السؤالالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.طرحتُ
مشكلتي هذه في أكثر مِن موقع، وعشرات المرات، وعرضتُها على أكثر مِن
مستشار، ولا جديد في الإجابة، أجد نفسَ الكلام بدون حلول عملية، ولم
يتغيَّر شيءٌ! أنا
الوُسْطى بين إخوتي وأخواتي، كانتْ طفولتي صعبة جدًّا؛ فقد كانتْ أمي تقسو
عليَّ كثيرًا، وتهمِّشني، ولما تعرَّضتُ لتحرُّش وأخبرتُها؛ عنفتْني،
بدلًا مِن أن تحتويني! في سن المراهقة توفِّي والدي، واشتدَّتْ صعوبة الحياة أكثر! ورفضتْ أمي أن أكملَ تعليمي، رغم أنه كان أقل أحلامي. بعد
سنِّ العشرين تزوَّجتُ فقط لأهربَ من الواقع، وكانت التجربة فاشلة،
وانتهتْ بالطلاق، عدتُ للبيت؛ حيث معاملة الأهل الصعبة جدًّا، وأدمنتُ حبوب
"البنادول"، ثم المهدِّئات والمنوِّمات، فقط للهروب من الواقع! بعد
سنواتٍ تزوَّجتُ مرَّة أخرى، ولنفس السبب وهو الهروب، وكانت التجربة أقسى
مِن سابقتِها؛ فقد تخلَّلها عنفٌ نفسي وجسدي، وانتهتْ أيضًا بالطلاق! الآن
أنا أشعر أن بداخلي دمارًا، رغم أنني أحاول ألَّا أستسلم، وهذه أول سنة لي
في الجامعة، وقد خسرتُ جميع صديقاتي، وربما يعود السبب لفشلي المستمر،
حاولتُ أن أكوِّن صداقاتٍ جديدة، لكنها لا تستمر! الآن
رَجَعتُ إلى نقطةِ الصفر، عدتُ للمكان الذي انطلق منه الجميع ولا يوجد به
أحد، جميع مَن في مثل عمري وجدن هدفهنَّ، وجميعُهن استقرَّ بهنَّ المطافُ،
ومشين في حياتهن. أكثر
شيءٍ صعب عليَّ هو جفافُ مشاعر أمي تُجَاهي، فبرغم ما مررتُ به لم تطيِّب
خاطري، ولو لمرةٍ واحدةٍ، لم تَحضُنِّي في حياتي مرَّة، تحب مَن ظلمني
ويكرهني، وتتعمَّد أن تُظهِر لي هذا! وعلى
العكس أحاول أن أبرَّها، وأكونَ عند حُسن ظنِّها وأرضيها، مع أنها تفضِّلُ
إخوتي، حتى لو لم يبذلوا جهدًا لها، أما أنا بالنسبة لها فنكرةٌ، وهذا
الأمرُ منذ الصغر! ذات مرة هانتْ عليَّ الحياة، فلا صديقات لديَّ ولا أخوات، وحتى أمي لم أسمعْ منها كلمةً ترفع معنوياتي بها. فكَّرتُ
في الهرب للخارج، وكلَّمتُ أشخاصًا لهم معرفة بهذه الأمور، لكني تراجعتُ
عن ذلك؛ خوفًا فقط على سُمعة أهلي، فماذا سيقول الناسُ إنْ حصل ذلك؟! وأنا
أعلم أنني حتى لو متُّ فلن يهتمَّ أحدٌ بي! طوال
هذه السنين أظهر كلُّ الأشخاص الذين تعاملوا معي - من أهلي، وغيرهم -
الكراهيةَ لي بشكلٍ كبير، ولم يردعْهم حتى احترام مشاعر الآخرين! وكأنه
مكتوب على جبيني: اكرهوها! وجدتُ
الكراهية من أناسٍ يُفتَرض بهم أن يشملوني بالحبِّ والحنان، فلو أن أمي
أحبَّتْني فقط؛ لكان هذا يَكفِيني، لكنَّ أمي تُعاملني وكأني ضرَّتُها. كثيرٌ من المستشَارين نصحوني بأن آخذَ جلسات علاجية نفسية؛ فهل هذه ضريبتي، لكوني فقدتُ الكثير؟! اعتقدتُ
أنني أستحقُّ أن يُفخَر بي على الأقل؛ لكوني ما زلتُ صامدةً، ورغم كل شيء
لم أنجرفْ لتيار العَلاقات المحرَّمة، وحافظتُ على ديني، لكني مِن الداخل
منكَسِرة، وأُعاني مِن خوفِ فقدانِ أي أحد! أتمنَّى أن أموتَ ولا أرى أحدًا آخر يموتُ، ولكنني حينما أتكلَّم معهم أشعر أني أتكلَّم مع أشخاصٍ ميتين! شيء لا يمكن إيقافُه. فما الحل؟ أعينوني. الجواببسم الله الموفِّق للصواب
وهو المستعان
أيتها العزيزة، إنَّ الله لا يبتلي المؤمنين في الدنيا ليفتنَهم أو يضلَّهم أو يعذبَهم،
ولكن يُريد بهذه الابتلاءات والشدائد أن يختبرَهم، ويعلمَ حقيقة إيمانهم،
وصِدْقَ تعلُّق قلوبهم به ورضاهم عنه - جل وعزَّ - وموقف المؤمن عجيبٌ كما
يقول معلِّمنا الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أصابتْه سرَّاء
شكر فكانتْ خيرًا له، وإن أصابتْه ضرَّاء صبر فكانت خيرًا له))؛ رواه مسلم،
فانظري في موقفِكِ أنت مِن هذه الأقدار الأليمة: هل تلقَّيْتِها بالصبر
الجميل، والرضا بالقضاء والقدر، أو بالسخط والتشكي وسوء الظن بالله - تعالى
وتقدَّس؟!
ستقولين: "
الحمد لله، صبرتُ ورضيتُ"!
ولكن الصبر الجميل المقرون بالرضا لا يُفضِي ألبتةَ إلى ضِيق الصدر،
والاضطراب النفسي، وهذا التبرُّم المتجلِّي في سُطوركِ؛ هذه بعضُ آثار
السخط لا الرضا! وإنما يُثمِر الصبر الجميل انشراحًا في الصدر، وفرحًا في
القلب، واطمئنانًا في النفس إلى أن هذه الحال خير مما هو شر منها!
زواجُكِ مرتين هربًا مِن بيت
أسرتكِ هو المثالُ الذي يُمكِن أن أضربَه لشرح كلمة ابن القيم في كتابه
القيِّم "الفوائد"؛ حيث قال: "مِن الآفات الخفيَّة العامَّة؛ أن يكونَ
العبد في نعمةٍ أنعم الله بها عليه، واختارها له، فيملها العبد، ويطلب
الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها، وربه برحمته لا يُخرِجه
من تلك النعمة، وبعذرِه بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذرعًا بتلك
النِّعمة وسخِطَها، وتبرَّم بها، واستحكم ملكه لها؛ سلبه الله إياها، فإذا
انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوتَ بين ما كان فيه وما صار إليه؛ اشتدَّ
قلقُه وندمُه، وطلب العودة إلى ما كان فيه، فإذا أراد الله بعبده خيرًا
ورشدًا أشهدَه أنَّ ما هو فيه نعمةٌ مِن نعمِه عليه، ورضاه به، وأوزعه شكره
عليه، فإذا حدَّثتْه نفسُه بالانتقال عنه؛ استخار ربَّه استخارة جاهل
بمصلحته، عاجز عنها، مفوِّض إلى الله، طالب منه حسن اختياره له، وليس على
العبد أضر مِن مللِه لنعم الله؛ فإنه لا يراها نعمةً، ولا يشكره عليها، ولا
يفرح بها، بل يسخطها، ويشكوها، ويعدها مصيبة! هذا وهي من أعظم نعمِ الله
عليه، فأكثر الناس أعداءُ نعمِ الله عليهم، ولا يشعرون بفتْح الله عليهم
نعمه، وهم مجتهدون في دفْعِها وردِّها جهلًا وظلمًا، فكم سعتْ إلى أحدهم
مِن نعمةٍ، وهو ساعٍ في ردِّها بجهده! وكم وصلتْ إليه وهو ساعٍ في دفعها
وزوالها بظلمه وجهله! قال تعالى: ﴿
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال: 53]، وقال تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]؛ فليس للنعم أعدى مِن نفس العبد؛ فهو مع عدوِّه ظهير على
نفسه، فعدوه يطرح النار في نعمِه وهو ينفخ فيها، فهو الذي مكَّنه مِن طرح
النار، ثم أعانه بالنَّفْخ، فإذا اشتد ضرامها استغاث مِن الحريق، وكان
غايته مُعاتبة الأقدار".
ولذلك أرى أنكِ بحاجة إلى جلسةٍ
ذاتية لمراجعةِ أخطائكِ السابقة؛ "أخطاء الزواج واختيار الأزواج، أخطاء
التفكير، أخطاء المعاملة مع والدتكِ وصديقاتكِ والناس من حولكِ... إلخ"
أكثر من حاجتكِ إلى جلسات علاجية، فساعدي نفسكِ بنفسكِ على النظر إلى تلك
الظروف التي مررتِ بها، من خلال الزاوية الصحيحة التي تريكِ الخير في الشر؛
﴿
لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11]؛ فالمشكلةُ ليستْ في الظروف والأقدار؛ لأنها من عند الله
وحدَه، وليس بأيدينا أن نختار منها ما يوافق هوانا ويلائم طبائعنا، ولكن
المشكلة في موقفكِ من هذه الأقدار، وطريقة تعاطيكِ لها، وما تفعلينه أنتِ
يعكس ضعْفَ إيمانكِ، وعدم نُضجكِ؛ فأنتِ لا تقيمين موقفكِ من هذه الأقدار (
الرضا والسخط)، بل تقيمين مواقف الناس - "
أزواجكِ، ووالدتكِ، وصديقاتكِ"
- تُجَاه ما حدث لكِ في الماضي والحاضر، مع أن الذي كتب عليكِ ما كتب هو
الله وحده! ووحدكِ مَن سيحاسَب يوم القيامة على موقفِ الرضا أو السخط؛ فهذا
الاختبار موجَّه لكِ وحدكِ، مثلما كتب على كل إنسان اختباره الخاص به.
كراهيةُ الناس لبعض الناس قد تكونُ علامةً خطيرةً على بُغض الله تعالى للعبد؛ فالله إذا أحبَّ عبدًا وضَع له القبول في الأرض، ففي "
جامع الترمذي"،
عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أحبَّ الله
عبدًا نادى جبريل: إني قد أحببتُ فلانًا فأحبه، قال: فيُنَادِي في السماء،
ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قول الله: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96]، وإذا أبغض الله عبدًا، نادى جبريل: إني أبغضت فلانًا،
فيُنَادِي في السماء، ثم تنزل له البغضاء في الأرض))، قال أبو عيسى: "هذا
حديثٌ حسنٌ صحيح".
أو قد تكون هذه البغضاء مجرَّد
إسقاطات نفسية؛ أي: إن هذه المشاعر السلبية هي مشاعركِ أنتِ تُجَاه الناس،
وليستْ حقيقة ما يضمره الناس لكِ؛ لذلك أرجو منكِ أن تتصالحي مع نفسكِ؛ حتى
تتمكَّني من مصالحة الآخرين، وأن ترضي عن ربكِ - عز وجل - وتصلحي عَلاقتكِ
به؛ حتى يضع لكِ القَبُول في الأرض؛ فقلوبُ العباد ليستْ في أيديهم، بل
بين إصبعينِ من أصابع الرحمن كقلبٍ واحدٍ يقلِّبها كيف يشاء.
آخر ما أنصحكِ به: أن تتوقَّفي عن التنقل من موقع إلى آخر بحثًا عن السعادة؛ فالسعادةُ ليستْ
في أيدي المستشَارين، بل هي قرارٌ داخلي، يوجه سفينتكِ من داخل قلبكِ
لتبحرَ في الدنيا، وهي محمَّلَة بالرضا عن كلِّ مكتوب، سعادتكِ ليستْ عندي،
بل هي مخبوءَة في داخلكِ، فأيقظيها لترى النور في دراسة الجامعة، فتذكركِ
بشكر هذه النعمة، عوضًا عن التبرُّم من تخرج زميلاتكِ قبلكِ! وترى البركات
في وجود أمكِ في حياتكِ، في الوقت الذي تعيش فيه بُنَيَّات بدون أمهات،
عوضًا عن التشكِّي منها في كل موقع تزورينه! فإن لم تجدي في قلبكِ حبًّا
وتسامحًا ومقدرةً على برِّ والدتكِ، فارسمي في ذهنكِ صورتها ميتة ومكفَّنة!
فلعل صورتها ميتةً تُمِيت لكِ هذه الشكاية البغيضة! وادعي الله تعالى أن
يرزقكِ برَّها؛ فأنتِ حتى اليوم لم تتذوَّقي حلاوة البر! فالبرُّ فعلٌ وليس
ردَّة فعل!
وآخر ما أذكِّركِ به، أن حياتَنا الدنيا برمَّتها قاعة اختبار، ومدة هذا الاختبار عُمر كل
إنسان، وكلما طال عمره طالتْ مدة اختباره، وأما النتائجُ فموعدها الحشر
والحساب، ﴿
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ
نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].
ومَن وضع الاختبار - وهو الله سبحانه وتعالى - وحدَه المسؤول عن الجزاء، وحسن الثواب؛ ﴿
وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، ﴿
وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: 77].
والله
- سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.