اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  ماذا بعد رمضان؟ (1)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100265
 ماذا بعد رمضان؟ (1) Oooo14
 ماذا بعد رمضان؟ (1) User_o10

 ماذا بعد رمضان؟ (1) Empty
مُساهمةموضوع: ماذا بعد رمضان؟ (1)    ماذا بعد رمضان؟ (1) Emptyالسبت 18 مايو 2013 - 15:09

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون، يَمتاز الإسلام عن غيره من الدِّيانات من حيث التطبيقُ والعمل: أنَّه دينٌ دائم الاتصال بالعبد، لا ينفكُّ عنه بمجرد ذهاب شعيرة أدَّاها، أو يتحلل منه فَوْر انتهاء زمن عبادةٍ معظَّمة فيه، بل يَظل الإسلام ملازمًا للعبد في كلِّ الأوقات والأمكنة، في البيت والسُّوق والعمل، وفي كلِّ مكان، وفي شعبان ورمضان وشوال، وفي كل زمان.

يَظلُّ هذا الدِّين يصلُ العبد بربه، ويعلو به إلى الملكوت الأعلى، ويسمو به عن دَنايا الدُّنيا، وهذا الحسن لا يظهر إلاَّ في مُؤمن التزم الإسلام ظاهرًا وباطنًا كلَّ وقت وحين.

بينما لو أبصرت الدِّيانات الأخرى، لوجدت أنَّ شعائرهم مُجرد طقوس يُؤدونها في أوقاتها، وعادات يألفونها، لا تعدو أنْ تكون مجرد إشباع قلبي زائف، لا يصل العبد بخالقه، ولا يوجد السعادة والطمأنينة في داخله.

من هنا كانت العُبودية في الإسلام لله - تعالى - على الدوام، تستمر مع العبد منذ التكليف حتى اللحد، لا ينفكُّ عن الاتصال بالله - تعالى - إلاَّ إذا تنكَّب العبد الطريق، وضلَّ عن الصراط المستقيم.

انظروا مثلاً إلى الصلاة المفروضة التي تتكرر مع العبد كلَّ يوم وليلة، وإلى الصيام الذي يعود كلَّ عام، ومثل ذلك يقال في الزَّكاة والاستغفار، وقراءة القرآن، وسائر الذكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وغيره مما يكثر عدُّه.

ولم يقف الاستمرار في العمل الصالح عند حدِّ الفرائض، بل تعدَّى ذلك إلى النَّوافل، فاستُحبَّ للعبد أن يستمر فيها ولا يقطعها؛ روت عائشة - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أحب الأعمال إلى الله - تعالى - أدومها وإن قلَّ))؛ أخرجه الشيخان[1]، وذكرت - رضي الله عنها - أنَّ من صفاته - صلَّى الله عليه وسلَّم - المداومة على العمل الصالح، فقالت: ((كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض، صلَّى من النهار اثنتي عشرة ركعة))؛ أخرجه مسلم[2]، فتأملوا مبلغ أهمية الدَّوام على العمل الصالح؛ إذ كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يقضيه عند فواته في وقته، مع أنَّه نافلة لا يَجب قضاؤه، بل وحث الأمة على ذلك، فقال - عليه الصَّلاة والسلام -: ((مَن نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر - كتب له كأنَّما قرأه من الليل))؛ أخرجه مسلم[3].

ومَن كان مداومًا على العملِ الصالح، فإنَّه دائم الاتصال بالله - تعالى - مُحافظ على فرائضه، مُتقرب إليه بالنوافل؛ حتى يكونَ من أحباب الله - تعالى - وأيُّ شرف أعظم من هذا؟! يقول الله - تعالى - في الحديث القُدسي: ((مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنته بحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه...))[4].

إنَّ العبد إذا نزلت به شدة يهرع إلى الله - عزَّ وجلَّ - لكن هل يليق به أنْ ينسى الله في الرخاء، ولا يعرفه إلا في الشدائد؟!

واستمرار العبد على العمل الصالح كفيل بتخفيف كلِّ شدة وإزالتها؛ ولذا جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((تَعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة))؛ أخرجه أحمد[5]، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء))؛ أخرجه الترمذي[6].

والاستمرار على العمل الصالح سبب لتهذيب النفس، وسموِّها على الشهوات، واستعلائها على الهوى، وحجزها عما لا يليق من المنكرات؛ {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، والصلاة دائمة مُستمرة، فمن حافظ عليها وما يَجب لها نهته عن كل منكر، ولما جاء رجل إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إنَّ فلانًا يُصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إنه سينهاه ما تقول))؛ أخرجه أحمد والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه[7].

وإذا استمر العبدُ على العمل الصالح، فحال بينه وبينه عذر، كتب الله له الأجر كأنَّه قد عمله؛ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا مَرِضَ العبد أو سافر، كُتِب له مثلُ ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا))[8]، وفي لفظ آخر: قال - عليه الصلاة والسلام -: ((ما من امرئ تكون له صلاة بليلٍ يغلبه عليها نوم إلاَّ كُتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة))؛ أخرجه أبو داود والنَّسائي[9]؛ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "هذا في حق من كان يعمل طاعة، فمنع منها، وكانت نيته - لولا المانع - أن يدوم عليها"[10].

أيها الإخوة:
إنَّ مِمَّا يعين على الاستمرار في العمل الصالح تَجديد التوبة دائمًا وأبدًا، ولزوم الاستغفار، فإنَّ في ذلك القوة والنشاط، وضمان بقاء العبد على العمل الصالح يَحتاج إلى قوة قلبية وقوة جسدية... قوة في إيمانه، وقوة في أعضائه، وفي التوبة والاستغفار تَحصيل ذلك؛ قال الله - تعالى - حكاية عن هود - عليه السَّلام - أنَّه قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]، واختيار المناسب من الأعمال الصالحة أدعى للاستمرار عليها، فإنَّ الأعمال الصالحة تتنوع، وهي كثيرة جدًّا؛ ولذا كان من السَّلف الصالح من اشتهر بطول القيام، وآخر بكثرة التسبيح والذكر، وثالث بالسَّعي في حوائج الناس ومُساعدتهم، وغيرهم بتعليم الناس وتفقيههم... وهكذا.

وليس معنى ذلك أنْ يلزم العبد عملاً، ويترك الأعمال الأخرى؛ لكنَّه يكثر مما يرى أنه أنشط فيه، وأكثر استمرارًا.

ولا يُثقل على نفسه؛ لأنَّ النفس بطبيعتها شهوانية ملولة، فلو أثقل عليها ربَّما أدى ذلك إلى قطع العمل بالكلية، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يَمل حتى تملوا))؛ مُتفق عليه[11].

ويَسأل العبد ربَّه الإعانة على الاستمرار في العمل الصالح، وكان من دعاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))، وأوصى معاذًا أنْ يدعو بذلك دبر كل صلاة[12].

وقد جاء النهي عن ترك الاستمرار في العمل الصالح في حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا عبدالله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل))؛ متفق عليه[13].

ويُنَشِّطُ العبدَ على العمل الصالح، ويقوده إلى الاستمرار فيه - مُطالعةُ أخبار الصالحين من سلف هذه الأمَّة ومن بعدهم ممن كانوا يتحملون أعمالاً صالحة كثيرة، ويداومون عليها، ولا يدعونها، حتى في أحلك الظُّروف، وأصعب الساعات، قُدوتهم في ذلك رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت عائشة - رضي الله عنها -: "ما رأيت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - منذ أن نزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ} [النصر: 1] يصلي صلاة إلاَّ قال فيها: ((سبحانك ربي وبحمدك، اللهم اغفر لي))[14].

وكانت عائشة - رضي الله عنها - تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: ((لو نُشر لي أبواي ما تركتها))؛ أخرجه مالك[15].

وقال النبي - عليه الصلاة والسلام - لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملتَه في الإسلام، فإنِّي سمعت دَفَّ نعليك بين يدي في الجنة))، قال: "ما عملت عملاً أرجى عندي أنِّي لم أتطهر طُهُورًا في ساعة من ليلٍ أو نهار إلاَّ صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي"؛ متفق عليه[16].

وفي حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: أصبح رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فدعا بلالاً، فقال: ((يا بلال، بِمَ سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قطُّ إلا سمعت خشخشتك أمامي...))، قال: "يا رسول الله، ما أذَّنت قطُّ إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قطُّ إلا توضأت عندها، ورأيت أنَّ لله علي ركعتين"، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "بهما"؛ أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب[17].

وهذا عليٌّ - رضي الله عنه - لم يترك عملاً صالحًا أرشده إليه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ليلة يَستقبل صباحها حربًا وقتالاً، وذلك أنَّ عليًّا وفاطمة سألا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - خادمًا، فقال: ((ألا أعلمكما خيرًا مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما، أنْ تكبِّرا الله أربعًا وثلاثين، وتسبحاه ثلاثًا وثلاثين، وتحمداه ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم))، قال علي: "ما تركته منذ سمعته من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين"؛ أخرجه الشيخان[18].

ومن عجائب الأخبار في هذا الجانب:
ما خرَّجه مسلم في صحيحه قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير، حدثنا أبو خالد – يعني: سليمان بن حيان - عن داود بن أبي هند، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يُتَسار إليه، قال: سمعت أم حبيبة تقول: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُني له بهنَّ بيت في الجنة))، قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة، وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة، وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس[19].

فانظروا كيف أنَّ كل واحد من هؤلاء السَّلف - رحمهم الله تعالى - بادر بالامتثال، وحافظ على السنن الرَّواتب، واستمر على ذلك، ولم يتركها منذ أنْ بلغه فضلها، وأخبارهم في ذلك كثيرة.

أيُّها الإخوة:
كانت تلك جمل في أهمية الاستمرار على العمل الصالح ودواعيه وأسبابه وآثاره، عسى أن يكونَ فيها إيقاظ للعقول النائمة، وتنبيهٌ للقلوب الغافلة، يقودها إلى الله والدَّار الآخرة.

أسأل الله - تعالى - أنْ يستعملنا في طاعته إلى الممات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يُحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - دائمًا وأبدًا، فلا فوزَ ولا فلاح في الدارين إلا بتقوى الله - عزَّ وجلَّ.

أيُّها الإخوة المؤمنون:
كان الناس في رمضان يتدارسون حديثَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وغُلِّقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين))[20]، يا مَن ترى، هل يتبعُ بنو آدم الشياطين بعد رمضان، إذا أطلقت من عقلها، وفكَّت سلاسلها؟!

هل يليقُ أنْ ينطلق معها الصائمون القائمون، ينطلقون من معاني الصيام، ومُؤثرات القيام، ويقطعون العهود والمواثيق؟! هل يليق بعد الصيام أنْ يتبع بنو آدم الشيطان في كل طريق؟! هل يليق أن يسلكوا في الحرام كلَّ وادٍ وفجٍّ، ويعودوا إلى كل معصية وذنب؟!
هل ينتهي رمضان، فتنتهي معه الخشية والإنابة لرب رمضان؟!

ليس هذا الظن بأهل الصيام والقيام.

يا من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، يا من أدرك ليلة القدر فقُبِل منه، هل يحسن بك بعد أن حطت عنك الأوزار، ومُحيت الذنوب أنْ تعود للمعصية مرة أخرى؟! أتذكر أنك كنت تبكي على خطيئتك قبل أيام؟! أتُراك نسيت بكاء الأمس؟! نعوذ بالله أن نكون من قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.

أين حال هؤلاء من قوم كان دهرهم كله رمضان؟! ليلهم قيام، ونهارهم صيام؛ "باع قوم من السلف جارية، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له، ويستعدون بالأطعمة وغيرها فسألتهم، فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟ لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان، رُدوني عليهم"[21].

وقال بعض السلف: "صم الدنيا، واجعل فطرك الموت، الدنيا كلها شهرُ صيام المتقين، يصومون فيه عن الشهوات المحرمات، فإذا جاءهم الموت، فقد انقضى شهر صيامهم، واستهلوا عيد فطرهم"[22].

من صام اليومَ عن شهواته، أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجَّل ما حُرِّم عليه قبل وفاته، عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، وشاهد ذلك من كتاب الله - تعالى -: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20].

إنَّ مما يُرثى له، ويُبكى على حال أهل الإسلام من أجله: تقصيرهم في فهم هذا الدين، واستعدادهم للتخلي عنه إلا في المناسبات، فإذا ما انتهت المناسبة تُركت الفرائض، وعُطلت المساجد، وارتكبت المناهي، وهجر القرآن، فلا يعودون إلى ذلك إلا في مناسبة أخرى، وهذا مع ما فيه من الإثم والحرام، فيه أيضًا تشبُّه بأهل الكتاب المغضوب عليهم والضالين، الذين لا يعرفون الله إلا في مناسباتهم الدينية.

فاتقوا الله ربكم، واحذروا الشيطان وغوائله، واستمروا على العهد والعمل الصالح، واعبدوا الله مخلصين له الدين؛ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله كما أمركم بذلك ربكم.





