السؤالبسم الله الرحمن الرحيم
بدايةً أودُّ أن أشكركم على تعاوُنِكم، وأسأل الله ألا يحرمكم الأجْرَ.أنا
طالبةٌ جامعية، مُعتدة بنفسي، واثقة بقدراتي، مُثابرة، مميزة، طموحي إلى
أقصى الحدود، أحلم بمستقبلٍ جميلٍ، لا يعكِّره كدَرُ الفشل والإخفاق،
والجميع يتوسَّم فِيَّ ذلك، غير أني مُحبَطة تمامًا، وأشعر بأني على شفا
جُرُفٍ هَارٍ! أشعر بأن الإخفاق القادم سيُنهِي كلَّ الآمال والطُّموحات،
أنا متخوِّفة مِن أي بادرة تشعرني بأنِّي سأسقط يومًا، حتى وإن كانتْ تافهة
جدًّا!هناك
ما يشعرني بالأمان، غير أنه بات أحد المخاوف، إنه (إيماني بالله وتوكُّلي
عليه)، إلا أني أشعر بأن الله غاضبٌ عليَّ، لا أدري لِمَ أشعر بهذا؟ رغم
أني ملتزمة - كما تقول رفيقاتي؛ لكني أبَرِّر هذا بأنهنَّ يجهَلْن المعاصي
التي أفعلها! وأشعر بأنني مُنافقة أحيانًا، لكني أقول: "إن الله يعلم نقاء
سريرتي، وشدَّة كُرهي للنفاق، وأرجو أن يغفرَ لي"، لا أعلم كيف أصِف هذا
الشعور، إنه على أقل تقدير "شعورٌ قاتل"! ولعلَّ أبرز ما يميزني هو كتماني
لمشاكلي، وأسعى أن أحلَّها بنفسي.أما
الآن فقد بلغ السَّيل الزُّبى، وما عاد بي ذرَّة مِن صبر، ومشكلتي بوَجْهٍ
أدقَّ هي: أنَّني أملك مواهبَ رائعة؛ مثل: الإلقاء، الإنشاد، الفصاحة، فن
الخطابة، الكتابة... وبأسلوبٍ يؤثِّر فيمن يستمع تأثيرًا بالغًا، لدرجة
أنَّهم يُبْدون إعجابهم بطريقةٍ تُشعرني أنني فعلتُ شيئًا عظيمًا!زاد
ذلك في ثقتي بنفسي، حتى إنَّني أصحبتُ أُلقَّب بـ(الكاتبة المميَّزة..
الداعية الواعدة) مِن شخصيَّاتٍ لها قدْرُها واحترامُها؛ بل والبعض يقول:
إنني سبقتُ عمري كثيرًا؛ مِن خلال توجيهاتي، وطريقتي المميزة في إقناع
الآخرين، والبعض يبوح لي بمشاكله، ويعتبرني (المستشارة الشخصيَّة) له، كلُّ
ذلك ينمِّي بداخلي شيئًا غامضًا لا أفهمه؛ فأنا حين أكون على مكتب
الأستاذة أبدو على طبيعتي تمامًا، غير متكلِّفة، أسترسل في كلامي بلا حاجة
إلى التَّنسيق.رغم
أنَّ شيئًا ما في الأجواء يبعث الرَّهْبة، ومع ذلك فأُستاذاتي مُعجباتٌ بي
كثيرًا، وحين أكون (على منصة المسرح)، أو ألقي أمام الأستاذة والطالبات،
أو حتى أقرأ نصًّا مِن كتاب، فأنا مختلفة تمامًا؛ يجفُّ ريقي، وأتنفَّس
بصعوبةٍ شديدة (بدون رجفة أو تعرُّق، الحمد لله)، حتى إنَّ الجميع يتعجَّب
مني، ويقولون: أنتِ جريئة في مواقفَ أعظم مِن هذه! كيف تتراجعين الآن؟!حاولتُ
أن أتقدَّم وأُثبت لنفسي عكس ذلك، غير أن هذا الحل بدا جرحًا جديدًا لا
شفاءً، كما ظننتُ مِن قبلُ! وأذكر أنني حاولتُ مرة، وألقيتُ أمام الطالبات،
فشعرتُ أن الموضوع أتفَهُ بكثيرٍ من أن أوليه قلقي واهتمامي، ولكن شيئًا
ما يصرخ بداخلي: (هذا الموقف الذي ترتعدين خوفًا منه)!شعرتُ
بغصَّةٍ وتشتُّتٍ في كلماتي، رغم أن البداية كانتْ رائعةً، وتذَكُّر هذه
المشكلة يزيد هذا الجرح عُمقًا! لا أدري ماذا أفعل؟! راسلتُ مستشارين مِن
قَبْلُ، وأجابوني: (يجب أن تَدْفعي بنفسكِ إلى هذا الموقف). في الحقيقة لا أعتبر أنَّ هذا هو الحل؛ فالكلامُ سهلٌ جدًّا مُقارنة بالفعل, أحتاج إلى مَن يفهمني، ويُشعرني بالطُّمأنينة. الجواببسم الله المُلْهِم للصواب
وهو المستعان
أيَّتُها العزيزة، تأمَّلي الصورةَ أدناه: teachersource.com أرأيتِ المرآة ذات اليمين؟!
إنها مرآة مُحدَّبة، تظهر فيها صورةُ القلَميْن أصغر بكثيرٍ مِن حجمهما
الحقيقيِّ، أما المرآة ذات اليسار فهي مُقعَّرة تظهر فيها صورةُ القلمَيْن
أكبر بكثير مِن حجمهما الحقيقيِّ.
وفي الناس مَن ينظر إلى الأشياء
مِن خلال عدسةٍ مُحدَّبة في فِكْرِه، تتكوَّن فيها صورٌ مُصغَّرة للأمور،
"تُهوِّن" لديه كلَّ كبيرٍ مهما بلغَتْ خطورته، أو عظمتُه، أو أهميتُه،
فالأمورُ جميعها في تصوُّره: "تافهة، بسيطة، لا تستحقُّ الاهتمام"... ولسان
حاله: (لا تكبِّروها وهي صغيرة)!
ومنهم مَن ينظر مِن خلال عدسةٍ
مُقعَّرة، تتكوَّن فيها صورٌ غاية في الضخامة، "تُهوِّل" كلَّ صغير وإن هان
أمره أو خفَّ شأنه، فالأمورُ في توصيفه على الدَّوام: "مُصيبة، كارثة،
مشكلة كبيرة جدًّا"...، ولسان حاله: "يا ويلَكُم"!
كلتا الطريقتين آتتْ أُكُلها في
صُنع المشكلات، وجَنْيِ المتاعب والحسرات، والشواهد عليهما كثيرة، ليس هذا
محلَّها، وأحسب أنكِ مِن صِنْف أولئك الذين ينظرون إلى الأشياء بِمَراءٍ
مُقعَّرة، ممن يولون الأمور اهتمامًا يتجاوز ما تستحقه هذه الأمور من
اهتمام!
تأملي مثلًا ما تقولينه هنا:
"مشكلتي بوجهٍ أدقَّ هي أنني أملك مواهب رائعة؛ مثل: الإلقاء, الإنشاد,
الفصاحة, فن الخطابة, الكتابة..".
وأنا أُسائلكِ: أين المشكلة أيتها الفاضلة؟! و"بوجه أدقَّ": هل مواهبكِ الرائعة هي المشكلة؟!
ثم تقولين: "أصحبتُ أُلقَّب
بـ(الكاتبة المميزة، الداعية الواعدة) من شخصيَّات لها قدْرُها واحترامها!
بل والبعض يقول: إنني سبقتُ عمري كثيرًا، مِن خلال توجيهاتي وطريقتي
المميزة في إقناع الآخرين، والبعض يبوح لي بمشاكله، ويعتبرني (المستشارة
الشخصية) له، كل ذلك ينمِّي بداخلي شيئًا غامضًا لا أفهمه".
لاحظي كيف تنظرين إلى نجاحاتكِ؛
فهي تنمِّي فيكِ أشياء "غريبة" و"غامضة" و"مُرِيبة"، وكأني بكِ تُحَلِّلين
جريمة قتل، أو تَحُلِّين أحجية عويصة على الفهم، لا نِعَمًا مِن لَدُن
ربٍّ كريم، كان حريًّا بكِ أن تؤدِّي شكر الله عليها؛ لتزداد وتربو.
ثم الموقف الأخير الذي يختصر
مشكلتكِ حين تقولين: "حاولت مرَّة، وألقيتُ أمام الطالبات، شعرتُ أنَّ
الموضوع أتفه بكثير مِن أن أُوليه قلقي واهتمامي، ولكن شيئًا ما يصرخ
بداخلي (هذا الموقف الذي ترتعدين خوفًا منه)! شعرتُ بغصة، وتشتت كلماتي،
رغم أن البداية كانت رائعة!".
إنها المرآة المُقعَّرة مرةً ثانية! لا تزال تعمل على تضخيم الأمور، رغم يقينكِ التام بتفاهتها.
يهمُّني أن تعلَمي الفرق بين
الوقوف على المسرح، والوقوف أمام الأستاذة، فالطبيعي أن تشعري برهبة
العلوِّ، ورهبة مواجهة الجُمهور؛ فمِثْل هذه المَخاوف تحدث عادةً لِمُعظم
الناس حتَّى أكثر الواثقين من أنفسهم، والمحترفين في مجال الإلقاء
والخطابة.
قال أبو هلالٍ العسكريُّ في
"الأوائل" عن أوليَّات الخليفة المظلوم عثمان بن عفان - رضي الله عنه
وأرضاه - أنَّه: (أول من أُرْتِجَ عليه في الخطبة، فقال: "أيُّها الناس،
إنَّ أوَّلَ مركبٍ صَعْب، وإنَّ بعد اليوم أيَّامًا، وإنْ أعش تأتِكُم
الخُطبة على وجهها، وما كنَّا خُطباء، وسيعلِّمنا الله").
وفي "
الصحاح": "وأُرْتِجَ على القارئ، على ما لم يُسَمَّ فاعله، إذا لم يَقدِر على القراءة كأنَّه أُطْبِقَ عليه، كما يُرْتَجُ البابُ".
يحتلُّ الخوفُ من مواجهة
الجمهور المرتبةَ الأولى في معظم الدراسات المسحيَّة التي أُجريت في كثيرٍ
من الجامعات الأمريكية والكندية، ولكي تطمئنِّي على صحَّة ما أقول، فإليكِ
بعضَ المُخطَّطات البيانيَّة التي تمَّ نشرها من قديمٍ وحديث:
technicalpresenter.comjoyfulpublicspeaking.blogspot.com ما أُشِير إليه باللَّون الأحمر
هو "الخوف مِن مواجهة الجمهور"؛ حيث تَصدَّر قوائمَ عدَّة تشمل مجموعةً من
المخاوف، منها: الخوف من المرتفعات، والخوف من الموت، والخوف من الكلاب...
إلخ.
وخلاصة القول: إنَّ عليكِ
مراجعة محتوى تفكيركِ ونظرتكِ للأمور، فالرغبات والطموحات العالية متى ما
تحوَّلتْ إلى مطالب وُجوبيَّة استبداديَّة - كما يقول د. محمد الحجار -
فستنتهي إلى خيباتِ أمل، ومتاعب نفسيَّة مُؤلمة.
فلتتذكَّري - سُدِّدتِ - وأنتِ
ترتقينَ سُلَّمَ النجاحِ أنَّكِ بَشرٌ، عُرْضَة للخطأ والنَّقص والزَّلل:
((كلُّ ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون))؛ رواه أحمد،
والترمذي، وابن ماجه، وأحسِن بقول الحَسن حين قال: "لو أنَّ ابن آدم كلَّما
قال أصاب، وكلَّما عمل أحسن، أوشك أن يُجنَّ منَ العُجْب"!
وصدَق؛ فلتتقبَّلي طبيعتكِ
البشريَّة، وتُسلِّمي بهذه الحقيقة؛ لتتمكَّني لاحِقًا من تصحيح أخطائكِ
وعدم تكرارها، فالخطأ يقع فيه كلُّ إنسان، ووحدَهم المؤمنون هم الذين لا
ينبغي أن يقعوا في الخطأ مرَّتين؛ ((لا يُلدَغ المؤمن مِن جُحرٍ واحدٍ
مرَّتين))؛ متفق عليه.
أمَّا الشعور "بالجُرح العميق"
نتيجة الخطأ، فهو شعورُ العاجزين المتخاذلين، الذين يظنُّون "بأن الإخفاق
القادم سينهي كلَّ الآمال والطموحات!".
كوني متفائلة أيَّتها العزيزة؛
فالقادمُ أجمل - بإذن الله تعالى، وإنما تحتاجين إلى تعزيز مُرونتكِ
الفكرية، وتَقْوية إيمانكِ بالقدَر؛ كي تَقبَلي النتائج التي لا تملكين
ردَّها، فالغاية في آخر الأمر ليستْ عبورَ هذه الدُّنيا المُتشعِّبة، وبلوغ
قِمَمها العالية، ولكن مُجاوزة الصِّراط الموضوع على سواء الجحيم، وبلوغ
الفردوس الأعلى من الجنة، هذا هو النجاح الحقيقيُّ، وذلك هو الفوز الكبير؛ ﴿
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
والله - تعالى - أعلم بالصواب، لا نحيط بشيءٍ من علمه إلا بما شاء، وهو بكلِّ شيء محيط.