هكذا علمنا خالد
حينما تقرأ سير صحابة محمد صلى الله عليه وسلم تجد ما يثير إعجابك ويزيد من شوقك, ويرسم من عزك وافتخارك, وتتعلم ما لا يحصيه عاد أو يكتبه قلم, أو يستوعبه كتاب.
ذلك بأنهم الذين عايشوا معلم الناس أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم, وأخذوا منه العلم مباشرة, ورووا عنه سنته وأحاديثه؛ ولأنه هو القدوة الصالحة لهم, والرحيم بهم, والمطلع على شؤونهم وأحوالهم فشاركوه الهم, وجاهدوا معه الأعداء , ونصر الله بهم الدين وأهله.
ومن أولئك القائد المحنك والعسكري الفذ والشجاع الجريء خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ أبو سليمان، من لانت له دروب الجهاد الوعرة, وتاقت له كل طليعة أو سرية معسكرة.
سطَر مجداً بسيف عز لا يحب المنام في غمده, وخط تاريخاً بقلب صادق ليس للنفاق فيه مكان, فحاز على التفوق في ميادين القتال, وسكن الصفوف الأولى التي لا يرضى أصحابها إلا بمجد يسطع نوره بعين الحقيقة وحق المقال.
أبو سليمان الذي علمنا دروساً تندرج بحروفها الوضاءة, وسطورها البناءة تحت عنوان " هكذا علمنا خالد " .
علمنا خالد أن الإسلام هو الحل, وأن لا عزة إلا به, وأن العودة الحقيقية إليه, وأن الإنسان ومهما كان له من الأثر في حياته فسينتهي ذلك الأثر بنهاية حياته.
أما أثر المسلم فسيتبعه حتى في آخرته فينال لأجله الدرجات العلى, واسمع إليه وهو ينقل لنا ذلك المعنى يقول رضي الله عنه: " والله لقد استقام المنسم, وإن الرجل - يقصد محمد صلى الله عليه وسلم - لرسول , فحتى متى؟ أذهب والله فأسلم ".
علمنا خالد أن الندم لابد أن يحققه العائد إلى الله في قلبه, وأن تجد في وجدانه الحزن على ما قدّم صدوداً عن سبيل الحق.
يقول رضي الله عنه في قصة إسلامه: " فلما اطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق, فأسلمت وشهدت شهادة الحق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير ).
ثم قال: وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: " استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صد عن سبيل الله " فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الإسلام يجب ما قبله ) قلت: يا رسول الله على ذلك فقال: ( اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك ).
علمنا خالد أن لا انسحاب في حياة الأبطال والتي تتعلق قلوبهم بربهم جل وعلا وأن الإقدام ديدنهم, وأن الحرب خدعة, وأن الفارس المغوار في كرٍ وفرٍ ما دام في مسرح المواجهة.
ففي مؤتة وبعد أن استشهد قاد الجيش المسلم الثلاثة ولي خالد إمرة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد؛ فضحايا المسلمين كثير وجناهم مهيض, وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح ظافر مدمدم.
عندها لم يكن هناك حل سوى الانسحاب والخروج من المعركة حفاظاً على ما بقي من الجيش وعدته، ولكن إذا كان صحيحاً أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع من خالد قلبا.
هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر, ويدير الخطط في بديهيته بسرعة الضوء, ويقسم جيشه والقتال دائر إلى مجموعات.
ثم يكل إلى كل مجموعة بمهامها وراح يستغل فنه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف جيش الروم ثغرة فسيحة واسعة خرج منها جيش المسلمين كله معافى بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الإسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال.
وفي هذه المعركة استحق شهادة الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه سيف الله المسلول.
علمنا خالد أن المؤمن لا يحب إلا الآخرة وأن دنياه ليست إلا ممر سرعان ما يفارقها.
لذا فهو يثني على أخوة الجهاد ويماري بهم أعداءهم في رسالته العظيمة التي يقول فيها:
" بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس, سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: فالحمد لله الذي فض خدمكم, وسلب ملككم, ووهنّ كيدكم, من صلى صلاتنا, واستقبل قبلتنا, وأكل ذبيحتنا, فذلكم المسلم له ما لنا وعليه ما علينا.
إذا جاءكم كتابي هذا فابعثوا إلي بالرهن واعتقدوا مني الذمة وإلا فو الله الذي لا إله إلا هو لأبعثن إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة " .
علمنا خالد أن أعداء الإسلام لا يهمهم إلا الدنيا, وأن في اعتقادهم أن أموالهم ونساءهم ومتاعهم قد تهوي بالصادقين الخاشعين في شباكها، وخابوا والله وخسروا.
واسمع إلى قائد الروم " ماهان " في حواره مع خالد إذ يقول: يا خالد! قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع، فإن شئتم أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم, وفي العام القادم أبعث إليكم بمثله.
فقال خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت, ولكننا قوم نشرب الدماء, وقد علمنا أن لا دم أشهى وأطيب من دم الروم فجئنا لذلك؛ فكبر خالد وكبَر المسلمون.
علمنا خالد أن الأبطال هم أعداء الراحة والسكون, وأن المؤمن لا يسكن ولا يغفو بل هو في حركة دائمة لله تعالى بجنانه وأركانه.
واسمع إلى أصحابه وهم يقولون عنه: " هو الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحداً ينام ".
ويقول عن نفسه: " ما ليلة يُهدى إليََّ فيها بعروس أو أُبشر فيها بوليد بأحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم المشركين " .
علمنا خالد أن مأساة البطل أن يموت على فراشه لا في ميادين العز والجهاد.
واسمع إلى قوله في هذا المعنى ودموعه تتحدر من عينيه على وجنتيه: " لقد شهدت كذا وكذا زحفاً وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف, أو طعنة رمح, أو رمية سهم, ثم ها أنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء " .
علمنا خالد أن فراق البطل على أصحابه فاجعة عظيمة, ومصيبة كبيرة وثغرة لا يسدها أحدٌ بعده.
إيه يا خالد إيه يا بن الوليد لقد ذهبت وتركت فينا روح المؤمن الصادق الشجاع.
ذهبت وتركت لنا رسالة سطّر الولاء كل حرف فيها ولاءُ الإيمان الحقيقي, الولاء لرب العالمين, رسالة صادقة لسان الحال فيها يقول :
في سبيل الله لا نصر سوى نصرة الحرب بذل واقتحام
هكذا ترقى ذراها أمة هكذا يرســــخ للحق دعام
هكذا يبرز فينا خالد وصلاح الدين والجيش اللهــام
هكذا تفتح آفاق الدنى هكذا والحق يحميه الحســام
عزة تجتاح في الله المدى وحدة ما عابه قط انثــلام
همة تملك معراج العلا ولهل في مطمح السبق اعتزام
يحفظ التاريخ عنها ما وعى وتغنيه الدواوين العظــام
علمنا خالد أن التاريخ لا يكتبه إلا المنتصرون, وأن الذل والهوان هو من نصيب الذي ابتعد عن طريق الحق, وتنكّب عن طريق الجادة, ورضي بأن يكون مع الخوالف.
علمنا خالد من صفحات سيرته ما يغنينا عن قراءة كتب أبطال تلبسوا بلباس الدنيا, وترف الدون, ومتعة الفناء, فتجولنا في خصائصه النادرة, ومآثره الفريدة, ومناقبه المتميزة فأحببناه.
فهو صاحب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سيف الله المسلول رضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.