اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  إقامة الحجة العقلية والبرهان المنطقي ضد حرية نشر الكفر والعصيان

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 100210
 إقامة الحجة العقلية والبرهان المنطقي ضد حرية نشر الكفر والعصيان Oooo14
 إقامة الحجة العقلية والبرهان المنطقي ضد حرية نشر الكفر والعصيان User_o10

 إقامة الحجة العقلية والبرهان المنطقي ضد حرية نشر الكفر والعصيان Empty
مُساهمةموضوع: إقامة الحجة العقلية والبرهان المنطقي ضد حرية نشر الكفر والعصيان    إقامة الحجة العقلية والبرهان المنطقي ضد حرية نشر الكفر والعصيان Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 17:06

إقامة الحجة العقلية والبرهان المنطقي
ضد حرية نشر الكفر والعصيان


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وآلِه وصحبه ومَن اتَّبع سبيله مِن بعده.



أما بعد:

فقد بات ذائعًا مُنتشِرًا في هذا الزمان كلام الليبراليين والعلمانيين وعموم المَلاحِدة وأذنابِهم مِن بني جِلدتنا في مسألة "حرية التعبير"، وحرية الكلمة، وحرية الفِكر والنشْر ونحوها، على اعتبارٍ مِن التسليم المُسبق التام بكون تلك الحرية حقًّا مُكتَسبًا لا يَقبل النزاع ولا المِراء، وكون مَنحِها لطالبها واجبًا سياسيًّا مُسلَّمًا به على أولي الأمر في سائر البلاد، وواجبًا أخلاقيًّا مُتعيَّن الاعتبار والاحتِرام والتقديس على عامَّة المجتمع الإنساني، بموجَب الحضارة المعاصِرة و"الانفتاح العِلمي والمعرفي"، والتحرُّر مِن قوالب النُّظُم الديكتاتورية القمعيَّة، وما إلى ذلك مِن دعاية برَّاقة فَضفاضَة قد باتَت تُتلى علينا وترتَّل ترتيلاً، آناء الليل وأطراف النهار.



والواقع الذي يَخفى على كثير مِن أفراد الطائفة العلمانية في بلاد المسلمين، ويَحتاج إلى مَن يَصدمهم به صدمًا، ويَصعَقهم به صعقًا لعلهم يَعقلون: أن الفلسفات الليبرالية المُعاصِرة لا تقوم في الحقيقة عند تأسيسها لتلك الحرية الأخلاقيَّة المحضَة وذاك "الحق السياسي" المزعوم على شيء ذي بالٍ مِن الأدلة العقلية أو الفلسفية، سواء في دائرة فلسفة الأخلاق أو فلسفة المَعرفة المعاصِرة؛ بل إن العاقل المُنصِف المتجرِّد - مِن أي ملَّة كان - ليَشهد بضرورة العقل والفِطرة الظاهِرة ببطلان تلك الدعوى العمياء التي تُجيز لكل جاهل غويٍّ أن يُفسد في الأرض ويدعو الناس لاتِّباعه على باطله - أيًّا ما كان - بدعوى أن هذا أحفظ "للسلام الاجتماعي"، وأبعد عن أسباب التشاحُن والقِتال وسفك الدماء.



ذلك أن تلك القيمة الأخلاقية الموضوعية المُجمَع على حُسنِها بين العقلاء، الداعية لضبط أفعال البشر في كل مجتمع يَجتمعون فيه وتقييدها بقَيد معرفي أخلاقي مُلزِم - إنما يأتي حسْنُها العقليُّ مِن مجرَّد إثبات معنى الألفاظ "إفساد" و"إضلال" و"نشْر الباطل" و"تزيين القبائح والمهالِك" و"ضرَر" و"أذى"، ونحو ذلك مِن المعاني المُستهجَنة في اللغة الطبيعية للإنسان، فهي معاني قبيحَة مطلَقًا لا يَنبغي أن يُماري في قبحِها عاقل، هذه المعاني أو الصفات نازِلة على بعض الأقوال والأفعال البشرية لا مَحالة، بما يَعني لزوم العمل على منْع تلك الأقوال والأفعال مِن الظهور والانتِشار في المجتمَع البشري؛ من حيث المبدأ العقلي والأخلاقي المجرَّد، وهو أمر ظاهِر مِن مجرَّد الاتِّفاق اللُّغوي على استِقباح تلك الأوصاف الموصوفة بها، وعليه يُصبح مِن الضرورة العقلية المحضَة أن يظهَر في أي مجتمع بشري - أيًّا ما كانت مرجعيَّته الأخلاقية - نظام أخلاقيٌّ وتشريعي يضَع قدرًا مِن الضوابط الحاكِمة للحريات الفردية في ذلك المجتمَع، بما يَمنع مِن ظهور تلك الأفعال والأقوال الباطلة والمستقبَحة التي يتَّفق المشرِّعون على ضرَرِها وخطورتها على أفراد المجتمَع.



هذه القاعدة العقلية الكلية لا انفِكاك لأي مجتمع بشريٍّ من اعتمادها، ومِن ثمَّ فلا مفرَّ مِن ظهور التشريع الضابط والمقيِّد لحريات البشر، مهما كان ذلك المجتمع مُفاخِرًا بكونه "حرًّا"، ومهما كان مُنفكًّا من ضوابط هذه الملَّة أو تلك، ومِن قواعد هذه الفلسفة أو تلك، فإنما تختلف المجتمعات فيما بينها في تصور آحاد الأقوال والأفعال التي يصحُّ عندهم أن توصَف بتلك الصفات القبيحة إلى الحدِّ الذي يوجب منعها مِن الظهور والتفشِّي في المجتمع، وهو ما يرجع بالأساس إلى اختلافهم في المرجعية الأخلاقية والتشريعية المتَّفق بينهم على اعتمادها والرجوع إليها في ذلك.



ولهذا نقول:

إنه ليس في الأرض شيء اسمه "حرية مطلَقة"، بل لا يُعقل أن يوجد ذلك الشيء في الأرض أصلاً، الحرية المطلَقة ليست إلا وهمًا وسرابًا يُداعِب به الطواغيت في بلاد الغرب "المستنير" أهواء وشهوات المغفَّلين من شعوبهم؛ الإنسان مقيَّد في حياته - شاء أم أبى - بقيد لا يسعه الانفِكاك منه مهما تحرَّر، ألا وهو قاعدة الأخلاق الكُبرى وأساسها العقلي المتين: ضرورة فعل الصواب (الشيء المستحسَن بدليله أيًّا ما كان تصوُّره)، واجتناب الخطأ (الشيء المستقبَح بدليله أيًّا ما كان تصوره)، ووجوب قَبول الحق (الشيء المطابِق للدليل أيًّا ما كان)، ورد الباطل (الشيء المخالِف للدليل أيًّا ما كان)، فليس القيد مقصورًا على كونه مضطرًّا للتعامُل في سياق المجتمع الذي يعيش فيه مع أناس قد يؤذيهم منه هذا المسلك أو ذاك، كما تراه سائدًا في فلسفات كثير مِن الماديِّين والملاحِدة وتنظيرهم الأخلاقي، ويُترجمه بعضهم بقوله: "أنت حرٌّ ما لم تضُرَّ"؛ أي: ما لم تتسبَّب في الإضرار بغيرك بصورة ما أو بأخرى، وإنما هو نابع بالأساس مِن اعتقاد الإنسان أن مِن الأفعال والأقوال ما هو قبيح في نفسه، فيَقبح بالإنسان أن يتلبَّس به، وإن لم يؤذِ بذلك أحدًا من الناس فضلاً عن أن يضرَّه! فإذا ما عُلم أن تصديق القول الباطل أو ادِّعاء صحته - أيًّا ما كان ذلك القول - قبيح في العقل مُطلقًا، لم يَجزْ - كحكْم أخلاقي موضوعي فِطري - تحسين ذلك الاعتقاد أو الادِّعاء والسماح بدعوة الجهلاء إليه وتزيينه لهم، بل لزم أن يكون ذلك حكمًا قبيحًا مُستحِقًّا للذمِّ.



وعليه؛ فإذا تقرَّر أن فعلاً مِن الأفعال أو قولاً من الأقوال أو حكمًا مِن الأحكام الأخلاقية قبيح مذموم، لزم الإنسان - بضرورة العقل والفطرة - أن يرضى بمطلَق وجود التشريع المانع مِن ذلك، وإلا لم يكن للحكْم الأخلاقي أي قيمة أو معنى، كيف لا يرضى عاقل بمنْع ما يشهَد بأنه قبيح، وصيانة الناس منه؟ هذا لا يَستقيم في العقل السليم!



وهل خرَج دعاة الإلحاد الجديد في صولاتهم وجولاتهم الإعلامية في أوروبا وأمريكا في السنوات القليلة الماضية إلا سعيًا في "صيانة الناس" مما يَزعُمون أنه قبيح؟ فبأيِّ عقل يكون جواب هؤلاء بالرفض وعدم الرِّضا، إن عُرض عليهم وضْع نظام تشريعي يقمَع تلك الأقوال ويمنَع مِن انتِشارها في الأرض؟ بأي حجَّة يتمسَّكون بحرية نشْر تلك الأقوال التي بذَلوا في محاربتها ما بذلوا؟! يقينًا ليس بحجَّة استِحسانها، فلولا أنهم استقبَحوها ما حارَبوها تلك الحرب وما سعَوا في ذلك ما سعَوا! فما وجه استِحسانهم حرية نشر تلك العقائد التي يَزعمون أنها هادِمة للعِلم، ومضادَّة للعقل، ومتسبِّبة في كل فساد وكل كراهية في العالَم بطول تاريخه وعرضِه؟ أليس هذا تناقضًا فجًّا، وفسادًا ظاهرًا في فلسفة الأخلاق والتشريع لدَيهم؟ أليس هذا نقضًا لمبادئهم العُليا وهدمًا للغاية الأسمى التي يسعَون لتحقيقِها في العالم؟ بلى، ولا ريب!



لقد ذكرتُ مِن قبل في موضع لا يَحضرني الآن ذكره، أن حرية التعبير عقيدة تهدِم نفسها بنفسها؛ أي: إنها متناقِضة ذاتيًّا (Logically Inconsistent)؛ ووجه ذلك أن القائل بها يلزمه أن يسمَح - بموجب العمل بها لمن يَسعى في هدمِها هي نفسها - بالتعبير عن رأيه ونشْر فكره المضادِّ لها، إلى الحد الذي قد يُفضي في نهاية المطاف إلى اندِثارها مِن الأرض وزوالِها أصلاً! وعليه فإن أراد المشرِّع أن يتمسَّك بمبدأ "حرية التعبير" (Free Speech)، ويضمَن بقاءه في الأرض، فإنه يتعيَّن عليه منْع مَن يُخالف ذلك المبدأ مِن نشر رأيه بين الناس، وهو ما يعني أنه أمام خيار من اثنين؛ إما أن يقبَل بانتشار تلك الآراء والأقوال التي تُهدِّد ذلك المبدأ بالزوال والاندِثار مِن الأرض، أو يُضطر إلى أن يَخرم هو ذلك المبدأ بنفسه ويعمل بنقيضِه؛ إذ يمنَع مِن نشر هذا الكلام الخطير ويَحجبه عن الناس!



فكيف يكون المبدأ الفكريُّ مُتناسقًا من الناحية المنطقية المجرَّدة، وهو يشتمِل على لوازم ترجع عليه هو نفسه بالنقض والهدم؟



ومِن المعلوم أن أصحاب "حرية التعبير" في أوروبا وأمريكا لديهم تشريعات مُتفاوتة في مقدارِ ما تسمح به وما تمنعُه بلادهم مِن أقوال وأفعال؛ فمنهم - على سبيل المثال - مَن اتَّفقوا على منْع ما يُقال له "خطاب الكراهية" (Hate Speech)، وتعريفه أنه: كل خِطاب قد يُفضي إلى غرْس الكراهية بين البشر، مِن خلال انتِقاد العِرق، أو الجنس، أو الدِّين، أو المذهب الأخلاقي، أو "التوجُّه الجِنسي"، أو الجنسية.. إلخ، وبعبارة أخرى أعمُّ: هو كل خِطاب قد يُفضي إلى ظهور العنف في المجتمَع! وأينما بحثتَ لذلك المصطلَح عن تعريف عندهم فلن تجد إلا هذه العبارات المطَّاطة ونحوها مما يؤدِّي نفس معناها، فما "خطاب الكراهية" هذا وما ضابطه؟ أهو كل نصٍّ مَسموع أو مقروء قد يُفضي نشره بين الناس إلى أن يكره بعضهم بعضًا أو أن يَعتدي بعضهم على بعض؟ فما قولهم في صنوف مِن صناعة الترفيه عندهم (Entertainment arts) تعلِّم الناس القتْل والسرقة وفنون الجريمة تحت شِعار الفنِّ والترفيه، ألا يُفضي مثل هذا إلى تهوين الجَريمة في أعيُن الناس وتزيينِها للسُّفهاء منهم، ومِن ثمَّ يوصِل إلى انتِشار الكراهية بينهم؟ فإن قالوا: كلا، فبأي حجَّة؟ إن قالوا: بدليل الإحصائيات النفسيَّة والاستبيانات والأبحاث الإمبريقيَّة، قلنا: إن كِلا الطرفَين في هذا النزاع البحثيِّ عِندكم لدَيهم من الإحصائيات ما يدعمه، بصرف النظر عن مصداقيَّة الاستِدلال الإحصائي نفسِه (Statistical Inference) وهذا أمر معروف لمن بحَث فيه! ثم إنه مِن الحماقة أن يكون ضابط الإجازة والمنْع فيما يُقال له "خِطاب الكراهية" هذا، إنما هو الاستِدلال الإمبريقي على ظهور علامات الكراهية أو العنْف تحقيقًا مِن بعد انتشار هذا القول أو ذاك بالفعل! فالمفسَدة إذًا تكون قد وقعت تحقيقًا، مع أنها مِن المفترَض أن تكون هي علَّة المنع بالأساس، كعاقِبة محذورة! فهل الأمر متروك للتجريب؛ بحيث إذا تفاعَل أكثر الناس في مجتمع ما بالاستياء مِن سماعهم مقالةً بعَينها، أصبحت هي وكل ما يُناظِرها ممنوعة النشر أيًّا ما كان محتواها، والعكس صحيح؟ أليس قد عُلم بالمشاهَدة أن مِن الناس مَن قد يغضب مِن سماع الحق، بل ربما يَشرع بإيذاء مَن تكلَّم به؟ فهل يصحُّ في العقل السويِّ أن يُمنع الكلام بالحق لمجرَّد ذلك؟ معلوم أن الإنسان يكره بطبيعته أن يُقال له: إن شيئًا قد اعتقدته مِن نعومة أظفارك باطل فاسِد، والحق بخلافِه! فهل يُترك البشر على هواهم ليعتقد كل امرئ منهم ما يهوَى مِن الباطل المحض، بدعوى أن مخاطبتهم بخلاف ذلك قد تُغضِبهم ونحن لا نحب أن يكرَه بعضهم بعضًا لمجرَّد ظهور الخِلاف في تلك القضايا؟[1]



لقد رأينا بالفعل مَن يتَّهم بعض أفاضِل المسلمين "بازدراء الأديان" لمجرَّد أن غضب عليهم بعض أهل المِلَل الباطلة؛ إذ تكلموا ببيان باطل تلك المِلَل وكشْف عوارها؛ بُغيَة دعوة أصحابها إلى الحق وتحذير الناس مِن دعاتها، ورأينا مَن يزعم أن مجرَّد تَكفير المسلمين لغيرهم مِن أهل الملل ووصفِهم باسم الكفر "خِطاب كراهية"، بل رأينا مَن يزعم أن القرءان نفسَه فيه "خطاب كراهية"، ويجب منعه، أو منْع بعض الآيات منه! فتحصَّل إذًا أن "خطاب الكراهية" هذا ليس في حقيقتِه إلا طريقة المشرِّع العَلماني الماكِرة لمنْع ما يكرهه العلمانيُّون مِن صنوف الخِطاب، من غير أن يظهر مِن مجرَّد ذلك انهِدام قاعدتهم الكلية في "حرية التعبير"! والواقع أن القاعدة ذاهبة أصلاً لا حقيقة لها في التطبيق؛ إذ إن مناط تعريف "الضرَر" أو "الأذى" الذي يَرجع مِن هذا السماح بنشْر هذا القول أو ذاك على الفرد أو المجتمَع، يؤول لا محالة إلى النظرية الأخلاقية التي يَعتنقها المشرِّع نفسُه أيًّا ما كانت، وهو ما به يتقرَّر في نظره أي صنوف الخطاب تُمنَع على أنها "خطاب كراهية"، وأيُّها تُجاز على أنها ليست ذات ضرَر أو إفساد في الناس، والخِلاف التشريعيُّ بل النزاع القضائي في تلك البلاد في هذه المسائل لا أول له ولا آخِر كما هو معلوم، فالحاصل أن "حرية التعبير" المزعومة هذه ليست إلا وهمًا وسرابًا في الحقيقة، تُستغفَل به الشعوب لابتلاع النحلة العلمانيَّة وقَبول سيادة الفلسفة التشريعيَّة الإلحادية فوق رؤوس أهل المِلَل جميعًا!



فإذا كان المعنى القبيح مرفوضًا لمجرَّد قبحِه، فلا بدَّ أن يكون مِن المستقبَح كذلك - مِن حيث المبدأ العقلي والأخلاقي - أن تُقبل تلك المعاني القبيحة أو يُسمح بتحسينها والدعاية لها، والحق (المعنى الحسن) والباطل (المعنى القبيح) لا يُعرَفان بمِقدار ما يتسبَّب الكلام بهما في ظهوره مِن محبَّة ووئام بين الناس، أو مِن كره وبَغضاء في نفوس البشَر، وإنما يُعرَفان بالدليل والدليل وحده، وقد تقدَّم بيان أن الحق حسَنٌ في نفسِه، والباطل قبيح في نفسِه، فكيف إذا قام الدليل على أن مِن الحق معرفة أن الهلَكة الكُبرى تترتَّب على مجرَّد اعتِقاد الباطل في هذه القضية أو تلك، وأن مَن مات عليه فقد آل إلى عذاب أبديٍّ لا انتِهاء له؟ إذا عُلم هذا، وصحَّت هذه المقدِّمة بدليلها، تبيَّن للعاقل عِظَم الجريمة في نشْر ذلك الباطل وفي السماح بنشرِه في الأرض! وهو الدليل العقليُّ الواضِح الذي جاء الشرع بمصداقِه في باب الأمر بالمعروف والنهْي عن المنكَر، فاجتمَع للمسلمين في ذلك دليل العقل ودليل النقل جميعًا، ولله الحمد مِن قبل ومِن بعْد.



فإذا ما تقرَّر أن البشَر لا يُتصوَّر لمجتمعاتهم شيء اسمه "حرية التعبير" أصلاً، وإنما تتقيَّد حرية الإنسان - لا محالة - في نشْر ما يريد مِن الأقوال والأفكار وإظهار ما يُريد مِن الأفعال، بقيُود الحكم التشريعيِّ المستمَدِّ مِن المرجعية الأخلاقية الحاكمة لذلك المجتمَع - أيًّا ما كانت تلك المرجعية - ومِن ثمَّ يؤول الأمر في معرفة أي الحقوق والحريات يجب حفظه للناس وأيها يُهمَل ولا يُعتبَر، إلى الحكْم على تلك المرجعية نفسِها، فإن كانت حقًّا، كان المجتمَع على الحق فيما يُجيز وما يَمنع من ذلك، وفيما يُقيِّد مِن "حريات" الأفراد فيه، وإلا كان المشرِّع في ذلك المجتمَع على الباطل بداهَةً، مهما استحسَن العوامُّ والدهماء تلك الحريات وعدُّوها مِن حقوقهم المكفولة وجوبًا!



وبهذا القدر يتحقَّق المطلوب في مُحاجَجة الملاحِدة والعلمانيين مِن أي ملَّة كانوا، والحمد لله ربِّ العالمين.

[1] وعلى سبيل الاستِطراد المفيد في هذا السياق؛ إذ الشيء بالشيء يُذكَر، فقد رأينا مِن جهَّال المسلمين وضالَّتِهم ممَّن افتُتن بذلك المنحى العلماني المعوَجِّ مَن يقول: إن النزاع الاعتقادي بين "طوائف الأمة" أمر يجب دفنُه وكَتمُه حتى يَسهُل لنا جمعُهم على راية واحدة أو تحت جماعة واحدة، ويَسهُل إذًا أن نوحِّدهم في مواجَهة "العدو" الصِّهيَوني ونحو ذلك الكلام! فأجابهم أهل العلم والتحقيق بالقاعدة المشهورة: "كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة"، بل إن هذه الأخيرة لا تكون إلا ثمرةً للأولى؛ إذ المسلمون ما أصبَحوا أمةً واحدة - في الأصل الأول - إلا باتِّفاقهم في كلمة التوحيد، فإذا ضرب الخلاف في هذا المعتقد نفسِه، في كلمة التوحيد، صاروا أممًا شتَّى، لا أمةً واحدة، وإن جمعتْهم أرض واحِدة، ولم يكنْ مِن سبيل لتوحيدهم إلا جَمْعهم على عَين ما جمعَهم عليه رجالات الصدْر الأول - رضي الله عنهم وأرضاهُم. والقصد أن هؤلاء المُنحرِفين متأثِّرون في دَعواهم بمسألة "خِطاب الكراهية" هذا، فلا شكَّ أننا - على مَنطِق هؤلاء - إن قُلنا للسنِّي (المسلم) والرافِضيِّ (المُشرِك): "ليس بينكما خِلاف في الحقيقة إلا في الفروع، والجعفريَّة هذه ليست إلا مذهبًا مِن مذاهب الإسلام المُعتبَرة التي يَجوز التعبُّد بها؛ كالحنفيَّة والمالكيَّة والشافعية والحنبليَّة، فإن رأيتم خلافًا في الدِّين، فلتتعاونوا فيما اتفقْتُم عليه، وليَعذر بعضكم بعضًا فيما اختلفتم فيه"، فلن يبغض أحدهما الآخَر كما لو قلنا لهما: "إن الإسلام والرفض ملَّتان مُختلفَتان خلافًا جذريًّا يَبدأ مِن مصادر التلقي نفسها، فلا القرءان هو القرءان؛ إذ يَعتقِدون تحريفه، ولا السنَّة هي السنَّة، وهم يتعبَّدون ليل نهار بسبِّ الصحابة الأخيار... إلخ"! هذه خُطوة مِن الخطوات على طريق شيطاني خبيث، لا ترى في آخِره إلا عقيدة وحدة الأديان، التي حقيقتُها إيهام البشَر كلهم بأن المِلَل كلها عند الله سواء، وأن الخِلاف بينها يَسير لا يؤثِّر، فكلُّها تتقرَّب إلى الله بطريقتِها، وهو يَقبلهم جميعًا ويُحبُّهم جميعًا ولا فرقَ بين المسلم وغير المسلم أصلاً! ومعلوم بالبداهة أنه لا شيء أحبُّ للعلماني المُلحِد مِن أن يَنتهي أهل سائر المِلَل المخالِفة له في الأرض إلى مقالة تجمعهم كلهم على مبدأ "نسبية الأخلاق"، بحيث تُصبح الأديان كلها حق، والناس كلها سواء في ميزان العقيدة، وترتاح بذلك رؤوسهم مِن مساعي أهل الأديان لمُنازعتهم السيادة على البلاد في الحكْم والتشريع!


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
إقامة الحجة العقلية والبرهان المنطقي ضد حرية نشر الكفر والعصيان
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  حرية الكفر وحرية التكفير
» إقامة الحجة على تارك المحجة المؤلف عبد الوهاب عبد العزيز الزيد
»  إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل المؤلف الشيخ سليمان بن سحمان
» حكم ما يُسمى بـ " حرية الكلام " ، و " حرية الرأي " ؟
» حرية الحقوق لا حرية الفسوق

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: