المقـدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أمابعد:
فإنَّ اختلاف الناس في أديانهم وعقائدهم سنة قدرها وقضاها رب العالمين لحكمة عظيمة وغاية جليلة وهي الابتلاء والاختبار. يقول تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [سورة هود: 118-119] والمراد بالاختلاف هنا: الاختلاف في الدين[1] وليس في الألوان والأذواق واللغات ونحوها. وأعمق خلاف بين الأديان هو الخلاف الواقع بين المسلمين وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) على وجه الخصوص.
فمنذ أن حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإلى آخر الزمان عندما ينزل عيسى عليه السلام، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والخلاف مستمر والصراع محتدم بأساليب متنوعة وطرق متباينة.
وفي هذا الوقت وبالتحـديد منذ منتصف القرن الماضي بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965م) ظهر تطور جديد في أسلوب التنصير والتبشير وهو التنصير تحت عباءة الحوار والتقارب والتفاهم مع الآخر والاعتراف به والتعاون على القضايا المشـتركة بين الأديان.
وهذا التطور الجديد عند النصارى هدفه بالدرجة الأولى تدارك النصرانية التي نُكِّست أعلامها بعد هزائمها المتتالية أمام العلمانيين، لا سيما وأن المجتمع الغربي يحمل تصوراً سلبياً عن الكنيسة في العصور الوسطى وعصر النهضة والعصر الحديث مما جعل العالم الغربي المفتوح - الآن - للأديان يشكل خطراً على الكنيسة في المستقبل، لا سيما مع الازدياد الملحوظ في الدخول في الإسلام بين النصارى.
وقد جاء ت فكرة الحوار بين الأديان عند الكنيسة الكاثوليكية مع تجديدات أخرى في الدين النصراني في المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965م) ومنها: توسيع مفهوم الخلاص ليشمل النوع الإنساني بأكمله، وتبرئة اليهود من دم المسيح، والتعاون بين فرق النصرانية المختلفة (الأرثوذكس - والبروتستانت).
ويعتبر هذا التطور في الديانة النصرانية أبرز التطورات بعد مجمع نيقية الذي عقد في سنة 325م الذي قرروا فيه عقيدة التثليث، وأعلن ديناً رسمياً للدولة الرومانية بعد اعتناق قسطنطين للنصرانية.
فهذه الفكرة "الحوار بين الأديان" منشؤها الأصلي من الكنيسة الكاثوليكيّة وأكثر جمعيات الحوار ومؤتمراته منها، وهذا في حدِّ ذاته مؤشرٌ للأهداف الخبيثة فيه. ومع كثرة المؤتمرات واللقاءات المعقودة في هذا الشأن إلا أنها لم تفد شيئاً يذكر في مجال التقارب الحقيقي و بناء أعمال مؤسسية لهذا الغرض. فبعد مفاوضات مرثونية طويلة ومملّة لم يتوصل الإسلاميون المشاركون فيها إلى الاعتراف من النصارى بأن محمد صلى الله عليه وسلم نبيناً من الأنبياء، وله رسالة صحيحة كغيره من الأنبياء، وهذا ما أغضب بعض المشاركين بدرجة كبيرة في المؤتمرات الأخيرة إلى درجة التلويح بمقاطعة هذه الحوارات العقيمة.
والحقيقة أنَّ نيل الاعتراف لسنا بحاجة له من أتباع دين مـحـرف تـلاعب به الأحبار والرهبان - باعترافاتهم - ولكن الهزيمة النفسية التي يعاني منها بعض الإسلاميين تنتج نماذج كهذه النماذج التي لا تشعر بعظمة دينها وقوته الحقيقية. ولو اشتغل المشاركون في هذه المؤتمرات بدعوة النصارى إلى دين الإسلام، وإقامة الحجة والحوار البناء الذي يوضح العقائد الصحيحة لأنتجوا فائدة عظيمة، لا سيما ونحن نرى أن الدخول في الإسلام من قبل عموم النصارى كثير جداً، ولكن الاشتغال فيما لا يعني ومنها هذه الحوارات أفقدتنا فرصة ثمينة للدعوة إلى الله تعالى والحوار البناء القائم على منهج النبوة.
بل وصل الحال والمخالفة لمنهج النبوة إلى درجة الاتفاق في بعض هذه المحاورات على ترك الدعوة إلى الدين بين الطرفين، ولا شك أن الخاسر فيها هو الطرف الإسلامي لأن الأعداد المتكاثرة التي تدخل من النصارى في دين الإسلام لا تقارن بالذين ينسلخون من الإسلام إلى النصرانية، مع أن النصارى لم يلتزموا بهذا الشرط، فلا تزال إرساليات التنصير تجوب بلاد المسلمين طولاً وعرضاً، بل تقوم الحكومات اللادينية بدعمهم وزيادة إمكانياتهم، ويكثر وجودهم في النقاط الملتهبة في بلاد المسلمين مثل أفغانستان والعراق أو الفقيرة مثل الدول الإسلامية الافريقية وإندونيسيا وغيرها، ولو التزم النصارى بهذا الشرط الجائر لما جاز للمسلمين الالتزام به، وإيقاف الدعوة وهداية الخلق باسم الحوار.
فالفكرة الموجودة الآن التي تعقد المؤتمرات لها لم تكن في الأصل بمبادرة إسلامية ولم ترسم أهدافها وخطتها في بلاد المسلمين بل جاءت بطلب من الفاتيكان بعد الدراسة العميقة لها - عندهم - وتحديد أهدافها وغاياتها، فتقبلها بعض المسلمين وظنوا أنها تحقق بعض المصالح وترد بعض المفاسد، وأعطوا فكرة التقريب هذه مفهوماً فضفاضاً وعائماً وهو (الحوار) وبهذا المفهوم العام يختلط على السامع الغاية من الحوار بين الدعوة وإقامة الحجة إلى التقريب والتعاون المشترك أو التعايش أو الوحدة أو التوحيد بين الأديان.
ولم يكن لدى العلماء المسلمين سابقاً في التعامل مـع الأديان إلا الدعوة أو الجهاد بحسب الشروط الموضوعية والأحوال المتغيرة في التعامل مع أهل الأديان المخـتلفة التي واجهوها، ولم يكن هناك ثمة رأي يرى الحوار مع الأديان لتحقيق مصالح مشتركة مع الإهمال الكامل للدعوة وإقامة الحجة وبيان
الحق وإبطال الشرك، لأن مهمة المفاوضات الدنيوية ليس لها علاقة بوصف الأديان؛ فهي متعلقة بالحكومات السياسية وليس بالأديان والمذاهب والأفكار.
ولهذا فإنَّ من العدل والإنصاف عند الحكم على المفهوم العام الاستفصال والتفريق بين الأنواع المختلفة وإعطاء كل ذي حق حقه ووزن كلَّ نوعٍ على حدة ليتميز عن غيره، وقبل الحكم لابد من معرفة المنهج الشرعي في الحوار بين الأديان وتميزه عن المناهج المنحرفة فيه.
وهذا هو موضوع هذا البحث، وقد قسمته إلى فكرتين رئيسيتين:
المبحث الأول: في المنهج الشرعي للحوار بين الأديان.
المبحث الثاني: في أنواع الحوار بين الأديان و أحكامها.
ثم ختمت البحث بخاتمة بينت فيها أهم نتائج البحث والتوصيات المتعلقة به، وإنني اسأل الله تعالى أن يوفقني في عرضه ومناقشته ويوفقني لاتباع منهج أهل السنة والجماعة والالتزام فيه بكتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إنه جواد كريم.
المبحث الأول: المنهج الشرعي للحوار بين الأديان:
معنى الحوار في اللغة: مراجعة الكلام وتداوله، والمحاورة: المجادلة، والتحاور: التجاوب، وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام. ومنه قولهم: لم يحر جوابا أي: لم يرد ولم يرجع الجواب فمرجع الحوار للتخاطب والكلام المتبادل بين اثنين فأكثر[2].
والمعنى اللغوي العام للحوار هو مراجعة الكلام والحديث بين طرفين فإذا اضيف إلى الأديان أصبح معناه ما يدور من الكلام والحديث والجدال والمناقشة بين أتباع الأديان، وهذا يدل على أن معناه عام متعدد الأشكال والصور والأنواع بحسب نوعية الكلام والمناقشة.
أما مدلوله الاصطلاحي فهو غامض يستعمل بأكثر من صورة ويحتاج إلى بيان أنواعه والفروق بأكثر بينها، وهذا ما سنبينه في المبحث الثاني بحول الله ومشيئة. وحينئذ فإن عبارة ((الحوار بين الأديان)) تشمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً يحتاج كل منهما إلى بيان وتوضيح.
وقبل البدء ببيان المنهج الصحيح في الحوار بيـن الأديـان أودُّ الإشارة إلى أن "الحوار بين الأديان" - بالمنهج الصحيح - مطلبٌ ملحٌ لتوضيح الصورة الصحيحة لعقائد الإسلام وآدابه وأحكامه، وهو وسيلة من وسائل دعوة أهل الأديان عموماً وأهل الكتاب بشكل خاص إلى الإسلام، والدعوة إلى الله تعالى موجهةٌ لكل الناس، وإقناعهم بالحق هدف شرعي مطلوب.
وقد قام بالحوار بين الأديان بمعناه الشرعي المطلوب الأنبياء الكرام في حواراتهم الكثيرة مع أقوامهم بطرق مختلفة وأساليب متعددة. والمسلمون هم أقوى الناس حجة وبياناً لأن دينهم دين رباني موافق لعقل الإنسان ونفسه، يقول تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (سورة الملك: 14).
ولكن شعار "الحوار بين الأديان" أصبح مثقلاً بكثير من المعاني والأفكار الباطلة التي تنقدح في ذهن كل من يسمع به. ولا يصح أن ننفي المعنى الصحيح في الحوار بسبب استعمال البعض له في الباطل، ولكن المنهج القويم هو ردُّ المعنى الباطل وإبراز المعنى الصحيح خاصة إذا علمنا أنه يتعلق بأمر ضروري في دين الإسلام وهو (الدعوة إلى الله تعالى)، ولأن في ظهور المعنى الصحيح: تبيينٌ للحق وتصحيحٌ لما حصل في هذا الموضوع من الخلط والتخبط بسبب البعد عن مفهومه الشرعي الصحيح، وهذا يقتضي قيام مؤسسات إسلامية للحوار بمنهجية صحيحة وأسلوب حسن، وعقد المؤتمرات لهذا الغرض، وكتابة الدراسات العلمية والعملية المؤصلة له من الكتاب والسنة.
والحقيقة أن المؤسسات الإسلامية القائمة بالحوار الآن قائمة على منهج مخالف للمنهج الرباني[3]، ولا يوجد مؤسسة قائمة بالمنهج الصحيح في الحوار[4]تحت هذا المسمى.
ولعل من أبرز الأسباب: أن الدعوة للحوار جاءت من النصارى وليست من المسلمين[5]،ولأنها لا تناقش بيان الحق بالأدلة والبراهين المقبولة؛ بل أعرضت عن ذلك قصداً وأصبح الحوار عبارة عن تفاوض على القضايا المشتركة الذي يكون في العادة بين الدول في المصالح الدنيوية المشتركة، وهذا ما لا يوجد معناه في طبيعة الأديان التي جانبها الإيماني، ومقصدها الأخروي هو الأصل مع ضرورة التنبيه إلى شمولية الإسلام دون غيره من الأديان لأمور الدنيا والآخرة وللأمور الإيمانية والعملية وجميع النشاط البشري.
وقبل الدخول في بيان المنهج الشرعي في الحوار بين الأديان أودُّ أن أنبه إلى أنَّ الحوار مع الكفار له مجالان:
1) الحوار في أمور دنيوية بحتة، وهذا ما يسمى بالمفاوضات وهي خاضعة للسياسة الشرعية ضمن إطار أحكام الإسلام في الصلح والمعاهدة وما يتعلق بذلك من التعامل الدنيوي الذي ليس له ارتباط بالأديان والعقائد والمفاهيم، وبناء على ذلك فليس هناك مبرر في إضافة هذا النوع إلى الأديان، وقد يطلق على هذا اسم التعايش وقد يراد بالتعايش التقارب الفكري المباشر والتفاهم الديني بالتنازل عن شيء من أحكام الدين لما يظن فيه أنه من المصلحة كما سيأتي بيانه.
2) الحوار في الأمور الدينية وهذا ما يؤديه إضافة الحوار إلى الأديان فيكون الحوار إذن في الأمور الدينية وحول مفاهيم العقائد والقضايا الدينية محل الاختلاف مثل التوحيد والإيمان والبعث ونحو ذلك.
وإذا كان الحوار في أمور دنيوية بحتة فانه لن يكون هناك مايبرر إضافة الموضوع إلى محمول، فالاضافه والإسناد دليل على الاختصاص والتمييز، ويعتبر الخلط بين هذين المجالين هو السبب المباشر في الانحراف الحاصل في موضوع الحوار، وبيان ذلك هو أنّه تم تنزيل مقام المفاوضات السياسية في منزلة الحوار الديني وأصبحت مؤتمرات الحوار تناقش قضايا دنيوية سياسية مع الإغفال التام والمقصود للقضايا الدينية، ومع ذلك تضاف هذه الحوارات إلى الأديان على اعتبار نوعية الحضور والشخصيات المشاركة وليس على اعتبار القضايا المطروحة للحوار، وحينئذ أصبحت الصورة هي شخصيات دينية (علماء وغيرهم) يناقشون قضايا سياسية ثم تسمى (حوار بين الأديان).
وقام بهذا العمل جهتان:
أحدهما: قامت به جهات معينة بخبث واستغلال للقضايا الدينية في تحقيق مآرب سياسية ذات خلفية دينية، ويمثل هذه الجهة القوى الاستعمارية الكبرى، والكنيسة الكاثوليكية المتداعية[6].
والثانية: قامت به جهات أخرى بحسن نية تحسب في ذلك مصلحة للأمة. وتحقيق مقاصد شرعية ويمثل هذه الجهات بعض مؤسسات الحوار، والشخصيات الإسلامية المشاركة في المؤتمرات الحوارية التي تسعى لتحقيق قضايا مشتركه لنفع الإنسانية وتظن أنها تحقق مكاسب للأمة الإسلامية.
1. الأصل الشرعي في الحوار بين الأديان:
والأصل الشرعي في الحوار مع أهل الأديان: الدعوة إلى الله وبيان الحق ورد الباطل بالأدلة الصحيحة، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت: 33]، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} [سورة يوسف: 18]، وقال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران: 14]. وهذا الأصل الشرعي مأخوذٌ من بيان الله تعالى لدعوة الرسل الكرام لأقوامهم، وقد كان أقوامهم على أديان مختلفة ومتباينة، يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} [سورة النحل: 36]، وكل نبيٍ يبعثه الله لقومٍ يقول لهم {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف: 59].
ومن خلال تتبع الآيات والأحاديث المبينة لحوار الأنبياء والرسل مع أقوامهم نجد أنها دعوة وبيان للحق وكشف للباطل وبيان لضرره في الدنيا والآخرة، ولم نجد شيئاً يدل على محاولة القرب من الأديان أو العمل معهم في القضايا المشتركة والبعد عن نقاط الخلاف لا سيما العقائد كما هو حال أكثر مؤتمرات الحوار اليوم، بل نجد محاولة من المشركين للتقارب ولكنها ترفض من الأنبياء الكرام معهم كما حدث في عرض كفار قريش التقارب من الإسلام حيث قالوا: "يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر"، فنزلت سورة الكافرون[7]. فليس في المنهج الرباني تحاور مع الأديان بمعنى التقارب فضلاً عن الوحدة، بل هو دعوة ومجادلة وبيان للحق على نحو ما سيأتي.
وسوف أكتفي بتتبّع المنهج الشرعي في حوار أهل الكتاب بشكل خاص لكثرة محاورة القرآن والسنة لهم، ولكونهم أهل الحوار الآن، ولعدم وجود ما يخالف طريقة القرآن في حواره معهم عن الحوار مع غيرهم، وقد قام المنهج الشرعي في حوار الأديان عموماً وأهل الكتاب خصوصاً على أربع مراتب متنوعة، ومع ذلك فهي تلتقي في الدعوة العامة للإسلام، وهذه المراتب هي:
أولاً: مرتبة الدعوة.
يقول تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: 64]. هذه الآية الكريمة تعتبر نصاً في موضوع الحوار ولا يمكن أن يتجاوزها من أراد معرفة حكم الله تعالى في الحوار بين الأديان، وقد بين مدلول الحوار في هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه المرسل إلى هرقل وهو يتضمن الدعوة إلى الإسلام لا التقريب بين دينهم ودين الإسلام، يقول صلى الله عليه وسلم: (من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)، ثم قرأ الآية السابقة[8]. والآية السابقة هي ما يسمى بلغة العصر "ميثاق الوفاق"، ويتضح في الآية بجلاء تحديد موضوع الحوار، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة وترك الشرك، ولهذا فسَّر الصحابة ومن بعدهم (الكلمة السواء) في الآية بـ (لا إله إلا الله). ولذا فالمنهج الشرعي في حوار الأديان من جهة الدعوة وبيان الحق جاء من خلال ثلاث زوايا[9]:
1) موضوع الحوار:
ركّز الشارع الحوار مع أهل الأديان عامة وأهل الكتاب خاصة من الناحية الموضوعية في القضايا الحساسة التي تعتبر مفاصل مهمة ومفارق خطيرة بين المسلمين وبينهم، ويمكن اختصارها على النحو التالي:
أ - الدعوة إلى التوحيد وإبطال الشرك. يبين ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: 64]، وكذلك كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأمصار تتضمن الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك وهذا هو هدف بعثة الرسل الكرام.
ب - الدعوة إلى الأيمان برسالة محمد والتزام دينه. يقول تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة المائدة: 19].
ج - الدعوة إلى ترك الغلو والقول على الله بغير الحق في شأن الإلوهية وعيسى وأمه. يقول تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [سورة النساء: 171].
د - الدعوة للإيمان بالقرآن. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [سورة النساء: 47]، ويقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [سورة آل عمران: 98].
2) أسلوب الحوار:
وأسلوب الحوار مع أهل الأديان وأهل الكتاب خصوصاً يختلف بحسب اختلاف أصناف الناس، فاختلاف الأساليب مبنية على اختلاف المخاطب بها وقد تنوعت أساليب القرآن على النحو التالي:
أ - الأسلوب المباشر في الدعوة. يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: 64].
ب - أسلوب التذكير. يقول تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة: 47].
ج - أسلوب الترغيب والترهيب. يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [سورة المائدة: 66]، ويقول تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة المائدة: 73].
د - أسلوب الإنكار. يقول تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} [سورة آل عمران: 71].
3) وسائل الحوار التي استخدمها رسول صلى الله عليه وسلم.
تعددت الوسائل في الحوار مع أهل الأديان عموماً وأهل الكتاب خصوصاً ومنها:
أ - الذهاب إليهم في نواديهم ومحافلهم و أسواقهم وبيوتهم.
ب - دعوتهم إلى دار الإسلام.
ج - الكتابة إلى زعمائهم وحكامهم.
د - استقبال وفودهم.
هـ - دعوتهم أثناء الغزو والجهاد.
و - مناقشة علمائهم والاطلاع على كتبهم للاحتجاج عليهم.
ز - إسماعهم القرآن وتلاوته عليهم.
ثانياً: مرتبة المجادلة.
المناقشة والمجادلة تتضمن أمرين:
1 - إقامة البرهان والدليل القاطع على صدق الحق وصحته.
2 - والرد الصحيح على الشبهات المانعة من قبول الحق.
ومع ورود آيات كثيرة في النهي عن الجدل وذمه كقوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر: 5]، إلاَّ أن ثمة آيات أخرى تأمر بالجدل كقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة النحل: 125]. والجمع بينهما هو أن الجدل المذموم هو الجدل بالباطل ولنصرته، والجدل المحمود هو الجدل لنصرة الحق وإقامة الدليل عليه، وقد أمر الله تعالى بمجادلة أهل الكتاب بالأسلوب الحسن في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إَِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [سورة العنكبوت: 46]. وهذه الآية تدل على أن أهل الكتاب وأصحاب الأديان نوعان:
أحدهما: من يريد الحق ويسعى إليه، وهذا يُجادل ويُناقش بالتي هي أحسن، وهي: "الأدلة العقلية المقنعة" مثل الاستدلال بالآيات البينات[10].
الثاني: المعاند المحارب المعرض عن الحق، وهذا لا يُجادل بل يُقاتل في سبيل الله[11]. ولا شكَّ أن مناقشة أهل الأديان لا تكون بالنصوص الشرعية لأنه لا يؤمن بها من حيث المبدأ؛ بل تكون بالأدلة العقلية الصحيحة، والقرآن الكريم يتضمن الأدلة العقلية على قضايا العقائد بوضوح تام فقد جاء بالحق في المسائل والدلائل. ولعل أبرز الأدلة العقلية التي تقرر إثبات النبوة ما يلي[12]:
1) تضمن الوحي لأدلة ثبوته من عدة جهات:
أ - من جهة التحدي بالإتيان بمثل القرآن أو سورة من سوره في بيانه وبلاغته.
ب - ومن جهة ما ورد فيه من الأخبار الغيبية التي لا يمكن أن يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بأي وسيلة بشرية مثل: حفظ القرآن، وظهور الإسلام على جميع الأديان ونحوهما من الغيبيات.
ج - ومن جهة مطابقته للكشوف العلمية في جميع المجالات مثل الطب والفلك والطبيعة.
2) دلالة المعجزات على النبوة.
3) دلالة أحوال النبي وصفاته على نبوته صلى الله عليه وسلم، وأبرز مثالٍ له حديث هرقل الطويل وسؤاله عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته.
وكل قضية عقدية فإنه يمكن الاستدلال العقلي عليها سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ويكون بإثبات النبوة عقلاً، وهي بدورها تدل على صدق ما يخبر به النبي من قضايا العقائد والأعمال.
وفي قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم} [سورة العنكبوت: 46] فائدتان في موضوع المجادلة لأهل الأديان عموماً وأهل الكتاب خصوصاً:
الأولى: استعمال الأدب الحسن والخلق الرفيع قولاً وفعلاً أثناء المناقشة لأن ذلك أدعى للقبول والتأثير وهذا مأخوذ من قوله: {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
والثانية: الإعراض عن مجادلة المعاند الذي لا يريد الوصول إلى الحق أو المقاتل المحارب الذي يتحين الفرصة لإلحاق الأذى بالمسلمين.
ثالثاً: مرتبة المباهلة.
قال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ونساءنا ونساءكم وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [سورة آل عمران: 61]، قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي: "نتداعى باللعن، يقال عليه بَهْلة الله وبُهْلَته أي لعنته"[13]، والابتهال هنا أي: التضرع في الدعاء باللعن[14]. وهذه الرتبة في الحوار مع أهل الأديان إنما تكون لمن يجادل بالباطل، أو اتضح له الحق وقامت عليه الحجة وأعرض عنها.
يقول ابن القيم رحمه الله في فقه قصة وفد نجران: "ومنها: أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله، ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسـوله، ولم يقل: إن ذلك ليـس لأمتك من بعدك"[15]. وهذه درجة متقدمة في حوار أهل الكتاب ولها فائدة عظيمة من جهتين:
1. إظهار التحدي، والثقة التامة بأن الداعي إلى المباهلة على الحق.
2. تخويف المعاند بتعريضه للعنة الله تعالى فربما كان ذلك سبب في رجوعه[16].
رابعاً: مرتبة المفاصلة والبراءة.
المفاصلة والبراءة بين المسلمين والكفار بكل أصنافهم ثابتة قبل الحوار، ولكن المراد بها هنا نوعاً خاصاً هو بمنزلة البيان الختامي للحوار الذي يتولى ويعرض فيه المحاور عن الحق، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: من الآية 64]، ويقول تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]. وبهذا يتبين أنه بعد الدعوة والبيان التام وكشف الشبهة وإقامة الحجة فإن المحاور يتحدد موقفه: إما الإسلام، وإما التولي، "وحينئذٍ فلابد من الحجة والإعلان والإشهاد بعد المحاورات والمفاوضات المنتهية بالتولي والإعراض: بأنَّا مسلمون، ومن سوانا ليسوا كذلك"[17]. وهذا يدل على أنه لا تترك الأمور بدون توضيح وبيان.
2. آية الحوار بين الفهم الصحيح والفهم الفاسد:
أصرح آية في الحوار بين الأديان في القرآن هي آية آل عمران المتقدمة وهي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: 64]، وهذه الآية فهمها بعض المثقفين والكتَّاب على غير وجهها، واعتمدوا في فهمها على مجرَّد الرأي بعيداً عن الرجوع لأقوال الصحابة والتابعين والمفسرين السابقين.
والفهم الصحيح لها هو [18]: أن في هذه الآية دعوة لأهل الكتاب - وهي شاملة لغيرهم أيضاً -إلى التوحيد الخالص وعبادة الله تعالى وحده، فالكلمة السواء هي (شهادة أن لا اله إلا الله) ويبين ذلك قوله في الآية: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهذا يعني أنهم قبل هذه الدعوة ليسوا كذلك وهذا ما يدل عليه حالهم وواقعهم. وقوله (ألا تعبدوا إلا الله) تفسير لكلمة السواء فأصل (ألا) هو أنْ لا. و أنْ هنا تفسيرية حيث تقدمها ما يدل على معنى القول وهي (كلمة) وحينئذ تكون الجملة بعدها مفسرة لمعنى (الكلمة السواء). وقد فهم البعض أنَّ الكلمة السواء هنا بمعنى أن حوارنا معكم لا بد له من قاعدة نقف نحن وإياكم عليها لنجاح الحوار وهو أمر موجود فينا وفيكم قبل الحوار وهو قدر مشترك فيما بيننا وبينكم !! وهذا الفهم مناقض لمفهوم الآية التي دعت أهل الكتاب للوصول إلى نتيجة ليست موجودة عندهم وهي: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران: 64]، كما أن اعتبار هذه الآية قدراً مشتركاً يجعل من الحوار معهم أمراً لا فائدة منه لأن التوحيد الخالص موجود فيهم حسب الفهم السابق.
ومن جهة أخرى فالواقع الواضح عند أهل الكتاب هو الوقوع في الشرك من جهة التوحيد، والكفر من جهة إنكار الرسالة. يقول الدكتور سلمان العودة في قواعد الحوار مع أهل الكتاب: "اعتبار القدر المشترك في الديانة السماوية المتمثل في صحة النبوة والوحي، ولزوم الاتباع للأنبياء، وتحصيل لوازم هذا القدر المشترك، وهذا هو المذكور في قول الله سبحانه وتعالى: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً}، وهذه قاعدة عقلية فاصلة في مقام جمع المختلف أو رد الاثنين إلى الواحد، فيعتبر المختلف بالمؤتلف، والثنائية بالأحادية، وهذا معتبر أيضاً بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما في الصحيحين، ويتبع هذا تصحيح المفاهيم المنحرفة، وردها إلى الصدق الذي جاءت به النبوة الخاتمة"[19].
وهذا القول في اهميتة في مجادلة أهل الكتاب والحوار معهم إلا انه ليس هو معنى أيه أل عمران المتقدمة فيما يظهر لي فهي صريحة في الدعوة والحوار المباشر حول التوحيد وترك الشرك كما تقدم.
وقد أوّل بعض الكتاب (الكلمة السواء) في الآية إلى أنها: "فعل الصالحـات النافـعات للبشريـة ومواجهة الطغيان وتحقيق معرفة كل طرف بالآخر وإزالة الفهم دون المحاولة إلى إلغاء الخصوصيات"[20].
وهذا تأويل بعيد عن معنى الآية ودلالتها، فالمتأمل في الآية يدرك أن كلمة السواء مفسرة وليست مطلقة بحيث يتصور القارئ ما شاء في تحديدها. وهناك فرق كبير بين فهم الآية على أنها دعوة لأهل الكتاب إلى التوحيد ومناقشتهم للوصول إلى غاية عظيمة وهي التوحيد وترك الشرك، وبين فهمها على أنها قدر مشترك ينطلق منه لتصحيح ما عندهم من الباطل أو أنها في الحث على التعاون المشترك للوصول لما فيه الخير للإنسانية، ومما يؤكد تفسير هذه الآية السلوك العملي للنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان حوارهم لهم بهدف دعوتهم للتوحيد و هدايتهم إليه.
3. قواعد مختصرة في الحوار مع أهل الكتاب:
هناك جملة من القواعد التي ينبغي الاهتمام بها أثناء الحوار مع أهل الكتاب، يمكن أن نشير إلى نبذ يسيرة منها وهي بحاجة ماسة للبحث والمراجعة، خاصة ونحن نعيش في زمن الاحتكاك المباشر مع أهل الكتاب في مجال الصراع الفكري أو الصراع المسلح المادي، لا سيما في هذا العصر على الخصوص الذي أصبح التواصل فيه بين أقاصي الدنيا وأدناها من أسهل الأمور في كل المجالات.
وإذا لم نرسم - نحن دعاة أهل السنة - منهجية صحيحة في الحوار المفروض علينا معهم فإن غيرنا من أصحاب الفكر المنحرف - الذي يحرف النصوص - سيأخذ قصب السبق في هذا المجال وسيقعّد للأجيال القادمة قواعد فاسدة في التعامل مع أهل الكتاب في مجال الحوار أو غيره من المجالات، ومن هذه القواعد التي ينبغي أخذها في الاعتبار:
1) تحديد الهدف من الحوار معهم وتنقيحه من شوائب الانهزامية والتخاذل والغموض في محاورة أهل الكتاب، والهدف الرباني في الحوار هو دعوتهم إلى الله تعالى وتمني هدايتهم للإسلام والحرص على تصوير الإسلام لهم كما أمر الله به وتوضيح نقائه وصفائه لهم من غير محاولة لتشبيهه بالمناهج الأرضية المنحرفة فهو أسمى وأعظم وأجل من كل المناهج الأرضية.
2) عدم التصدي للحوار بدون علم بدين الإسلام، أو عدم القدرة على توضيح غاياته بصورة صحيحة، فليس الحوار مطلوب من كل أحد؛ بل هو مطلوب من أهل القدرة علماً وبياناً، أما غيرهم فليس مطلوب منه الحوار إلا إذا كان بشكل مبدئي في الحث على فضائل هذا الدين أو كان المخاطب الكتابي عامي يمكن التأثير عليه دون علم دقيق بمناهج الجدل والمناقشة، فهذا يدخل في الدعوة العامة إلى دين الإسلام الذي هو مطلوب من كل مسلم.
3) الاستفادة مما لدى أهل الكتاب من الإقرار بوجود الله تعالى وصحة وجود النبوة - في الجملة- واليوم الآخر ونحوها للبناء عليها في بيان الحق لهم أو التدليل على باطلهم، وينبغي مراعاة الفروق الفردية والطائفية في دعوتهم فيوجد فيهم من يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه يقصرها على العرب فمناقشة هذا ودعوته أسهل من المنكر لها بالجملة.
4) إقامة الأدلة العقلية على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإقراره بنبوته يقتضي بالضرورة أن خبره صدق وقد أخبر أنه مرسل للعالمين والطعن في ذلك إما قدح فيما أقر به وهو إثبات نبوته أو طعن في خبر النبي وهو غير مستقيم لمن أثبت النبوة، وهنا أحب التنبيه إلى ضرورة الرجوع إلى المناهج العقلية القرآنية وتبنيها والحديث بها وان كان بدون الإشارة إلى كونها قرآنية لأن الخصم لا يقر بحجيتها، ولا بأس بالأدلة العقلية السالمة من اللوازم المبطلة لشيء من الدين، وقد وقع أهل الكلام في هذا لأنهم تصوروا أن القرآن جاء بالأدلة الخبرية المحضة دون الأدلة العقلية، فراحوا يخترعون أدلة يريدون بها نصر الدين فوقعوا في لوازم تقتضي تحريف بعض العقائد، فكانت النتيجة تقرير قواعد في الاستدلال والنظر مخالفة للمناهج المتفق عليها وتوصلوا إلى أغراضهم بالتأويل الفاسد للنصوص.
5) الدراسة الدقيقة لمنهج الأنبياء في حوار أقوامهم وبالذات منهج الرسالة الخاتمة للرسالات كلها وأخذ الأصول العلمية في الحوار مع أقوامهم ودعوتهم إلى الله تعالى.
6) دراسة مناهج علماء السنة في مناقشاتهم وحوارهم مع أهل الكتاب مع ضرورة التنبه إلى المناهج البدعية في حوار بعض أصحاب البدع مع الكتابيين مما سبب في وجود مناهج منحرفة في الفكر الإسلامي ظهرت فيما بعد على شكل فرق ضالة.
7) إثبات تناقض كتبهم وضعف دينهم من واقع هذه الكتب دون ذكر وسيط مما يجعلهم يعيدون النظر في حقيقة دينهم و إمكان بطلانه.
إثبات دين الإسلام بالأدلة الصحيحة والمناهج القرآنية والنبوية المعتبرة بعيداً عن مناهج أهل الأهواء والبدع، ومن ذلك إثبات صحة القرآن والنبوة بالأدلة الحسية التي تضمنتها، مثل: الإخبار بالمغيبات وبموافقة الكشوف العلمية الثابتة دون تعسف وليٍّ للنص القرآني أو النبوي.
9) إثبات مناقضة ديانتهم المحرفة للعقل والحس مما جعل التطبيق لها في الواقع مناف للفطرة الإنسانية ولسنن الله في الاجتماع والحياة، وهنا ينبغي التنبه لمزلة وقعت في الفكر الإسلامي وهي تصور إمكان التعارض بين العقل والنقل وحصل بسببها عراك تاريخي ومازال مستمراً إلى اليوم، ولا يمكن التدليل على عدم التعارض بينهما بشكل صحيح موافق لمقتضى النص ولدلالة العقل إلا على منهج أهل السنة، أما من تخبط في مناهج الفرق فسوف يستأسد عليه أهل الأديان على قاعدة بعضهم: (خرافات النصرانية خير من خرافات الإسلام) يقصد التصوف والتشيع وكذلك سيكون الأمر هنا.
10) لابد من مراعاة حسن التعامل والمناقشة ليكون للدعوة قبول دون مخالفة شرعية، كالقول بإقرارهم على اعتبار دينهم والثناء عليهم بمثل ذلك باسم احترام الآخر، ولا يصح التسفيه له إذا طمع الداعية في هدايته، فالحق وسط بين تفريط من يردد عدم الإقصائية ويقول باحترام دين الآخر، وكأن الخلاف هو في وجهات النظر لا في أصل الدين وبين الإفراط الذي يجعل من إمكان هداية المحاور أمر في غاية الصعوبة.
ومن خلال العرض المتقدم لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم للحوار مع أصحاب الأديان يتبن أنَّ الأساس في الحوار هو الدعوة وإقامة الأدلة على صحة دين الإسلام ووجوب الانقياد له ونبذ الأديان المحرفة، وبيان ما في دينهم المحرف من الباطل بلغة علمية ومنهجية سليمة وهذه حقيقة شرعية واضحة لمن استقرأ نصوص الكتاب والسنة وطالع أخبار الأنبياء وعرف طبيعة رسالتهم.
المبحث الثاني: أنواع الحوار بين الأديان وأحكامها:
"الحوار بين الأديان" اسم عام يطلق على كل مخاطبة ومحاورة تتم بين طرفين أو أكثر من أهل الأديان والمؤمنين بها. فكلمة "حوار" كلمة عامة تشمل كل ما يقع عليه معنى التجاوب والتراجع والتخاطب. ولا شك أن مطلق الكلام لا يصح الحكم عليه دون معرفة خصائصه المميزة.
والحوار من المصطلحات المجملة التي تحمل معنى حقاً ومعنى باطلاً فلا يصح الحكم عليه وهو بهذه الحالة من الإجمال والإبهام؛ بل لابد من الاستفصال عن المعنى المراد بدقة ثم النظر بعد ذلك في حكمه في ضوء النص الشرعي. ومن خلال التتبع لأحوال الحوارات المتعددة بين الأديان تبيّن أنها على أنواع مختلفة، ولكل نوعٍ خصائصه المحدَّدة له والمميزة له عن غيره، مع أن جميع الأنواع يصح إطلاق اسم "الحوار بين الأديان" عليها. وعليه، فلابد من توضيح نوع الحوارات المجملة والاستفصال عنها ومعرفة أهدافها وخصائصها قبل الخوض فيها أو الحكم عليها. وبناء على ذلك فسأذكر كل نوعٍ على حدة، وأذكر الخصائص المميزة له باختصار ثم أُبين الحكم الشرعي على كل نوعٍ على حدة.
أولاً: حوار الدعوة:
والمقصود به في المفهوم الإسلامي: الحوار مع أتباع الأديان الأخرى لبيان صحة هذا الدين، وانه ناسخ لكل الأديان السابقة، وإيضاح صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ومحاسن الإسلام العظيمة، وبيان ما هم عليه من الباطل المنحرف. وهذا الحوار مطلوب شرعا. تدل عليه كل الآيات والأحاديث الدالة على فضيلة الدعوة إلى الله وبيان الحق ورد الباطل.
وهذا النوع تقدم الكلام فيه في المبحث الأول، وهو موجود تمارسه جمعيات ومراكز. وجهات متعددة، وأفراد كثيرون لا يسمى في الاصطلاح باسم الحوار بين الأديان، فهو داخل في عموم اللفظ العام دون مدلوله الاصطلاحي الخاص وشعاره المعروف.
أما الحوار التبشيري عند النصارى الذي تمارسه الكنيسة الكاثوليكية، ومجلس الكنائس العالمي وغيرها فهو اتخاذ الحوار وسيلة للتنصير، وذريعة لتشكيك المسلمين في دينهم ونبيهم، وطريقاً مخادعاً لأخذ الشهادة والإقرار و الموفقة بصحة دينهم وانه دين معتبر حتى بعد دخول التحريف فيه[21].
ثانياً: حوار التعايش وحكمه:
تعريفه:
المقصود بحوار التعايش هو: الحوار الذي "يهدف إلى تحسين مستوى العلاقة بين شعوب أو طوائف، وربما تكون أقليات دينيّة، ويُعنى بالقضايا المجتمعيّة كالإنماء، والاقتصاد، والسلام، وأوضاع المهجّرين، واللاجئين ونحو ذلك، ومن أمثلة هذا اللون من الحوار: (الحوار العربي الأوروبي)، و (حوار الشمال والجنوب)" [22] . وقد يسمي البعض هذا النوع (التسامح). وهذا التعريف هو لمعنى التعايش بالمفهوم العام الذي يؤخذ من دلالة الكلمة دون ارتباطات بالمفاهيم اللاحقة.
وهذا المفهوم العام لا يزيد على حسن المعاملة، والعيش بصورة ملائمة بين كافة المجتمعات مع الاختلاف الديني والفكري والثقافي.
والتعايش بهذا المعنى بين اتباع الأديان المختلفة لا يرفضه الإسلام، ويدل عليه معنى البر والإحسان والقسط الوارد في مثل قوله تعالى: {يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
ولهذا المفهوم ثلاثة ضوابط:
أولاً: مراعاة الولاء والبراء، فلا تلازم بين الإحسان والعيش الكريم والتسامح في المعاملة وبين الموالاة للكفار. أو ترك البراءة منهم، فالولاء والبراءة أصل شرعي دلت عليه نصوص شرعية كثيرة[23].
ثانياً: إقامة العدل، و الإنصاف مع كل الناس، فالعدل أساس عظيم في نماء المجتمعات واستقرارها.
ثالثاً: التزام الحكمة في المعاملة، وهي وضع الأمر في موضعه ومقامه الصحيح ألائق به. الموافق للمنهج الرباني. ولطبيعة النفس الإنسانية.
لكن هذه الكلمة (التعايش والتسامح) أخذت بعداً آخر غير المفهوم العام السابق وذلك عندما رفعه العالم الغربي كشعار مع العرب والمسلمين بعد حرب 6 أكتوبر (1 رمضان عام 1973م) وما تلاها من المقاطعة العربية في 17 أكتوبر بقرار من وزراء النفط العرب في الكويت الذي يقضي بفرض الحصار النفطي على أميركا وتخفيض مستوى الضخ حتى يتحقق الجلاء عن الأراضي العربية وتؤمن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
فرفع الغرب هذا الشعار لتهدئة الوضع ووقف القتال وتخفيف حدة الضغوط العربية إلى حين ترتيب أوراقه وإعادة تنظيم أهدافه الإستراتيجية وقد تم ذلك وأصبح واضحاً للعيان أن حوار التعايش والتسامح ما هو إلا شعار لأهداف سياسية بحتة لا سيما بعد السيطرة الأمريكية على الخليج ومنافذ البلاد العربية والإسلامية بعد أزمة الخليج الثانية، وأصبح الأمر أشد وضوحاً بعد الاجتياح الإسرائيلي الأخير للضفة الغربية، وعندما طرح خيار الضغط بمنع النفط عن أميركا ولو لوقت محدد لم توافق عليه الدول العربية النفطية، لا لكونه يلحق الضرر بمصالحها بل لكونها غير قادرة عليه لضعف سيادتها أو زوالها عن النفط على أقل تقدير.
وعندما وقعت أحداث 11 سبتمبر وهاجت أمريكا ورفعت شعار (الحرب على الإرهاب) عاد العرب و المسلمين لرفع شعار التعايش والتسامح بنفس المفهوم الغربي السابق الذي رفع إبان حرب 6 أكتوبر وتداعياتها.
لقد أصبحت فكرة (التعايش والتسامح) دعوة فكرية تحمل في طياتها مضامين فكرية وثقافية وحضارية واجتماعية. وقد تبنى هذه الفكرة ونظر لها من الطرف الإسلامي "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة" (ايسسكو)حيث أصدرت كتابا بعنوان "مفهوم التعايش في الإسلام" تأليف د. عباس الجراري. والتعايش والتسامح بهذا المفهوم عرفه (اليونسكو) في بيان له بأنه "احترام الآخرين وحرياتهم والاعتراف بالاختلافات بين الأفراد والقبول بها... وهو تقدير التنوع الثقافي وهو الانفتاح على الأفكار والفلسفات الأخرى بدافع الإطلاع وعدم رفض ما هو غير معروف". وسيأتي مزيد توضيح لمفهومه إن شاء الله.
خصائصه:
سبق في التعريف أن التعايش له مفهومين متغايرات، أحدهما مأخوذ من المفهوم العام للكلمة والآخر مأخوذ من شعار خاص رفع في فترة من الفترات لأهداف سياسية ثم تطور إلى أن أصبح فكراً منظماً تقوم على تصديره بعض المؤسسات الكبرى (اليونسكو - والايسسكو) ثم عاد ليصبح شعاراً سياسياً للتخفيف من هيجان العالم الغربي بسبب أحداث 11سبتمبر بنفس المضامين الفكرية. وبناءً على هذا فلابد من تمييز خصائص النوع الأول عن النوع الثاني ثم بيان الحكم في كل واحدة على حدة. فخصائص (حوار التعايش)بالمفهوم الأول المميز له عن غيره هو:
1) أنه حوار لا علاقة له بالدين.
2) أنه يقتصر على الحوار فيما يتعلق بالمعيشة البحتة بين أهل الأديان التي تفرضها طبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الفطرية.
3) أنه لا يتضمن محبةً أو ولاءً أو اعترافاً بصحة دين الآخر أو تزكيةً له أو مدحاً بل هو قاصر على الأمور الدنيويّة وفي حدود الحاجة.
4) أن لا يتضمن شيئاً من التنازل عن أمر من أمور الدين بحجة الترغيب لهم في الدخول في الإسلام أو أعطاء صورة حسنة عن الإسلام أو بأي تعليل آخر.
حكمه:
هذا النوع من الحوار - إذا لم يصاحبه ما يعكِّر على خصائصه السابقة أو يزيد فيها - فهو جائز لا إشكال فيه، وهو خاضع للسياسة الشرعية العملية التي يقدرها أهل الحل والعقد من أهل الخبرة والعلم والدين. وقد تفاوض رسول الله مع اليهود وعاهدهم، وصالح المشركين في الحديبية، وكذلك الصحابة الكرام تفاوضوا مع أهل الأديان المختلفة فيما يخص دنياهم ومعاشهم، ولا يزال هذا الأمر موضع اتفاق. وقد "زخر الفقه الإسلامي المؤسس على الكتاب والسنة بتراث ضخم في مجال العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين"[24].
خصائص التعايش بالمفهوم المعاصر[25]:
لقد أعطي مصطلح (التعايش) بعداً آخر غير ما مضى من التوصيف وأخذ مفهوم التعايش بعداً فكرياً جديداً وهو بهذا المعنى يندرج تحت التقارب الذي سيأتي الكلام عليه.
وحوار التعايش يكون في العادة بين الدول التي تمارس الحياة العملية بحكم الاتصال المادي بينها ولا مجال له بين الأديان إلا من هذه الزاوية وإنما ذكرناه في موضوع الحوار بين الأديان لأنه يدخل في العنوان العام بسبب عمومية لفظة (الحوار) ولأن البعض يخلط بينه وبين حوار التقارب.
ثم إن حوار التعايش أخذ مدلولاً آخر غير ما سبق ذكره في الخصائص العامة ليكون بذلك فكراً جديداً له خصائصه الفكرية المختلفة عن ما سبق ذكره. ويمكن تلخيص تلك الخصائص في النقاط التالية:
1) القول بحرية التدين وإنكار حد الردة في الإسلام باعتباره معارضاً لحرية اختيار الإنسان للدين الذي يقتنع به، وجعل القاسم المشترك بين كل الأديان البيان العالمي لحقوق الإنسان.
2) منع كل ألوان الاعتداء على الآخر وإنكار الحرب باسم الدين وتفسير الجهاد في الإسلام بأنه للدفاع عن