أ.د. سعد بن علي الشهراني
عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة جامعة أم القرى
مقدمة:
الحمد
لله فاطر السموات والأرض، فطر عباده على توحيده ومعرفته، وجعل لهم السمع
والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون، والصلاة والسلام على من أرسله الله بالهدى
ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعـــد:-
لقد
عظم الإسلام أمر الفطرة وأعلى شأنها، حيث وصف الله تعالى في القرآن الكريم
الدين بها، وأمر باتباعها وحذّر العباد من تغييرها مبينًا أن اتباعها هو
سلوك للدين الذي ارتضاه الله وجعل مستقيمًا قيِّمًا لجميع ما يحتاجه البشر
في أمر دينهم ودنياهم، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا
فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم:30].
ومن
تعظيم الإسلام للفطرة أنه جعلها الأساس السابق لأي دليل شرعي أو عقلي.
فرسالة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وشرائعهم مكملة للفطرة ومذكرة بها،
وهذا ما بينه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في مواضع عدّة، منها قوله
تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية:21]، وقوله تعالى :
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37].
قال
الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى: « الرسل إنما تأتي بتذكير
الفطرة ما هو معلوم لها، وتقويته وإمداده، ونفي المغير للفطرة، فالرسل
بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها، والكمال يحصل
بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة ».
إن
معرفة الله تعالى فطرية، والمراد بهذا أن كل إنسان يولد على صفة تقتضي
إقراره بأن له خالقًا مدبرًا، وتستوجب معرفته إياه، وتألّهه له.
وهذه
الصفة ذاتها هي القوة المغروزة في الإنسان، التي تقتضي اعتقاده للحق دون
الباطل، وإرادته للنافع دون الضار، وإذا كان قد عُلم بالبراهين اليقينية
القاطعة، أن وجود الخالق هو أعظم الحقائق، وأن معرفته والتألّه له أعظمُ
المنافع، فإنه يتعين بذلك أن يكون في الفطرة ما يقتضيه معرفة الصانع
والإيمان به.
والقرآن الكريم كلام رب العالمين يجلي هذه الحقيقة ويقررها بأبدع البيان، وأوضح البرهان.
غير أنه مما يؤسف له إعراض بعض المسلمين عن هذه الحقائق الربانية، وإنكارهم لهذه المعرفة الفطرية.
فجماهير المتكلمين على اختلاف طوائفهم
يقررون أن معرفة الله نظرية، وأنها إنما تدرك بالنظر والاستدلال، ويجعلون
الطريق إلى معرفته تعالى النظر، فأوجبوه على كل مكلف وجعلوا لهذا النظر
طرقًا وأدلة كلامية وفلسفية صعبت على نُظَّارهم فضلًا عن عامة المسلمين.
وقولهم يتناقض مع القول بفطرية معرفة الله، لأن المعارف الفطرية لا تحتاج إلى نظر واستدلال، وإنما تكون معلومة بالبداهة والفطرة.
إن حديث القرآن الكريم عن هذه المعرفة الفطرية كافٍ شافٍ شامل لحقيقتها وبيان المراد منها.
ولو رجعنا للقرآن الكريم بفهم سلفنا
الصالح لوجدنا فيه غنية عن المناهج والمدارس الكلامية والفلسفية التي أشغلت
المسلمين بمسائل لا تبني اليقين والإيمان بل تؤسس للشك والحيرة والاضطراب،
ومما يؤسف له أن هذه المسائل والدلائل البدعية لا تزال تشغل حيزًا في
مناهجنا التعليمية معرضة عن المنهج القرآني الرباني ذلكم الوحي المعصوم
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة
التي أجريت على فئات مختلفة من الناس في مناطق متعددة وبواسطة علماء من
جامعات أكاديمية مشهورة: (أن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس
البشرية، حتى أشدها همجية وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وأن الاهتمام
بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هي إحدى النزعات العالمية الخالدة).
وقد سبقهم القرآن العظيم بتقرير هذه الحقيقة التي لا ينازع فيها إلا مكابر!.
والله تعالى أسأل أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وهادينا إلى الصراط المستقيم.
لتنزيل البحث كاملاً (إضغط هنا)