مدخل لمزايا الأخلاق في الإسلاممزايا الأخلاق في الإسلام (1)قدمنا فيما سبق من مقالات بعض النماذج من
المذاهب الأخلاقية في الفكر اليوناني والفلسفة العربية الحديثة، وقد
انتقينا منها ما يلقي بالضوء على الاتجاهات المختلفة في النظر إلى المشكلة
الأخلاقية. وإذا أخذنا بالتصنيف[1]
الذي ينظر إلى الفعل الأخلاقي من ناحية المصدر، فقد ظهر لنا أن المذاهب
الأخلاقية اليونانية التي نظرت إلى مصدر الفعل الأخلاقي - أي الحكمة - تتضح
في آراء سقراط وأفلاطون وأرسطو والرواقيين، وفي العصر الحديث درسنا
النظرية الأخلاقية عند كانط الذي رأى أن مصدر الفعل الأخلاقي هو إرادة
الواجب. أما من حيث الفعل الأخلاقي بالنظر إلى الغاية منه، فقد ألممنا ببعض
المذاهب التي تتجه إلى تحقيق السعادة كهدف أخلاقي، كالأبيقورية والمنفعة
عند كل من بنثام وجون ستيوارت مل والمذهب العملي، وأخيرًا بحثنا آراء
الوضعيين من علماء الاجتماع والأخلاق في الفلسفة الماركسية.
غير أن الاختلاف حول هذه المذاهب قد أثار
موجة من النقد، نلمحها في الآراء التي ينقلها لنا جوستاف لوبون عن بعض
فلاسفة أوروبا المعاصرين، وقد وصف محاولات علماء اللاهوت وعلماء الأخلاق
بأنها عجزت عن إقامة ما هو ثابت في الأخلاق. والدليل على ذلك ما تبصره من
الفوضى العميقة التي لا تزال بادية في الوقت الحاضر حول هذا الموضوع القديم[2]
ويشير في نص آخر إلى تعدد المذاهب الأخلاقية وآثارها يقول: "حق إن
مسيوبايو قال - انصرف من كان يجب عليهم أن ينيروا السبيل فتركوا الكثلكة -
إحدى مذاهب النصرانية - ولكنهم لم يلبثوا ساعة من نهار حتى أدركوا أنهم لن
يقيموا شيئًا آخر بدلًا منها.... وقيل بالأخلاق العلمية، ثم أعلن مسيو هنري
بوانكاريه مع الأسف عدم وجود أخلاق علمية، وإليك أيضًا الأخلاق التلذاذية
والأخلاق النفعية.. وإليك... وإليك...، فالأمر هو "ضوضاء أدمغة" كما قال
فونتين[3].
ويبدو أن فصل الدين عن الأخلاق في الغرب
أدار بعض الآراء المعارضة لأن "كثيرًا من الناس في الوقت الحاضر يعدون
الديانة الناظم الرئيسي للسلوك"[4].
ويتساءل مسيو كروازي حول "
الارتباط الخلقي" "ترى علم الأخلاق في جميع البرامج يدرس كشيء منفصل عن الدين...
فباسم أي مبدأ غير ديني يعلم الواجب والغرض الخلقي؟ إنه يسأل الفلاسفة فيظفر بأجوبة متهاوية"[5]
هذا بينما اشتملت كتب اليهود الدينية على تعاليم خلقية، وهي تتضمن الوصايا
العشر الموجزة، وصاغت النصرانية القواعد الأخلاقية على نحو يجعل الهدف في
الحياة الأبدية لا في هذه الحياة الدنيا، حيث تتصف السعادة بالزوال بحكم
الطبيعة[6]
وسترى أن دراسة الاتجاه الأخلاقي في الإسلام يثبت أن الأخلاق في الإسلام
"هي روح الرسالة الإسلامية، وأن النظام الإسلامي التشريعي يعد صورة مجسمة
هذه الروح"[7].
وعن فكرة ارتباط الأخلاق بالدين، فإننا
نرى واحدًا من أشد خصوم هذه الفكرة ومن أبرز الذين سعوا للفصل بينهما، نراه
تسليم بالارتباط الوثيق بينهما يقول دوركايم "إن الأخلاق والدين قد ارتبطا
ارتباطًا وثيقًا منذ أمد بعيد، وظلا طوال قرون عديدة متشابكين، فلم تصبح
العلاقات التي تربطهما علاقات خارجية أو ظاهرة، ولم يعد من السهل فصلهما
بعملية يسيرة كما نتصور"[8].
ومع ذلك فإنا علينا أن نوضح أن الصراع في
الغرب حول فصل الدين عن مجالات النشاط الإنساني ومقوماته في مجالات العلم
والأخلاق والاقتصاد والسياسة وغيرها كان له ظروف وأوضاع خاصة بأوروبا نفسها
دون غيرها، إذ كان لرجال الدين هناك "سلطات هائلة في رعاية الحاجات
الدينية للناس وهم الذين يؤدون الشعائر وينظمون العبادة ويوجهون حياة
الناس،
فإلى أين سار هذا التوجيه؟ لقد
سار نحو دعم نفوذ الكنيسة ذاتها. فرجالها قد كدسوا ثروات هائلة، وكان لهم
نفوذ سياسي كبير، وفي معظم الأحيان كانوا يتحالفون مع النبلاء والإقطاعيين
ويشجعونهم على الاستمرار في استبدادهم[9]
وربما كان هذا هو السبب الذي أدى بأوجست كونت إلى القول بأن الديانة
المسيحية قد انقضى زمنها، ولابد من الاستعاضة عنها بديانة أخرى، وهي الفكرة
التي صحبت الجمهورية الفرنسية الثالثة التي فصلت بين الدين والدولة، ومن
ثم فقد اعتقد أنه تم تحلل أجزاء الديانات من الوجهة العقلية - أي لا تصمد
أمام النظر العقلي. ولكن مرد الخطأ هنا أنه إذا كانت هذه الظاهرة صادقة
"فيما يتعلق بالديانة المسيحية في أوروبا فهي ليست كذلك بحال فيما يتعلق
بتاريخ التفكير الإسلامي"[10].
ولكن الأمر يختلف اختلافًا تامًا بالنسبة
للمسلمين، فقد شيدوا صرح حضارتهم، وأقاموا تلك الدولة العظيمة "التي امتدت
على عجل من الأندلس إلى قرب القارة الآسيوية مارة بشمال أفريقية كله"[11]
وذلك بناء على فهمهم الصحيح للإسلام، واتباعهم لمنهج أسلافهم في الفهم
والتطبيق. فالإسلام ليس مظهر كهنوتية، ولا حياة منعزلة عن الواقع تبغي
الفرار منه بل هو نظام كامل للحياة يوجه الإنسان لكي يحقق كمالاته التي
استحق بها مقام الخلافة - أي يحصل لنفسه وللفيعة الإنسانية أيضًا على أسمى
درجة من الكمال الإنساني، في الروح والخلق والمادة والعقل، وينظم علاقته
بربه وعلاقته بأخيه الإنسان في كل مظاهر الحياة"[12]، أي أنه باختصار شديد دين وحضارة.
ولكي يصبح
الطريق ممهدًا لمعرفة فضائل الإسلام الأخلاقية، سنحاول - في المقالات
القادمة - الإلمام بأوجه النقص التي لاحظها بعض الفلاسفة في تراثهم
الأخلاقي الغربي.
[1] هو نفسه تقسيم الدكتور يحيى هويدي ومقدمة في الفلسفة العامة، ص 110- 221.
[2] حياة الحقائق، جوستاف لوبون ص 105.
[3] حياة الحقائق: جوستاف لوبون ص 108.
[4] نفسه ص 124.
[5] حياة الحقائق: جوستاف لوبون ص 109.
[6] نفسه ص 124.
[7] الاتجاه الأخلاقي في الإسلام: مقداد يالجن ص 54.
[8] التربية الأخلاقية: إميل دوركايم ص 11.
[9] الإنسان والحضارة في العصر الصناعي، د. فؤاد زكريا ص 75 الناشر مركز كتب الشرق الأوسط مايو 1957.
[10] الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية: ليفي بريل - ترجمة - د. محمود قاسم وهو رأيه بتعليقة رقم 1 ص 338 ط الحلبي 1373هـ- 1953م.
[11] سر تطور الأمم، جوستاف لوبون ص 108- ترجمة أحمد فتحي زغلول باشا مطبعة المعارف بمصر 1331هـ- 1913م.
[12]
موقف الإسلام من المعرفة والتقدم الفكري (الثقافة الإسلامية والحياة
المعاصرة) د. محمود عبد الله ص 30 مكتبة النهضة ومؤسسة فرانكلين.