مَن له الحُكم، وإليه يُرجع كلُّ أمر!

وأشهد أنَّ سيِّدنا محمَّدًا عبدُ الله ورسوله، أهل الأمانة والرِّسالة والبيان، وناصر الإيمان بهَدْي الرحمن، رسول الهِداية والسلام، والمُجتبى بالفضل على الأنام.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:
فلا شكَّ أنَّ لكلِّ ذِكْرى حيةٍ في الدنيا أثرًا متروكًا في قلوبِ الذَّاكرين لها، حيث تمضي الأعوامُ، وتمرُّ الأيَّام وما زالت تؤتي أكلها كلَّ عامٍ ووقتٍ - بإذن ربها - بالتذكار والدَّرْس الملْهِمِ، والنهج المعلم، مهما تقادم الزمانُ وغمرت الأيَّام أحداثٌ مُنْسِيَةٌ.

نحن على ضِفاف الإسراء والمعراج نقف اليوم، تتذبذب مشاعرُنا بين الفَرَح الغامر والحزن الكئيب، وسِرُّ البهجة أنَّنا عرفْنا قَدْرَنا عند ربِّنا، كأمَّة رائدة مصطفاة في تلك اللَّيْلة، وعَرَفْنا قدرَ نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - كخِتام للأنبياء المطهَّرين، وسيِّدٍ للعالمين، وإمامٍ للمصطفَيْنَ في تلك اللَّيْلة أيضًا، أمَّا ما يملأ النفس أحزانًا، فهو سطوةُ الواقع الزاخر بالآلام حولَ الأقصى المبارك وأرض القُدس الغرَّاء - أرض الأنبياء والشُّهداء، وأرض الرِّباط وملاحم الفِداء - مِن هذه الشِّرْذمة الملعونة من إخوان القِرَدة والخنازير، والذين عاثوا فيها وبأهلها بآياتِ الخَرَاب والدَّمار والفساد، وسطَ صمتٍ عالميِّ يُمَثِّلُ العارَ والتواطؤ، وموتَ الضمير.

تُوافِينا الذِّكرى في كلِّ عام، والمسلمون يحييونها؛ إمَّا برنين الكلمات، أو تلاوة القَصَصِ المُثِيرِ للدهشةِ في العقول، وإن كان باطلاً ومكذوبًا!

وعندَ بعض المجيدين منهم تستدرُّ الدُّموع الشجيَّة بالحديث الدائم حولَ قدسنا الذي طال غيابه، وعن أماناتنا كبارًا وصِغارًا، والتي اقترب اللِّقاء بربنا ليسألنا عنها، ويا ليتَ شعري، ما جوابُنا بين يدي الربِّ العظيم؟! فاللهمَّ الْطُف بعبادك.

وقفاتٌ ثلاث:
ومع الإسراءِ والمعراج نقف ثلاثَ وقفاتٍ؛ تلخيصًا لسبب، وبحثًا عن هداية نفسٍ، وبيانًا لموقف المؤمنِ والكافر والغالي والمقتصد، وحملاً لأمانةٍ عظيمة على قدْرها، ووجوب زيادة الإحساس للشُّعور بها، وإنفاق ما تبقَّى من العُمر؛ لتدارُكِ ما فاتنا من زمانِ الجِدِّ الواجب تُجاهَها، حتى نعذر إلى الله - تعالى - وإن كانت هذه الأمانة كبيرة ومجهدة.

الوقفة الأولى: بين يدي الأسباب:
فما أنْ تُوافِينا الذِّكرى حتى يتبارى الفصحاءُ ببيان الأحداث التي سبقتْها، فلا تكاد تسمع وتقرأ وتطالع إلاَّ صُور الإيذاء المتتابع للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحبه الكرام، بدايةً من نزول الرِّسالة عليه، ووصولاً إلى عام الحُزْن، وما تخلَّل ذلك من تطاوُلِ عمِّه أبي لهب وامرأته حمَّالة الحطب، وسفاهة أبي جهل ومناصريه، وبطشهم بأصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن قتْل سُميَّة بنت خياط وزوجِها ياسر، وفقْدِ ولدهما عمَّارٍ عقلَه من شدَّة التعذيب، ووضْعِ الحجارة الثقيلة على صدر بلال بن رباح في الرَّمْضاء، وقطْع أُذن عبدالله بن مسعود، وسَمْلِ عين زنِّيرة الروميِّة، وكيِّ خبَّاب بن الأرتِّ بالنار على أُمِّ رأسِه، ومقاطعةِ أهل قريش للمسلمين، وإلجائِهم إلى شِعْب أبي طالب، وما إلى ذلك مِن صُور البلاء النازل بالمسلمين من كلِّ سبيل، هل كانت الرحلة ترفيهية؟!

وقد أَلِفَ الناسُ ذلك حتى ترسَّخ في الأذهان أنَّ سبب الإسراء والمعراج ما كان إلاَّ تثبيتًا وترطيبًا لقلْب النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن كلِّ ما سبق، وأنَّ إذا كان أهل الأرض قد خَذلوكَ فالله ناصرُك، وإذا أغلقتِ الأرضُ بابَها، فإنَّ السماء تناديك، إلى آخِرِ ما تفيض به قرائحُ البلغاء في شأن الإرضاء، وجَبْر الخواطر، كأنَّهم قد تخيَّلوا أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد وصل به الأمرُ إلى مشاعر المُحْبَطِينَ - حاشا لله - فهل كان الإسراء والمعراج ترضيةً للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم؟

إنَّه ربَّما يكون لهذا التفسير - لأحداثِ التاريخ في هذه الفترة - شيءٌ من الوجاهة في بعضِ صوره، أمَّا أن يكون ذلك الأسى هو سببَ الرحلة على أساسِ أنَّ الإسراء كان تثبيتًا وترضيةًً لقلْب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهذا وضْعٌ للشيء في غير مَحلِّه، إذ لو كان ذلك صحيحًا لَمَا فَرَض الله عليه الصلاةَ، وهي أهمُّ التكاليف، ولَمَا أَطْلعه الله - تعالى - على مصائر السُّعداء والأشقياء في الجَنَّة والنار؛ إذ إنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان في رحلة تكليفيَّة تخصُّ كيانه العالي كنبيٍّ ورسول، له في هذه اللَّيْلة أماناتٌ وبلاغٌ، وصلاةٌ بالأنبياءِ، وحمْل التكاليف لبلاغها، فهذه مسؤولية تُوجِب البلاغَ، وهو الوظيفة العُظْمى لكلِّ رسول.

فهل مِن المعقول أن نُلغي طبيعةَ عمله ومسؤوليته - صلَّى الله عليه وسلَّم - في موقفٍ من أهمِّ مواقف البلاغ؟ كلاَّ، فقد صَعِد وعاد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو رسول مبلِّغ، لم تسقطْ عنه مسؤولية البلاغ لحظة، في كلِّ زمان ومكان، في الأرض أو في السماء؛ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].

والله - تعالى - يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، فقد حدَّدت الآيةُ الكريمة الهدفَ من هذه الرِّحلة بقول ربنا: {لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا}، وهذه الرؤيةُ هي رؤيةُ مَن يرى ليُبلِّغَ، لا ليسعدَ ويأنسَ بما يرى فقط.

أمَّا فيما يتعلَّق بأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يحتاج إلى تثبيتٍ بهذه الرحلة، فهذا كلامٌ مردود؛ وذلك لأنَّ الله - تعالى - قد ثبَّته بشرْح صدره قبلَ الإسراء وليلته؛ قال الله - تعالى -: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، وذلك من جملة إعدادِ الله - تعالى - له.

كما أنَّ الله تعالى قد قال لنبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن القرآن الكريم: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]، ولم يذكرْ كتابُ الله أنَّ شيئًا يُثبِّت قلْبَ النبيِّ إلا القرآن، ثم إنَّ الله - تعالى - قد أعدَّ نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - إعدادًا تامًَّا قبلَ أن يبعثه، فما كان ليحتاجَ إلى أمثال هذه الرِّحلة، حتى يثبتَ قلبه، إنَّ حاله كما قال القائل:
وَلَوْ خُلِقَتْ قُلُوبٌ مِنْ حَدِيدٍ لَمَا حَمَلَتْ كَمَا حَمَلَ الْعَذَابَا

ونحن نميل عن مرْمى الصواب حينما نقيس حالَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بحالنا.

فيا ليتَنا نَضرب الصَّفْحَ عن هذا التَّكرار الذي لا يُثبتُ لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمانةَ التبليغ ليلةَ المعراج، ويجعل الرحلة كلَّها مجرَّد ترفيه وترضية له -صلَّى الله عليه وسلَّم - وهذا لا يَليق بقدره العالي.

رحلة عمل:
نعم، كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رِحلة عملٍٍ بالدَّرجة الأولى، ولم تكن ترفيهًا محضًا، فقد أَرْسل اللهُ - تعالى - للخليقة منذ بدايتها الرسلَ والأنبياء؛ ليَهدُوا الخلقَ إلى صراط الله الحق، وما أجابهم في جَمْعِ الزمان إلاَّ القليل، كما كان الحال مع النبي الصابر نوحٍ - عليه السلام - الذي قال الله - تعالى - عنه: {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40]، وذلك بعد رحلة دعويَّة استمرَّتْ لألف سنة إلاَّ خمسين عامًا.

وكان الرسلُ الكرام يُخبِرون الناسَ عن نعيم الجَنَّة، وعن عذاب النار، مستدلِّين على صِدْق ما يقولون بما لدَيهم من كتب أو معجزاتٍ مؤيِّدةً لهم على صِدْق دعواهم، كلُّ هذا والناس كأنَّهم لا يُصدِّقون، فالإيمان بالغَيْب ليس سهلاً، ولذلك كان أول صفاتِ المؤمنين ذِكْرًا في القرآن العظيم؛ قال الله - تعالى -: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} [البقرة: 2 - 3]، ولكنَّ الخلق منذُ الزمان الأوَّل كأنَّهم غيرُ واثقين من قصَّة العذاب والنعيم في الآخرة، وكأنَّ الله - تعالى - قد شاء أن يرفعَ أحد خلقه؛ ليقفَ على مشاهدات النعيم والعذاب، ومطالعة مصاير السُّعداء والأشقياء عيانًا بلا حجابٍ، وكان هذا هو أفضلَ الخَلْق، وحبيب الحق، المعدَّ لهذا الفضل بإعداد الله تعالى له.

لا غرو؛ فلم يكن أوْلى بهذا الفضلِ وهذه المنزلة إلاَّ رسولُ الله، سيِّدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فصَعِد إلى سماءٍ لا تُطاولها سماء، وهناك {رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]؛ ليبلِّغَ للناس أنَّه رآها وطالَعَها، وليس راءٍ كمن سمع، وذلك ليقيمَ الله - تعالى - تمامَ الحُجَّة التامة على خَلْقه بتأكيد النعيم والعذاب والجنة والنار، على وَفْق ما رآه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأيَ العين.

ومِن نافلة القوْلِ أن نؤكِّد على أنَّ الإسراء والمعراج كانا أكبرَ المعجزات الحسيَّة لرسولنا الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفيهما أيضًا مِن سمات التشريف وعلوِّ القدر ما لا يجمعه وصفُ بيان، أو بلاغةُ لسان، بل إنَّ البليغ المجيد ليعجزُ حتمًا عن تصوير شرفِه الأسنَى - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليلةَ المعراج، إنَّما هي محاولات – إن كانتْ – لتقتربَ من بعض جميلِ معناه، وكرامته السامقة، وما أجملَ ما قيل في حقِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
كَيْفَ تَرْقَى رُقِيَّكَ الْأَنْبِيَاءُ يَا سَمَاءً مَا طَاوَلَتْهَا سَمَاءُ
لَمْ يُسَاوُوكَ فِي عُلاَكَ وَقَدْ حَا لَ سَنًى مِنْكَ دُونَهُمْ وَثَنَاءُ
إِنَّمَا مَثَّلُوُا صِفَاتِكَ لِلنَّا سِ كَمَا مَثَّلَ النُّجُومَ الْمَاءُ

الوقفة الثانية: موقف الناس من الإسراء والمعراج:
بعدَ نزول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من هذه الرحلة المباركة، شَرَع في الإخبار عمَّا شاهد، فقد كانتْ هذه الرحلةُ فتنةً لجميع الأطراف، إلاَّ الصادقين في إيمانهم، والثابتين كالجبال الرواسي، وكان الخبرُ مفاجأة سارَّة للمؤمنين الصادقين، وما زادهم سماعُه إلاَّ يقينًا وتثبيتًا، وكان في مقدِّمتِهم الصِّدِّيقُ أبو بكر - رضي الله تعالى عنه -الذي قال: "إنِّي أُصدِّقه في خَبَرِ السَّماء"، وذلك بعدَما حاول الملعون أبو جهل – عبثًا - نثرَ بذور الشكِّ في قلْبه.

على حين أنَّه كان فتنةً لبعض الذين لم يُشْرب الإيمانُ في قلوبهم، فارتدّوا عن الإسلام.

وأمَّا موقف المعاندين من صناديدِ الكُفْر، فقد اختصره أبو الحَكَم بن هشام، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "أُسريَ بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى بَيْت المقدس، ثم جاء من ليلتِه، فحدَّثهم بمسيره، وبعلامةِ بيْت المقدس وبعِيرهم، فقال ناس: نحنُ لا نُصدِّق محمَّدًا بما يقول، فارتدوا كفَّارًا، فضَرَب الله أعناقَهم مع أبي جهل، وقال أبو جهل: يُخوِّفنا محمدٌ بشجرة الزقُّوم، هاتوا تمرًا وزبدًا فتزقَّموا"؛ مسند أحمد (5/183)، وإسناده صحيح.

ولذلك قال الله – تعالى -: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60]، نعم كانتِ الرؤيا فتنةً مربكة للقلوب التي لا ترتَكِز على رُكنٍ شديد.

فقد أسْفرَ العِنادُ عن وجهه القبيح مع صوت أبي جهل وأشباهه، وأسفرَ الإيمان الصادق عن مواقفِ الخير للصِّدِّيق والمؤمنين، وأسفر الشكُّ عن ارتداد البعض، وذلك شأنُ هذه المعجزة الكبرى؛ أنَّها كانتْ فتنةً للبعض، وغربلةً للصفِّ الإسلاميِّ قبلَ بناء الدولة بعد ذلك في المدينة بما يَزيد عن عامٍ ونصْف العام.

الحال يصرِّح بالجواب:
ولا شكَّ أنَّ حال كثيرٍ من المسلمين يختصرُ الإجابةَ عن موقفِه عندَ سؤاله، وهذا بالنسبة للعامَّة، بأعمالهم التي يتجلَّى فيها النزوع إلى الجنة والاستعداد لها، أو بالحراك البعيد عن هَدْي الإسلام، كأنَّه قد نَذَر نفسَه للعذاب.

وما زالتْ هناك مجادلاتٌ عقيمة، وكلامٌ كثير مِن طوائفَ من المسلمين، والتي أرهقَها المسيرُ منذُ أزمان في خطًى عقيمة مِن البحْث الذي لا طائِلَ من ورائه، وما إلى ذلك من الكلام الذي لا طائلَ منه إلاَّ زيادة البعثرةِ والتشتيت لمواقفِ الرموز من هذه الأمَّة، يجب أن نَسيرَ في طريق الإيمان الذي نال به أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - لقبَ الصِّدِّيق، ما لَنَا وبُنَيَّاتُ الطريق المستوردة مِن خلف البحار، وما وراء النهر، وعلى أفق الجبال؟!

إنَّ لنا دِينًا يجبُ أن نتلقَّاه كما أنزله الله - تعالى - على قلْب رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا أن نتلقَّاه بفِكْرِ فيلسوفٍ، أو لسانِ مجادل، أو نخلط عليه قدرًا من الموروثات الفِكريَّة من الشَّرْق أو الغرب، ولنا أن نعلم أنَّ الصحابة الكرام كانتْ مواقفهم حيالَ هذه القضايا واحدةً، أو على الأقلِّ: قريبة مِن أن تكون واحدة، ولم يكنِ الشِّقاق والتنافُر والبعد هي السماتِ الغالبةَ عليهم - كما في هذا الزمان.

ويتوجَّب على الأمَّةِ - بعدَ هذه المراحل مِن الجدل العقيم الذي لم نَجْنِ منه إلاَّ قبضَ الرِّيح - أن تَهبَ قواها وإمكانياتها لتطبيق أحكامِ الدِّين في كلِّ مجال، وأن نحاول إدراكَ الهدف من كلِّ ما نقوله، ونطرحه ونعرضه، ولتحذرِ الأبواقُ اللامعة، والتابعون للفِكْر الدخيل من نتيجةِ ما يَصدُّون به العِبَادَ عن الدِّين باسم التديُّن والتجديد.

إنَّ موقف الناس يكادُ يكون معروفًا من قصَّة الإسراء والمعراج؛ وكما يقول البعض: لا تصرِّح، فالحال ناطقة، ونطْقُ الحال أبلغُ دائمًا من نطْق المقال، وأحوال الناس تسير كلُّها في دربَين لا ثالثَ لهما، إمَّا درْب السعداء باتِّباع الشَّرْع والسَّيْر على محجَّته الغرَّاء، فهؤلاء طلاَّب الجَنَّة، وهم دائمًا قلَّةٌ في كلِّ زمان ومكان، وإمَّا درب الأشقياء وكلُّه فروع متعرِّجة بمقدار سُبُل الغواية المرصودة على طريق النار، وبئس القرار، نعم يُنبِّئُنا واقعُ الحياة بين الناس بموقفِهم الواضح مِن هذه الذِّكْرى الحيَّة.

ليس صعبًا أن تتعرَّف على مَن يؤخِّر الصلاة، أو يمنع الزكاة، أو يَنزِع إلى منازع الفُجور، أو يأكل أموال اليتامى ظلمًا، أو يأكل الرِّبا، أو يأكل لحومَ الأحياء والأموات بلا نكير.

ليس صعبًا على كلِّ مَن له عقلٌ يُفكِّر به أن يتعرَّف على موقف هؤلاء مِن الإسراء، كما أنَّه ليس صعبًا أيضًا أن يتعرَّف على موقف المصلِّين المزكِّين الصائمين أهلِ قيام اللَّيْل، وأهل القرآن، أهلِ الوفاء مع الله - تعالى - باتِّباع شرْعه، وأهلِ الوفاء مع دينهم بتطبيق أوامره، وصدق من قال - سبحانه -: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].

الوقفة الثالثة: وديعة محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
ومِن ذِكْرى الإسراء والمعراج يجب ألاَّ ننسى أنَّ القدس وديعةُ سيِّدنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكلِّ المسلمين، ففي درج البيان الذي يَشرحُ التاريخَ رسالةٌ هامَّةٌ لكلِّ مسلم: أنَّ عليه واجبًا نحوَ البيت المقدس أيًّا كان موقعُه وموضعُه، وفحواها:
• أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد صلَّى إمامًا بالأنبياء في المسجد الأقصى، وهذا معناه أنَّ مقام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يَعدِلُه مقام، وكذلك يجب أن تكون أمَّتُه، وفيه الإشارة أيضًا إلى أنَّ هذا المسجد المبارك قد تمَّ ضمُّه إلى أخويه: المسجد الحرام، ومسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليتبوَّأَ مكانَه اللاَّئق به ضِمنَ مقدَّسات المسلمين.
• أنَّ القيادة الرُّوحيَّة للأمم قد ذهبتْ إلى غير رجعة مِن أيدي بني إسرائيل بعدَ أن كانتْ لهم زمانًا طويلاً.
• أنَّ الله - تعالى - نَزَع الملك من بني إسرائيل على البيت المقدَّس والمدينة المقدسة، لَمَّا زاد طغيانُهم وبُعدُهم عن شرْع الله - تعالى - الذي ارتضاه لهم، وأنَّ الأيَّام السود النَّحِسات قد كشَّرت عن أنيابها أيضًا للمسلمين القاطنين حولَه، ولا أظنُّ إلاَّ أنَّ الذين حولَه هم كلُّ المسلمين بديارهم، وكل أوطانهم، بسبب بُعْدِهم عن الله أيضًا؛ قال الله – تعالى -: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
وليس هناك في الضنكِ من معنًى أسوأ منه في جانب العِزَّة الضائعة، والأوطان المستباحة، والكرامة المُهْدَرة، فهي إذًا سُنَّةٌ من الله ماضية بأنَّ مَن أعرض عن الهُدَى أُورِثَ الضلالَ والضنك.
• أنَّ التاريخَ قد سجَّل منذُ أزمان أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب قد فَتَحها، وأنَّ صلاح الدِّين الأيوبيَّ قد حرَّرها، فسجِّلوا أنفسكم في ديوان النصر، فإنَّه قادم لا محالة، وقد يُبطئ زمنًا؛ لكن له موعدٌ قدَّره ربُّنا الرحمن – سبحانه.

وأهلُ النَّصْر هم المؤمنون أينما كانوا، وفي أيِّ زمن، قد يضع أحدُهم بَذرةَ النصر، ولكنَّها لا تنبت إلاَّ بعدَ أعوام، ويحدوه الأملُ في تحقيق مُنَاه، كما فعل الشهيدُ نور الدِّين محمود الزنكي الذي أعدَّ المنبرَ لظنِّه أنَّ النصر سيكون في زمانه، ولكنَّه كان على يدِ تلميذه صلاح الدِّين الأيوبيِّ - رحم الله الجميع.

فيا ابنَ الإسلام:
قد يستغرقُ النصرَ أجيالاً من الإعداد والصَّبْر والمتابعة، وأنت بعمرك المقدور جزءٌ من زمانه، فلا تحقرْ نفسَك باليأس، وكنْ على قدْرِ التحدِّي، واحملْ أمانتَك وأنت تمضي على طريق النَّصْر الموثوق، وأدِّ ما قد وجب، ولا عليكَ بعدَ ذلك إنْ أدركك النصر أو لا؛ لأنَّ الله - تعالى - مُطَّلع عليك وعالِمٌ بما تفعله، وقد سجَّلتَ اسمك في الدِّيوان قبل أن تَلْقى وجهَ الله الكريم.

وإنَّ التاريخ لم يُسجِّل اسمَ مَن أضاع القدسَ والأقصى، فله الإهمال بقدر ما أَهْمل، مع أنَّ له العذابَ الأليم في الخلود بمقدار ما ضَيَّع من الأمانة، وبالطبع لن يحفل التاريخُ بأسماء مَن هزمونا نفسيًّا من بني جِلْدتنا رغمَ أنَّه سَيَصِمُهم بوصمات العار والمذلَّة.

القضية دينية، متى نعقلها؟

إنَّ قضية فلسطين والمسجد الأقصى هي الجُرْح النازف، والوجعُ الدائم للمسلمين أجمعين، ويجب أن تُوضَعَ في الأولويات على أساسٍ دِينيٍّ، كلُّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يتحمَّلون أطرافَ هذه المسؤولية، وليس أبناء فلسطين وحْدَهم؛ بل إنَّها أُمُّ القضايا التي تفرِض نفسَها على عقول وقلوب المخلصِين من المسلمين، وهي كذلك شأنٌ ذاتيٌّ لنا - نحن المسلمين - ومِن الحماقة ما يحدُث من خلْط الأوراق، والمتاجرة بالقضية بجعْلِها خاصَّة بأهل فلسطين تارة، وتارة أخرى بأهْل العروبة دونَ النظر إلى الدِّين.

إنَّ الذين يتكلَّمون عن فلسطينَ العربيَّة آنَ لهم أن يسكتوا، نودُّ أن نسمعَ مَن يخاطب العالَم والتاريخ والأجيال الصاعدة عن فِلسطينَ المُسلِمة، إنَّ النبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينما أخبرَ عن زمان النَّصْر القادم - إن شاء الله تعالى - لم يُخبرْنا أنَّ جنديًّا غير مُسلِم سيكون في أرض النزال، بل حينما بشَّرَنَا بكوْن الحجر والشجر من جنود الله - تعالى - في دَحْر اليهود آخرَ الزمان، فإنَّهما لن يُناديَا في المعركة إلاَّ على المسلمين؛ فعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تقومُ الساعةُ حتى يُقاتِلَ المسلمون اليهود، فيقتلُهم المسلمون، حتى يختبئَ اليهودُ مِن وراء الحجر والشَّجر، فيقول الحجرُ أو الشَّجر: يا مسلمُ، يا عبد الله، هذا يهوديٌّ خَلْفي، فتعالَ فاقتلْه، إلاَّ الغرقد؛ فإنَّه مِن شَجَرِ اليهود))؛ مسلم.

إنَّ الحجر والشَّجرَ لن يقولاَ سوى: ((يا مسلم، يا عبد الله))، إنهما لن يُؤمِنَا ساعتَها بهذه الحدود التي اصطنعَها الأعداءُ بين الأشقَّاء؛ ليسكنوا في فِكْرهم ويُحرِّكوهم إلى الوِجْهةِ التي يَرُومونَها بكيدهم، كما أنَّهما لن يُقيمَا كبيرَ شأنٍ لهذه النسبة بين الأوطان، بمعنى أنَّهما لن يناديا بوصْف النِّسبة إلى البلد على المِصريِّ، أو الأردني، أو المغربي، أو اليمني، أو السوري، أو الكويتي، أو العراقي، وإنَّما سيُناديانِ على المسلِم فقط.

أساس القضية موجودٌ ومعروف، ألاَ وهو أساس الدِّين، إنَّ اليهود حينما جاؤوا من شتَاتِ الأرض لم يؤسِّسوا دولتَهم على طمْعٍ دنيوي، ولا ثَرْوات طبيعيَّة، ولم يَكُونوا باحثِين عن شهوات، ولا عاطلِين عن العمل، وإنما جاؤوا بوعود التلمود، وأحلام التوراة المُحرَّفة لديهم، وما هذه المساندةُ والدعمُ القديم المتجدِّد بين اليهود والنصارى في معضلة فلسطين إلاَّ بناءً على أساس دِيني، ويا لَيْتَنا لا نكون قد نَسِينا بعدُ تصريحَ رئيس أكبر دولة في العالَم، منذ أعوام ستة قد مضت بكلِّ ما فيها عن الحروب الصليبيَّة الجديدة إلى بغداد، كما كانت من قبلُ، ولا تزال إلى اليومِ في كابول.

أيها المسلمون:
اجعلوا الأساسَ على صخرةِ الدِّين، فهو الأساس الوحيد الذي يتحمَّل بِناءَ القضية، لقد جَرَّب الكبارُ من هذه الأمَّة كلَّ ما جرَّبَه السابقون من أسلافهم، فلم يَجنُوا خيرًا؛ بل أضْحى حالُهم كقول القائل: "مَن جرَّب المجرَّب حلَّت له الندامة"، على حين أنَّ أعداءَنا قد بالغوا في شَططِهم الدِّينيِّ، فانتحلوا من أضغاثِ أحلامهم ما صبغوه بصبغة الوحي المقدَّس لدَيهم، وخرجوا على العالَم بقصَّة أرض الميعاد، وعاوَنَهم النصارى وآزرُوهم في المحافل، وعلى أصوات البنادقِ، وبدَعْم كامل، ولهم في ذلك فيما بينهم مواثيقُ غير مكتوبة.

"كتب حاييم وايزمان في مذكراته يقول لقومه: تحسبون أنَّ لورد "بلفور" كان يُحابِينا عندَما منحَنَا الوعد بإنشاء وطن قومي لنا في فلسطين؟ كلاَّ، إنَّ الرجل كان يستجيب لعاطفةٍ دِينيَّة يتجاوب بها مع تعاليمِ العهد القديم"؛ الشيخ محمد الغزالي "مائة سؤال عن الإسلام"، (412)، ط 5، 1996، دار ثابت، القاهرة.

إنَّ هناك عاطفةً دينيَّة تحرِّك خيوطَ السياسة في العالَم ضدَّ المسلمين في قضية فلسطين والأقصى، وقد تجلَّت هذه العاطفةُ في النخبة العالميَّة الحاكمة في أوروبا الآن، فكثيرٌ منهم لهم أصول يهوديَّة، وعروقُهم دسَّاسة إلى المغضوب عليهم من كلِّ سبيل، فلا جَرمَ أنَّ نشاهد جُلَّ حكَّام القارة البيضاء، وهم في إسرائيل بخشوعِ بادٍ يَقِفُون عندَ المبكى، مُتقلِّدين ما يُشبِه مسوحَ الأحبار في تلاقٍ عجيبٍ على الكُفْر، مع الإصرار عليه!! ولا تخلو تصاريحُ الطغامة الحاكمين الآنَ في أرْضِنا المحتلَّة من المسحة الدِّينيَّة الظاهرة بلا خفاء.

ونحن نتحرَّق شوقًا على أن نسمعَ تصاريحَ مَن يقودون أُمَّة الإسلام، وهي تصدر مِن عُمْق إيماني، حتى تستطيعَ مُجابهةَ ما لدى القوم من تمسُّك بالباطل، وإصرارٍ عليه.

"لقد قال الخليفة الأوَّل أبو بكر الصِّدِّيق لقائدِه المظفر خالدِ بن الوليد في إحدى وصاياه: حارِبْ عدوُّكَ بِمِثْل ما يحاربُك به: السيف بالسيف، والرمح بالرمح...، فإذا كان عدوُّنا يُحاربنا باسم الدِّين، حاربناه بالدِّين أيضًا، فإذا جَنَّد عدوُّنا جنودَه باسم (يهوه) إله إسرائيل، جَنَّدْنا جنودَنا باسم الله ربِّ العالمين، وإذا دَفَع جنودَه باسم اليهودية، دَفَعْنا جنودنا باسم الإسلام، وإذا قاتَلَنَا بالتوراة، قاتلْناه بالقرآن، وإذا جاءنا تحتَ لواء موسى، جئناه تحتَ لواء موسى وعيسى ومحمَّد، فنحن أولى بموسى منهم، وإذا ذَكروا نبوءات (أشعيا)، ذكَرْنا نحن أحاديثَ البخاري ومسلم، وإذا حاربَنَا من أجل الهيكل، حاربْناه من أجْلِ المسجد الأقصى الذي بارك الله حولَه، وإذا قال عدوُّنا لجنوده: أنتم شعبُ الله المختار، قلْنا لجنودنا: أنتم خيرُ أُمَّةٍ أُخرِجت للناس، وبهذا نكون نحنُ المتفوقين؛ لأنَّنا أصحابُ الدِّينِ الأقوى، ولا يفلُّ الحديدَ إلاَّ الحديدُ"؛ د. يوسف القرضاوي، "الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي"، (157)، الناشر: بنك التقوى، بدون.

إنَّ مدادَ القضية عند الأعداء، ومَن يَقِف في صفِّهم دِينيٌّ محضٌ، فمتى نَعقِلها، ونحمي حِماها؟!

إنَّ المسجدَ الأقصى لن يُحرَّر بالمفاوضات، ولا بموالاةِ الأعداء، فإنَّهم قومٌ بُهْتٌ في أخلاقِهم، وإنَّ الحقَّ لا يُوهَبُ ولكنَّه يُنْتَزَعُ، والأساسُ في الحراك من أجل القدس والمسجد المقدَّس يجب أن يكونَ على الدِّين، لا على العُروبةِ، ولا مِن أجل أيَّة علائق أخرى، بل هو الدِّين وكَفَى.

وإلى المسلمين ننادي:
باسم الإسلام دِينِ الله الحقِّ، والذي شرَّفَنا الله - تعالى - بالانتماء إليه، نبثُّ آلامَ الجراح، ونتوثَّب لعبير الأمل بأن تكونَ الذِّكْرى ملهمةً إلى كل فضلٍ، دافعةً بإذن الله إلى المكارم وتجاوز الواقِع المرير، والتناصر بين المسلمين، يا خيرَ أمَّةٍ أُخرجت للناس:
لا تنسَوا الأقصى في زَحْمة الدنيا، فإنَّه مسجدُكم، وكَنْزُ الكرامة لديكم، وهل يترك عاقلٌ كَنْزَه؟! وهو أمانتُكم، ولا يصونها إلاَّ الأمناء، كما أنَّه لا يُفرِّط فيها إلاَّ كلُّ خوَّانٍ.

عَلِّموا أولادَكم حُبَّ الأقصى، والحُزنَ على غربته، قولوا لهم: إنَّ لنا غريبًا طال انتظارُه، علَّ أحدَهم يكون رمزًا لحمايته في زمن الضياع، واقرؤوا لهم تاريخَه، ولا تُجفِّفوا منابعَ الذِّكْرى في قلوبهم، واتركوهم قبلَ أن تفارقوا دنياهم، وقد أخذتم عليهم العَهدَ، وتركتم لهم الوصيةَ، كما أنَّكم حريصون على أن تتركوا لهم الأموالَ والمتاع.

فإنَّ الكافرين من زمان النبيِّ الصابر الشَّكُور نوح - عليه السلام - كانوا يَصدُّون عن الهُدى في حياتهم، ويُلقِّنون أولادَهم دروسَ الكفر بعدَ هلاكهم!!

أليست هذه وصاياهم: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح: 23 - 24]؟!
والحق الذي ورثناه عن دِيننا فيما يخصُّ القدسَ والأقصى يستحقُّ منَّا أن نُورِّثَه لأولادنا.

لا تنسوا إخوانَكم المحاصَرِين والمجاهِدِين في غزَّة، رمز الكرامة والصمود، ومن أهل الرِّباط حول المسجد المقدس، وفي ربوع الأسيرة فلسطين، وكونوا لهم نُورًا ساطعًا في ظُلْمةِ الحياة، وفي المسغبة عونًا ونصيرًا، وفي الأمراض ترياقًا وشفاءً.

إنَّا لعلى يقينٍ موثوق بأنَّ الدَّوْر لنا لا علينا، وأنَّ الدهر قُلَّبٌ لا يدوم على حال، وأنَّ الله - تعالى - سيُنِزل النصرة على عباده بعدَ الخُطوات الأولى من السَّيْر إلى الأقصى في حُلل الظافرين، ومواكب الفاتحين.

ونسأل الله - تعالى - بِمَنِّه وكرمه أن يُخلِّصَ المسجدَ الأقصى وفِلسطين مِن نِيرِ الغاصبين، آمين يا ربَّ العالَمين.

والحمدُ لله في بَدْءٍ وفي خَتْمٍ.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الإسراء والمعراج "وقفاتٌ للذكرى"
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الإسراء والمعراج
» الإسراء والمعراج (1)
» الإسراء والمعراج
» فوائد من حادثة الإسراء والمعراج
»  دروس من الإسراء والمعراج

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: