اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 موسوعة العقاد الإسلامية ورده على شبهات المستشرقين وافتراءات الغربيين على الإسلام ونبيه

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100205
موسوعة العقاد الإسلامية ورده على شبهات المستشرقين وافتراءات الغربيين على الإسلام ونبيه Oooo14
موسوعة العقاد الإسلامية ورده على شبهات المستشرقين وافتراءات الغربيين على الإسلام ونبيه User_o10

موسوعة العقاد الإسلامية ورده على شبهات المستشرقين وافتراءات الغربيين على الإسلام ونبيه Empty
مُساهمةموضوع: موسوعة العقاد الإسلامية ورده على شبهات المستشرقين وافتراءات الغربيين على الإسلام ونبيه   موسوعة العقاد الإسلامية ورده على شبهات المستشرقين وافتراءات الغربيين على الإسلام ونبيه Emptyالأحد 12 مايو 2013 - 14:44

هذا الطَّرح ما هو إلا قراءة مُتأنِّية في
جانبٍ من نتاج المفكِّر العِصامي والكاتب الموسوعي الأديب الناقد عباس
محمود العقاد - رحمه الله - أرصُد فيها ظاهرةً لافتةً للنَّظر في عُموم
محصلته الفكريَّة، وفي بُحوثه في الحضارة الإسلاميَّة والسِّيرة النبويَّة،
وتَراجم الشخصيَّات بوجهٍ خاصٍّ، تتمثَّل هذه الظاهرة في اصطِباغ ذلك
النِّتاج بالصبغة الإسلاميَّة، وانطِلاقه من رؤيةٍ إسلاميَّة وارتكازه
عليها، ولست مُبالِغًا إذا قلت: إنَّ العقاد كان يتنفَّس الإسلامَ ويتحرَّك
به، كما كان ملء شَرايينه وعقلِه، والبوصلة التي كانت تدلُّه - دائمًا -
في سبحاته الفكريَّة، وتدفعه إلى عالمه البحثي.


ظَلَّ الإسلام الرافد الرئيس للعقَّاد في
زمانٍ ومكانٍ عَجَّا بالتيَّارات الفكريَّة والمذهبيَّة المختلفة الوافدة،
التي استقطبت السَّواد الأعظم من شَرائح المثقَّفين الذين استَماتوا في
الدِّفاع عنها بعد اعتِناقها والتَّبشير بها.



ومع هذا الجوِّ المحيط لا نكادُ نجدُ
للعقَّاد - رحمه الله - نتاجًا لا يكون الإسلام الروح التي تبثُّ الحياة
فيه وتدفعه، وتتقدَّم به من بين وسطٍ يضجُّ بالفاسد والمعطوب.



ولعلَّ استِعراضي الموجز لموسوعة العقاد
الإسلاميَّة كما طبَعَها ناشرها دار الكتاب العربي في بيروت سنة 1391هـ/
1971م في خمسة مجلَّدات، وهي كما يدلُّ عليها عنوانها جامعة لقِسمٍ من نتاج
العقاد، كدليلٍ على ضَخامة ما قدَّمَه للحقل الثقافي في مصر خاصَّة
والعالم العربي والإسلامي عامَّة.



هذه المجلدات الموسوعة تربو صفحاتها على أربعة آلاف صفحة:

المجلد الأول:
يشتملُ على ثلاث وتسعين وثمانمائة صفحة تحدَّث فيها عن التوحيد والأنبياء،
ثم فصَّل ذلك بالحديث عن الله، وأبي الأنبياء إبراهيم، وعيسى ابن مريم في
التاريخ وكُشوف العصر الحديث، حياة المسيح، مَطلَع النور طوالع البعثة
المحمديَّة.



المجلد الثاني:
من الموسوعة تضمن العبقريات التي كتبها العقاد على مدى اثنين وتسعين
وتسعمائة صفحة، وهي على التوالي: عبقرية محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -
وعبقرية الصِّدِّيق، وعبقريَّة عمر، وعبقريَّة عثمان ذي النورين، وعبقريَّة
الإمام علي، وعبقريَّة خالد، وكل عبقريَّةٍ تقعُ في كتابٍ مستقل ضُمَّ إلى
بعضه في هذا المجلَّد.



والمجلد الثالث:
يقعُ في ثمانمائة وسبعين صفحة، تناوَل فيها شخصيَّات إسلاميَّة: فاطمة
الزهراء ابنة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والحسين بن علي أبا
الشهداء، وعائشة الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، وبلال بن رَباح مُؤذِّن
الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومعاوية بن أبي سُفيان مُؤسِّس الدولة
الأمويَّة، عمرو بن العاص دهاء وبلاء، وكل شخصيَّةٍ من هذه الشخصيَّات
تحدَّث العقاد عنها في كتابٍ مستقل، إلا أنَّ منهج الموسوعة اقتضى الناشر
إلى ضمِّها.



والمجلد الرابع:
يقعُ في ثمانمائة وخمس عشرة صفحة عنوانه العام: القُرآن والإنسان، تحدَّث
تحتَه عن الفلسفة القُرآنيَّة، ثم عن الإنسان في القُرآن، المرأة في
القُرآن، الإسلام في القرن العِشرين، الديمقراطيَّة في الإسلام، وهذه
البحوث تنتظمُ عددًا كبيرًا من البحوث الفرعيَّة في طيَّاتها.



والمجلد الخامس:
يقعُ في ستَّة وسبعين وتسعمائة صفحة، اشتملَ على مجموعةٍ من البحوث
الإسلاميَّة تحت العناوين الكبيرة التالية: حقائق الإسلام وأباطيل خُصومه،
ما يُقال عن الإسلام، ماذا يقولون بل كيف يقولون؟ الشيوعية والإنسانية في
شريعة الإسلام، التفكير فريضةٌ إسلاميَّة.



فريضة التفكير في كتاب الإسلام، وتحت هذه العَناوين الكبيرة خمسة وثمانون بحثًا فرعيًّا.



وكان هَمُّ العقَّاد الشاغل فيما ألَّف،
والناشر من بعده في جمْع الموسوعة، هو إبراز أهميَّة الإسلام كمنهجٍ لحياة
الأفراد والجماعات والأمم حُكَّامًا ومحكومين، وكذلك الدلالة على أنَّ هذا
الدِّين الخاتم إنما هو للناس كافَّة؛ ومن ثَمَّ استَعرَض الدِّيانات
الكتابيَّة السابقة وبيَّن خُصوصيَّتها ومحدوديَّتها بالزمان والمكان
والبشَر، ثم انتهى من كلِّ ذلك إلى أنَّ نهضة الإنسان ورقيَّه وسعادته في
الدنيا والآخِرة، إنما يَكمُن في هذا الملاذ الآمِن، وسوف أُضمِّن هذه
القِراءة حديثَ العقاد - رحمه الله - عن مفهوم الديمقراطيَّة في الإسلام
لنتبيَّن رأيَه ووجهتَه في حاكميَّة الإسلام، وصلاحه لكلِّ زمان ومكان،
دينًا ودولة، وقد ردَّ في أثناء هذه المجلَّدات على المرجِفين والمنخذِلين
الذين يستَدبِرونه ويستَقبِلون شرائعَ الأهواء الدنيويَّة، وأغراض النُّفوس
المريضة التي تُعدُّالقوانين وفقًا لإذلال الإنسان واستِعبادِه من دُون
الله، والعقَّاد في بحثٍ مُقارن ذهب إلى أنْ الخُضوع لله وحده واتِّباع
شرعِه وسنة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو العاصم من الظُّلم،
وواقيه من الرِّقِّ والدُّونيَّة، وتحتَ مظلَّة هذا الخضوع وحدَه يتساوى
الجميعُ، لا فَرْقَ بين عربيٍّ وأعجميٍّ، وأبيض وأسود إلا بالتقوى.



ولأنَّه من المستحيل أنْ أُقدِّم في هذه
العجالة طرحًا يستجمعُ الإشادةَ الكاشفة لما في هذه الموسوعة لتنوُّع
المادَّة العلميَّة وغَزارتها أولاً وكثرة البُحوث وتعدُّدها وتعمُّقها،
ثانيًا: فإنَّ هذه القِراءة سوف تقتصرُ على عرْض تفنيد العقَّاد لشُبهات
المستشرِفين حول بعض شبهات الإسلام، ورُدوده على الغَربيِّين الحاقدين على
الإسلام، والذين يُثِيرون اللَّغط حولَ سِيرة الرسول - صلَّى الله عليه
وسلَّم - وفي هذا المجال أكادُ أجزم أنَّ العقاد - رحمه الله - لم يدعْ
شُبهةً أُثِيرتْ حول الإسلام ونبيِّ الإسلام إلا دحَضَها، أو فِرية
ادَّعاها أعداء الإسلام إلا فنَّدَها وردَّها على قائليها بالأدلَّة
العقليَّة والنقليَّة، والبراهين الناصعة المفحِمة يُجلِّي بها الحقَّ،
ويُقنع بها الخصم، ويُسكت بها اللدد، وقبلَ استِعراض المزاعم التي تصدَّى
لها العقاد بالردِّ يجدر أنْ نضع هذا الطرح بفقرةٍ من مقدمة ناشِر
الموسوعة، يقول: "سيظلُّ عباس محمود العقاد في تاريخ الأدب المتناول لهذه
العقود من القرن العشرين التي نَحياها، الدَّوحة الأرحَب بما وسعت ظِلالها
من أقاليم المعرفة، وبما قدَّمت ثمارها من ألوان الثَّقافة المختلفة
الطُّعوم.



وأنَّ ذلك لَيتَّضحُ إذْ نُرجِعُ البصرَ
كَرَّةً في ثبت المؤلَّفات التي نَتَجَتْ عن يَراعِ هذا المؤلِّف المِعطاء؛
ففيها القصَّة والرواية، وفيها الدِّراسة والبحث، وفيها التحقيق والتقرير،
وفيها المُطالَعات والمراجعات، وفيها الخطَرات والاستِقصاءات، وفيها غير
ذلك.



ولعلَّ الجامعة التي تربطُ بين هذا
النِّتاج الثَّرِّ المتنوِّع المتلوِّن هي تلك السِّمة الطاغية التي تسمُ
ذلك النتاج كافَّة: سمةَ تقديسِ الحقيقة، وسمةَ احترامِ الوسيلة المفضية
بها إلى الناس بما تقتَضِيه هذه الوسيلة من لغةٍ ونهجٍ واختيارٍ.



ونحن إذ نُورِدُ هذا الانطِباع العام لما نُقدِّمه من نتاج العقاد لا ندَّعي تقييمه، بل كل ما نهدف إليه هو الإشارة إلى طابعه العام.



لقد شرَح العقاد ثمانيةً من كتبه "العبقريات" و"شخصيات إسلامية"
وغيرها، مَن أراد أنْ يتبيَّنها يرجع إلى تلك الكتب، ولكنَّنا نشيرُ هنا
إلى أنَّ الصورة المستحدَثة التي مال العقاد في تأليف خُطوطها واختيار
ألوانها، لإبْراز كثير من وَقائع التاريخ التي احتاجَ إلى إبرازها في رسم
عبقريَّة كلٍّ مِن أبطال المسلمين الذين هدَف إلى إبْراز عبقريَّاتهم وفي
إبْراز ملامح كلِّ شخصيَّة من الشخصيَّات الإسلاميَّة التي تَصدَّى إلى
عرضها، في الصُّورة التي يستسيغ المحدَثون استيعابها واستجلاءها والتملِّي
من جمالها، لينتهوا بعد ذلك إلى تمثُّلها"[1].



إلى جانب ما أشار إليه العقاد مثلاً في
عبقريَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - موضحًا سبب تأليفه له قائلاً:
الكتاب تقديرٌ لعبقريَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمقدار الذي
يدينُ به كلُّ إنسانٍ ولا يدينُ به المسلم وكفى، وبالحق الذي يبثُّ له
الحبَّ في قلب كلِّ إنسان وليس في قلب كلِّ مسلمٍ وكفى...



ثم يستطردُ:
محمد هنا عظيم... لأنَّه قُدوة المقتَدِين في المناقب التي يتمنَّاها
المخلِصون لجميع الناس، عظيمٌ لأنَّه على خلُق عظيم، وإيتاء العظمة حقَّها
لازمٌ في كلِّ آوِنة وبين كلِّ قبيلٍ، ولكنَّه في هذا الزمن وفي عالمنا هذا
ألزَمُ منه في أزمنةٍ أخرى لسببين متقاربين لا لسببٍ واحد: أحدهما: أنَّ
العالم اليوم في أمَسِّ الحاجة إلى المصلحين النافعين لشُعوبهم وللشُّعوب
كافَّة، ولن يُتاح لمصلحٍ أنْ يهدي قومَه وهو مغموط الحق مُعرَّض للجفوة
والكنود.



والسبب الآخَر: أنَّ
الناس قد اجترَؤُوا على العظَمة في زماننا بقدْر حاجَتِهم إلى هدايتها،
فإنَّ شُيوع الحقوق العامَّة قد أغرى أناسًا من صِغار النُّفوس بإنكار
الحقوق الخاصَّة، حقوق العلية النادرين الذين بنصفهم التمييز وتظلمهم
المساواة، والمساواة هي شِرعة السَّواد الغالبة في العصر الحديث، ثم يقول:
"وحسبنا من عبقرية محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ نقيم البرهان على
أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - عظيمٌ في كلِّ ميزان، عظيمٌ في
ميزان الدِّين، وعظيمٌ في ميزان العِلم، وعظيمٌ في ميزان الشُّعور، وعظيمٌ
عند مَن يختلفون في العقائد ولا يسَعُهم أنْ يختَلِفوا في الطبائع
الآدميَّة إلا أنْ يرين العنتُ على الطَّبائع فتنحرف عن السَّواء، وهي
خاسرةٌ بانحرافها[2].



ولقد كان في اطِّلاع العقَّاد على قسطٍ
وافر الغزارة من كتابات أهل الغرْب في التاريخ الإسلامي مجال لرَدِّه
الكثيرَ من مواطن سُوء فهْم بعض المؤرِّخين الغَربيِّين لبعض المواقف في
ذلك التاريخ، ولردِّه الكثيرَ من خطأ التعليل لدى أولئك المؤرِّخين في
كثيرٍ من المواقف أيضًا، فضلاً عن تعريته لكثيرٍ من التغرض الذي ظهَر منهم
في الحُكم على بعض المواقف في بعض الأحيان.



ولعلَّ أقوى ما اصطَنَعه العقَّاد من وسيلةٍ للإقناع فيما كتبه الرُّوح الحياديَّة، والاحتِكام
إلى المنطق، ومُعطَيات علم المناهج وعلم النَّفس والمحاكمة العقليَّة
والنَّهج العَقلاني، فلم يكنْ فيما أرادَ إثباته أو نفيه ذلك المؤمن الذي
يكتَفِي بإيمانه، ويقتصر على أدلَّة ذلك الإيمان، ويدعو الخصم إلى
مُنازَلته في ساحته هو، بل انتَقَل إلى ساحة الخصم، واستعمل سلاحَه؛ حتى لا
يكون للخصم إذ يُغلَب أيُّ تعلَّة في انهِزامه وحُبوط رأيه وحكمه[3].



ووفْق هذا المنهج الذي اختَطَّه العقاد
لنفسه في الردِّ على مَن خالَفه الرأيَ عُمومًا، وعلى آراء المستشرقين في
الإسلام على وجه الخصوص نُورد هنا بعضَ الشُّبهات التي أثارَها الغربيُّون
للنَّيْلِ من الإسلام، وحسم العقاد لها بتَفنِيد آراء الجائرين والمتطاولين
عليه وعلى نبيِّ الإسلام - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكأنَّ العقاد - رحمه
الله - كان يتوقَّع أنَّ هذه الشُّبهات ستطلُّ مُثارةً على المدَى - وقد
صدَق ما توقَّعه - لذا لم يترُك لدجَّال مجالاً في أنْ يُشكِّك في الحقيقة
التي جلاَّها في تلك القضايا بما دعَّم به آراءَه من أدلَّةٍ وبراهين، فمن
الشُّبهات التي أثارَها المؤرِّخون الغربيُّون ما تحدَّثوا به في نَزاهة
العبادة، يقول العقاد: "تعوَّد بعض المصابين بداء الهذَر من المؤرِّخين
الغربيِّين أنْ يتكلَّموا عن نَزاهة العبادة، ويَذكُروا النعيم السماوي كما
وصَفَة الإسلام بين النَّقائض التي تقدَحُ في العبادة النَّزيهة، وما من
دينٍ من الأديان خَلا من مبدأ الثَّواب والعِقاب، وما من أمَّةٍ من الأمم
من عصر الدعوة الإسلاميَّة، كانت صور النَّعيم السماوي عندها مَقصورة على
صُورةٍ واحدةٍ تُؤمن بها ولا تُؤمن بغيرها.



فليس الإيمان بالثَّواب والعِقاب مخلاًّ
بنَزاهة الدِّين، وما من دينٍ يستحقُّ أنْ يُسمَّى دينًا يُسوِّي بين
الصالحين والمفسدين، أو يحجر على النُّفوس أنْ تطمَحَ إلى النَّعيم الذي
ترتَضِيه.



إنَّما الميزان الحق للعبادة النَّزيهة هو الصفة التي يتَّصف بها الإله المعبود، ومن أجلها يتعبَّد له المؤمنون.



وأنزَهُ العبادات ولا ريب هي العبادة التي
يدينُ بها المؤمن لله - جلَّ وعلا - لأنَّه حَقٌّ وهُدًى، ولأنَّ الإيمانَ
به هو الصِّدق والصَّواب.



هذه العبادة أنزَهُ من العبادة التي
تتَّجه بها الأمَّة إلى الله؛ لأنَّه يقومُ لها مقام الحارس في وجه الأمم
التي تخشاها، وهي أنزَهُ من العبادة التي تقومُ على تعلُّق المرؤوس بتكاليف
الرِّئاسة والزعامة[4].



سَيِّدُ المرسلين بحقٍّ مَن جاء بالرسالة
المنزَّهة المُثلى، وهذه هي رسالة محمد بشَهادة العقل حين يُقابل بين
القَرائن والأمثال، قبل شَهادة المتديِّن لدِينه أو المتعصِّب لعصبته
والمقلِّد لما يُملِيه التقليد عليه.




وفيما ادَّعاه بعضُ الغَربيِّين من أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -
اعترضه الصَّرع في صِغَرِه يقولُ العقَّاد في نهاية حديثِه عن والدي
النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عبدالله وآمنة يقول: "ولا ندع الكلام
عل الأسرة النبويَّة وفي الخاطر سؤالٌ تُوحِي إلينا أنْ نسأله وأنْ نجيب
عنه ما استُطِيع الجواب.



لقد مات عبدالله وآمنةُ ولم يُجاوِزَا
الخامسة والعشرين، ولا يكون الموت في هذه السنِّ إلا علامة على الضَّعف
والهزال - كما يدَّعي أولئك بمقاييسهم البشريَّة القاصرة التي لا تَعِي
الحكمة الإلهيَّة في فِعله وتقديره - سبحانه وتعالى - إن لم يكن من مرضٍ
يستنفدُ الأجل في عُنفوان الشباب.



فهل كان محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - سليلَ أبوَيْن ضعيفين هزيلين؟ إن
لم تكن غَرابة الالتِقاء بين الأبوين على هذا الضَّعف كافيةً لدفْع هذا
الظنِّ فلا حاجةَ إلى دافعٍ له غير حياة الوليد، ما استوفَتْه من قوَّة
الرُّوح وقوَّة الجثمان، وقد سأل أناسٌ من كُتَّاب الغَرْبِ هذا السؤال،
وخُيِّلَ إليهم أنهم وجَدُوا جوابَه في قصَّته الصرع المزعوم قبل الفِطام،
وفيما كان يَعرُوه من بُرَحاء[5]
الوحي التي وصَفَها الأقرَبُون منه، وأيسرها أنَّه كان - عليه السلام -
يرعد ويضطربُ ويتقاطَرُ منه في اليوم الشاتي عَرَقٌ كحَبِّ الجمان[6].



وعجيبٌ أنْ يُصاب الإنسان بصرعٍ ولا
يَعرُوه غير مرَّة واحدةٍ في سنِّ الرَّضاع، ثم لا يُعاوِده إلا مرَّة أخرى
إلى قرابة الأربعين، وأعجب منه أنْ يُصاب به بعد الأربعين في حالٍ واحدة
حين يتلقَّى الوحي، ثم لا يُصاب به مرَّة في غير تلك الحال.



ولكنَّه ليس بالعجيب أنْ تجيش بنية اللحم
والدم من أعماقها في غاشيةٍ كغاشية الوحي كائنًا ما كان قوام البدن الذي
تغشاه، ولا أنَّ أحدًا من الأنبياء وُصِفَ لنا كما وُصِفَ محمدٌ - عليه
السلام - في كلِّ لمحةٍ من لمحاته، وفي كلِّ حركةٍ من حركاته، وفي يقظته
ورقاده، وفي حديثه وصَمته، وفي جُلوسه ومَسِيره، وفي رُكوبه وارتِحاله، فلم
تكن له صفةٌ قطُّ في كلِّ أولئك غير صفة البنية السويَّة والحلُق القويم.



كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - باتِّفاق
جميع واصِفيه فوقَ المربوع، بعيدًا ما بين المنكبين، غزيرَ الشَّعر، تلمسُ
جمَّته شحمةَ أذنِه، شثن الكفَّيْن والقدمَيْن، ضَخم الكَراديس - أي: ملتقى
العظام - ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، أدعج العينَيْن، أهدب الأشْفار،
إذا مشى تقلَّع كأنما ينحطُّ من صببٍ، وزيع الخطوة، سائل الأطراف[7].



والنُّطق أبيَنُ عن حالات الصَّرع من سائر
الصِّفات، وما وصف منطق النبيِّ بشيءٍ ينمُّ على اضطرابٍ في عصبٍ أو في
عضلٍ، أو ينبئ عن عرضٍ من الأعراض غير سليمٍ أو قويم، كان - صلَّى الله
عليه وسلَّم - ضليع الفم، يتكلَّم بكلامٍ بيِّن فصل مفسَّر، إذا أشار
بكفِّه أشار بها كلها، وإذا تعجَّب قلبَها، وإذا تحدَّث اتَّصل بها - أي:
صحب كلامه بما يُوافِقه من حركتها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضَّ
طرفَه، جُلُّ ضحكِه التبسُّم، ليس بصخَّاب، ولا يرتفع له صوت في غير دُعاء.



وهذه صِفات كلامِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ممَّا يزيدُ على عِشرين مصدرًا جمَعَها أبو عيسى الترمذي صاحب "الشمائل المحمدية"، ولم يأتِ بين أثنائهامساغٌ اشتباه في عرضٍ من أعراض خلل الصَّرع والاضطراب، بل هي كلها توكيدٌ للمنطق السليم والخلق القويم ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
﴾ [الأنعام: 124]، وقد جعلت رسالة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث
ينبغي أنْ تكون خلْقًا وخلُقًا من ميراث الزمن وميراث الأجداد والآباء،
فكلُّ خُلُقٍ وُصِفَ به فهو الصالح لأداء رسالته، والنُّهوض بأمانته، إن
تكن ضريبة من ضَرائب العظمة الكبرى - ولا بُدَّ لها من ضريبةٍ - فتلك هي
النقص في نسله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليستَوفِي التَّمام من أمر هذه
الذريَّة الباقية إلى يومِنا، وبعد يومِنا، جامعة داعية لكلِّ تابعٍ من
تابِعِيه، وكلِّ مولود له في عالم الضَّمير من بَنِيه وغير بَنِيه[8].



وفي معرض ردِّه على دَعاوَى المغرِضين وأعداء الإسلام في أنَّ الإسلام انتشَر بحدِّ السيف والإرهاب يقولُ العقاد:

ما من حركةٍ كُبرى في التاريخ تتَّضح للفهْم - مع التحفُّظ على كلمة (حركة)
- إن لم يكن نجاح الدعوة المحمديَّة مفهومًا بأسبابه الواضحة المستقيمة
التي لا عِوَجَ في تأويلها، وما من شيءٍ غير الغرَض الأعوج يُذهِلُ صاحبَه
عن هذه الأسباب الطبيعيَّة البيِّنة، ثم يُخيَّل إليه أنَّ الدعوة
الإسلاميَّة كانت فُضولاً[9]
غير مطلوبٍ في هذه الدنيا، وأنَّ نجاحَها مُصطَنعٌ لا سبب له غير الوعيد
والوعود، أو غير الإرهاب بالسيف والإغراء بلذَّات النَّعيم، ومُتعة الخمر
والحُور العِين.



أيُّ إرهاب وأيُّ سيف؟!

إنَّ الرجل حين يُقاتِل مَن حوله، إنما
يقاتلهم بالمئات والألوف، وقد كانت المئات والألوف الذين دخَلوا في الدِّين
الجديد يتعرَّضون لسيوف المشركين، ولا يُعرِّضون أخذ لسيوفهم، وكانوا
يلقون عنتًا[10]،
ولا يُصيبون أحدًا بعنتٍ، وكانوا يخرُجون من ديارهم لِياذًا بأنفسهم
وأبنائهم من كيد الكائدين ونِقمة الناقمين، ولا يُخرِجون أحدًا من دارِه.



فهم لم يُسلِموا على حَدِّ السيف خوفًا من
النبيِّ الأعزل المفرد بين قومه الغاضبين عليه، بل أسلَمُوا على الرغم من
سيوف المشركين، ووعيد الأقوياء المتحكِّمين، ولما تكاثَرُوا وتناصَرُوا
حملوا السيف ليدفعوا الأذى ويُبطِلوا الإرهاب والوعيد، ولم يحملوه ليبدؤوا
واحدًا بعُدوان أو يستَطِيلوا على الناس بسُلطان.



فلم تكن حربٌ من الحروب النبويَّة كلها حرب هجوم، ولم تكن كلها إلا حروب دِفاع وامتناع.



أمَّا الإغراء بلذَّات النَّعيم ومُتعة الخمر والحور[11]
العِين، فلو كان هو باعثًا للإيمان لكان أحرَى الناس أنْ يستَجِيب إلى
الدعوة المحمديَّة هم فسَقَةُ المشرِكين وفجرتهم، وأصحاب التَّرف والثَّروة
فيهم، ولكان طُغاة قريش هم أسبقَ - الناس إلى استِدامة الحياة واستِيفاء
النعمة، فإنَّ حياة النَّعيم بعد الموت مُحبَّبة إلى المنعمين تحبيبها إلى
المجرمين، بل لعلَّها أشهى إلى الأوَّلين وأدنى، ولعلَّهم أحرص عليها
وأحنى؛ لأنَّ الحِرمان بعد التذوُّق والاستِمراء أصعبُ من حِرمان مَن لم
يذق ولم يتغيَّر عليه حال[12].



إنَّ في قصَّة إسلام عُمر بن الخطاب -
رضِي الله عنه - لَدليلٌ على ذلك؛ خرَج بالسيف ليقتل محمدًا، ولم يخرجْ
عليه أحدٌ من المسلمين بسيفٍ وقرأ صدرًا من سورة طه ليس فيه ذِكرٌ للخمر
والنَّعيم، فأسلَمَ حين لقي الرسول - عليه السلام - فلا جُبن إذًا ولا طمع
في إسلام عمر بن الخطاب، بل رحمة وإنابة واعتذار.



ولم يكن في إسلام الفُقَراء الذين هم أقلُّ من عمر ناصرًا، وأضعف
منه بأسًا - جُبنٌ ولا طمَع؛ لأنهم تعرَّضوا بإسلامهم للسيف، ولم يخضَعُوا
للسيف حين أسلموا لله ورسوله، وما كفر الذين كفروا لزهدٍ ولا شجاعة،
فيقال: إنَّ الذين سبقوهم إلى الإسلام قد فعلوا ذلك لشغفٍ بلذَّات الجنَّة،
وجُبن عن مواجهة القوَّة، ولكنَّهم اختلفوا حيث تطلَّب طهارة السيرة
وصَلاح الأمور، فمَن كان قريبًا إلى هذه الطلبة من غنيٍّ أو فقير، ومن
سيِّد أو مُستعبَد، فقد أسلَم، ومَن كان به زيغٌ عنها فقد أبى، وهذا هو
الفيصل القائم بين الفريقين، قبل أنْ يتحرَّر للإسلام سيفٌ يَذُود عنه،
وبعد أنْ يُجرَّد له سيف تهابُه السيوف، وما يقسم الطائفتين أحدٌ، فيضع أبا
بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - في جانب اللذَّة والخوف، ويضعُ
الطُّغاة من قريش في جانب العِصمة والشجاعة، إلا أنْ يكون به هوًى كهوى
الكفَّار من قريش في الإصرار والإنكار.



إنما نجحَتْ دعوةُ الإسلام لأنها دعوةٌ
طلبَتْها الدنيا ومهَّدت لها الحوادث، وقام بها داعٍ تهيَّأ لها بعناية ربه
ومُوافَقة أحواله وصِفاته.



فلا حاجةَ بها إلى خارقةٍ يُنكِرها العقل،
أو إلى ملَّة عَوْجاء يلتَوِي بها ذوو الأهواء، فهي أوضحُ شيءٍ فهمًا لمن
أحبَّ أنْ يفهَم، وهي أقومُ شيءٍ سبيلاً لمن استَقام.



ويستطردُ العقَّاد مُوضِّحًا ما ذهَب إليه في أنَّ الإسلام كان يدافع عن نفسه حين يُعتدَى عليه قائلاً:

"وقبل ذلك ينبغي أنْ نستحضر في الذِّهن
بعضَ الحقائق التي تُظهِر لنا الاختلاف بين الدِّين الإسلامي والأديان
الأُخرى في مسألة القتال؛ لتثبت أنَّ للإسلام شأنًا في اجتناب القوَّة كشأن
كلِّ دِين، وأنَّه ما كان لينصر بالقوَّة لو لم يكن إلى جانب ذلك صالحًا
للانتصار، وأنَّ الأديان الأخرى ما كانت لتُحجِمَ عن عملٍ أقدم عليه
النبيُّ لو كانت دعوتها كدعوته، وكانت أسبابها كأسبابه.



فالحقيقة الأولى:
أنَّ مطعن القائلين بأنَّ الإسلام دِين قتال واعتِداء مردودٌ عليهم؛ وذلك
أنَّ واقع الإسلام في بداءة عهدِه كان هو المُعتَدى عليه، ولم يكن من
قِبَلِه اعتداءٌ على أحد، وظلَّ كذلك حتى بعدَ تلبية الدعوة المحمديَّة
واجتماع القوم حول النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - فإنهم كانوا يُقاتلون
مَن قاتَلهم ولا يزيدون على ذلك: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].



وقد صبَرَ المسلمون على المشركين حتى
أُمِروا أنْ يُقاتلوهم كافَّة كما يُقاتلون المسلمين كافَّة، فلم يكن لهم
قطُّ عُدوان ولا إكراه.



وحُروب النبيِّ - كما سلف - كانت كلُّها
حروبَ دِفاع، ولم تكنْ منها حربُ هجومٍ إلا على سبيل المبادرة بالدِّفاع
بعد الإيقان من نكْث العهد والإصرار على القتال، وتستَوِي في ذلك حُروبه مع
قريش وحُروبه مع اليهود أو مع الروم؛ ففي موقعة تبوك (حملة تبوك)
عاد الجيش الإسلامي أدراجَه بعد أنْ أيقن بانصِراف الروم عن القتال في تلك
السَّنَة، وكان قد سرَى إلى النبيِّ بنأ أنهم يُعبِّئون جيوشَهم على حُدود
البلاد العربيَّة، فلمَّا عدَلُوا عدَل الجيش الإسلامي عن القتال على فرط
ما تكلَّف من الجهد والنَّفقة في تجهيزه وسفره.



والحقيقة الثانية:
أنَّ الإسلام إنما يُعاب عليه أنْ يُحارب بالسيف فكرةً يمكن أنْ تُحارَب
بالبرهان والإقناع، ولكن لا يُعاب عليه أنْ يُحارب بالسيف سلطةً تقف في
طريقه، وتَحُول بينه وبين أسماع المستعدِّين للإصْغاء إليه[13]؛ لأنَّ السُّلطة تُزال بالسُّلطة، ولا غنى في إخْضاعها عن القوَّة.



ولم يكن سادةُ قريش أصحابَ فكرةٍ
يُعارِضون بها العقيدة الإسلاميَّة، وإنما كانوا أصحابَ سِيادةٍ موروثة،
وتقاليد لازمة لحِفظ تلك السِّيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي الأعقاب بعد
الأسلاف، وكلُّ حجَّتهم التي يَذُودون بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا
آباءهم عليها، وأنَّ زَوالها يزيلُ ما لهم من سَطوة الحكم والجاه.



وقصد النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -
بالدعوة عُظَماء الأمم ومُلوكها وأمراءها لأنهم أصحاب السُّلطة التي تأبى
العقائد الجديدة، وقد تبيَّن بالتجربة بعد التجربة أنَّ السُّلطة هي التي
كانت تَحُول دون الدعوة المحمديَّة، وليست أفكار مُفكِّرين ولا مذاهب
حكماء؛ لأنَّ امتناع المقاومة من هؤلاء العظماء والملوك كانت تمنع العوائق
التي تصدُّ الدعوة الإسلاميَّة فيمتنع القتال.



الحقيقة الثالثة: أنَّ الإسلام لم يحتكمْ إلى السيف قطُّ إلا في الأحوال التي أجمعت شَرائع الإنسان على تحكيم السيف فيها.



فالدول التي يَثُور عليها مَن يُخالِفُها
بين ظَهرانيها ماذا تصنعُ إنْ لم تحتَكِمْ إلى السلاح، وهذا ما قضى به
القُرآن الكريم حيث جاء فيه: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ
انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ
﴾ [البقرة: 193].



وهذا ما قضى به القُرآن الكريم أيضًا حيث جاء فيه: ﴿ وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ
﴾ [الحجرات: 9].



والحقيقة الرابعة:
أنَّ الأديان الكتابيَّة بينها فُروقٌ موضعيَّة لا بُدَّ من مُلاحَظتها
عند البحث عن هذا الموضوع؛ فإنَّ ما يُميِّز الإسلام عن اليهوديَّة
والمسيحيَّة أنَّه قد ظهَر في وطنٍ لا سَيْطرة للأجنبي عليه، وكان ظُهوره
لإصلاح المعيشة وتقويم المعاملات وإقرارالأمن والنظام (ووقف العبوديَّة لله وحدَه).



والحقيقة الخامسة: أنَّ الإسلام شرَع الجهاد، وأنَّ النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - قال: ((أُمِرت أنْ أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصَمُوا مني دِماءَهم وأموالهم إلا بحقِّها، وحِسابُهم على الله)).



وجاء في القُرآن الكريم: ﴿ فَقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً
﴾ [النساء: 84].



وحدَث فعلاً أنَّ المسلمين فتَحُوا بلادًا
غير بلاد العرب ولم يفتحوها ولم يكن يتأتَّى لهم فتحها بغير السِّلاح، إلا
أنَّ هذه الفتوح تأخَّرت في الزمن، ولم يتمَّ شيءٌ منها قبل استِقرار
الدولة للإسلام، فلا يمكن أنْ يُقال: إنها كانت وسيلة الإسلام للظهور، وقد
ظهر الإسلام قبلها، وتمكَّن من أرضه، واجتمعت له جنود تُؤمِن به وتقدم على
الموت في سبيله هذا إلى جانب أنَّ الإسلام قد أجازَ للأمم أنْ تَبقَى على
دِينها مع أداء الجزية والطاعة للحُكومة القائمة[14].



والحقيقة السادسة:
أنَّ المقابلة بين ما كانت عليه شُعوب العالم يومئذٍ قبلَ إسلامها وبعدَ
إسلامها، تدلُّ على أنَّ جانب الإسلام هو جانب الإقناع لمن أراد الإقناع[15]،
فقد استَقرَّ الإسلام بين تلك الشُّعوب ولم يكنْ له قَرارٌ، وانتظَمت
بينها العَلاقات ولم يكن لها نظام، واطمأنَّ الناس على أرواحهم وأرزاقهم
وأعراضهم وكانت جميعها مُباحةً لكلِّ غاصبٍ من ذَوِي الأمر والجاه،
فالإسلام مقنعٌ لِمَنْ يختار ويُحسِن الاختيار، إلى جانب قُدرته على إكراه
مَن يركب رأسه ويقفُ في طريق الإصلاح.



وبعد أنْ يستعرضَ هذه الحقائق يُعقِّب
العقاد بقوله: "صفوة ما تقدَّم أنَّ الإسلام لم يُوجِب القتال إلا حيث
أوجبَتْه جميع الشرائع وسَوَّغتْه جميع الحقوق، وإنَّ الذين خاطَبَهم
بالسيف قد خاطبَتْهم الأديان الأخرى بالسيف كذلك... إلا أنْ يُحال بينها
وبين انتِضائه أو تبطل عندها الحاجة إلى دعوة الغُرَباء إلى أديانها، وإنَّ
الإسلام عقيدةٌ ونظامٌ، وهو من حيث النِّظام شأنه كشأن كلِّ نظامٍ في أخْذ
الناس بالطاعة، ومنعهم أنْ يخرُجوا عليه[16].




وكعادة الغربيِّين عامَّةً والمستشرقين والمبشِّرين منهم على وجهٍ خاصٍّ في
البحث جادِّين عمَّا قد يُسِيء إلى الإسلام، ويُعَدُّ مَأخَذًا يُشنِّعون
به على الإسلام وبني الإسلام والصَّحابة، ففتَّشوا في أثناء السيرة
العَطِرة ونبشُوا أضابير التاريخ، وتوقَّفوا طويلاً أمام مَقتَل كعب بن
الأشرف اليهودي الذي كان يهجو المسلمين ويقدح في دِينهم، ويُؤلِّب عليهم
الأعداء، ويأتمرُ لقتل النبيِّ - عليه السلام - ويدخل في كلِّ دسيسةٍ تنقُض
معالم الإسلام، وكان مع قومِه بني النضير مُعاهدًا على أنْ يُحالف
المسلمين ويُحارب مَن يُحاربونهم، ولا يخرُج لقتالهم، ولا يُقابلهم إلا بما
يُقابل به الحليفُ حليفَه من المودَّة والمعونة.



عدُّوا مقتلَه اغتيالاً وخيانةً، وأكثروا
من اللغط حوله، فردَّهم العقاد على أعقابهم خاسِئين، وسفَّه آراءهم، وسرد
مُوجِبات قتل ابن الأشرف، وبَرهَن على ذلك من خِلال استقصاء ما أقدَم عليه
كعبُ بن الأشرف من كيدٍ ونقضِ العهد، وزاد على تأليب العرَب مع قومِه على
النبيِّ - عليه السلام - وصَحبه، وأنَّه رجَع إلى المدينة فشبَّب بنِساء
المسلمين حتى آذاهم، وافترى عليهنَّ وعليهم ما ليس يفتريه رجلٌ شريف، وليس
يَرْضاه في عرضه عربيٌّ غَيور[17].



وقد ورد في حديث مقتله أنَّ الرهط الذين
خرَجُوا لقتْله انتهَوْا إلى حِصنِه، فهتَف أبو نائلة - وكان حديثَ عهدٍ
بعُرسٍ - فوثَب في ملحَفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: "إنَّك امرؤٌ محاربٌ، وإنَّ أصحاب الحرب لا يَنزِلون في هذه الساعة!".



وصدقت امرأته حين وصَفَتْه بأنَّه محاربٌ،
يُعامل معاملة المحاربين، وقد حنَثُوا في أيمانهم، فلم يكن راعيًا لعهده،
ولم يكن له وازعٌ من نفسه ولا من قومه، ولم يكن مأمونًا على المسلمين وهو
لائذٌ بحِصنه، فهو أقلُّ الناس حَقًّا في أمان.



وجاء في الخبر أنَّ النبيَّ - عليه
والسلام - أقرَّ مقتلَه، فعاب بعضُ المؤرِّخين الأوربيين ذلك، وحسبوه - كما
سلف - خُروجًا على سنن القتال.



والواقع أنَّ ابن الأشرف أخَذ بصَنِيعه
وغَدره وكَيْده وإساءته إلى المسلمين، بل تجاوَز ذلك إلى التأليب
والائتِمار وثلْب الأعراض؛ فكان حقه الموت، وليس في توقيع هذا الحكم قسوةٌ
ولا رحمة؛ لأنَّ المرجع فيها إلى الضَّرورة التي أوجبَتِ القِصاص وفرضَتْه
على الناس في أحوال السلم من أبناء الأمَّة الواحدة، فضلاً عن أحوال القتال
بين الأعداء.



ويُلحَق بقتْل ابن الأشرف ما أخَذَه بعضُ
المستشرِقين من قتْل بعض الأَسْرى يعد وَقعة بدرٍ وخُروج النبيِّ إلى ساحة
الحرب لرُؤية صَرعَى المعركة وغَنائمها بعد انتهائها.



يقول العقاد: هذا
أمرٌ لا يصحُّ الحكم فيه إلا بالنظَر إلى موضعِه وموقعِه وأشخاصِه؛ لأنَّه
ليس بالحكم العام الذي اتَّبعه الإسلام في جميع الأسرى وجميع الحروب،
وإنما هي حالةُ أفرادٍ كانوا معروفين بتَعذِيب المسلمين والتَّنكيل بهم في
غير مُبالاةٍ ولا نَخوةٍ، وليست هي كحالة الأسرى الذين يقَعُون في أيدي
أعدائهم غير معروفين بماضٍ ولا حاضرٍ سوى أنهم جُندٌ كسائر الجُند الذين
يحشُدهم الأعداء.



فقتلُ الأسرى بعد بدرٍ إنْ هو إلا قصاصٌ
كقصاص المتَّهمين بالتَّعذيب، وقد وقعوا في أيدي مَن يتولَّى عِقابهم من
الغالبين، جازَ هذا في كلِّ قانونٍ، وجاز أنْ يُحاسَب المغلوب على جَرائمه
التي ليست هي من فُروض القتال أو من مُباحاته في شيءٍ، وفرقٌ بين مُعامَلة
هؤلاء ومُعامَلة أسيرٍ كلُّ ما تعلَمُه في شأنه أنَّه جنديٌّ لا بغضاء بينك
وبينه قبلَ حمل السلاح ولا بعدَ وضعِ السلاح، وليس في عمله محلٌّ للثَّأر
والمحاسبة بعد انقِضاء واجبِه وهو القتال الشَّريف.



أمَّا رؤية القَتلى في ساحة الحرب فقد نسي
فيها أولئك الناقدون أنَّ اعتباط المنتصِر بفوزه طبيعةٌ إنسانيَّةٌ لا
غَضاضةَ فيها، ما لم تُجاوِزْ حدَّها إلى الفرح برؤية الدماء لمحض الفرَج
برؤية الدِّماء، وهذا ما لم يَزعُمْه أحدٌ من شاهدي المعركة عن النبيِّ -
عليه الصلاة والسلام - ولا نَمَّ عنهكلامُ أحدٍ من المشركين أو المسلمين.



كان على أولئك الناقدين أنْ يَشهَدُوا
بدرًا ليَنظُروا بعين النبيِّ - عليه السلام - إلى عَواقِب هذه الواقعة
التي أوشَكتْ أنْ تصبح الوقعة الحاسمة في تاريخ الإسلام[18].



كان عليهم
أنْ يَنظُروا هنالك بعين النبيِّ إلى جيشين: أحدهما فيه السِّلاح والخيل
والعدَد، والآخَر في ثلث مَن يُقاتلونه عددًا، ويَكاد أنْ يتجرَّد من كلِّ
سلاحٍ غير السيف، ومن كلِّ مطيَّة غير الأقدام، وكان عليهم أنْ ينظُروا
إليه وقد مَدَّ يديه وشخص ببصره، وجمع نفسه في صَلاته، حتى جعل رِداؤه
يسقُط عن منكبيه وأبو بكر يردُّه ويُناديه: إنَّ الله مُنجِزٌ لك ما وعدَك.



وكان عليهم
أنْ يعلموا حِرْصَ قريش أنْ يستبقوا رجالاً منهم يرجعون إلى مكة قبل
المعركة أو بعدها ليُثابِروا على مُناوَأة النبيِّ وإعادة الكَرَّة عليه
حتى لا يهدأ له بال بعدَ الصبر على هذا الجهد وليس عليه الصبر بيسير.



كان على الناقدين أنْ يعلَمُوا هذا كله؛
ليعلَمُوا أنَّ الشُّعور بالفرَج في مِثل هذا الموقف العَصِيب أمرٌ لا
غَرابة فيه، وأنَّه شعورٌ مطبوعٌ في نفسٍ حيَّة تُجاوِبُ كلَّ ما يحيطُ بها
من بواعث الحياة في مواقف السِّلم أو مواقف القِتال[19].



وفيما حدَث بعد معركة الأحزاب من قتْل مُقاتِلي بني قُرَيظة بعد أنِ استحكم الرسولُ فيهم سعد بن معاذ يقول العقاد:

ونحن في صدَد الحديث عن الرحمة والقَسْوة
يحسُن بنا أنْ نستَقصِي ما ذكَرَه المؤرِّخون الأوربيُّون من مَآخِذٍ في
قتْل المقاتلين من بني قُرَيظة بعد معركة الأحزاب.



فإنَّ أولئك المؤرِّخين يستَعظِمون قتلَهم
ويحسَبونه مخالفًا للعُرف المتَّبع في الحروب، وينسَوْن أمورًا لا يصدُق
الحكم في هذه المسألة ما لم يَذكُروها ويستحضروها أتَمَّ استِحضارٍ؛ وهي
أنَّ بني قريظة حنثوا في إيمانهم مرَّات فلا يُجدِي معهم أخْذُ المواثيق من
جديد، وأنهم قَبِلُوا حُكم سعد بن مُعاذ أو هم الذين اختاروه، وأنَّ سعدًا
إنما دانَهم بنصِّ التوراة الذين يؤمنون به كما جاء في التثنية: "حين
تقرب من مدينةٍ لكي تحاربها استَدعِها إلى الصُّلح، فإنْ أجابَتْك إلى
الصُّلح وفتحت لك، فكلُّ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستَعبَد
لك، وإنْ لم تُسالمك بل عملتْ معك حربًا فحاصِرها، وإذا دفَعَها الربُّ
إلهك إلى يدك فاضرِبْ جميع ذُكورِها بحدِّ السيف، وأمَّا النِّساء والأطفال
والبهائم، وكلُّ ما في المدينة غنيمةٌ فتغنَّمها لنفسك، وتأكُل غنيمة
أعدائك التي أعطاك الرب إلهك..."
[20].



وينبغي أنْ يَسأل الناقدون أنفسهم بعد هذا: ماذا كان مصيرُ المسلمين لو ظفرت بهم الأحزاب؟




فالقَضاء الذي قَضاه النبيُّ في بني
قُرَيظة عدلٌ وحكمةٌ وصَوابٌ، وما من أحدٍ يَقضِي غير ذلك القضاء وهو
مُؤتَمَنٌ على مصير أمَّة يرحمها من غرَر أعدائها ومن لدَدِهم في خُصومتها،
ومن استباحتهم كلَّ منكرٍ في التربُّص والوثبة بعد الوثبة عليها.



وإنَّ حملةً تأديبيَّة واحدةً من حملات
العُصور الحديثة يحمِلُها قومٌ مُسلَّحون على قومٍ عُزَّل يَذُودون عن
أوطانهم وحُقوقهم لفيها من البطش والتعذيب ما لم يحدُث قطُّ نظيرٌ له في
عِقاب بني قريظة، ولا في جميع الحروب التي نشَبَتْ بين النبيِّ - عليه
السلام - وبين أعداءٍ له ولدِينه، هم المتفوِّقون عليه في العدد والثروة
والسِّلاح.



وفي نعدُّد أزواج النبيِّ - عليه السلام - ، وما أثاره الغربيُّون من افتِراءاتٍ وشُبهاتٍ يقول العقاد[21]:

للإسلام خُصومٌ محترِفون وخُصومٌ يُنكِرونه على قدر جَهْلِهم به وبسيرة نبيِّه - عليه السلام.



ولا خَفاءَ بِخُصومه المحترِفين؛ فهم
جماعةُ المبشِّرين الذين اتَّخذوا القَدْحَ في الإسلام صِناعةً يتَفرَّغون
لها ويعيشون منها، وصِناعتهم هذه لا تصطنعُ عملاً لها أهم وأخطَر من
عمَلِها في تبشير المسلمين أو تبشير الوثنيِّين وأشباه الوثنيِّين؛ لكيلا
يتحوَّلوا من الوثنيَّة إلى الإسلام، فلا غِنًى لأصحاب هذه الخُصومة - أو
هذه الحِرفة - من اختِلاق المآخِذ، وتصيُّد التُّهَمِ التي تَجرِي بها
أرزاقُهم وتتَّصل بها أعمالُهم، سواء عرَفوا الحقيقة من وَراء هذه المآخِذ
وهذه التُّهَمِ أو جَهِلوها وأعرَضوا عن البحث فيها؛ لأنهم يريدون
الاتِّهام، ولا يستريحون إلى معرفةٍ تهدمُ كلَّ ما يعمَلونه، وتصرِفُهم عن
كلِّ ما أَلِفوه وعقَدُوا النيَّةَ عليه.




أمَّا خُصوم الإسلام من غير زُمرة المبشِّرين فأكثرهم بُخاصِمونه على
السَّماع، ولا يَعنِيهم أنْ يبحثوه، ولا أنْ يبحَثُوا دِينًا من الأديان،
حتى الدِّين الذي آمَنوا به وشبوا من حُجور أمَّهاتهم عليه، وقليلٌ من
أولئك الخصومِ غير المحترِفين يتلفَّق الدِّراسات الإسلاميَّة تلفُّقًا لا
يفيد الدارس ولا يبتَغِي منه إلا أنْ يعلم ما تعلمه لطائفة من التلاميذ،
يكفيهم منه أنْ يعرف من أخبار الإسلام ما لم يَعرِفوه، وبعضُ هؤلاء
الدارسين المدرسين حسنُ النيَّة، لا يَأبَى أنْ يعترف بالحقيقة إذا استمَع
إليها، وبعضُهم سيِّئ النيَّة؛ لأنَّه سُخِّرَ في خِدمة الاستعمار وما
إليها من الدِّعايات الدوليَّة، فلا يَعنِيه من المعرفة إلا ما يُملَى له
في علمه ويمهِّد لدعايته.



وما اتَّفق خُصوم الإسلام عن سوء نيَّة
على شيءٍ كما اتَّفقوا على خطَّة التبشير في موضوع الزَّواج على الخُصوص،
فكلُّهم يحسب أنَّ المقتل الذي يُصابُ منه الإسلام في هذا الموضوع، هو
تشويه سُمعة النبيِّ - عليه السلام - وتمثيله لأتْباعه في صُورةٍ معيبة لا
تُلائِم شَرَفَ النبوَّة، ولا يتَّصف صاحبُها بفضيلة الصِّدق في طلَب
الإصلاح، وأيُّ صورة تعنيهم في هذا الفرْض
الأثيم، كما تعنيهم صُورةُ الرجل الغارق في لذَّات الجسَد العازف في
مَعيشَتِه البيتيَّة ورسالته العامَّة عن عَفاف القلب والرُّوح؟





ثم يُردِفُ العقاد قائلاً:

إنهم لعلى صَوابٍ في الخطَّة التي
تخيَّروها لإصابة الإسلام في مقتَلِه من هذا الطريق الوَجِيز، وإنهم لعلى
أشدِّ الخطأ في اختِيارهم هذه الخطَّة بعينِها؛ إذ إنَّ جلاءَ الحقيقة في
هذا الموضوع أهوَنُ شيء على المسلم العارف بدِينه المطَّلِع على سِيرة
نبيِّه، فإذا مقتلهم المظنون حجَّة يكتَفِي بها المسلم، ولا يحتاجُ إلى
حُجَّةٍ غيرها لتعظيم نبيِّه وتبرئة دِينه من قالة السُّوء الذي يفتَرِي
عليه"[22].



فلا حجَّةَ للمسلم على صِدق محمد - عليه
السلام - في رسالته أصدق من سِيرته في زواجه وفي اختيار زوجاته، وليس
للنبوَّة من آيةٍ أشرف من آيتها في مَعِيشة نبيِّ الإسلام من مطلَعِ حياته
إلى يوم وَفاته.



ثم يتساءَلُ العقاد: ما الذي يفعله الرجل الغارق في لذَّات الجسد إذا بلَغ من المكانة والسُّلطان ما بلَغَه محمد بين قومِه؟




ويجيبُ على ذلك التساؤل: لم يكن عسيرًا
عليه أنْ يجمع إليه أجملَ بنات العرب وأفتن جَوارِي الفُرس والروم على
تُخوم الجزيرة العربيَّة، ولم يكن عَسِيرًا عليه أن يُوفِّر لنفسه ولأهله
من الطعام والكساء والزِّينة ما لم يتوفَّر لسيِّدٍ من سادات الجزيرة في
زمانِه.



فهل فعَل محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك بعدَ نجاحِه؟

هل فعَل محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك مَطلَع حياتِه؟

كلا، لم يفعَلْ قطُّ، بل فعَل نقيضَه،
وكاد يفقدُ زوجاته لشكايتهنَّ من شظف العيش في دارِه، ولم يحدُث قط أنِ
اختارَ زوجةً واحدة لأنها مليحة أو وسيمة، ولم يبنِ بعذراء قط إلا العذراء
التي علمَ قومُه جميعًا أنَّه اختارها لأنها بنت صَديقِه وصفيِّه وخليفتِه
من بعدِه أبي بكرٍ الصِّدِّيق - رضِي الله عنه.



هذا النبيُّ الذي يفتَرِي عليه الأئمَّة
الكاذبون أنَّه الغارق في لذَّات حسِّه، وقد كانت زوجتُه الأولى تقارب
الخمسين، وكان هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عنفوان شبابه لا يُجاوز
الخامسة والعشرين، وقد اختارَتْه زوجًا لها لأنَّه الصادق الأمين فيما
اشتَهَر به بين قومه من صفةٍ وسِيرة، وفيما لقَّبَه به عارفو الصِّدق
والأمانة فيه، وعاش معها إلى يومِ وَفاتها على أحسن حالٍ من السيرة الطاهرة
والسُّمعة النقيَّة، ثم وفَى لها بعد موتها؛ فلم يُفكِّر في الزَّواج حتى
عرَضَتْه عليه سيِّدةٌ مسلمة رقَّت له في عُزلته، فخطبت له السيدة عائشة
بإذنِه، ولم تكن هذه الفتاة العزيزة عليه تسمَعُ منه كلمةً تُرضِيها غير
ثَنائِه على زوجتِه الراحلة ووَفائه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لذِكراها.



وما بنى - عليه السلام - بواحدةٍ من
أمَّهات المسلمين لما وُصفت به عندَه من جمالٍ ونَضارةٍ، وإنما كانت صلة
الرَّحِم والضن بهنَّ على المهانة هي الباعث الأكبر في نفسِه الشَّريفة على
التَّفكير في الزواج بهنَّ، ومُعظَمهن كُنَّ أرامل مُؤيَّمات فقَدنَ
الأزواج أو الأولياء، وليس مَن يتَقدَّم لخطبتهنَّ من الأكفاء لهنَّ، إنْ
لم يُفكِّر فيهنَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم[23].



فأمُّ المؤمنين (سودة بنت زَمعة)
مات ابن عَمِّها المتزوِّج بها بعد عودتها من الهجرة إلى الحبشة، ولا مأوى
لها بعد موتِه إلا أنْ تعودَ إلى أهلها فيُكرِهوها على الرِّدَّة، أو
تتزوَّج بغير كفءٍ لها أو بكفءٍ لها لا يريدها.



وأم المؤمنين (هند بنت أبي أمية - أم سلمة)
مات زوجُها عبدالله المخزومي، وكان أيضًا ابن عمِّها أصابَه جرحٌ في غزوة
أحدٍ فقضى عليه، وكانت كهلةً مُسِنَّة، فاعتذرَتْ إلى الرسول - عليه السلام
- بسنِّها لتعفيه من خِطبتها، فواساها قائلاً: سَلِي الله يُؤجِرك في
مُصِيبتك وأنْ يُخلفك خيرًا، فقالت: ومَن يكون خيرًا لي من أبي سلمة؟ وكان
الرسول - عليه السلام - يعلم أنَّ أبا بكرٍ وعمر قد خَطباها، فاعتذَرتْ
بمِثل ما اعتذرَتْ به إليه، فطيَّب خاطِرَها، وأعاد عليها الخطبة حتى
قبلَتْها.



وأم المؤمنين جُوَيرية بنت الحارث كانت في السَّبي فتزوَّجَها الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأعتَقَها وأسلَمَ قومُها بسببها.



وأمُّ المؤمنين (رملة بنت أبي سفيان)
تركَتْ أباها وهاجرت مع زوجِها إلى الحبشة، فتنصَّر زوجُها وفارَقَها في
غُربتها بغير عائلٍ يَكفُلها، فأرسل النبيُّ - عليه السلامُ - إلى
النَّجاشيِّ يطلُبها من هذه الغُربة المهلكة وينقذها من أهلها إذا عادت
إليهم راغمةً من هِجرتها في سبيل دِينها، ولعلَّ في الزَّواج بها سببًا
يصلُ بينه وبين أبي سفيان بوشيجةٍ النسب، فتميلُ به من جَفاء العَداوة إلى
مودَّةٍ تُخرِجه من ظُلمات الشرك إلى هِداية الإسلام.



وأم المؤمنين (حفصة بنت عمر بن الخطَّاب)
مات زوجُها، فعرَضَها أبوها على أبي بكرٍ فسكت، وعرَضَها على عثمان فسكت،
وبثَّ عمر أسَفَه للنبيِّ - عليه السلام - فلم يَشَأْ أنْ يضنَّ على صديقِه
ووليِّه بالمصاهرة التي شرُف بها أبو بكرٍ قبله، وقال له: تتزوَّج حفصة
مَن هو خيرٌ لها من أبي بكر وعثمان.



وأمُّ المؤمنين (صفيَّة بنت سيد بني قُرَيظة)
خيَّرَها النبيُّ - عليه السلام - بين أنْ يَرُدَّها إلى أهلها أو يعتقها
ويتزوَّجها، فاختارت البَقاء عنده على العودة إلى ذَوِيها، ولولا الخلُقُ
الرفيع الذي جُبِلتْ عليه نفسُه الشريفة لما علمنا أنَّ السيِّدة صفيَّة
قصيرة يعيبُها صَواحبها بالقصر، ولكنَّه سمع إحدى صَواحِبها تعيبُها بقصرها
فقال لها ما معناه من رواياتٍ لا تخرج عن هذا المعنى: إنَّك قد نطقتَ
بكلمةٍ لو أُلقِيت في البحر لكدَّرَتْه، وجبر خاطر الغريبة أن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
موسوعة العقاد الإسلامية ورده على شبهات المستشرقين وافتراءات الغربيين على الإسلام ونبيه
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» (شبهات المستشرقين حول مصادر القرآن الكريم)
» نظرة المستشرقين للسنة النبوية المطهرة "شبهات وردود"
» المرأة بين إشراقات الإسلام وافتراءات المنصرين
» برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية
» موسوعة الكتيبات الإسلامية ( 705 كتيب ) بصيغة الشاملة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: