يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ في محكم كتابه:
( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مّنَ
السّمَاءِ فَظَلّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ . لَقَالُواْ إِنّمَا سُكّرَتْ
أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مّسْحُورُونَ ) (سورة الحجر: الآيتان 15,14).
وهاتان الآيتان وردتا في سياق الحديث عن عناد ومكابرة كفار قريش لخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم.
وتكذيبهم ببعثته, وتشكيكهم في الوحي الذي أنزل إليه من ربه, واتهامهم
له بالجنون, وهم أعرف الناس بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أرجح الناس
عقلا, وأعظمهم خلقا, وأشرفهم نسبا, ولذلك نزلت الآيات في مطلع سورة الحجر
لتشيد بالقرآن الكريم, ولتهدد هؤلاء الجاحدين بمشهد يوم عظيم يعاينون فيه
أهوال الآخرة فيتمنون لو كانوا في الدنيا قد أسلموا لرب العالمين, وآمنوا
ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين وبآيات هذا الكتاب المبين, وبيوم البعث الذي
كانوا به ينذرون, وِلُيـَهـَّون على هذا النبي الخاتم - صلى الله عليه
وسلم - صلف هؤلاء المتكبرين فتطلب منه أن يدعهم في غيهم يأكلون ويتمتعون,
ويشغلهم الأمل بطول الأجل عن التفكير فيما سوف يلقونه من عذاب مهين في
الدنيا قبل الآخرة, وذلك جزاء كفرهم وعنادهم وكبرهم.
وهذا التهديد والوعيد من الله تعالى لهؤلاء المجرمين, يتبعه تذكير
بمصائر غيرهم من الأمم السابقة عليهم, وبأن الله تعالى لم يهلك أيا من تلك
القرى الظالمة التي كذبت بآياته ورسله إلا وجعل لهلاكها أجلا محددا.
وتذكر الآيات تحديات كفار قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
واستهزائهم به وتنكرهم لشرف بعثته حتى طلبوا منه أن يأتيهم بالملائكة
ليشهدوا له بصدق نبوته, فيرد الحق - تبارك وتعالى - عليهم بأن الملائكة لا
تنزل إلا بالحق, وأن من هذا الحق أن يُدمَّر المكذبون بآيات الله ورسله بعد
أن جاءتهم نذر ربهم.
ثم تؤكد تلك الآيات الكريمات على أن الله تعالى هو الذي أنزل القرآن
العظيم, وأنه تعالى قد تعهد بحفظه فحفظ, فلا يمكن لمحاولة تخويف أن تطوله,
ولا لمؤامرة تبديل أن تصيبه, مهما حاول المجرمون, وتضافر المتآمرون.
وهذا الحفظ الرباني لآخر الكتب السماوية وأتمها وأكملها, في الوقت
الذي تعرضت فيه كل صور الوحي السابقة للضياع التام, أو للتحريف والتبديل
والتغيير ـ لهو من أعظم المعجزات المبهرة لهذا الكتاب الخالد, وعلى الرغم
من ذلك كله فقد كذب به هؤلاء المعاندون. ومن قبيل تهوين الأمر على خاتم
الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ تذكره الآيات أنه لم يكن
منفردًا بجحود قومه, وتكذيبهم, ومكابرتهم, وعنادهم, واستهزائهم, بل سبقه من
الأنبياء والمرسلين من تعرضوا لذلك وأشد منه, فاستحقت أقوامهم المكذبة
عقاب الله في الدنيا قبل الآخرة.
ومن الغريب أن الجاحدين من الخلق, الذين كفروا بالله, وبملائكته
وبكتبه ورسله, في كل زمان ومكان, لم يكن لينقصهم الدليل المنطقي على صدق
وحي السماء, وما فيه من آيات بينات, ولكنه الصلف والعناد والمكابرة في
مواجهة كل حجة أتتهم, وكل بينة جاءتهم, تماما بتمام كما كان موقف كفار قريش
من خاتم الأنبياء والمرسلين, ومما أنزل إليه من قرآن كريم, فتصور لنا
الآيات في مطلع سورة الحجر نموذجا صارخا لمكابرة أهل الباطل وعنادهم في
مواجهة الحق وذلك بقول ربنا ـ تبارك وتعالى: ( وَلَوْ
فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مّنَ السّمَاءِ فَظَلّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ
. لَقَالُواْ إِنّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ
مّسْحُورُونَ ) (الحجر 15،14).
بمعنى أنه حتى لو فتح الله – تعالى- على هؤلاء المكابرين بابا من
السماء, وأعانهم على الاستمرار بالعروج فيه بأجسادهم وكامل حواسهم حتى
يطلعوا على بديع صنع الله في ملكوته, وعلى عظيم قدرته في إبداع خلقه, وعلى
اتساع سلطانه وملكه, وعلى حشود الخاضعين له بالعبادة والطاعة والتسبيح في
خشية وإشفاق بالغين, لشكوا في تلك الرؤية المباشرة, وكذبوا أبصارهم وعقولهم
وكافة حواسهم, ولاتهموا أنفسهم بالعجز التام عن الرؤية تارة, وبالوقوع تحت
تأثير السحر تارة أخرى, وذلك في محاولة لإنكار الحق من فرط مكابرتهم
وصلفهم وعنادهم.!!
وعلى الرغم من كون «لو» حرف امتناع لامتناع, وكون هاتين الآيتين
الكريمتين قد وردتا في مقام التمثيل والتصوير لحال المكابرين من الكفار
وعنادهم وصلفهم, إلا أن صياغتها قد جاءت ـ كما تجيء كل آيات القرآن الكريم ـ
على قدر مذهل من الدقة والشمول والكمال, يشهد بأن القرآن كلام الله الخالق
الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته, وأن خاتم الأنبياء والمرسلين
سيدنا محمـد بن عبــد الله - صلوات الله وسلامه عليه - كان موصولا بالوحي,
مُعَلَّما من قبل خالق السماوات والأرض - سبحانه وتعالى.
وأحاول في هذا المقال عرض عدد مما استطعت إدراكه من ملامح الإعجاز العلمي في هاتين الآيتين الكريمتين على النحو التالي:
(1) اللمحة الإعجازية الأولى:
وقد وردت في قول الحق ـ تبارك وتعالى: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مّنَ السّمَاءِ
} مما يؤكد على أن السماء ليست فراغا كما كان يعتقد الناس إلى عهد قريب,
حتى ثبت لنا أنها بنيان محكم يتعذر دخوله إلا عن طريق أبواب تفتح للداخل
فيه.
والسماء لغة : هي كل ما علاك فأظلك, واصطلاحا هي ذلك العالم العلوي
الذي نراه فوق رؤوسنا بكل ما فيه من أجرام, وعلميا : هي كل ما يحيط بالأرض
بدءًا من غلافها الغازي, وانتهاءً بحدود الكون المدرك, والذي أدرك العلماء
منه مساحة يبلغ قطرها 36 ألف مليون سنة ضوئية (أي حوالي 342×10 21
كيلومتر), وأحصوا فيه أكثر من مائة ألف مليون مجرة من أمثال مجرتنا
المعروفة باسم سكة التبانة أو (درب التبانه) والتي أحصى العلماء فيها حوالي
400 ألف مليون نجم كشمسنا, والكون فوق ذلك دائم الاتساع إلى نهاية لا
يعلمها إلا الله ـ سبحانه وتعالى.
وقد علمنا مؤخرا أن السماء مليئة بمختلف صور المادة والطاقة التي
انتشرت بعد انفجار الجرم الكوني الأول ـ والذي كان يضم كل مادة الكون,
ومختلف صور الطاقة المنبثة في أرجائه اليوم ـ وذلك عند تحوله من مرحلة
الرتق إلى مرحلة الفتق ـ كما يصفها القرآن الكريم ـ ويقدر علماء الكون أن
ذلك قد حدث منذ حوالي العشرة بلايين من السنين.
تغطي الظلمة كل أجزاء السماء وتكسوها من كل جانب
يخلو القمر من الهواء ولذا تظهر الأرض من سطحه سابحة في الظلام
وعند انفجار ذلك الجرم الكوني الأول تحولت مادته وطاقاته المخزونة إلى
غلالة هائلة من الدخان ملأت فسحة الكون, ثم أخذت في التبرد والتكثف
بالتدريج حتى وصلت إلى حالة من التوازن الحراري بين جسيمات المادة وفوتونات
الطاقة, وهنا تشكلت بعض نوى الإيدروجين المزدوج (الديوتريوم), وتبع ذلك
تخلق النوى الذرية لأخف عنصرين معروفين لنا وهما الإيدروجين والهيليوم, ثم
تخلق نسب ضئيلة من العناصر الأثقل وزنا.
وبواسطة دوامات الطاقة التي انتشرت في غلالة الدخان التي ملأت أرجاء
الكون تشكلت السدم (Nebulae) وهي أجسام غازية في غالبيتها, تتناثر بين
غازاتها بعض الهباءات الصلبة, وتدور المادة فيها في دوامات شديدة تساعد على
المزيد من تكثفها في سلسلة من العمليات المنضبطة حتى تصل إلى مرحلة
الاندماج النووي التي تكوِّن النجوم بمختلف أحجامها, وهيئاتها, ودرجات
حرارتها, وكثافة المادة فيها, ومنها النجوم المفردة والمزدوجة, والمستعرات
الشديدة الحرارة والنجوم البيضاء القزمة, ومنها النجوم النيوثرونية
(النابضات Pulsars) (التي تصل كثافة المادة فيها إلى خمسين بليون طن
للسنتيمتر المكعب), وأشباه النجوم (التي تقل كثافة المادة فيها عنها في
شمسنا), ومنها الثقوب السود (التي تصل كثافة المادة فيها إلى مائتي بليون
طن للسنتيمتر المكعب), والثقوب الدافئة, مما يشكل المجرات والتجمعات
المجرية, وغيرها من نظم الكون المبهرة.
ومن أشلاء النجوم تكونت الكواكب والكويكبات, والأقمار والمذنبات,
والشهب والنيازك, والإشعاعات الكونية التي تملأ فسحة الكون بأشكالها
المتعددة, وغير ذلك مما لا نعلم من أسرار هذا الوجود الذي نحيا في جزء ضئيل
منه.
وقبل سنوات قليلة لم يكن أحد من الناس يعلم أن السماء على اتساعها
ليست فراغًا, ولكنها مليئة بالمادة على هيئة رقيقة للغاية, تشكلها غازات
مخلخلة يغلب على تركيبها غازي الإيدروجين والهيليوم, مع نسب ضئيلة جدا من
الأوكسيجين, والنيتروجين, والنيون, وبخار الماء, وهباءات نادرة من المواد
الصلبة مع انتشار هائل للأشعة الكونية بمختلف صورها في مختلف جنبات الكون.
ولقد كان السبب الرئيسي لتصور أن فضاء الكون فراغ تام هو التناقص
التدريجي لضغط الغلاف الغازي للأرض مع الارتفاع عن سطحها حتى لا يكاد يدرك
بعد ارتفاع ألف كيلومتر فوق سطح البحر, ومن أسباب زيادة كثافة الغلاف
الغازي للأرض بالقرب من سطحها ـ انطلاق كميات هائلة من بخار الماء وغازات
عديدة أغلبها أكاسيد الكربون والنيتروجين من جوفها أثناء تبرد قشرتها, وعبر
فوهات البراكين التي نشطت ولا تزال تنشط على سطحها, وقد اختلطت تلك
الغازات الأرضية بالغلالة الغازية الكونية, وساعدت جاذبية الأرض على
الاحتفاظ بالغلاف الغازي للأرض بكثافته التي تتناقص باستمرار بالبعد عنها
حتى تتساوى مع كثافة الغلالة الغازية الأولية التي تملأ أرجاء الكون وتندمج
فيها.
وعلى ذلك فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن السماء بناء محكم, تملؤه
المادة والطاقة, ولا يمكن اختراقه إلا عن طريق أبواب تفتح فيه, وهو ما أكده
القرآن الكريم قبل ألف وأربعمائة سنة في أكثر من آية صريحة, ومنها الآية
الكريمة التي نحن بصددها { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مّنَ السّمَاءِ}
وهي شهادة صدق على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, الذي أبدع هذا
الكون بعلمه وحكمته وقدرته, وأنزل القرآن الكريم بعلمه الحق.
(2) اللمحة الإعجازية الثانية:
وتتضح من وصف الحركة في السماء بالعروج: { فَظَلّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ},
والعروج لغة هو سير الجسم في خط منعطف مُنْحَنٍ, فقد ثبت علميا أن حركة
الأجسام في الكون لا يمكن أن تكون في خطوط مستقيمة, بل لابد لها من
الانحناء نظرا لانتشار المادة والطاقة في كل الكون, وتأثير كل من جاذبية
المادة (بأشكالها المختلفة والمجالات المغناطيسية للطاقة بتعدد صورها) على
حركة الأجرام في الكون, فأي جسم مادي مهما عظمت كتلته أو تضاءلت لا يمكنه
التحرك في الكون إلا في خطوط منحنية وحتى الأشعة الكونية على تناهي دقائقها
في الصغر (وهي تتكون من المكونات الأولية للمادة مثل البروتونات
والنترونات والإلكترونات فإنها إذا عبرت خطوط أي مجال مغناطيسي فإن انتشار
كل من المادة والطاقة في الكون عبر عملية «الفتق» وما صاحبها من انفجار
عظيم كانت من أسباب تكوره, وكذلك كان لانتشار قوى الجاذبية في أرجاء الكون
من أسباب تكور كل أجرامه, وكان التوازن الدقيق بين كل من قوى الجاذبية
والقوى الدافعة الناتجة عن عملية «الفتق» هو الذي حدد المدارات التي تتحرك
فيها كل أجرام السماء, والسرعات التي تجري بها في تلك المدارات والتي يدور
بها كل منهما حول محوره.
حلقة النهار الرقيقة وسط الظلام الدامس
تشبه لرقتها جلد الزبيحة بالنسبة لبدن السماء المظلم
الكون من مرحلة الرتق إلى مرحلة الفتق
فعند انفجار الجرم الكوني الأول (The Primardial Body) انطلق كل ما
كان به من مخزون المادة والطاقة بالقوة الدافعة الناتجة عن ذلك الانفجار
العظيم (عملية الفتق) والتي أكسبت كل صور المادة والطاقة المنطلقة إلى فسحة
الكون طاقة حركة هائلة, وجعلتها بذلك واقعة تحت تأثير قوتين متعارضتين هما
قوة التجاذب الرابطة بينها, والقوة الطاردة الناتجة عن ذلك الانفجار
الكوني, والتوازن الدقيق بين هاتين القوتين المتعارضتين هو الذي يحفظ أجرام
السماء في مداراتها, ويجعلها تتحرك فيها حركة دائرية بخطوط منحنية
باستمرار, كما جعلها تدور حول محاورها بسرعات محددة.
ودوران الأجرام السماوية حول محاورها وفي مداراتها يخضع لقانون يعرف
باسم «قانون بقاء التحرك الزاوي» أو «قانون العروج» «The low of
Conservation of angular Momentum» وينص هذا القانون على أن كمية التحرك
الزاوي لأي جرم سماوي تقدر على أساس نسبة سرعة دورانه حول محوره إلى نصف
قطره على محور الدوران, وتبقى كمية التحرك الزاوي تلك محفوظة في حالة
انعدام مؤثرات أخرى, ولكن إذا تعرض الجرم السماوي إلى مؤثرات خارجية أو
داخلية فإنه سرعان ما يكيف حركته الزاوية في ضوء التغيرات الطارئة. فعلى
سبيل المثال تزداد سرعة التحرك الزاوي للجرم كلما انكمش حجمه, وكما سبق وأن
ذكرنا فإن جميع الأجرام الأولية قد تكثفت مادتها على مراحل متتالية من
غلالة الدخان الكوني التي نتجت عن انفجار الجرم الابتدائي الذي حوى كل مادة
وطاقة الكون, تاركة كميات هائلة من الغازات والغبار والإشعاعات الكونية,
وعلى ذلك فقد كانت الكواكب الابتدائية ـ على سبيل المثال ـ أكبر حجما بمئات
المرات من الكواكب الحالية, وكانت أرضنا الابتدائية مائتي ضعف حجم الأرض
الحالية (على الأقل), وهذه الكواكب الابتدائية أخذت في التكثف على مراحل
متتالية حتى وصلت إلى صورتها الحالية.
وبمثل عملية نشأة الكون تماما وبالقوانين التي تحكم دوران أجرامه حول
محاورها, وفي مدارات لكل منها حول جرم أكبر منه تتم عملية إطلاق الأقمار
الصناعية ومراكب الفضاء من الأرض إلى مدارات محددة حولها, أو حول أي من
أجرام مجموعتنا الشمسية, أو حتى إلى خارج حدود المجموعة الشمسية, وذلك
بواسطة قوى دافعة كبيرة تعينها على الإفلات من جاذبية الأرض, من مثل صواريخ
دافعة تتزايد سرعتها بالجسم المراد دفعه إلى قدر معين من السرعة, ولما
كانت الجاذبية الأرضية تتناقص بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض, فإن سرعة
الجسم المدفوع إلى الفضاء تتغير بتغير ارتفاعه فوق سطح ذلك الكوكب, وبضبط
العلاقة بين قوة جذب الأرض للجسم المنطلق منها إلى الفضاء والقوة الدافعة
لذلك الجسم (أي سرعته) يمكن ضبط المستوى الذي يدور فيه الجسم حول الأرض, أو
حول غيرها من أجرام المجموعة الشمسية أو حتى حالة إرساله إلى خارج
المجموعة الشمسية تمامًا, ليدخل في أسر جرم أكبر يدور في فلكه.
وأقل سرعة يمكن التغلب بها على الجاذبية الأرضية في إطلاق جرم من فوق
سطحها إلى فسحة الكون تسمى باسم «سرعة الإفلات من الجاذبية الأرضية», وحركة
أي جسم مندفع من الأرض إلى السماء لابد وأن تكون في خطوط منحنية وذلك
تأثرا بكل من الجاذبية الأرضية, والقوة الدافعة له إلى السماء, وكلاهما
يعتمد على كتلة الجسم المتحرك, وعندما تتكافأ هاتان القوتان المتعارضتان
يبدأ الجسم في الدوران في مدار حول الأرض مدفوعا بسرعة أفقية تعرف باسم
سرعة التحرك الزاوي أو «سرعة العروج» (Angular Momentuim), والقوة الطاردة
اللازمة لوضع جرم ما في مدار حول الأرض تساوي كتلة ذلك الجرم مضروبة في
مربع سرعته الأفقية (المماسة للمدار) مقسومة على نصف قطر المدار (المساوي
للمسافة بين مركزي الأرض والجرم الذي يدور حوله), ولولا المعرفة الحقيقية
لعروج الأجسام في السماء لما تمكن الإنسان من إطلاق الأقمار الصناعية, ولما
استطاع ريادة الفضاء حيث أصبح من الثابت أن كل جرم متحرك في السماء مهما
كانت كتلته ـ محكوم بكل من القوى الدافعة له وبالجاذبية مما يضطره إلى
التحرك في خط منحن يمثل محصلة كل من قوى الجذب والطرد المؤثرة فيه, وهذا ما
يصفه القرآن الكريم بالعروج, وهو وصف التزم به هذا الكتاب الخالد في وصفه
لحركة الأجسام في السماء في خمس آيات متفرقات وذلك قبل ألف وأربعمائة سنة
من اكتشاف الإنسان لتلك الحقيقة الكونية المبهرة.
(3) اللمحة الإعجازية الثالثة:
وقد وردت في قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: { لَقَالُواْ إِنّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مّسْحُورُونَ } ومعنى { سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا}
أُغْلِقَتْ عيوننا وسدت, أو غشيت وغُطِّيَتْ لتمنع من الإبصار, وحينئذ لا
يرى الإنسان إلا الظلام, ويعجب الإنسان لهذا التشبيه القرآني المعجز الذي
يمثل حقيقة كونية لم يعرفها الإنسان إلا بعد نجاحه في ريادة الفضاء منذ
مطلع الستينيات من هذا القرن حين فوجئ بحقيقة أن الكون يغشاه الظلام الدامس
في غالبية أجزائه, وأن حزام النهار في نصف الكرة الأرضية المواجه للمشمس
لا يتعدى سمكه مائتي كيلومتر فوق مستوى سطح البحر, وإذ ارتفع الإنسان فوق
ذلك فإنه يرى الشمس قرصا أصفر في صفحة سوداء حالكة السواد, لا يقطع حلوكة
سوادها إلا بعض البقع الباهتة الزرقة في مواقع النجوم.
وإذا كان الجزء الذي يتجلى فيه النهار على الأرض محدودا في طوله وعرضه
بنصف مساحة الكرة الأرضية, وفي سمكه بمائتي كيلومتر, وكان في حركة دائمة
مرتبطة بدوران الأرض حول محورها أمام الشمس, وكانت المسافة بين الأرض
والشمس في حدود المائة وخمسين مليون كيلومتر, وكان نصف قطر الجزء المدرك من
الكون يقدر بثمانية عشر بليون سنة ضوئية(أي ما يســاوي 171×10 21
كيلومتر), اتضحت لنا ضآلة سمك الطبقة التي يعمها ضوء النهار, وعدم
استقرارها لانتقالها باستمرار من نقطة إلى أخرى على سطح الأرض مع دوران
الأرض حول محورها, واتضح لنا أن تلك الطبقة الرقيقة تحجب عنا ظلام الكون,
خارج حدود أرضنا ونحن في وضح النهار, فإذا جن الليل انسلخ منه النهار,
واتصلت ظلمة الكون, وتحركت تلك الطبقة الرقيقة من الضوء الأبيض لتفصل نصف
الأرض المقابل عن تلك الظلمة الشاملة التي تعم الكون كله.
وتجلى النهار على الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض (بسمك مائتي
كيلومتر فوق سطح البحر) بهذا اللون الأبيض المبهج الذي هو نعمة كبرى من نعم
الله على العباد, وتفسر بأن الهواء في هذا الجزء من الغلاف الغازي للأرض
له كثافة عالية نسبيا, وأن كثافته تتناقص بالارتفاع حتى لا تكاد تدرك, وأنه
مشبع ببخار الماء وبهباءات الغبار التي تثيرها الرياح من فوق سطح الأرض
فتعلق بالهواء, وتقوم كل من جزيئات الهواء الكثيف نسبيا, وجزيئات بخار
الماء, والجسيمات الدقيقة من الغبار بالعديد من عمليات تشتيت ضوء الشمس
وعكسه حتى يظهر باللون الأبيض الذي يميز النهار كظاهرة نورانية مقصورة على
النطاق الأسفل من الغلاف الغازي للأرض في نصفها المواجه للشمس.
وبعد تجاوز المائتي كيلومتر فوق سطح البحر يبدأ الهواء في التخلخل
لتضاؤل تركيزه, وقلة كثافته باستمرار مع الارتفاع, ولندرة كل من بخار الماء
وجسيمات الغبار فيه لأن نسبها تتضاءل بالارتفاع حتى تكاد أن تتلاشى, ولذلك
تبدو الشمس وغيرها من نجوم السماء بقعا زرقاء باهتة في بحر غامر من ظلمة
الكون لأن أضواءها لا تكاد تجد ما يشتته أو يعكسه في فسحة الكون.
فسبحان الذي أخبرنا بهذه الحقيقة الكونية قبل اكتشاف الإنسان لها بألف
وأربعمائة سنة, فشبه الذي يعرج في السماء بمن سكر بصره فلم يعد يرى غير
ظلام الكون الشامل, أو بمن اعتراه شيء من السحر فلم يعد يدرك شيئًا مما
حواليه, وكلا التشبيهين تعبير دقيق عما أصاب رواد الفضاء الأوائل حين عبروا
نطاق النهار إلى ظلمة الكون فنطقوا بما يكاد أن يكون تعبير الآية القرآنية
ـ دون علم بها:
{ إِنّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مّسْحُورُونَ }.
(4) اللمحة الإعجازية الرابعة:
وتتضح في قوله تعالى: { فَظَلّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ }.
فالتعبير اللغوي {ظلوا} يشير إلى عموم الإظلام وشموله وديمومته بعد
تجاوز طبقة النهار لى نهاية الكون, بمعنى أن الإنسان إذا عرج إلى السماء في
وضح النهار فإنه يفاجأ بظلمة الكون الشاملة تحيط به من كل جانب مما يفقده
النطق أحيانا أو يجعله يهذي بما لا يعلم أحيانا أخرى من هول المفاجأة.
ومن الأمور التي تؤكد على ظُلْمة الكون الشاملة أن باطن الشمس مظلم
تماما على الرغم من أن درجات الحرارة فيه تصل إلى عشرين مليون درجة مئوية
وذلك لأنه لا ينتج فيه سوى الإشعاعات غير المرئية من قبل أشعة جاما,
والإشعاعات فوق البنفسجية والسينية.
تظهر النسبية العامة بأن الضوء يجب أن ينحى تحت تأثير حقول
الجاذبية، والشكل يوضح كيف أن كتلة الشمس (A) تشوه النسيج الزماني-المكاني
"الزمكاني" القريب منها مما يجعل الضوء الصادر من نجم بعيد (B) ينعطف حين
مروره بالقرب من الشمس هذا الأمر يؤدي إلى أن المراقب من الأرض (C) يتوهم
أن موقع النجم هو (D) بدلا من (B).
أما ضوء الشمس الذي نراه من فوق سطح الأرض فلا يصدر إلا عن نطاقها
الخارجي فقط والذي يعرف باسم «النطاق المضيء» (Photosphere), ولا يرى بهذا
الوهج إلا في الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض, وفي نصف الكرة الأرضية
المواجه للشمس.
(5) اللمحة الإعجازية الخامسة:
وتتضح في إشارة الآيتين الكريمتين إلى الرقة الشديدة لغلالة النهار وذلك في قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ {ولو فتحنا … لقالوا …}
بمعنى أن القول بتسليم العيون وظلمة الكون الشاملة تتم بمجرد العروج لفترة
قصيرة في السماء, ثم تظل تلك الظلمة إلى نهاية الكون, وقد أثبت العلم
الحديث ذلك بدقة شديدة, فإذا نسبنا سمك طبقة النهار إلى مجرد المسافة بين
الأرض والشمس لاتضح لنا أنها تساوي
200 كيلومتر/ 150000000 كيلومتر= 1/75000 تقريباً.
فإذا نسبناها إلى نصف قطر الجزء المدرك من الكون اتضح أنها لا تساوي
شيئًا البتة, وهنا تتضح روعة التشبيه القرآني في مقام آخر يقول فيه الحق ـ
تباك وتعالي: {وَآيَةٌ لّهُمُ الْلّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النّهَارَ فَإِذَا هُم مّظْلِمُونَ}"يس: 37"
حيث شبه انحسار طبقة النهار البالغة الرقة من ظلمة كل من ليل الأرض
وليل السماء بسلخ جلد الذبيحة الرقيق عن كامل بدنها, مما يؤكد على أن
الظلام هو الأصل في الكون. وأن النهار ليس إلا ظاهرة نورانية عارضة رقيقة
جدًّا.. لا تظهر إلا في الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض, وفي نصفها
المواجه للشمس في دورة الأرض حول نفسها أمام ذلك النجم, وبتلك الدورة ينسلخ
النهار تدريجيا من ظلمة كل من ليل الأرض وحلكة السماء كما ينسلخ جلد
الذبيحة عن جسدها.
وفي تأكيد ظلمة السماء يقرر القرآن الكريم في مقام آخر قول الحق ـ تبارك وتعالى:
{أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَآءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} «النازعات: 27 ـ 29». ( والضمير في {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا}
عائد على السماء, بمعنى أن الله تعالى قد جعل ليل السماء حالك السواد من
شدة إظلامه, فهو دائم الإظلام سواء اتصل بظلمة ليل الأرض (في نصف الكرة
الأرضية الذي يعمه الليل), أو انفصل عن الأرض بتلك الطبقة الرقيقة التي
يعمها نور النهار (في نصف الأرض المواجه للشمس) فيصفه ربنا ـ تبارك وتعالى
ـ بقوله: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي أظهر ضوء
شمس السماء لأحاسيس المشاهدين لها من سكان الأرض بالنور والدفء معا أثناء
نهار الأرض, والضحى هو صدر النهار حين ترتفع الشمس ويظهر ضوءها جليا للناس,
بينما يبقى معظم الكون غارقًا في ظلمة السماء.
ويؤكد هذا المعنى قسم الحق ـ تبارك وتعالى, وهو الغني عن القسم ـ بالنهار إذ يجلي الشمس أي بكشفها وبوضوحها فيقول ـ عز من قائل:
{وَالشّمْسِ وَضُحَاهَا . وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا . وَالنّهَارِ إِذَا جَلاّهَا . وَاللّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} "الشمس: 1 ـ 4"
أي أن النهار هو الذي يجعل الشمس واضحة جلية لأحاسيس المشاهدين لها من
سكان الأرض, وهذه لمحة أخرى من لمحات الإعجاز العلمي في كتاب الله تقرر أن
نور الشمس لا يرى إلا في نهار الأرض وأن الكون خارج نطاق نهار الأرض ظلام
دامس, وأن هذا النطاق النهاري لابد وأن به من الصفات ما يعينه على إظهار
وتجلية ضوء الشمس للذين يشهدونه من أحياء الأرض.
فسبحان الذي أنزل القرآن بالحق, أنزله بعلمه, وجعله معجزة خاتم
أنبيائه ورسله, في كل أمر من أموره, وفي كل آية من آياته, وفي كل إشارة من
إشاراته, وفي كل معنى من معانيه, وجعله معجزة أبدية خالدة على مر العصور,
لا تنتهي عجائبه, ولا يخلق عن كثرة الرد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن
عليها, وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين, الذي شرفه ربه ـ
تبارك وتعالى ـ بوصفه أنه لا ينطق عن الهوى فقال ـ عز من قائل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ. إِنْ هُوَ إِلاّ وحي يوحى. علمه شديد القوى} (النجم:5)