الحمدُ لله مفلج الحقِّ وناصره، ومدحضِ
الباطلِ وماحقِه، الذي اختارَ الإسلامَ لنفسِه دينًا، فأمر به وأحاطه،
وتوكَّل بحفظِه وضمن إظهارَه، ثُمَّ اصطفى من خلقِه رسلاً ابتعثهم
بالدُّعاء إليه، وأمرهم بالقيامِ به والصَّبرِ على ما نابهم فيه من جهلةِ
خلقه، وامتحنهم من المحنِ بصنوف، وابتلاهم من البلاءِ بضروب، تكريمًا لهم
غير تذليل، وتشريفًا غير تخسير، ورفع بعضَهم فوق بعضٍ درجات، فكان أرفعُهم
عنده درجة أجدَّهم ثباتًا مع شدَّة المحن، فصلَّى الله على نبينا محمَّدٍ
وعلى الأنبياءِ أجمعين وآل بيته الطَّيبين وصحابتِه الطَّاهرين، ومن اقتفى
أثرَهم إلى يومِ الدِّين، وبعد:
المستشرقون والسنة النبويةكان للمستشرقين دورٌ في قذفِ الشبهاتِ حول
السنَّة النَّبوية المطهَّرة؛ وذلك للتشكيكِ في صحتِها، كونهم على علمٍ
بأنَّ السنَّة النَّبوية هي المصدرُ الثاني من مصادرِ التشريع، فإذا
استطاعوا ذلك فإنَّ الطريقَ مأمونٌ للتشكيك بالقرآن الكريم، الذي هو المصدر
الأول من مصادرِ هذا التشريع.
تتصدَّرهم من الدَّاخلِ طلائعُ التنويريين
المتأثِّرين بالغرب، ومن الخارج جحافلُ المستشرقين، كل ذلك ما كان له
ذِكْرٌ في عالم الحقيقة لولا طرق الدعايةِ وسبل النَّشرِ التي حظيتْ بأعلى
الاهتماماتِ الغربية وإلى يومنا هذا، ولكن هل وُفِّقتْ هذه العصبةُ في
تحقيقِ أهدافها؟
يكفي في الجوابِ عن هذا السؤال أنَّ جامعة "
لندن"، وكذلك جامعة "
كمبردج" لم توافقا على أن تناقِشا أيَّ أطروحةٍ لدراسةِ ونقدِ كتاب المؤلف "
شاخت" المسمَّى
"أصول الشريعة المحمدية"،
ذلك الكتابُ الذي يعتبر من أبرزِ ما كُتب في الطَّعنِ بالسنَّة النَّبوية
والتشريع الإسلامي، بل ويعتبرُ أساسًا لكلِّ دراسةٍ عن الإسلام وشريعته،
على الأقلِّ في العالَمِ الغربي، كما قال البروفسور "
جب"!
وهذا ما وقع بالفعلِ، فقد طُرِد أحدُ الأساتذة في جامعة "
أكسفورد"
بعدما لَخَّص آراءَ شاخت في الفقهِ الإسلامي ونقدَها بأدلةٍ دامغة وواضحة،
فَلِمَ الطَّردُ إذا ولجت شبهاتُهم في أبوابِ الحقيقة؟ إنَّ هذا يدلُّ
دلالةً قاطعة على أنَّها لا تعني إلا العجز عن المزاولةِ العلمية،
والمطاولة المعرفية لإظهارِ الحقيقة بصفائِها العذب.
وتبقى سنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم
- سنة خاتمِ الأنبياءِ تقتاء الطَّاعنين فيها، كما يقتاء أحدُنا عن معدتِه
ما فسد من الطَّعامِ فلم تستطع أن تهضمَه.
شبهة العادة المقدسة والدحض الحتميمن هذه الشُّبَه المقذوفة بين طرفي المنازلة المنكفئ؛ بين السنَّة النَّبوية المطهَّرةِ وبين أعدائها "
شبهة العادة المقدسة"، وهي للمستشرق "
جولد تسيهر"؛
حيث زعم هذا المستشرق أنَّ السنَّة النَّبوية هي جوهرُ العادات، وأنها
تفكير الأمَّة الإسلامية قديمًا، وتسمَّى بالعادةِ المقدسة والأمر الأول،
كذلك فهو يصفُها بأنَّها
"العواطِف القائمة مقام غيرها"، كلُّ هذا جاء في الكثير من الكتبِ والدراسات حول الاستشراق؛ ومنها كتاب "
المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي" وكتاب "
المستشرقون والسنَّة"،
إلى غيرِ هذه المؤلفات، والعربُ هم من نقلوا السنَّة إلى الإسلام، فأوهم
الإسلامُ - كما يقولون هم - الداخلينَ فيه أنَّها سنةٌ جديدة من دون
تراكماتٍ سابقة وعادات بالية، ويدَّعون بأنَّ المسلمين أخذوا ينتهجون
منهجًا جديدًا من الأقوالِ والأفعال ويضعونها في المحلِّ الأول، أو تلك
التي صحَّت عن الصحابةِ ويضعونها في المحل الثاني، حتَّى قالوا: إنَّ
السنَّة هي أصلاً لما كان معروفًا سابقًا قبل الإسلام.
هذه هي شبهةٌ واحدة من شبهاتِهم الواهية؛
حيث إنَّ التناقضَ موجود والوهم حاصلٌ في ثنايا كلامِهم، وتُذكِّرُنا
الطبيعةُ الجوهرية لهذه الشبهةِ بالشبهة التي زعمت أنَّ بني أمية أدخلوا في
السنَّة النَّبوية المطهَّرة ما ليس منها وجعلوه سنةً نبوية، ويبدو لنا
أنَّ الشبهتين متقاربتين في لفظهما، لكنِّي أقول: إنَّهما متقاربتان في
بطلانِهما أيضًا.
فإذا كان تفيهُقُهُم صحيحًا - على فرضِ
التَّسليم - فهذا لا يعني أنَّ الأشياءَ المسنونة سمِّيَت فيما بعد بسنةِ
النبي - عليه الصلاة والسلام - ثم إنَّ حقيقةَ السنَّةِ عند المسلمين
متجوهرةٌ في الطَّاعةِ المفروضة للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وليس في
اللفظِ اللغوي الذي انتزعوا منه حقيقةَ أقدميته، فلا يشكُّ أحدٌ أنَّ
السنَّة لها معانٍ في اللغةِ متعددة.
حتَّى إنَّ الأمرَ البياني في القرآن
الكريم لم يأمرْ بإطاعة السنَّة، بل أمر بإطاعة الرَّسولِ؛ لأنَّها هي
الأصلُ المتجوهر في الاعتقادِ والمعرفة المكنونة في الفؤاد؛ قال - تعالى -:
﴿
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]، ثم ذكر في آيةٍ أخرى: ﴿
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [التغابن: 12]، فهل أمر - تعالى - بطاعةِ السنَّة؟ أم أمَرَ - تعالى -
بطاعة صاحبِها - صلَّى الله عليه وسلم؟ فأين الفائدةُ الاستشراقية إذًا في
اللعبِ على أوتار المصطلحاتِ التي لا مشاحة فيها؟ مع العلمِ بأنَّ "
جولد تسيهر" لم يكن الوحيد الذي حاولَ تلك المحاولات، بل شاركه "
مارغليوث" حين أرجعَ معنى السنَّةِ إلى العُرْف القائم، ووافقه على ذلك "
شاخت" وسمَّاها بالأعرافِ السَّائدة، وغيرهم على مرِّ العصور.
وتزيدُ الوقائع الحيَّة تأكيدًا لنصاعةِ
الآيات القرآنية وكفايتِها في الردِّ على تهافت هؤلاء؛ ففي مسند الإمام
أحمد عن سالمٍ قال: "كان عبدُالله بن عمر يفتي بالذي أنزل اللهُ - عزَّ
وجلَّ - من الرخصةِ بالتمتع، وسنَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -
فيه، فيقول ناسٌ لابنِ عمر كيف تخالفُ أباك وقد نهى عن ذلك؟ فيقول لهم
عبدالله: ويلكم ألاَ تتقون اللهَ، إنْ كان عمرُ نهى عن ذلك فيبتغي فيه
الخير يلتمس به تمامَ العمرة، فلم تحرِّمون ذلك وقد أحلَّه الله وعمل به
رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أفرسول الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - أحق أن تتبعوا سنتَه أم سنة عمر؟ إنَّ عمر لم يقلْ لكم: إنَّ
العمرة في أشهرِ الحجِّ حرامٌ، ولكنَّه قال: إن أتم العمرة أن تفردوها من
أشهرِ الحج".
وقد علَّق الدكتور سعد المرصفي في كتابه:
"المستشرقون والسنة النبوية" على ذلك بقوله: "وهذا القولُ من ابنِ عمر فصلٌ في القضية؛ حيث مايز بين
قضيتَيْن مختلفتين تمامًا، أثبت للأولى حقَّ الاتباع ولو كان العرفُ الشائع
أو تقاليد المجتمع هما السنة".
قال الشيخُ العلامة أحمد شاكر: "فلم يكن
اتباعُ المسلمين لسنةِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن عادةِ اتباعِ
الآباء... أمر اللهُ النَّاسَ باتباع الحقِّ حيثما كان، وأمرهم باستعمالِ
عقولِهم في التدبرِ في الكون وآثاره..."، إلى آخرِ ما قال - رحمه الله.
وهذا يتقارَبُ مع ما قيل في أنَّ السنة
النبوية حرِّفت في الأزمنةِ التي تلتْ زمنَ الصَّحابةِ - رضي الله عنهم -
وهذا باطلٌ لا يصدقه عاقل.
الجمعُ والتدوين الرَّسمي لم يقبلْ أيَّ
كلامٍ أو خبر عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دون أن يكون محفوظًا في
الصُّدور قبل السطور، فهي مراحل وليست مرحلةً واحدة،
هل تتعاقبُ كلُّها شرقها وغربها متواطئة على الكذب؟! ثم
إنَّ التدوين لم يتوقفْ في زمن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بشكلٍ
نهائي، بل ثبت عن جمعٍ كبير من الصَّحابةِ أنَّ النبي - صلَّى الله عليه
وسلَّم - أمرهم بكتابةِ بعض الأحاديث، ونقل الإمامُ ابن حجرٍ الإجماعَ على
ذلك؛ كما قال الشواط حسين في
"حجية السنة" بالأدلة الصَّحيحة.
ولا شكَّ أنَّ أدلة الإذن أكثر وأرجح،
ورغم ذلك فقد سلك العلماءُ مذهبَ الجمعِ بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن؛
لأنَّ إعمالَ الأدلة جميعها أولى من إهدارِ بعضِها، وأيضًا مما قيل في هذا
الشأن: إنَّ أحاديث النهي متعلقةٌ بمن لا يخاف النسيان، خشيةَ أن يتكلَ على
الكتابة فيضعف حفظه، وهذا مما ينزلُ من مرتبتِه؛ لأنَّ حفظ الصدرِ - كما
قرَّرَ علماءُ الأصول - أرجحُ من حفظِ الكتاب، وأمَّا أحاديث الإذن فهي
متعلِّقةٌ بسيئ الحفظ، مخافةَ أن ينسى شيئًا مما سمعه.
وأنَّ النهي متعلِّقٌ بكتابةِ القرآن مع
الحديث في صحيفةٍ واحدة، والإذن متعلِّقٌ بالفصلِ بينهما، ولعلَّ هذا من
الأسبابِ التي من أجلِها ورد النهيُ أولاً، مخافة أن يختلطَ القرآنُ بغيرِه
كما قال العلماء، حتَّى إذا ما أتقنَ النَّاسُ القرآن وميَّزوه عن غيرِه،
زال سببُ النهي فزال حكمُه، وعلى هذا يمكنُ تخريج قولِ عمر - رضي الله عنه -
لقرظة بن كعب - رضي الله عنه - وأصحابه لما خرجَ يشيعهم إلى العراق:
"إنَّكم تأتون أهلَ قريةٍ لهم دويٌّ بالقرآن كدوي النَّحلِ، فلا تصدوهم
بالأحاديثِ فتشغلوهم، جوِّدوا القرآنَ وأقلُّوا الرِّوايةَ عن رسول الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم".
فعمرُ لم ينههم عن التحديثِ مطلقًا، كما
حاول بعضُ المغرضين أن يروِّجَ لهذه الشبهةِ ليصدَّ النَّاسَ عن تعلم
السنة، وإنَّما أراد الإقلالَ من الرواية؛ لأنَّ أهلَ العراق ما زالوا
حديثي عهدٍ بإسلام، فلا ينبغي أن يشغلَهم شاغلٌ عن القرآن حتَّى يتقنوه،
ولا مانعَ أن يتلقوا علومَ السنة مع القرآن، ولكنْ بجرعاتٍ قليلة، حتَّى لا
يحدث الخلطُ بينها وبين القرآن، ومعلومٌ أنَّ الجرعاتِ العلمية القليلة
أنفعُ للمبتدئ في أيِّ علم، ولذا نرى المبتدئين في أيِّ علمٍ يعمدون إلى
مختصراتِه المبسطة، ثم يزيدون عليها شيئًا فشيئًا حتى يصلوا للمطولات، كما
قرَّر ذلك ابنُ خلدون - رحمه الله - فقليلٌ متصل مع التركيزِ في فهمِه
وتدبره وحفظِه خيرٌ من كثيرٍ منقطع بلا فهمٍ أو تدبر، وما جاء جملةً واحدة
فإنَّه يذهبُ جملةً واحدة.
ثم جاء إجماعُ الأمَّةِ القطعي بعد قرينةٍ
قاطعة على أنَّ الإذن هو الأمرُ الأخير، وهو إجماعٌ ثابت بالتواترِ العملي
عن كلِّ طوائف الأمَّةِ بعد الصَّدرِ الأول - رضي الله عنهم أجمعين.
والجدير بالذِّكر أنَّ العلماءَ قد سلكوا
مسلكَ الجمعِ بين هذا الرأي وذاك، ولكنَّ القولَ الذي تواترت الأمَّةُ عليه
وأطبقت هو أنَّ التدوينَ مرَّ بمراحلَ عديدةٍ، لم تكن إلا مراحل محكمة
ومعتمدة على العدولِ، وهم خيرةُ النَّاسِ بعد الأنبياء والرُّسل، وهم
الصَّحابةُ؛ صحابةُ محمدٍ خير الأنبياء وخاتمهم.
قال بعضُ العلماء: "وفي هذا العصرِ لم يكن
لعِلمِ الجرح والتعديل وجودٌ؛ لأنَّ عدالةَ الصحابة المطلقة لا يلزمُ معها
البحث في أحوالِ الرُّواة، خلاف مَن ادَّعى ردةَ القوم إلا عددًا يسيرًا،
فنسف مخارجَ السنة نسفًا؛ لأنَّه أسقط أولَ حلقةٍ في سلسلة رجالها، ولازمُ
هذا القولِ الخبيث عدمُ صحة القرآن الذي بين أيدينا، فهم نقلةُ الاثنين كما
سبقت الإشارةُ إلى ذلك، وإلى اليومِ ما زال شيوخُهم يفتون بل ويصنِّفون ما
يروِّجُ لهذه الفِرْية الشنيعة التي لا يرضاها عاقلٌ سوي".
ومن أهمِّ ما كتبه الصحابةُ في عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من المدونات الفردية هي: الصحيفةُ
الصادقة لعبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - وقد اشتملتْ على
1000 حديث، وكتابُ سعد بن عبادة، وكتابُ سعد بن معاذ، وكتابُ عمرو بن حزم
في الديات، ولعليٍّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - وغيرها.
يتضحُ بذلك أنَّ المسلم والمؤمن الحقَّ في
عينِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتشريعه الحي هو المتَّبِعُ لما
جاء به هذا النبي - عليه الصلاة والسلام - ولو كان ما جاء به ينافي عقيدةَ
الآباء والأجداد، فما بالُك إذا كانت هذه العقيدةُ من العقائدِ التي نهى
الله - تعالى - عنها وحذَّر منها؟
ومن آمن بكتابِ الله فقد آمن بسنةِ رسول
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على السواء؛ لأنَّ السنةَ والقرآن مصدرانِ
من مصادرِ التشريع وصلتْ إلينا بطريقِ النُّبوة الخالص دون غيرِه.
فقد روى الحاكمُ في المستدرك عن الحسَن
البصري قولَه: "بينما عمران بن حصين يحدِّثُ عن سنةِ نبينا - صلَّى الله
عليه وسلَّم - إذ قال له رجل: يا أبا نجيد حدِّثْنا بالقرآن، فقال له
عمران: أنت وأصحابك تقرؤون القرآنَ، أكنتَ محدِّثي عن الصَّلاةِ وما فيها
وحدودها؟ أكنت محدثي عن الزكاةِ في الذَّهبِ والإبل والبقر وأصناف المال؟
ولكن قد شهدتُ وغبتَ أنت، ثم قال: فرض علينا رسولُ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - في الزكاةِ كذا وكذا، فقال الرجل: أحييتني أحياكَ الله، قال
الحسن: فما مات ذلك الرجلُ حتَّى صار من فقهاءِ المسلمين".
فهذه هي الحقيقةُ في منزلةِ السنة النبوية
المطهَّرة، وإنَّ الباحثَ ليجدُ أنَّ الفقهاء وصلوا إلى مرتبةِ تارك السنة
النبوية والمكتفي بما في الكتابِ إلى درجةِ الكفر، أعاذنا الله من ذلك.
ألم يقفوا في كتابِ الله وهم يدَّعون أنَّهم أهلُه عند قوله - تعالى -: ﴿
وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب:
36]، زدْ على هذا ما قدَّمنا من الآياتِ البينات التي ما دلَّتْ على أمرٍ
كدلالتِها على وجوبِ طاعة النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - ولقد
قدَّم علماؤنا الغالي والنفيس في سبيل الحفاظِ على السنَّةِ المطهَّرة،
فيلمح المؤمنُ عند ذلك وفي قلبِ الدياجي راياتِ نصرٍ وعلاماتِ بشرٍ، في
أنَّ الشريعة محفوظةٌ لن تنالَ منها سهامٌ أخطأت ولم تصب.
سلسلتان... إحداهما منقطعةعندما يقذفُ البركانُ حماه في لهيبِ الصيف
وسباسبه المشتعلة بنار الشَّمس، تتسلسلُ الحممُ ولن تتوقفَ بعدها، بين
الحينِ والآخر تراها قاذفةً لها، بالضبط كالشهب المقذوفة، لن تتوقفَ أبدًا
في الطَّعنِ بهذه السنةِ النبوية النَّاصعة.
وأمام هذه السلسلةِ هناك سلسلةٌ أخرى لا
يمكنُ للأنظارِ أن تغفلَ عنها، تميزتْ سنةُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم
- بها، ألا وهي إسنادها المتَّصل، فالسنةُ النبوية متصلة؛ مبتداها من ربِّ
العزة والملكوتِ ربِّ العالمين - جلَّ جلاله - متصلة إلى صاحبِها - عليه
الصَّلاة والسلام - ومنتهاها حتَّى آخر مسلمٍ على وجهِ الأرض، يسمعُ شيئًا
من هذه السنةِ المحمدية ويعيها ويعمل بها، وهكذا إلى أن تقومَ الساعة، يوم
تقوم الأرض ومَنْ عليها.
ولبقاء الإسنادِ المتصل حيًّا ينبضُ
بنبراسِ السنة النبوية المطهَّرة جعل اللهُ - تعالى - مِن حكمته أصحابًا
للنبي - عليه الصلاة والسلام - يحملون أسمى صفةٍ لحاملي الأمانة، وهي صفة
العدالةِ الغرَّاء التي تمتَّعَ بها الصَّحابةُ جميعًا دون استثناء - رضي
الله عنهم وأرضاهم.
ولهذا كان من أهدافِ أهل الزَّندقةِ
قديمًا وحديثًا الطعنُ في الصَّحابة - الذي ربما سنتكلمُ عنه بتفصيلٍ قادم -
وسبب هذا الطَّعنِ أنَّهم النَّاقلون لهذه السنة بكل أمانة، فإذا طعنوا في
النَّقلةِ بطلَ المنقولُ، وهذا ما ذكره كبيرُ أهلِ الزندقة يوم أن جاء به
هارونُ الرشيد ليضربَ عنقَه في بغداد، كما جاء في تاريخها.
فالسلسلة الأولى إذًا هي سلسلةُ الإسنادِ
المتصل، يعرِّفُ العلماءُ الإسنادَ بأنه: سلسلةُ رواةِ الحديث النبوي
الشريف الموصِّلة - يعني السلسلة - إلى المتن، فهو إذًا الطريقُ إلى نصِّ
الحديث.
والمتن - كما هو معلوم - هو نصُّ الحديث
النبوي الشريف الذي حدث به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابَه وآل
بيتِه - رضي الله عنهم - وأمرَهم بتبليغِه، وهو كلُّ ما أُضيف إلى النبي -
صلَّى الله عليه وسلَّم - من قولٍ أو فعل أو تقرير، أو صفةٍ خلُقية أو
خلْقية.
فاعتمد العلماءُ في قبول الحديث وعدم
قَبولِه، وفي صحتِه وعدم صحته، وفي أخذِه ورده - اعتمدوا في ذلك كلِّه على
الإسناد، ووُصِف بأوصاف كثيرةٍ من قِبَل المسلمين، وكذلك من قبل
الطَّاعنين.
فالإسنادُ هو القوائمُ الذي قامت عليه
جهودُ حفظِ السنة، كما وصفه ابن المبارك - رحمه الله - وزاد على ذلك أيضًا
بمقالتِه المشهورة: بأنَّ الإسنادَ من الدِّين، ولولا الإسناد لقال مَنْ
شاء في دين الله ما شاء.
ولا يبعد الشَّافعي عن هذا عند وصفِه بأنَّ الآخذَ للسنةِ من دون إسنادٍ كالمحتطبِ في الليل، يحتطبُ ليلاً والأفعى في حطبِه.
فلا تكاد تجد سنةً محفوظة لأحدٍ كحفظِ سنة
النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهذا ما لم يدعه المسلمون لأنفسِهم
وحدهم، حتَّى إنَّ فلاسفةَ اليهود اعترفوا بذلك، والمنصفون أيضًا قد بانت
أمام أعينِهم تلك الحقيقة، وقد نقل الشيخُ عبدالفتاح أبو غدة في كتابه: "
الإسناد من الدِّين" قولَ ذلك العالم الألماني المدعو "
شبرينجر" فقال: "إنَّ الدنيا لم ترَ ولن ترى أمَّةً مثل المسلمين، فقد دُرس بفضلِ علم الرِّجال الذي أوجدوه حياةُ نصفِ مليون رجل".
وهذا جاء نقلاً عن مقدمةِ القائل الألماني
على كتاب: "الإصابة في تمييز الصَّحابة"؛ لابن حجر العسقلاني - رحمه الله -
فالشَّمسُ والقمر لا يحجبان بحاجبِ الأهواء، أفتحجبُ السنةُ بحاجبِ
الأقوال؟ فقد قيل وقيل، ولكن أنَّى للأقوالِ أن تغلبَ الحقيقة من دون حقٍّ،
وهذا لا يحتاجُ منَّا إلى بيان، وما بياننا أمام بيان الله - تعالى! وهو
الواحدُ الدِّيان، المتكفِّلُ بحفظ السنةِ والقرآن في كلِّ زمانٍ ومكان.
كان أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه يحدِّثُ
في مناظرتِه لرجلٍ، فقال له الرجلُ: دعنا من حدَّثنا، إلى متى تحدثنا؟
فزجره الشَّيخُ وطرده من بيته، وأشهد من يجالسُه بأنه لم يطردْ أحدًا من
بيتِه سواه.
فما من شيء أثقل على أهلِ البدع ولا أبغض إليهم من سماعِ الحديث وروايته بإسناده، وهذا قولُ الإمام الحاكم نقلاً عن أحمد بن سلام الفقيه.
وهو واردٌ لمن أراد الطَّعنَ في
السُّنَّة، فإنَّهم يعلمون أنه لا يمكنُ لطعنِهم أن ينفذَ من قوسِه؛ بقيامِ
الإسناد وقيامِ أهله القائمين عليه، فما بالُ طلبةِ العلم عنه منشغلين،
والنَّاس عنه معرضين.
فقد احتفظ العلماءُ بأسانيدِ كلِّ
الأحاديث التي رويت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحتَّى يومنا هذا،
ولن يعترفوا بحديثٍ كان في إسنادِه خللٌ وعلة أبدًا، أو لم يكن له إسنادٌ
أصلاً، وما حاز علمٌ من علومِ الشريعة على جهودِ علماءٍ كما حازت السنةُ
النبوية الشريفة.
فلو لم تكن هذه الخصائص لتساوتِ السنةُ مع الخرافاتِ والرِّوايات والقصص والأقوال التي تنتشرُ هنا وهناك، وكما قال ابنُ المبارك: "
لقال من شاء في دين الله ما شاء"،
وفعلاً لكانتِ السنةُ النبوية ما قالته الأشخاص، أينما كانوا وكيفما
كانوا، وحاشا لله - تعالى - أن يجعلَ مصادرَ التشريع في دينِ الإسلام خاتمِ
الأديان عبارةً عن أقوالٍ وأوهامٍ على شفاه الحاقدين، وهم قد عاصروا
السنةَ من أولِ يومٍ، وكانوا لها أعداءً!
لو أراد أحدُنا - مثلاً - حفظَ وصيةٍ
يتعلَّقُ بها، مال أو متاع زائل، أو أي شيء آخر، لما أودَعَها إلا بيدِ من
يصونُها ويعتقدُ به أهلية حفظِها، دون أن تصلَ إليها أيادي الآخرين أيًّا
ما كانوا، ولربما تكون ليس لها أهمية، أو لم يتعلق بها كثيرٌ من المال، فما
بالُك بمصدرٍ من مصادرِ تشريع هذا الدِّين؟ أفيعجزُ من بيدِه ملكوتُ
السمواتِ والأرض أن يحفظَ دينَه الذي أنزله، بل يتكفَّل بحفظه بعد أن
أنزلَه وشرعه؟! حاشا لله - تعالى - ذلك.
ومما يدعو للاطمئنانِ والإبصارِ بعَيْن
اليقين والإيمان أنَّ الله لم يَتَكفلْ بحفظ دينِه فقط، وإنَّما سخَّرَ
جهودًا كانت بالأمسِ قد طعنت، ثم بعد أيامٍ من التفكيرِ أذعنت، ولا ينسى
أحدٌ أسرابَ العائدين ولسان حالِهم يقولُ ويردِّد:
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوهِنَهَا فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوَهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ
|
ومنهم "
وينسيفك"
الذي قاد بنفسِه حملةَ الردِّ على من زعمَ تشويهَ أئمَّةِ الحديث النبوي،
وأعلن عن صدقِ نَقَلتِه، وأجاد في ذلك بدلائلَ بيَّنت الأدوارَ التي قام
بها أهلُ الحديث - رحمهم الله تعالى.
بهذه السلسلة التي لم ولن تنقطعَ يومًا -
بإذن الله تعالى - ترى العبادةَ الموحدة للمسلمين، وهم متفرقو البيئة
الجغرافية، فالمصلِّي في جنوبِ الشرق يتوحَّدُ بالعبادةِ مع مصلٍّ في شمال
الغرب، فكيف يقولون: إنَّما جاءت السنةُ نتيجة للتطورات البيئية؟ لماذا لم
تختلفِ العبادةُ إذًا والمصلِّي في جنوب الصومال وهو جائعٌ يصلِّي على
الأرضِ، ثم يلتحفُها من فقرِه، وترى أخاه في أمريكا يصلِّي في الطائرةِ أو
المطار أو البارجة؟ فهل التطورُ البيئي كان في زمنِ النبي - صلَّى الله
عليه وسلَّم - أشد من تطورِنا اليوم؟ لا، لكنَّها تناقضاتهم؛ تتواصلُ فزعًا
بالحقيقةِ، وهي تسيرُ في قلوبِهم، ومع سيرها تنادي الحيارى: أن هلمُّوا
معنا.
يروي الإمامُ مسلمٌ في مقدمة صحيحه عن ابن
سيرين قولَه: "لم يكونوا يسألون عن الإسنادِ، فلمَّا وقعتِ الفتنةُ قالوا:
سمُّوا لنا رجالَكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ قولهم، وينظر إلى أهلِ
البدع فلا يؤخذ حديثهم".
وليس هذا بعد وفاة النبي - صلَّى الله
عليه وسلَّم - بفترةٍ طويلة، وإنَّما حدثَ هذا في زمنِ أبي بكر - رضي الله
عنه - فهو أولُ من ألزمَ الرواةَ بذكر أسانيدِهم، فسنَّ - رضي الله عنه -
أمرَ التثبت من الرَّاوي، فلم يقبلْ حديثَ أيِّ صحابي يرفعه إلى النبي -
عليه الصلاة والسلام - حتى يشهدَ معه غيرُه بأنَّه سمعه من النبي - عليه
أفضلُ الصلاة وأتم التسليم - وليس على هذا سار علماءُ الجرحِ والتعديل "
علماء الحديث"، وإنَّما تعدوا ذلك إلى أنَّهم زادوا شروطًا، لا يسلمُ منها وضَّاعٌ أبدًا مهما جاء من وسيلة.
والتاريخُ الصحيحُ نقل إلينا أنَّ علمَ
الحديث لم تؤثِّر فيه السياساتُ المختلفة على أرضِ الواقع؛ لأنَّ علماءَ
الحديث لم يكونوا يتَّبعون أيًّا منها، فكان الحديثُ مستقلاًّ باستقلالِ
علمائه.
علمًا بأنَّ رقعةَ وجودِ العلماء اتسعتْ
مع اتِّساعِ رقعة البلاد المسلمة، فلم يكونوا متجمعين لوحدِهم في إقليمٍ
واحد ليستطيعوا وضع حديثٍ من أنفسهم، فإن كان البعضُ من العلماءِ يوالون
البعضَ من الأمراءِ - كما يدَّعي المستشرقون - فأين علماءُ الحديث الآخرين
في عمومِ بلدانِ المسلمين، وقد ترامتْ أطرافُها؟ ثم لا ننسى أنَّ قواعدَ
العلماء في نقدِ الحديث لم يشهدْ لها التاريخُ العلمي مثيلاً أبدًا، ويا
لها من قواعِدَ كانت بالفعلِ بحجمِ ما وضعت له؛ وهي أحاديثُ النبي - صلَّى
الله عليه وسلَّم.
كانت قواعدُهم مستحكمةً لأمرين اثنين
وخطوتين مهمتين؛ الخطوة الأولى متعلقةٌ بالسندِ؛ وهو الذي قدَّمْنا الكلامَ
عنه: وهو السلسلةُ المتصلة للرُّواة، والخطوة الثانية تعلَّقتْ بالمتن:
وهو النص النبوي، وقد سبق تعريفُهما.
ففي كلِّ الرواة في السندِ اشترطَ
العلماءُ شروطًا وضوابطَ عديدةً؛ كالعدالة والضَّبطِ والحفظ والسَّماع، هذا
في كلِّ راوٍ من رواة السلسلةِ في السند.
وأمَّا المتنُ فقد وضعوا له خمس عشرة قاعدة لقبولِه، وهذه القواعدُ يطول المجالُ لذكرِها، كانت هذه القواعدُ عميقةً وكافية،
ناهيك عن القواعدِ الإضافية التي وضعوها؛ كالاضطرابِ والعلة والشُّذوذ،
وكذلك القلب والغَلَط والإدراج، وهي مصطلحاتٌ حديثية يعرفها أهلُ الحديث
جيدًا.
ولا تعجبْ من غايةِ الاحتياطِ في دين
الله، عندما جعلوا أحاديثَ الآحاد لا تفيدُ القطعَ، وإنَّما أفادتِ
الظَّنَّ مع وجوبِ العمل بها، كما قال علماء الحديث - رحمة الله عليهم.
ولا يبقى إلا سلسلة ثانية، هي سلسلةُ
الشبه المقذوفة، فهي باقيةٌ ما بقي القاذفون، لكنَّ حقيقتَها أنها منقطعةٌ
في الروح والحق والتأثير.
فقل يا أخي القارئ: أين نذهبُ بشبهاتِهم
المدحوضة؟ وقل لي: في أيِّ بحر غاصتْ عقولُهم المتبلِّدة، من التفكيرِ بما
دعا إليه العظيمُ الكبير من التشنيعِ على المستنِّين بدينِ الآباء
والأجداد؟ ولنعلم بعدَها أنَّ هذه الشبهَ العقيمة ليست نهايةَ أوحالِهم، بل
هي في مستنقعٍ آسن.
المصادر:1- صريح السنة؛ للإمام الطبري.
2- الاستشراق؛ د.مازن بن صلاح مطبقاني.
3- رؤية إسلامية للاستشراق؛ أحمد عبدالحميد غراب.
4- الاستشراق والدراسات الإسلامية؛ د.عبدالقهار العاني - رحمه الله.
5- الاستشراق والخلفية الفكرية؛ محمود زقزوق.
6- المستشرقون والسنة النبوية؛ د.سعد المرصفي.
7- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي؛ د.مصطفى السباعي.
8- مسند الإمام احمد؛ تحقيق شعيب الأرناؤوط، ط2، مؤسسة الرسالة.
9- حجية السنة؛ حسين الشواط.