إن الله - تبارك وتعالى - أنزل هذا الدين لهذه الأمة المحمديَّة، وأراد منها أن تفهمه، كما
أراده هو بلا إفراطٍ ولا تفريط؛ فإن الإفراط ينتهي بصاحبه إلى الغلوِّ،
والتفريط ينتهي بصاحبه إلى الانحلال من الشريعة الغَرَّاء، وهما يُخْرجان
هذا الدين عن طبيعته وسمته.
إذ الطبيعة والسمة التي جعلها الله - تعالى - لأمة محمدٍ - عليه الصلاة
والسلام - الوسطيَّة، فهي صفةٌ تلازمها، والغاية منها فَهْم الدين فَهْمًا
يتناسقُ ويتماشى مع العصر الذي تعيشه الأمة دون إخلال في الأصول أو الفروع،
فالعبد مأمورٌ بأن يستقيم كما أمره خالقه وألا يطغى، ومع أن هذا الأمر فيه
مشقةٌ وجهد، إلا أنه يجب أن يراعيه العبدُ حينئذ؛ فمن السهل أن يتجاوز
الإنسان الحدَّ، ومن السهل كذلك أن ينخلعَ من بعض التكاليف، إلا أن من
الصعوبة بمكان أن يلزمَ المرء الطريقَ السَّوي ولا يحيد عنها؛ ولذلك يقول
النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((شيَّبتني هود وأخواتها))؛ لأن الله
توجَّه إليه بالأمر بأن يستقيم كما أمره، وألا يطغى ولا يزيد وأن يحسن، وأن
يمضي في هذا المنهج بدون انحراف؛ فقال – تعالى -: {
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]، فكان سببًا لأن يشتعل شيبًا من جَرَّاء سماعه لهذا التوجيه الربَّاني القويم.
يقول ابن جرير في تأويل هذه الآية: "إن الله يأمر نبيه بقوله: فاستقم أنت يا محمد على أمر ربِّك، والدين الذي ابتعثك به والدعاء إليه، وقوله - تعالى -: {
وَلا تَطْغَوا}، ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه، ونقل عن سفيان في قوله - تعالى -: {
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، قال: "
استقم على القرآن"، وعن ابن زيد في قوله - تعالى -: {
وَلا تَطْغَوا}، قال: الطغيان: خلاف الله وركوب معصيته، ذلك الطغيان"
[1].
وأمر الغلوِّ ترجع بذوره إلى الأمم السابقة؛ من اليهود والنصارى، وقد نهاهم الربُّ - تعالى - عن ذلك، وأمر نبيَّه بأن يُعْلِمَهُم بما
نُهوا عنه، وحذَّر هذه الأمة من أن تتَّبع سبيل أهوائهم، كالغلو وما وقعوا
فيه من الانحراف؛ فقال تعالى: {
قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا
تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا
كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، قال
الإمام القرطبي في هذه الآية: "أي: لا تفرطوا كما أفرطت اليهود والنصارى في
عيسى، غلو اليهود قولهم في عيسى: ليس ولد رشدة، وغلو النصارى قولهم: إنه
إله"
[2].
وقال ابنُ كثير عند هذه الآية: "نهى - تعالى - أهل الكتاب عن الغلو
والإطراء، وهذا كثير في النصارى؛ فإنهم تجاوزوا حدَّ التصديق بعيسى، حتى
رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيِّز النبوَّة إلى أن
اتخذوه إلهًا من دون الله، يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه
وأشياعه ممن زعموا أنه على دينه، فادَّعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كلِّ ما
قالوه؛ سواء كان حقًّا أو باطلاً، أو ضلالاً أو رشادًا، أو صحيحًا أو
كذبًا"
[3].
ولابن عاشور كلامٌ نفيس في حديثه عند هذه الآية، وهو يتكلم عن مفهوم
الغُلوِّ، واستشرائه في اليهود والنصارى، فقال: "والغلو: تجاوز الحدِّ
المألوف، مشتقٌّ من غلوة السهم، وهي منتهى اندفاعه، واستعير للزيادة على
المطلوب من المعقول، أو المشروع في المعتقدات، والإدراكات، والأفعال،
والغلو في الدين: أن يظهر المتدين ما يفوت الحدَّ الذي حدَّد له الدين
ونهاهم عن الغلو؛ لأنه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصادقين، وغلو
أهل الكتاب تجاوزهم الحد الذي طلبه دينهم منهم، فاليهود طولبوا باتِّباع
التوراة ومحبة رسولهم، فتجاوزوه إلى بُغْض الرُّسل، كعيسى ومحمد - عليهما
السلام - والنصارى طُولبوا باتِّباع المسيح، فتجاوزوا فيه الحدَّ إلى دعوى
إلهيته أو كونه ابن الله، مع الكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم "
[4].
وداء الغلو لم يقتصر على اليهود والنصارى فحسب، بل تعدَّى إلى هذه الأمة، وأصبتها
اللوثة الفكريَّة، ونبتت نباتته في زمن النبي - عليه الصلاة والسلام - في
أولئك النَّفر الذين تقالوا عبادة النبي- عليه الصلاة والسلام - كما جاء عن
أنس - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله
عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا
كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم - قد غفر
له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل
أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء،
فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم
الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم
وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني))
[5].
وعن ابن عباس قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذا هو برجلٍ
قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل،
ولا يتكلَّم، ويصوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مُرْه فليتكلم
وليستظل وليقعد وليتم صومه))
[6].
بل إن النبي - عليه الصلاة والسلام - أخبر عن قومٍ لهم من العبادة الشيء
العظيم، حتى إنه ليحقر أحدُنا صلاته بصلاتهم، إلا أنهم يمرقون من الدِّين
كما يمرق السهم من الرمية، وما ذاك إلا لمجاوزتهم الحد المشروع في عبادتهم.
جاء ذلك عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يخرج فيكم قومٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم،
وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم،
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئًا،
وينظر في القدح فلا يرى شيئًا، وينظر في الريش فلا يرى شيئًا، ويتمارى في
الفوق))
[7].
وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال:
((وإياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوِّ في الدين))
[8]،
وثمة نصوصٌ كثيرة تحذِّر من خطر هذا المفهوم السقيم، والداء العضال، وهذا
هو طبيعة المنهج الإسلامي، الذي يدعو إلى تصحيح التصوُّر الاعتقادي،
وإقامته على التوحيد الخالص من الشوائب والخرافات، ونزع نزغات الشيطان منه.
قال بعض السلف: "
ما أمر الله - تعالى - بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإمَّا إلى مجاوزة وغُلو، ولا يبالي بأيهما ظفر".
قال ابن القَيِّم: "وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين؛
وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جدًّا الثابت على
الصراط الذي كان عليه رسول الله وأصحابه، فقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق
الناس وأظلمهم، كإيمان جبريل وميكائيل، فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز
بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة"
[9].
إذًا؛ فالغلو يسير في طريقين منعكسين، فليس
خاصًّا بالزيادة والتنطُّع، كما هو مذهب الخوارج، الذين كَفَّروا كلَّ مَن
ارتكب معصيةً، بلا ضابط ولا قيد، بل يكون بالنقص والانحلال، كما هو مذهب
الصوفيَّة، الذين جعلوا كلَّ ما في الوجود من معبودات هي عين الله تعالى،
وكذلك المرجئة القائلون: بأنه لا يضرُّ مع الإيمان معصيةٌ، والحق خلاف هذين
النقيضين، وهو لزوم الوحي والتمسك به، والاقتراب من مشكاة النبوَّة،
والسَّير على خُطا سلف هذه الأمة.
ــــــــــــــــ
[1] تفسير الطبري، (12/ 598).
[2] تفسير القرطبي، (6 / 252).
[3] تفسير ابن كثير، (2/ 477).
[4] التحرير والتنوير، (4/ 330).
[5] صحيح البخاري، (5063).
[6] المصدر السابق ( 6704).
[7] صحيح البخاري، واللفظ له (5058)، صحيح مسلم، (2499).
[8] ابن ماجه (3029)، والنسائي برقم (3057).
[9] مدارج السالكين، (2/ 108).