ـــــــــــــــــــــــــ
[1] جاء هذا الحديث برواياتٍ عدَّة، وقد أخرجه البُخاري في الرَّقاق، باب القصد والمداومة على العمل، (6864)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره واللفظ له، (782).
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، (746).
[3] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، (747)، وأحمد (1/32).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق، باب التواضع، (6502).
[5] أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي في صفة القيامة، والرقائق والورع باب (59)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، (2516)، وأبو يعلى، (2556)، والحاكم، (3/541)، وقد رُوي عن ابن عباس بطرق كثيرة كما ذكر الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى - وذكر أنَّ طريق حَنَشٍ الصنعاني التي خرَّجها الترمذي حسنة جيدة؛ انظر: "جامع العلوم والحكم"، (1/483)، الحديث التاسع عشر.
[6] أخرجه الترمذي في الدَّعوات، باب ما جاء أنَّ دعوة المسلم مستجابة، وقال: هذا حديث حسن غريب، (3382)، والحاكم من طريق آخر، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، (5441)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2693)، والسلسلة الصحيحة، (593).
[7] أخرجه أحمد، (2/447)، والبزار كما في "كشف الأستار"، (720)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، (2056) وغيرهم، وصححه ابن حبان (2560)، قال الهيثمي في "المجمع": رجاله رجال الصَّحيح، (2/258)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند، (9777).
[8] أخرجه البخاري في الجهاد، "باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة"، (2996) وأبو داود في الجنائز، "باب إذا كان الرجل يعمل عملاً صالحًا، فشغله عنه مرض أو سفر"، (3091)، وأحمد (4/410).
[9] أخرجه مالك في صلاة الليل، (1/117)، وأبو داود في التطوُّع، باب مَن نوى القيام، فنام واللفظ له، (1314)، والنَّسائي في قيام الليل، باب من كان له صلاة بالليل فغلبه عليها النوم (3/257) ومثله حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن أتى فراشه وهو ينوي أنْ يقوم يُصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى أصبح، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربِّه - عزَّ وجل))؛ أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن نام عن حزبه من الليل، (1324)، والحاكم وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي، (1/311)، والبيهقي في الكبرى، (3/15).
[10] "فتح الباري"، لابن حجر، (6/136).
[11] أخرجه البخاري في الصَّوم، باب صوم شعبان، (1970)، ومسلم في الصيام، باب صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير رمضان، (783)، وأحمد، (6/189).
[12] أخرجه أبو داود في الصلاة، باب في الاستغفار، (1522)، والنسائي في السهو، باب نوع آخر من الدعاء، (3/53)، وصححه النووي في "رياض الصالحين"، (384) و(1422)، والألباني في صحيح سنن أبي داود، (1347).
[13] أخرجه البخاري في التهجد، باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه (1152)، ومسلم في الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقًّا، (1159).
[14] أخرجه البخاري في التفسير، سورة إذا جاء نصر الله، (4967)، ومسلم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، (484).
[15] أخرجه مالك في الموطأ، (1/153)، وانظر: "الاستذكار"، (6/151)، وصححه الألباني في "المشكاة"، (1319).
[16] أخرجه البخاري في التهجد باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل، (1149)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب: من فضائل بلال - رضي الله عنه - (2458)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.
[17] أخرجه الترمذي في المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال الترمذي: حسن صحيح (3690)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، (2912).
[18] أخرجه البخاري في الدعوات، باب التكبير والتسبيح عند المنام، (6318)، ومسلم في الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، (2727)، والزيادة الأخيرة من قول علي - رضي الله عنه - لمسلم دون البخاري.
[19] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، (728).
[20] أخرجه البخاري في الصوم، باب هل يقال: رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعًا، (1899)، ومسلم في الصوم، باب فضل شهر رمضان، (1079).
[21] "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف"، لابن رجب، (378).
[22] المصدر السابق.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ماذا بعد رمضان؟ (1)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  ماذا بعد رمضان (4)
»  ماذا بعد رمضان؟
»  ماذا بعد رمضان؟ (2)
»  خطوات وطرق تجنب العطش في رمضان أثناء الصوم ,العطش في رمضان,
»  تجنب الحموضه وإضطرابات الجهاز الهضمي في رمضان ,الحموضه في رمضان,الجهاز الهضمي ,

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: