السؤالالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.أنا
طالبة في المرحلة الثانوية، ومادَّة الجغرافيا مُقررة علينا في المرحلة
التي أدرس فيها، ومدرِّس هذه المادَّة على درجةٍ كبيرة من العلم والاحترام
والثَّقافة والدِّين - ما شاء الله، حتى إن البنات كلهن يحببنه، أمَّا أنا
فأحبُّه بدرجةٍ غير طبيعية، حتى إني لأنتظر حصَّتَه لأراه، وأنتظر يوم
الدَّرس الذي أتطلع فيه إلى رؤيته!بل إنَّ
الأمر زاد عن ذلك؛ فكلُّ مَن اسمه كاسمه صرتُ أكِنُّ له تقديرًا واحترامًا،
فأنا دائمة التَّفكير فيه، لا يغيب عن بالي، أخبروني كيف أنساه؟ وهل هذا
شيء طبيعي أو خطأ؟! الجواببسم الله الموفِّق للصواب
وهو المستعان
"وإنَّ بقلبي أضعاف ما بقلبه غير أني أجد ستره أبقى للمودَّة، وأحمد للعاقبة، وأطوع للربِّ، وأخف للذنب"، قالته عتبة؛ "
روضة المحبين"؛ ابن قيم الجوزية.
أيتها العزيزة، النِّسيانُ مِن
مُهمات الزمن، لا من القدرات الخاصَّة، ولا من المهارات التي يُمكن
التدرُّب عليها، وجُلُّ ما بأيدينا - كمختَصِّين في المجال النفسي - أن
نطرحَ بين أيديكم المعارف النفسيَّة التي تُسهم في تصحيح طريقة التفكير،
بالإضافة إلى التذكير الدائم بمسألة التقوى؛ فهي المصَدُّ الحقيقيُّ أمام
هذه الزوابع العاطفيَّة التي يُثيرها التعليمُ المختلط في بعض الدوَل التي
تصَنِّف نفسها دولًا إسلاميَّة!
فسُؤالكِ عن نسيان الأستاذ الفاضل سؤالٌ غير واقِعي؛ لأنَّ المرء لا ينسى مَن أحب وهو ميِّت، فكيف بالحيِّ الذي يلتقيه كل يوم؟!
إذًا لستُ أهدف مِن كتابة هذا
الجواب إلى أن أُنسيكِ أستاذ الجغرافيا، ولكن لتُساعدكِ كلماتي على تحويل
مجرى مَشاعركِ من العشق "العابر" إلى التقدير "الدائم"، فالمعلمُ الفاضلُ
يستَحقُّ منَّا كلَّ الإعجاب والإجلال والشُّكر؛ إذْ جَعَلَنا نحبُّ
المدرسة، والمواد الدِّراسيَّة التي لا نحبها.
ثمَّة عامِل جَذْب يربط بيننا
وبين مَن وضَعهم الله - جل وعزَّ - في مواقع السُّلطة، فإن جمعوا إلى قوة
السلطة سلاسة الطبع، ودماثة الخُلُق، كان الإعجابُ بهم أحرى، والانجذابُ
إليهم أقوى، ولكن ينبغي أن نُبقي هذا الشُّعور الجاذب في إطار جميلٍ من
الاحتِرام والتقدير، فانظري إلى أستاذكِ الفاضل على اعتباره أخًا كبيرًا،
ورَجُلًا عظيمًا يستحقُّ تقديركِ واحترامكِ، أمَّا مَشاعركِ وخفقات قلبكِ
فالذي يستحقُّها رجلٌ آخر، في مكانٍ آخر، في زمنٍ آخر، وحتمًا ستجدينه،
وستُقاسمينه أمورًا أجمل مِن الخرائط الجغرافيَّة المصورة، والتضاريس
الصعبة، والمناخات المتقَلِّبة!
لدينا شريعةٌ غرَّاء سمحة،
وأعرافٌ بالية سمجة، وعُقُول مُستريحة من التفكُّر، وأكثر الناس يُفَكِّرون
ويعملون وفق الأعراف لا الشريعة! ولذلك تَتَحَرَّج النُّفوسُ الجافَّة مِن
ذكر الحب بين الرجل والمرأة في الإسلام، كأنهم لم يجدوا في كتابِ الله -
تعالى - هذه الآية: ﴿
فَلَا وَرَبِّكَ لَا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، وهذا الحرَج دليل على نقص الإيمان، ولو
كان منكِر الحب من أعبد الناس! لكن ما دُمنا خاضعين قسرًا لهذه الأعراف،
وكانتْ كلُّ الظُّروف الاجتماعيَّة تحول دون الزواج بمَن نحب، فإنَّ حقيقة
الحبِّ ها هنا لا تكمُن في البَوْح بالحبِّ، وطلب القُرْب ممن نحب، بل
يكمُن الحبُّ الطاهر في البُعد، ودَفْن المشاعر في أعماق القلب، فمَن يحبُّ
بصِدْق لا يعلِّق مَن يحبه بخيوط واهية من الأمل!
وعن نفسي لا أجِد حرجًا في زواج
المعلِّم من طالبته الأثيرة؛ فالزواجُ في الإسلام من أيسر الأمور، لكن
عُقُولَ الناس المتحجرة قد عقَّدتْ مَسائل الزواج؛ حتى بات الزواجُ مِن
أصعب الأمور عند مُسلمي هذا الزمان! وبِتْنا نشكو مِن مسألتين مُتناقِضتين:
العلاقات المحرَّمة، وتأخُّر الزواج! ومما زاد مِن سعة هذا الخرق أنَّ
الذين تصدَّوا لحلِّ مشكلات الحب والخطبة وتأخُّر الزواج، ليسوا بأكفاء مع
بالغ الأسف!
ما أريد قوله: أنْ لو تقدَّم
مُعلمكِ يومًا لخطبتكِ، فليس ثمَّة حرجٌ، لكن هذه الخطوة ينبغي أن يُقْدمَ
عليها مُعلمكِ بنفسِه، فالبوحُ بالمشاعر مِن مُهمات الرجل قبل الزواج، ومن
الخطأ والحُمق والسَّفه أن تُبادِرَ المرأة بذلك؛ ففيه امتهانٌ كبيرٌ
لكرامَتِها كأنثى، فالأنثى هي التي تُطلَب، وهي التي تخطَب، بل هم مَن
يتهافتون عليها لخطبة ودِّها!
كذلك الأمر اجتماعيًّا، يُلزم
الشرع والعرف الرجل بالمبادرة إلى خطبة المرأة لا العكس، فالرجلُ هو الذي
ينبغي عليه أن يتصَرَّف، ويبحث عن الوسائل الشرعية للظفر بتلك الحبيبة! مِن
أجْل هذا أقول لمن ينصح بناتنا بالبوح عنْ مشاعرهنَّ لمن يحببن: ((إنَّ
مما أدرك الناس مِن كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي، فاصنع ما شئتَ))؛
رواه البخاري.
المرأة ملِكةٌ، ومملكتها هذه
الأحاسيس والمشاعر، فاحمي مَشاعركِ، ولا تبوحي بها إلا لمن يتعب ويجتهد في
العُثُور عليكِ، مَن يبذل فيكِ كل ما يقدر عليه ليتزوجكِ، مَن لا يكتفي
بالكلمات العاطفيَّة بل بالأفعال الرجوليَّة! وماذا تريد المرأة مِن حبِّ
الرجل غير الرغبة في الزواج؟! قال ثعلب في "
مجالِسه":
حدثنا أبو العباس عمر بن شبة, حدثني ابن أقيصر، قال: حدَّثني يحيى بن
عروة، قال: لما قدم الفرزدق المدينة أتى مجلس أبي، فأنشده الأحوص شعرًا،
قال: مَن أنت؟ قال: الأحوص بن محمد، قال: ما أحسن شعرك! قال: أهكذا تقول
لي؟! فوالله لأنا أشعر منكَ! قال: وكيف تكون أشعر مني وأنت تقول:
يَقَرُّ بِعَيْنِي مَا يَقَرُّ بِعَيْنِهَا وَأَحْسَنُ شَيْءٍ مَا بِهِ العَيْنُ قَرَّتِ
|
فإنه يقر بعينها أن تنكح! أفيقر ذاك بعينك؟!).
فإن لم يقر بعين الرجل أن
يتزوَّجَ المرأة التي يحبها فليس برجلٍ! وعلى هذا المقياس وشواهد الواقع
يُمكننا أن نقول بمرارة: ما أقل الرجال! ولهذه العلة نضع أيدينا على أهم
أسباب تأخُّر زواج البنات! فالبناتُ يحببن ليتزوجن، أما أشباه الرجال
فيحبون ليستمتعوا بالحب فقط!
أيتها العزيزة، لا تتصوَّري أن
يتمَّ الشِّفاء من الحب بدون أن تقاسي ألم البكاء والحزن، فالألم لا يُمكن
تجنُّبه للوُصُول إلى راحة النفس، واطمئنان القلب، وكذلك جنة الخلد لا نصل
إليها بدون عذاب الدنيا، أو عذاب القبر، أو عذاب الآخرة! فلنتحمَّل مرارة
الألم الذي يعقب الراحة والسكينة، ولا يكون ذلك إلا بتقوى الله - جلَّ
ذِكْرُه - والشكوى إليه - سبحانه - فكما أنكم تُحسنون كتابة الاستشارات
للألوكة، فأحسنوا الظن بالله ربكم، خالقِ هذه القلوب ومقلبها، فلو أراد -
سبحانه - أن يقلب قلبكِ عن كل خاطر في حبِّ أستاذكِ إلى كل خاطر في حبه -
تعالى - وحب ما يحبه، لم تجدي لحبِّ مدرس الجغرافيا مكانًا في قلبكِ،
فلترددي دائمًا: "يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك"، ولا تستعجلي
الإجابة، فكلُّ هذه الأيام ستُصبح ذكرياتٍ، فلتكن ذكرياتٍ طيباتٍ في
ذاكرتكِ، وذاكرة أستاذ الجغرافيا.
واسعي لتحويل طاقة القلب
العاطفيَّة إلى طاقة علميَّة للاجتهاد في الدِّراسة، والتفوق في مادة
الجغرافيا، وما دمتِ تشعرين أن قلبكِ يحمل مشاعر تزيد عن مشاعر الاحترام
والإعجاب، فروِّضي نفسكِ على تجنُّب كلِّ ما مِن شأنه أن يجمعكِ بأستاذكِ،
ولا تقنصي الفرص للذهاب إليه، وهذه المسألة تعتمد كثيرًا على قوة إرادتكِ،
وتقوى قلبكِ!
تذكَّري دومًا أن لهذا الرجل
عائلةً تشغله، زوجة جميلة تحبُّه ويحبها، وأبناء سعداء باهتمامه، فلا
تفَرِّقي ببراءة وسذاجة شمل هذه العائلة، وإن لم يكنْ له زوجة وأبناء فلا
ريب أنَّ له أحلامَه الخاصة، وربما هناك امرأة أخرى تنتظره بصبر! فاستعملي
اليأس، واقطعي فيه الرجاء، وسيدب السلوُّ إلى قلبك الصغير قليلًا قليلًا.
وقوِّي علاقاتك بصديقاتكِ؛
فعمرك هذا عمر الصداقات الحميمة لا العلاقات الغراميَّة! ولتكنْ لك هوايات
تمارسينها، واهتمامات وأنشطة تزاولينها وقت فراغكِ؛ لينشغلَ ذهنكِ بما
يفيدكِ في حاضركِ الزاهر، ومستقبلك المُشرق، وعسى الله أن يربط على قلبكِ،
ويوفقكِ في دراستك، ويسلمك من كلِّ همٍّ ووهم!
والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب، والحمد لله وحده