كَثُرت في بلادِ المسلمين - في هذا العصر -
المؤثِّرات الفِكْرِية التي تَمُوج بفُنُونٍ من التضليل، وفسادِ
المفاهيمِ، والمناهج التي تَسْعَى لاحتواءِ الناس في ظلِّها محارِبةً
للإسلام، أو متجاهِلةً له، أو رافعةً رايتَه مع اختلافٍ في تصوُّراتها له.
في هذا المَيْدَانِ بَرَز المنهج
السَّلَفي المُتَواصِل منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليُقِيم
حياةَ المسلمين على المَسَار السليم الذي جاء به الإسلام.
وقد كان للاتِّجاهاتِ الأخرى مواقفُ
مختلِفةٌ من هذا المنهجِ الذي يُزَاحِمها في عقول الناس ونفوسهم، وغالبُ
هذه المواقف يَستَهْدِف تشويهَ المنهج السَّلَفي، وإبعادَ الناس عنه.
وسأتطرَّق في هذا البحثِ إلى ثلاثٍ من الشُّبُهات المُثَارة حول السَّلَفية، وبعض الردود عليها، والله وليُّ التوفيق.
الشبهة الأولى: أن السَّلَفية يتنكَّرون للعقل، ويُقَلِّلون من شأنه:الرد: إن هذا فيه كذبٌ وافتراءٌ، بل إنهم كانوا يقدرون العقل حقَّ قَدْرِه؛
باعتباره نعمةً من أكبر النِّعَم، ويَعْرِفون قيمتَه وفضلَه؛ لإدراكهم أن
فَهْمَ نصوصِ الكتابِ والسنة يحتاج إلى قلبٍ يتدبَّر، وعقلٍ يفكِّر
بالاستنباط، بل إن نَبْذَهم للتقليد، والجمودِ الفكري، وعدمَ أخْذهم أيَّ
رأيٍ إلا بدليل وبيِّنة، واستخدامَهم للأدلة المنطقية، والأقيسةِ العقلية،
واعتقادَهم بعدم وجود تعارُض بين النقل الصحيح والعقل الصريح - دليلٌ على
احترامهم للعقل واعتبارِه[1].
وفي دين الله يُدْعَى العقل للعمل بكل طاقاته، وفي جميع المجالات السَّوِية التي خُلِق من أجلها.
يُدْعَى للتفكُّر في آيات الله في الكون، الدالَّة على وَحْدَانية الخالق - سبحانه وتعالى.
ويُدْعَى للتفكُّر في آيات الله في الكون؛
ليَعْرِف سُنَن الله في الكون الماديِّ؛ ليُعِينه ذلك على تسخير طاقات
السموات والأرض؛ للقيام بترقية الحياة، وتنميتها، وتعمير الأرض.
ويدعى للتفكُّر في حكمة التشريع، وقد نَمَا الفقه نموًّا هائلاً بإعمال العقل، وكان هذا استجابةً مباشرةً لأمر الله وتوجيهِه: ﴿
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73]، ﴿
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 152]، ﴿
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾[البقرة: 219]، ﴿
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن ﴾ [النساء: 82].
ويُدْعَى للتفكُّر في سُنَن الله في
الحياة البشرية، وكيف تجري أقدارُ الله في حياةِ البشر؛ وذلك من أجلِ
إقامةِ مجتمعٍ راشدٍ مستقيمٍ[2].
الشبهة الثانية: أن السَّلَفية والمنهج السَّلَفي منهجٌ رَجْعِي مَاضوي،
يقدِّس الماضِي ويحن إليه، ويجعلُه مقياسًا للحاضِر، فالالتزام به يؤدِّي
إلى التأخر، والتخلُّف الحضارِي، والعَجْز عن مُوَاكَبة التطورات:الرد: هذه الشبهة فيها حقٌّ وباطلٌ، ومناقشة هذه الشبهة فيما يلي:
إن المتأمل في مَسَار الحياة البشرية يجد
أن التشبُّث بالماضي نَزْعةٌ إنسانية، خاصة في أوقات الأزمات، وأوقات
التحدي الحضاري، فتَبْحثُ عن الجوانب المُضِيئة في حضارتها للارتكاز عليها.
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما
بُعِث لم يغفل هذه النَّزْعةَ الإنسانية، بل إننا نجد في القرآن الكريم
تذكيرَ العرب بأهمية الرجوع إلى الأصل الصحيح، وهي مِلَّة إبراهيم - عليه
السلام -: ﴿
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78].
ونحن نَرَى في الوقت الحاضر أن أوروبا لم تَكُن متحرِّرة من الثقافات الماضية في تاريخها، سواء اليونانية أو الرومانية[3].
وإذا قارنَّا الإسلام بمختلف دِيانات
العالم، عَرَفنا أن عقائدَها مَنَعت مُعتَنقِيها من التقدُّم الحضاري عندما
تمسَّكوا بها، ودَارِسُ التاريخ يُلاحِظ أن أهل أوروبا، والبُوذِيِّين في
اليابان - على سبيل المثال - لمَّا كانوا راسخين في مُعْتقَدَاتهم
الدينيَّة، كانوا على أسوأ ما يكون من أدوار التخلُّف.
أما المسلمون، فعندما كانوا أقوياءَ في
إيمانِهم بمُعْتقَدَاتِهم، صاروا أكثر أُمَم الأرض تقدُّمًا، ولما ضَعُف
تمسُّكهم بدينِهم، حَصَل التخلُّف في مَيَادين العلم، وتحكَّمت فيهم،
واستَولَت عليهم أممٌ أجنبية.
ثم إن السَّلَفية والسَّلَفِيون
مَوْجُودونَ في كلِّ مكانٍ في العالم؛ فهم في العالم المتقدِّم الصناعي،
وفي العالم الثاني، وفي العالم الثالث، وهم مُتَعايِشُون مع جميع الأوضاع
الصناعية والتِّقَنِية، ويَتَفاعَلون مع كل المُقْتَنيَات المتجدِّدة، فلا
العالم الصناعي رَفَضهم، أو عَجَز عن التعَامُل معهم لأجل عقيدتهم، ولا هم
الذين تسبَّبوا في تخلُّف العالم الثالث، أو شجَّعوا على تخلُّفه، أو
أَفْتَوا ببقائه في التخلُّف[4].
ثم إنه لا يستطيع مَن يَرْمِي الدعوة
السَّلَفيةَ بالرَّجْعِية أن يُعَمِّم هذا اللَّقَبَ على كلِّ رُجُوعٍ إلى
الماضي، وكلِّ نظرةٍ إلى الخلف، وكلِّ توقُّفٍ في مُسْتَجَدٍّ إذا كان
يَستَحِقُّ التوقُّف عنده، فيَرْمِي: مَن يوحِّد الله، أو يصلِّي، أو
يَحُجُّ، أو يصوم رمضان، أو أراد أن يقرأ القرآن، أو يَدْرُس أحكام الشريعة
الإسلامية - بأنه رَجْعِي! وهذه أحكامٌ وأركانٌ لا بدَّ من الرجوع فيها
إلى الماضي، وإلى الرَّعِيل الأول؛ ل
معرفة كيف نَزَلت تلك الأحكام؟ وكيف طبَّقها السَّلَف؟ وكيف نطبِّقها اليوم؟ ومَن تجرَّأ على رَمْيِ أحدٍ بذلك، فقد خرج من الإسلام
[5].ثم إن المُسْتَجَدَّات الدنيوية التي
تَخْدُم الإنسان، وترفِّهه، وتيسِّر عليه ما يَصْعُب من أمور الحياة،
وتقدِّم له وسائل الاتصال والنقل، والتعليم والعمران، والغذاء والدواء،
وغير ذلك - ليست هي موضوعَ الصراعِ بين الدعوة السَّلَفية وبين ما خالفها
من الدعوات والأفكار المستورَدة؛ لأن هذه الوسائل ليست فكرًا: لا
المُسْتَجَدَّات ولا الأيديولوجيات؛ فهي بيدِ الشُّيُوعي، والرَّأْسِمالي،
والوَثَنِي، والمُسْلِم على حدٍّ سواء، ولكن الجاهلين يُرِيدون أن
يُمَرِّروا القضايا الفكرية مع الوسائل المادية، موهمينا بأننا لن نتأهَّل
لاستعمالِها، إلا إذا اعتنقنا الاشتراكية، وتبنَّينا الديمقراطية،
وتشبَّعنا بالقومية، وأَكَلنا الأموال الربوية، واستَمَعنا الأغاني
الغَرَامية والوطنية، وتَرَكْنا الصلاة، وحَلَقنا اللِّحَى، وصِرْنا
شِيَعًا وأحزابًا، وهذا من تلبيسِهم وهزيمتِهم الرُّوحِية والإيمانية[6]
. الشبهة الثالثة: أن أصحاب المنهج السَّلَفي يَحْصُرون العلم في العِلْم الشَّرْعِي، ويُنْكِرون ما عداه من العلوم: الرد: هذه دعوى باطلةٌ تقدِّم تصوُّرًا سيئًا عن موقف السَّلَفِيِّين من العلم،
ولبيانِ الموقف الصحيح للسَّلَفيين من العلم، أُورِد ما يلي:
أولاً: لم
يكنِ السَّلَف يَهْتَمُّون كثيرًا بالتحديد العامِّ للعلم في بحثِهم
موضوعَه، وإنما يُبَاشِرون الحديث عن فضلِه، وأهله، ومختلِف عناصره، ولعلَّ
ذلك لوضوح المصطلِح لديهم على ما وجَّهت إليه النصوص الشرعية.
ويَنْبَثِق مفهومُ العلمِ لدى السَّلَف على الإطار الثقافي الذي يَعِيشُون فيه.
ثانيًا: إن ما سَبَق لا يَعْنِي أن السَّلَف يَنْفُون صفة العلميَّة، ووجودَ
الحقائقِ العلمية في غير ما نَطَق به الوحي؛ ولهذا نجدُ ابن تيميَّة
يَنْتَقِد تخصيص العلم الشرعي: بالتفسير، والحديث، والعقيدة، والفقه فقط،
وإنما يرى أن العلم الشرعي يَشْمَل نَوعَين:
1- العلوم النَّقْلية.
2- العلوم العَقْلِية والتجريبية الصحيحة.
ثالثًا: ينظر أصحاب المنهج السَّلَفي إلى العلوم المُكْتَسبة نظرةً مِعيارِيَّةً أخلاقيةً، ومن ثَمَّ يُقَسِّمونها على هذا الأساس.
رابعًا: نتيجةً لهذه النظرةِ المِعيارِيَّة للعلوم، فإن العلوم النَّقْلِية لها
الأَوْلَوية على العلوم الكونية، ولم يَكُنِ الموقف السَّلَفي من العلوم
الكونية والتجريبية موقفَ الرفضِ المُطْلَق؛ بل موقفهم مُتَّسِقٌ مع
منهجِهم السَّلَفي بالارتكاز على الكتاب والسنة[7].
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.ــ،/::: أ
قائمة المراجع:1- الموقِف المعاصِر من المنهج السَّلَفي في البلاد العربية، د/ مفرح القوسي، دار الفضيلة، الطبعة الأولى.
2- مغالطات، محمد قطب، دار الشروق.
3- مقال: شبهات حول الدعوة السَّلَفية، عبدالمجيد الريمي، موقع: الملتقى العلمي للعقيدة والمذاهب المعاصرة
http://www.alagidah.com/vb/showthread.php?t=1654
[1] انظر: الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية؛ د/ مفرح القوسي، ص163- 165.
[2] انظر: كتاب مغالطات؛ محمد قطب، 53 - 54.
[3] انظر: الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية؛ د/ مفرح القوسي، ص 524 - 526.
[4] انظر: مقال: شبهات حول الدعوة السلفية؛ عبدالمجيد الريمي، موقع: الملتقى العلمي للعقيدة والمذاهب المعاصرة
http://www.alagidah.com/vb/showthread.php?t=1654[5] انظر: المرجع السابق.
[6] انظر: المرجع السابق.
[7] انظر: الموقف من المنهج السلفي في البلاد العربية؛ د/ مفرح القوسي، ص 427 - 430.