دروس من الإسراء والمعراج
كانت معجزة الإسراء والمعراج من أجل المعجزات وأعظم الآيات التي تفضل بها المولى - سبحانه - على نبيه ومصطفاه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولأهميته هذه المعجزة، فقد ذكرها الله - تعالى - في كتابه الكريم في موضوعين، الأول: في سورة سميت باسم هذه المعجزة وهي سورة " الإسراء" والتي بدأها - سبحانه -: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (1) سورة الإسراء.
والثاني في سورة النجم قال - تعالى -: "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(18)) سورة النجم.
ومعجزة الإسراء والمعراج فيها مشاهد عظيمات وآيات باهرات يتعلم منها المسلم الدروس والعبر والتي منها:
1- الثبات على الحق وإلتزام المبدأ:
ويتضح ذلك من المشهد الذي رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - لماشطة ابنة فرعون، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (لَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِىَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَىَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلاَدِهَا. قَالَ: قُلْتُ وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِىَ تَمْشُطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِى، قَالَتْ: لاَ، وَلَكِنْ رَبِّى وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا، فَقَالَ: يَا فُلاَنَةُ وَإِنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِى؟ قَالَتْ: نَعَمْ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ، فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِىَ وَأَوْلاَدُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِى وَعِظَامَ وَلَدِى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الْحَقِّ. قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلاَدِهَا، فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِىٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِى فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ) أخرجه أحمد 1/309(2822).
2- أهمية الصلاة ومنزلتها في الإسلام:
وذلك أن الصلاة هي الفريضة الوحيدة التي فرضت ليلة الإسراء والمعراج في السماء السابعة وبدون واسطة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ، قلت: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي –وَاللَّهِ- قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ! قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى، وَأُسَلِّمُ... فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي) [البخاري: 3598].
3- الصداقة الحقيقية مبادئ ومواقف:
فحينما عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من رحلة الإسراء والمعراج، وقص على قريش ما حدث، انطلق نفرٌ منهم إلى أبي بكر - رضي الله عنه - يسألونه عن موقفه من الخبر، فقال لهم: "لئن كان قال ذلك لقد صدق"، فتعجّبوا وقالوا: " أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ "، فقال: "نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة "، فأطلق عليه من يومها لقب " الصديق " [عيون الأثر، ابن سيد الناس 471].
هكذا الصداقة الحقيقية مبادئ ومواقف، ولله در من قال:
جزى الله الشدائد كل خير *** عرفت بها عدوي من صديقي
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة إلا أبا بكر فإنه لم يتلعثم). قَالَ عُمَرُ بْنُ - الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: " لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَرَجَحَ بِهِمْ) [شعب البيهقي(144)]. وكان يقول: ليتني شعرة في صدر أبي بكر.
4 الفاحشة سبب لانتشار الأمراض والبلاءات:
ويتضح ذلك من هذا المشهد، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في حديث الإسراء قال: (ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأخونة، عليها لحم مشرح، ليس يقربه أحد، وإذا أنا بأخونة، عليها لحم قد أروح ونتن، عندها أناس يأكلون منها، قلت: يا جبريل، ما هؤلاء؟ قال: قوم من أمتك، يتركون الحلال ويأتون الحرام) [البيهقي: دلائل النبوة 2/392].
لذا فقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من انتشار الفاحشة (الزنا) وكذا التبرج والسفور وجعل ذلك سببا لانتشاء الأمراض والأوجاع فقال: (لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ في أَسْلاَفِهِمُ الِّذِينَ مَضَوْا) [أَخْرَجَهُ ابن ماجة (4019)].
5- مكانة المسجد الأقصى في الإسلام:
للمسجد الأقصى قدسية كبيرة عند المسلمين ارتبطت بعقيدتهم منذ بداية الدعوة. فهو يعتبر قبلة الأنبياء جميعاً قبل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو القبلة الأولى التي صلَّى إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتم تغير القبلة إلى مكة.
وقد توثقت علاقة الإسلام بالمسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج حيث أسرى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وفيه صلى النبي إماما بالأنبياء، ومنه عرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء. وهناك في السماء العليا فرضت عليه الصلاة.
ويعتبر المسجد الأقصى هو المسجد الثالث الذي تشد إليه الرحال، فقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - إن المساجد الثلاثة الوحيدة التي تشد إليها الرحال هي المسجد الحرام، والمسجد النبوي والمسجد الأقصى.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومسجد الأقصى» [صحيح البخاري برقم (1189)، وصحيح مسلم (1397)].
قال شوقي:
أسـرى بك الله ليلا إذ ملائكـه *** والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما خطرت بهم التفوا بسـيدهم *** كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر*** ومن يفز بحـبـيـب الله يأتم
حتى بلغت سماء لا يطـار لها *** على جناح ولا يسـعى على قدم
وقـيل كل نبـي عند رتبـته؟ *** ويا محمد هــذا العرش فاستلم
إن رحلة الإسراء والمعراج لم تكن مجرد رحلة تسرية وتسلية لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفقط، بل كانت رحلة تربية وتهذيب لنا، فلعلنا ننتفع بهذه الدروس، ونحيي بها ما اندرس في النفوس.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.