السؤالالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.أنا أبٌ لثلاثة أبناء - بنتين وولد - ومُنفصل عن زوجتي الأولى منذ أكثر مِن 8 سنوات. تزوجتُ
بعد انفصالي ولم أنجبْ، وطليقتي تزوجتْ وتركتْ أولادها، وكانوا صغارًا،
حافظتُ عليهم وأخذتهم لأحافظ عليهم! تخرَّجت ابنتي الكبرى مِن إحدى كليات
القِمة، وتقدَّم لخطبتها شابٌّ وافقتُ عليه؛ لأنها وافقتْ عليه، ولم
أُقَصِّرْ معها في شيءٍ مِن تجهيزها، وتَمَّ الزواجُ، وحملت ابنتي، ومع
اقتراب موعد ولادتها بدأت المشكلةُ؛ حيث إنَّ أمها ستأتي للمكوث معها فترةً
لرعايتها في منزل زوجها! حدثتْ مُشكلات كثيرةٌ أدَّتْ إلى أنَّ زوجها منعني ومنَع بعض أهلها مِن زيارتها، بل والرد عليَّ. تمَّ الصُّلح وجاء زوج ابنتي واعتذر، لكن مِن بعدها لم يتصلْ بي، وكذلك ابنتي تبتعد عني. فهل هذه تربيتي التي ربيتُ ابنتي عليها؟ أبعد هذا العمر تبتعد عني ابنتي، ولا تسأل عني؟ الجوابوعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.أيها الأخ الكريم، أيها الأستاذ الفاضل، أيها المربِّي العظيم، تعجز
كلماتي عن شُكرك وبيان فضلك فيما قدمته مِن أجْل أبنائك وبناتك، أفنيتَ
شبابَك في الجدِّ والعمل، وتعبتَ وعملتَ باجتهادٍ؛ حتى ترى فلذات أكبادك
يُشار إليهم بالبنان، وصنعتَ منهم أشخاصًا ناجحين، فهنيئًا لك ما قدَّمتَ
مِن عملٍ.
عنونتَ رسالتك بعنوان: "
أشيروا عليَّ"،
وإني والله استحييتُ أن أخطَّ حرفًا، أو أن أكتبَ كلمةً في هذا الأمر!
وكيف أُشير عليك برأيي، وأنا في سنِّ أبنائك؟ ولن تبلغَ حنكتي وتجربتي ما
بلغتْ حنكتُك وتجاربك في الحياة، ولكني تذكرتُ حبيبي وحبيبك - صلى الله
عليه وسلم - وهو مَن استشار عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأسامة بن
زيد - رضي الله عنه - في حادثة الإفك المشهورةِ، وهو الذي ينزل عليه الوحيُ
مِن السماء، فقلتُ في نفسي: لعلي أسَطِّر بعض النقاط مما يطرح الله فيها
الخير والبركة، فتكون طريقًا للحلِّ السليم، وكنتَ قد طلبتَ الرأيَ
والمشورةَ، والمستشارُ مُؤتَمَن؛
لذا أقول مُستعينًا بالله:- بداية الشرارة هي النبش في
الماضي، واسترجاع تفاصيله، والمواجَهة لإثبات الصواب والخطأ في أمرٍ قد مات
وذهب، ولسنا ندري ما حدَث بالضبط، فلربما مِن هذه المحاوَلة انقلب بيتُ
الزوجية الجديد إلى مأتمٍ ومَبْكى، فلسنا ندري ما حدث خلف الجدران، وعلى
الرغم مِن جُهدك المشكور المأجور - إن شاء الله - لكن لعل هذه الشرارة
تحولتْ نارًا في بيت ابنتك، وقد تكون خافتْ على أمِّها خوفًا شديدًا، مما
أثَّر على زوجِها أيضًا، وجَعَلَهُ حزينًا أو غاضبًا، خاصة إن كانتْ زوجته
(ابنتك) عاطفتها جيَّاشة - وهذا هو الأصلُ في الأنثى - مما أثَّر عليها
أشدَّ التأثير، ونتيجة لذلك شُحِنت النفوس بالغضب مِن أخيك.
- لستُ أدري أيها الأستاذ
الكريم - والعلمُ عند الله أولًا وآخرًا - ولكن يبدو ظاهرًا من المشكلة أنك
لا ترغب في بقاء الأمِّ مع ابنتها - وليس لي إلا ما كتبتَ - وإلا كان من
الأفضل لك ولابنتك - التي تحمل حفيدك المنتظر - أن تأمرَ أخاك بألا يجتر
الماضي ويُعيده، وأن تبعده هو عن ابنتك وعن بيت زوجها، بدلًا مِن أن تبلغ
طليقتك بأن البنت ستلد في بيت والدك كما فعلتَ أنت! فإن كان الحالُ كما
استشففتُ مِن رسالتك، فأوصيك بوصية الله للخَلْق مِنْ قبلُ و مِن بعدُ،
فاتقِ الله، واستغفره وتُب إليه، فكلنا بنو آدم، وكلنا نُخطئ، مهما بلغنا
مِن العمر والحكمة، ولا تسْعَ في منْع الأم مِن رؤية ابنتها أو العكس.
- قفْ قليلًا، وعُد بنفسك إلى
الوراء، عُد بنفسك إلى أيام الشباب وبداية فترة زواجك، وضعْ نفسك في موقف
زوج ابنتك، ماذا ستفعل؟! وبماذا كنتَ ستُفكِّر لحلِّ المشكلة؟! أقول لك هذا
لكي تتفهمَ ردود أفعالنا - نحن الشباب - والتي قد يُصيبها النزَق
والاستعجال، وتكون بعيدة عن حكمة الأشياخ أمثالك وبُعد نظرهم.
- وقوفك في مكان الزوج قد يجعلك
تتفهَّم - ولاحظ أنني لم أقل: تتقبَّل - منْعَه لزوجته مِن محادثتك في ذلك
الوقت؛ فهو في انتظار مولودِه الأول، ولا يخفى عليك تأثير هذه الأمور
والمشاكل على الحمْل، وتفهمك لردة فعْلِه قد يجعلك أكثر تحمُّلًا لها
واستيعابًا، فلو كنت مكانه ماذا ستُقَرِّر؟!
إن أخذ دور المقابل في المشكلة يجعلنا أكثر تفهمًا لطريقة تفكيره، وأشد اعتذارًا له؛ لأننا ببساطة سنفهم الدوافع خلْف هذا التصرُّف.
أخي الفاضل - أقولها هنا
تجاوُزًا - إنني إذ أتفهَّمُ مشاعرك حينما رفضت ابنتك مكالمتك طاعةً
لزوجها، وأنت الذي صنعتَ منها شيئًا مذكورًا - أقول: حينما أتفهم ذلك، أعلم
- كما تعلم أنت - أن البنت أمانة، وقد سُلِّمَتْ لمن يحملها، نعم يجب أن
تطيعَ أباها وأمها، ولكن أيضًا في نفس الوقت يجب ألا تخالف أوامر زوجها
وتعصيه.
- أخيرًا أيها الأخ الكريم، إن
أردتَ الرأي، وطلبتَ المشورة، فادفنْ ما فات، واتصل على زوج ابنتك، واطْلُب
مُقابلته، وادفنوا الماضي معًا، دون استرجاعٍ له أو طلب التصحيح، فإنَّ
ذلك لن يُفيد، قل له بأن ما حصل في الماضي - بِغَضِّ النظر عن خطئِه مِن
صوابه - قد مضى وفات، ولن تستطيعَ إرجاع الأيام، ولكننا نستطيع أن نصلحَ
فيما بقي مِن العمر، حتى نعيشَ حياةً سعيدةً هنيئةً، وتذكَّر قول الله
تعالى: ﴿
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾ [فصلت: 34].
يقول سيد قطب في تفسيره:"وليس له أن يردَّ بالسيئة، فإن
الحسنةَ لا يستوي أثرها - كما لا تستوي قيمتها - مع السيئة والصبر
والتسامُح، والاستعلاء على رغبة النفس في مُقابلة الشرِّ بالشر يرد النفوس
الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب مِن الخصومة إلى الولاء، ومِن الجماح
إلى اللين: ﴿
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].
وتصْدُق هذه القاعدةُ في
الغالبية الغالبة مِن الحالات، وينقلب الهياج إلى وداعة، والغضب إلى سكينة،
والتبجُّح إلى حياء على كلمة طيبة، ونبرة هادئة، وبسمة حانيةٍ، في وجه
هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام!
ولو قُوبل بمثل فعلِه ازداد هياجًا وغضبًا وتبجُّحًا ومرودًا، وخلع حَياءه نهائيًّا، وأفلت زمامه، وأخذتْه العزة بالإثم.
غير أنَّ تلك السماحة تحتاج إلى
قلبٍ كبيرٍ، يعْطِف ويسمح، وهو قادرٌ على الإساءة والرد، وهذه القدرةُ
ضروريةٌ لتؤتي السماحة أثرها، حتى لا يصورَ الإحسان في نفس المسيء ضعفًا،
ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمْه، ولم يكن للحسنة أثرُها إطلاقًا.
وهذه السماحة كذلك قاصرةٌ على حالات الإساءة الشخصية، لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها.
فأما في هذا فهو الدفْعُ والمقاومة بكلِّ صورةٍ مِن صُوَرها، أو الصبر؛ حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا.
وهذه الدرجةُ؛ درجة دفْع السيئة
بالحسنة، والسماحة التي تستعلي على دفعات الغيظ والغضب، والتوازُن الذي
يعرف متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنى - درجةٌ عظيمة لا يلقاها
كلُّ إنسان، فهي في حاجةٍ إلى الصبر، وهي كذلك حظٌّ موهوبٌ يتفضَّل به الله
على عباده الذين يحاولون فيستحقون؛ ﴿
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35].
ودُمْتَ في حفظ الله ورعايته